كتُب

رِحْلَةُ سَيِّدِ الشُّهَدَاء مِنَ المَدِيْنَةِ إِلَى كَرْبَلاء

 

 

 

 

 رِحْلَةُ سَيِّدِ الشُّهَدَاء

مِنَ المَدِيْنَةِ إِلَى كَرْبَلاء

وفيه أحداث ما بعد المعركة

 

 

 

 

الشيخ علي فقيه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى 2012 / 1433

لبنان – بيروت

هاتف: 895869/03

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السَّلامُ عَلى الأئِمَّةِ السَّادَاتِ ، السَّلامُ عَلى الجُيوبِ المُضَرَّجَاتِ ، السَّلامُ عَلى الشِّفَاهِ الذَّابِلاتِ ، السَّلامُ عَلى النُّفوسِ المُصْطَلِمَاتِ ، السَّلامُ عَلَى الأروَاحِ المُختَلسَاتِ السَّلامُ عَلى الأجْسَادِ العَاريَاتِ ، السَّلامُ عَلى الجُسُومِ الشَّاحِبَاتِ ، السَّلامُ عَلى الدِّمَاءِ السَّائِلاتِ ، السَّلامُ عَلى الأعْضَاءِ المُقطَّعَاتِ ، السَّلامُ عَلى الرُّؤوسِ المُشَالاَتِ ، السَّلامُ عَلى النُّسْوَةِ البَارِزَاتِ

 

 

 

 

 

 

الغَايَةُ مِنْ هَذَا الكِتَاب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين، وعلى أصحابهم الكرام المنتجبين.

من واجب كل مبلِّغ أن يعمل بجد ونشاط على نشر العِلم النافع بين الناس بكل الوسائل الممكنة، وعليه قبل أي شيء أن يختار الأسلوب السهل الذي يحبه القارئ أو المستمع، ولا أعني بذلك أن ينزل المبلِّغ عند رغبة الناس في الحقائق والتعاليم، بل أعني النزول عند رغبتهم في طريقة التعليم والتوجيه، فلا يمكن للذهن الخالي من المقدمات والمصطلحَات الخاصة أن يفهم الأسلوب المنطلق من تلك المقدمات والمصطَلَحات، فلا بد من إيجاد طريقة أخرى للبيان والتعبير لأن الهدف من الكتابة ليس ذات الكتابة، بل الهدف منها هو إيصال الفكرة إلى الآخَرين واضحةً جليةً ترتفع معها الحجّة عن المبلِّغ، ولقد أمرنا رسول الله محمد(ص) بأن نخاطب الناس على قدر عقولهم وبمستوى أفهامهم، وإذا أردت أيها المبلِّغ أن تحافظ على موقعك كيلا تُتَّهَم من قِبل الطبقة المثقفة أن نستعمل إحدى طريقتين في التبليغ:

الطريقة الأولى: أن تنتهج طريقة السهولة التي يفهمها الجميع، وبهذه الطريقة يستفيد منك المثقف وغير المثقف، وكثير من علمائنا الأعلام استعملوا أسلوب السهل الممتنع في كلامهم مع الناس، فليس من العيب أن تكتب بطريقة سهلة متخلياً عن المصطلحات المعقَّدة، بل العيب هو أن تكتب ما لا يفهمه الناس، فهو عيبٌ ومضيعة للوقت وإهدار للمال في غير موضعه.

الطريقة الثانية: أن تعمل على قاعدة: لكل مقام مقال: بمعنى أن توجّه في كلامك المنطوق أو المكتوب رسالتين بطريقتين مختلفتين، إحداهما للطبقة المثقفة، وثانيتهما للطبقة العادية، ولكن نصيحتي الخاصة لكل مبلّغ هو أن يستعمل الطريقة الأولى فإنها أنفع للجميع.

والهدف الأساسي الذي شجّعني على كتابة هذه السلسلة بأسهل الطرق وأوضح العبارات هو الشعور بالمسؤولية تجاه شبابنا وفتياتنا الذين وضعوا كل ثقتهم بنا.

والذي دفعني أكثر إلى بيان ما سوف يُذكَر في هذه الكتيّبات هو ما شاهدته وسمعته عبر سنوات في ذكرى عاشوراء، وفي أماكن مختلفة، ولخطباء كُثُر، وأنا أحترم كل خطيب يتحدث عن الإمام الحسين(ع) وثورته المجيدة، ولكن كثيراً منهم يضيّعون أوقاتهم وأوقات الناس بما لا علاقة له بعاشوراء ولا بالثورة.

يصعد الخطيب منهم إلى المنبر فيتناول موضوعاً علمياً حول النظام الفلكي أو تشريح جسم الإنسان أو ما شاكل ذلك مما لا مكان له في ذكرى عاشوراء، ويا ليتهم يذكرون تلك البحوث بشكلها الصحيح، بل إنهم يقرؤون الكتب القديمة التي نفتها الأبحاث الجديدة.

وقد صادف في بعض المجالس جلوسي بالقرب من أحد الأطباء، حيث راح خطيب المجلس يشرّح عين الإنسان ويذكر بعض النظريات عن نظامها، فالتفت إليَّ الطبيب وقال: إن عمر هذه النظريات أكثر من مئة سنة، وكلها خطأ في خطأ.

تأتي ذكرى عاشوراء، ويبدأ الخطباء بالكلام عبر عشر ليال، فتنتهي تلك الليالي العشر دون أن يعرف الناس تفاصيل الثورة التي بدأت مع ولادة الإمام الحسين(ع)، والخطباء هم المسؤولون الأوائل عن هذه الجريمة العقائدية في حق الدين والحسين وأحباء الحسين، فلا يكفي أن نعرف ماذا جرى في أرض كربلاء فقط، بل لا بد من ذكر المقدمات والنتائج والأهداف التي تحققت عقيب الثورة، وبمعنى آخر فإننا ننتهي من المجالس يوم بداية الثورة، فلا نعرف ماذا حصل قبل المعركة، وماذا حدث بعدها، وكيف انتصرت ثورة الحسين، وكيف حققت كل الأهداف المرسومة.

نكتفي بقال وقيل، وبكاء قليل، وتنتهي المسألة، وأنا مع البكاء على الإمام الحسين(ع) لأنه عبادة بالدرجة الأولى، وأن له معنى غير موضوع الحزن.

فقبل أن نُبكي الناس علينا أن نشرح لهم سبب البكاء ومعانيه وفوائده وكل ما يتصل به من قريب أو بعيد، وعلى الأقل علينا أن نبيّن لهم شيئاً عن حياة الذي يبكون عليه إذ لا ينفع البكاء على المجهول.

ولعل هذا السلوك الخاطئ هو الذي دفعني لأن أبيّن تفاصيل الرحلة الجهادية للإمام الحسين(ع) وأصحابه الكرام من لحظة خروج الموكب من المدينة المنورة، وإلى انتهاء المعركة في كربلاء، وقد استغرقت تلك الرحلة أكثر من ستة أشهر.

وأنا أتحدى أي واحد يدعي أنه يعرف كل أصحاب الإمام الحسين الذين خرجوا معه من المدينة، والذين التحقوا به في الطريق، والذين لحقوا به إلى أرض المعركة.

أنا لا أحمِّل المسؤولية للناس الكرام الموالين للحسين(ع) بل أحمّل المسؤولية للقيمين على هذا الشأن، المقصّرين تجاه الثورة وقائدها والمؤمنين بالثورة وقائدها.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني لبيان كل ما يتعلق بتلك الرحلة الجهادية البطولية، إنه سميع مجيب الدعاء.

 

علي فقيه

 

 

 

 

 

 

 

نَبْذَةٌ عَنْ سِيْرَةِ الإِمَامِ الحُسَيْنِ(ع)

 

هو الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وهو السبط الثاني لرسول الله محمد بن عبد الله(ص) وثالث أئمة الهدى، وخامس أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

 

وِلادَةُ الإِمَاْمِ الْحُسَيْنِ(ع) وَنَشْأَتُهُ

 

ولد(ع) في المدينة المنورة في الثالث من شهر شعبان للسنة الرابعة من الهجرة بعد ولادة أخيه الحسن المجتبى بسنة على وجه التقريب.

وعند خروجه إلى هذه الحياة تلألأ وجه رسول الله(ص) فرحاً وسروراً، ولكنه كان فَرَحاً مشحوناً بالأسى والحزن، حيث وُلد الإمام الحسين ليكون الشهيد المقطع جسده فوق أرض الطف.

لقد ولد الحسين(ع) في بيت الوحي والنبوة والطهارة والنزاهة، وفي بيتٍ كانت ملائكة الرحمن تتنزل إليه لتتبرك بأهله الكرام الذين جعلهم الله تعالى سادات الورى في الدنيا والآخرة.

وعندما ولد الإمام الحسين أخذه النبي الأعظم(ص) فأذّن في أذنه اليمنى ثم أقام في اليسرى ليكون أول كلام يخترق مسمعه الشريف هو ذكر الله ورسوله.

وترعرع(ع) في منزل العلم والفهم والتقوى، وتغذى على المعارف الإلهية والدروس الرسالية التي تلقاها قبله أبوه وأخوه.

ويكفيه فخراً أنه نشأ في رعاية جده الأعظم وتخلق بأخلاقه وحمل علمه وصفاته حتى كان كأنه جده في جميع مراحل حياته.

ومن حق الولد على والده أن يختار له إسماً يحمله مدى الحياة، والأفضل أن يختار له الأسماء الشريفة التي تحمل معان عظيمة.

وقد كانت تسمية الإمام الحسين(ع) مميزة عن غيرها لأنها حصلت بوحي من الله سبحانه وتعالى، فقد قال رسول الله(ص) لعلي(ع) هل سميته؟فقال(ع) ما كنت لأسبق رسول الله في ذلك، فهبط الوحي على النبي بهذا الإسم العظيم، فالتفت النبي إلى علي وقال له:سمّه حسيناً:

وقد لُقّب(ع) بألقاب عديدة تحكي لنا حقيقته العظيمة وجوهره الطيب، فقد لقب بالرشيد والطيب والزكي والسبط والسيد المبارك، وقد استوحيت تلك الألقاب من كلام النبي(ص) فيه.

ومن الفضائل الكبرى لأبي عبد الله الحسين(ع) أنّ الله سبحانه قد ذكره في كتابه المجيد مادحاً له وآمراً الجميع بالتمسك في حبله.

ففي أواسط سورة الأحزاب بيّن القرآن المجيد عصمة النبي وآله من كل خطأ وعيب ونقص حيث يقول(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)

وقد أجمع المفسرون على كونها نزلت في النبي وآله عندما جلسوا تحت الكساء في بيت زوجته الفاضلة أم سلمة.

وفي سورة الشورى أمر الله عز وجل كل المسلمين بمودة القرابة لرسول الله(ص) وقد بيّن الرسول في مواضع عديدة أن قرابته هم علي وزوجته وولداه.

قال تعالى في هذه القرابة(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)

وقد أشار أمير المؤمنين علي(ع) إلى كونه ممن اختصه الله تعالى بتلك القرابة حيث قال في نهج البلاغة:ولقد علمتم موضع من رسول الله(ص) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة…

والإمام الحسين(ع) مشمول بتلك القرابة فهو ممن تجب مودته بأمر من الله سبحانه.

وقال تعالى(فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)

وقد نزلت هذه الآية الكريمة عندما باهل رسول الله(ص) نصارى نجران، وقد ذكر المفسرون والمؤرخون بأن النبي(ص) قد جمع أمام وفد نجران علياً وفاطمة والحسن والحسين فكان المقصود بقوله تعالى(أَبْنَاءنَا) الحسن والحسين، وبقوله(نِسَاءنَا) فاطمة بنت محمد(ع)، وبقوله(أَنفُسَنَا) علي بن أبي طالب(ع).

وكذلك نزلت سورة كاملة في بيان عظمة هؤلاء الأربعة الذين اختصهم الله تعالى لنفسه وفضّلهم على خلقه، وهي سورة الدهر أو الإنسان.

وقد نال الإمام الحسين(ع) حظاً وفيراً من المدح والثناء وإظهار فضائله ومكارم أخلاقه على لسان جده(ص) وقد أراد النبي من خلال ذلك ما هو أوسع دائرة من المدح والثناء ومجرد البيان، حيث لفت بكلامه أنظار الناس إلى أهمية المسؤولية التي سوف يحملها الحسين في حياته، وإلى عظمة دوره في تبليغ الدعوة وإيصال الرسالة إلى قلوب الناس وعقولهم.

وقد عمل رسول الله(ص) جاهداً لتأسيس مجموعات مؤمنة تكون عوناً للحسين في ثورته المباركة، ولم تكن دعوته لذلك غامضة أو حاملة لوجوه عديدة من المعاني، بل حملت معنى واحداً، وهو وجوب نصر الإمام الحسين في كل ما يقوم به، لأنه لا يقوم إلا بما يرضي الله ورسوله والأمة.

لقد كان(ص) يبكي كلما نظر إلى الحسين فيسأله الناس عن سبب بكائه فيخبرهم بما سوف يجري عليه في كربلاء ويدعوهم إلى نصرته ويحذرهم من خذلانه.

ومن جملة ما قاله رسول الله(ص) في الإمام الحسين:

1- “حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً”

2- ” الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

3- ” الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا”

4- ” خير رجالكم علي بن أبي طاب، وخير شبابكم الحسن والحسين، وخير نسائكم فاطمة بنت محمد”

5- ” سمع رسول الله(ص) بكاء الحسين فقال لابنته:ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني”

6- ” الحسن والحسين إبناي، من أحبهما أحبني، ومن احبني أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار”

ويحدثنا تاريخ الإسلام عن السلوك العبادي الذي تجسد في الإمام الحسين(ع) حيث بلغ بروحه أسمى معاني العبودية الصادقة لله سبحانه وتعالى.

لقد كان(ع) يصنع كل ما يدنيه من الله ويقربه منه، وذلك بشهادة الأحباب والخصوم.

لقد كان(ع) كثيرَ الصلاة والصوم والحج والصدقة، ومكثراً من أنواع العبادات كلها، وقد أشار الإمام زين العابدين(ع) إلى مستوى تلك العبادة التي تمتع بها الحسين في حياته حيث قال: كان الحسين(ع) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة:

وقد اشتُهر(ع) بسخاء لا مثيل له، وقد شهد له بذلك أحباؤه وأعداؤه، وإليكم بعض النماذج عن سخائه الكبير:

1- لقد دخل الإمام الحسين(ع) على أسامة بن زيد في مرضه الذي مات فيه، ولمّا استقر به المجلس قال أسامة: واغماه: فقال له الإمام(ع) وما غمك؟ فقال أسامة:دَيني، وهو ستون ألف درهم: فقال(ع) هو عليَّ: فقال أسامة: أخشى أن أموت قبل أن يقضى: فقال(ع) لن تموت حتى أقضيها عنك: فقضاها(ع) قبل موت أسامة.

2- مرّ الإمام الحسين(ع) بمساكين يأكلون، فدعوه إلى الأكل معهم، فنزل من على فرسه وشاركهم طعام الغداء وهو يقول:إن الله لا يحب المتكبرين: وبعد الإنتهاء من الأكل قال لهم(ع) قد أجبتكم فأجيبوني: فقالوا نعم، فمضى بهم إلى منزله فقال للرباب:أخرجي ما كنت تدّخرين:

3- قال أنس: كنت عند الحسين(ع) فدخلت عليه جارية وبيدها طاقة ريحان، فحيته بها، فقال لها(ع) أنت حرة لوجه الله تعالى، فانبهر أنس وقال: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟ فأجابه(ع) قائلاً: كذا أدبنا الله، قال تبارك وتعالى(وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)

4- جاء سائل يتخطى أزقة الكوفة حتى أتى باب منزل الحسين(ع) فقرع الباب وأنشأ يقول:

لم يخب اليوم من رجاك ومن     حرك من خلف بابك الحلقة

أنت ذو الجود وأنت معدنهم       أبوك قد كان قاتل الفسقة

فأعطاه الإمام الحسين(ع) مائتي درهم وأنشد قائلاً:

خذها فإني إليك معتذر             وأعلم بأني عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداة عصا      كانت سماناً عليك مندفقة

لكن ريب المنون ذو نكد         والكف منا قليلة النفقة

فأخذها السائل شاكراً وهو يمدح الإمام ويقول:

مطهرون نقيات جيوبهم      تجري الصلاة عليهم أينما ذُكروا

وأنتم أنتم الأعلون عندكم     علم الكتاب وما جاءت به السور

من لم يكن علوياً حين تنسبه  فما له في جميع الناس مفتخر

وقد تحلى النبي وآله الأطهار بشجاعة مميزة لم يحدّث التاريخ عن مثلها.

وقد امتلك الإمام الحسين(ع) شجاعة جده وأبيه وأخيه، تلك الشجاعة التي بدت منه في أرض الطف حيث أدهشت العالم كله.

لقد تجلت تلك الشجاعة بأسمى معانيها في أرض كربلاء حيث لم يعرف الحسين معنى الذل والجبن والإستكانة رغم الظروف الصعبة التي أحاطت به من كل الجوانب.

لقد ابتلي الحسين(ع) بمصائب كبرى لو ابتلى بها غيره لم يستطع الوقوف على قدميه، فقد استشهد أولاده وأصحابه وأبناء عمه وقُطّعوا إرباً بسيوف الغدر والضلال، وهو يعلم أنه سيلاقي المصير نفسه، ورغم ذلك لم يخسر من شجاعته ذرة، ولم يتراجع عن موقفه العظيم الذي هو موقف الحق.

لم يضعف أمام الخطر والمصاب بل إنه بقي متماسكاً وكأن شيئاً لم يحصل أمامه حتى قال بعض الرواة: والله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله، وإن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب:

ولم تكن تلك الشجاعة في كربلاء حديثة عهد بالحسين لأنه تحلى بها منذ الصغر حيث كان يشارك أباه علياً في معاركه الكبرى، وكان يبدي من الشجاعة فيها ما أبداه على أرض الطف.

وقد شارك أباه في معركة الجمل وصفين والنهروان.

وبعد التحاق النبي الأكرم(ص) بالرفيق الأعلى فَقَد الإمام الحسين(ع) مصدراً من مصادر العطف والحنان ومنبعاً من ينابع العلم والمعرفة، ولكن النبي(ص) قبل خروج روحه الزكية من جسده الشريف أودع علمه وأخلاقه وآدابه نفس علي(ع) وقلبه وعقله فلم يخسر الحسين بفقد جده سوى الحنان.

وقد لازم الإمام الحسين والده العظيم ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً، وقد حمل من أبيه ما حمله أبوه من جده.

وبعد استشهاد أمير المؤمنين(ع) عاش الحسين مع أخيه الحسن ما يقرب من عشر سنوات، أي إلى لحظة استشهاد الحسن بسمّ أهل الغدر والضلال.

لقد كانت علاقة الإمام الحسين(ع) مع أبيه أمير المؤمنين علاقة مميزة فاقت كل الحدود والإعتبارات لأنها لم تكن علاقة والد بولده وإنما كانت علاقة عظيم بعظيم، وعلاقة خليفة بخليفة ومعصوم بمعصوم.

ورغم عظمة شأن الحسين في نفوس المؤمنين، ورغم كونه أبرز أبطال التاريخ ما زالت أكثر جوانب حياته الشريفة مجهولة لدى كثير من الناس، وذلك بسبب اهتمامنا ببعض جوانبها دون البعض الآخر.

لقد قضى(ع) كل حياته بالعمل المضني في سبيل الله، وبالأخص في الفترة ما بعد استشهاد أخيه الحسن(ع) حيث تحمَّل المسؤولية لوحده، وتابع شؤون الأمة بدقة، فرسم بذلك تاريخاً عريقاً لا ينبغي لأحد أن يغفل عنه.

وما عرفناه عن الحسين الثائر هو نفسه في الحسين العابد والزاهد والخليفة والمعصوم في جميع مراحل حياته.

لم يرتفع شأن الحسين بسبب عاشوراء فقط، فإنَّ كل ما صنعه في حياته كان مصدر رفعة له في الدنيا والآخرة، غير أنّ عاشوراء كانت أشهر أحداث حياته، ولأجل ذلك اهتم بها الناس أكثر من اهتمامهم بالأحداث الأخرى، ولكنهم لو أدركوا عظمة فعل الحسين قبل كربلاء لأعطوه نفس النظرة لها.

ففي زمن النبي(ص) كانت المسؤولية موزعة على خمسة أشخاص، أما في زمن الحسين فقد تحمل المسؤولية بمفرده، ووطّن نفسه على مواجهة العواقب مهما كانت صعبة وخطرة.

لقد اهتم الحسين(ع) بعد استشهاد أخيه الحسن بشؤون الأمة، وكان نعم الراعي والقائد والحامي والمدافع عن الدين وأهله.

إن الحسين(ع) لم يواجه يزيداً في كربلاء فقط، وإنما كان يواجهه طيلة حياته، وليست كربلاء سوى النهاية، أما البداية فقد سبقت كربلاء بزمن طويل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

طَاقَمُ المَوْكِبِ الحُسَيْنِي

يتألف موكب الإمام الحسين(ع) من رجال ونساء وأطفال، منهم من قرابة الحسين، ومنهم غير ذلك، وهناك مشيئة إلهية في اختيار الذين أخرجهم معه الإمام(ع) لأنه أخرج جزءاً وأبقى في المدينة جزءاً آخر، ونحن لا نعرف السبب لأنه خاص بالمعصوم الذي يعلم ما لا يعلمه الناس العاديون.

 

رِجَالُ المَوْكِبِ الحُسَيْنِي

 

يشكّل رجال الموكب الحسيني صنفين من الرجال:

 

الصنف الأول: وهم أهل بيته: وعددهم سبعة عشر: وهم:

الإمام زين العابدين، وأبو بكر بن الإمام علي(ع) وأبو بكر بن الإمام الحسن(ع) وجعفر بن الإمام علي(ع) وجعفر بن عقيل والحسن المثنى والعباس بن علي(ع) وعبد الرحمن بن عقيل وعبد الله بن علي(ع) وعبد الله بن الحسن(ع) وعبد الله بن الحسين وعبد الله بن مسلم وعلي الأكبر(ع) وعون بن عبد الله بن جعفر والقاسم بن الحسن ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل ومحمد بن عبد الله بن جعفر:

 

الصنف الثاني: وهم أصحابه الكرام: وعددهم نَيِّفٌ وسبعون رجلاً:

لا يخفى على أحد وجود اختلاف بين المؤرخين حول عدد الأصحاب الذين استُشهدوا مع الإمام الحسين(ع) في يوم عاشوراء، لأن بعض المؤرخين خلط في ذِكر العدد بين الذين خرجوا مع الإمام الحسين من مكة في الثامن من شهر ذي الحجة، وبين الذين استمروا معه حتى النهاية.

وللعِلْمِ أقول: هناك أصحاب خرجوا معه من المدينة، وأصحاب التحقوا به أثناء السفر، وأصحاب لحقوا به إلى كربلاء، وقد كان من الصعب في مثل تلك الظروف الحرجة أن يضبط المؤرخون تفاصيلهم.

وقد أكد المؤرخون بأن كثيراً من الذين خرجوا معه من مكة قد عادوا أدراجهم عندما أيقنوا بأنهم ذاهبون للموت المحتم، ولم يبق مع الإمام(ع) سوى الخلّص من أصحابه الذين ناهز عددهم السبعين دون رجال أهل بيته، ومن حق هؤلاء الأبطال علينا أن نحفظ نهجهم ونذكر بطولاتهم، ونبين تضحياتهم الكبرى في سبيل الدين والأمة، وعلى أي حال فقد ينتج عن هذا الإختلاف زيادة إسم أو نقصان إسم، وهذا أمر طبيعي، ولكننا سوف نذكر الأسماء المتفق عليها بين أكثر المؤرخين، وهم:

أمية بن سعد الطائي، وجابر بن الحجاج، وجبلة بن علي السيباني، وجوين بن مالك الضبعي، وجندب بن حجير الكندي، وجناده بن كعب بن الحرث الانصاري، حباب بن الحارث السلماتي الازدي  ، الحارث (الحرث ) بن امرؤ القيس الكندي ، الحرث بن نبهان مولى الحمزه بن عبد المطلب ، اللحلاس بن عمرو الازدي الراسبي ، حنظله بن عمر الشيباني ، حنظلة بن اسعد الشبامي  ، زاهر مولى عمرو بن الحمق الكندي  ، زهير بن بشر الخثعمي ، زهير بن سليم الازدي، سالم بن عمرو مولى بني المدينه الكلبي ، سعد بن الحرث مولى أمير المؤمنين، سوار بن منعم بن ابي عمير الهمداني، سيف بن مالك العبدي النميري  ، عامر بن مسلم العبدي البصري، سالم مولى عامربن مسلم العبدي البصري، عبد الله بن بشر بن ربيعه بن عمرو، عبد الله بن عمير نب عباس بن عبد القيس  ، عبد الله بن يزيد بن ثبيت العبدي البصري، عبيد الله بن يزيد بن ثبيت العبدي البصري  ، عمارة بن حسان بن سريح الطائي  ، عمار بن ابي سلامه بن دالان الهمداني  ، عمرو بن جندب الحضري الكوفي، عمر بن ضبيعة بن قيس التيمي  ، عمرو بن عبد الله الهمداني الجندعي  ، عمران بن كعب بن حارث الاشجعي، عبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الهمداني  ، قارب بن عبد الله الدؤلي مولى الحسين، الادهم بن اميه العبد البصري، قاسط بن زهير بن الحرث التغلبي ، مقسط بن زهيربن الحرث التغلبي  ، كردوس بن زهيربن الحرث التغلبي ، كنانه بن عتيق التغلبي، القاسم ( القسم ) بن حبيب الازدي، مجمع بن عبد الله العائدي المذحجي  ، مسعود بن الحجاج التيمي ، عبد الرحمن بن مسعود بن الحجاج التيمي ، مسلم بن كثير الاعرج الازدي الكوفي  ، شبيب مولى الحرث بن سريع الهمداني  ، شبيب بن عبد الله النهشلي البصري  ، نعيم بن عجلان الأنصاري، نعمان بن عمرو الرأسبي، حبيب بن مظاهر الاسدي  ، الحر بن يزيد الرياحي، عابس بن شبيب الشاكري  ، برير بن خضير، زهير بن القين، جون مولى ابي ذر الغفاري  ، عمرو بن جنادة الأنصاري، مسلم بن عوسجه  ، زياد بن عمر بن عريب الصائدي، ابو الشعثاء يزيد بن زياد الكندي  ، نافع بن هلال المذحجي  ، هانئ بن عروة  ، سلمان بن مضارب البجلي، واضح التركي مولى الحرث المذحجي  ، شوذب مولى شاكر  ، انس بن الحارث الكاهلي  ، الحجاج بن مسروق الجعفي، سويد بن عمر بن ابي المطاع، وهب بن حباب الكلبي ، عمر بن خالد الصيداوي  ، سعد مولى عمر بن خالد الصيداوي .

وليس بالضرورة أن يكون كل من ذُكرَت أسماؤهم قد استشهدوا كربلاء، فلربما استشهد بعضهم خارج كربلاء أو بعد استشهاد الإمام(ع) كالصحابي الكريم:سويد بن عمرو:

وقد اكتفيت هنا بذكر أسمائهم فقط لأن ذكر سيرهم العطرة يحتاج إلى أكثر من مجلد كبير لكثرة صفاتهم الحميدة وأفعالهم الكريمة، ولكن لو لم يكن لهم من الفضل سوى استشهادهم بين يدي الإمام الحسين(ع) في كربلاء لكفى ذلك في تخليد أسمائهم وأرواحهم في قلوب المؤمنين عبر الزمن.

 

 

نِسَاءُ المَوْكِبِ الحُسَيْنِي

لقد اشتمل الموكب الحسيني على النساء والأطفال أيضاً، وكان لإخراج النساء والأطفال في تلك الرحلة هدف كبير من الإمام الحسين(ع) الحكيم في كل ما يصدر عنه من حركات وسكنات وعبارات، وبما أن لنا وقفة طويلة حول هذا الحدث بالذات فسوف أكتفي هنا بذكر سببين مختصرين لإخراج النساء والأطفال إلى ساحة القتال:

السبب الأول: وهو أن الإمام(ع) كان مدركاً للوسائل التي سوف يستعملها الطرف اليزيدي للضغط عليه، وكان أول ما يمكن أن يفعلوه هو اعتقال نسائه وأولاده ليساوموه في شأنهم، فكان الحل لهذه القضية هو أن يخرجهم معه فيتخلص من هذه القضية.

السبب الثاني: وهو أن الإمام الحسين(ع) كان يعرف ما سوف يجري عليه في مكان قفر لا يقصده المسافرون عادة، وأن الطرف اليزيدي يريد أن يرتكب جريمته في ذلك المكان من أجل أن يضيع فيه دم الحسين وأولاده، وبالتالي تضيع قضيته التي بذل روحه وأرواح أولاده من أجلها، فأخرج معه النساء والأطفال ليكونوا وسيلة إعلامية تنقل الأخبار إلى جميع البلاد، وهذا ما حصل بالفعل عندما راحت السيدة زينب(ع) ومن معها من النساء والأطفال يبينون الحقيقة لأهل كل قرية أو مدينة مرّوا بها مما أحدث ضجة إعلامية كبرى قلبت الموازين رأساً على عقب وتسببت بزوال الحكم الأموي الغاشم.

وكما لم يتفق المؤرخون على عدد أصحاب الإمام(ع) فكذلك اختلفوا في أعداد النساء والأطفال وأسمائهن وأسمائهم، ولكننا سوف نذكر المتفق عليهن ليس على سبيل الحصر إذ لا يمكن الجزم به.

ورغم وجود هذا الإختلاف فقد ذكر المحدّث القمي في كتاب(نفس المهموم) نقلاً عن كتاب (الكامل) للشيخ البهائي، أن عدد النسوة اللواتي حضرن مع الإمام الحسين(ع) إلى كربلاء هو عشرون إمرأة، ولكن النساء اللاتي ورد لهن ذِكرٌ صريح في الرويات هنّ:

  • زينب بنت أمير المؤمنين(ع).
  • أم كلثوم بنت أمير المؤمنين(ع)، ولكن السيد المقرم رحمه الله تعالى وحّد بين هذين الإسمين مصرحاً بأن أم كلثوم هي نفسها السيدة زينب(ع)، ولهذا فإنه تارة يذكرها باسمها، وأخرى بكنيتها(أم كلثوم).
  • فاطمة بنت أمير المؤمنين، وهي التي أراد أحد الشاميين أن يتخذها جارية له، وهي زوجة أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب، والذي استشهد ولده محمد في كربلاء.
  • خديجة بنت أمير المؤمنين زوجة عبد الرحمن بن عقيل الذي استشهد في كربلاء.
  • الرباب بنت امرئ القيس زوجة الإمام الحسين وأم الطفل الرضيع، ومعها بنتها.
  • سكينة بنت الإمام الحسين.
  • رقية بنت الإمام الحسين.
  • حميدة بنت مسلم بن عقيل، وقد استشهد والدها في الكوفة أثناء وجودها مع الإمام الحسين(ع) في منطقة تسمى(زرود).
  • رقية بنت أمير المؤمنين زوجة مسلم، وقد استشهد ولدها عبد الله في كربلاء عندما أصابه سهم من الأعداء بعد أن قتل منهم عدداً كبيراً.
  • أم وهب(قمر بنت عبد) زوجة عبد الله بن عمير الكلبي، وهي التي كانت تشجع زوجها على القتال بين يدي الإمام الحسين(ع).
  • أم عبد الله بن عمير، وهي بدورها كانت تشجع ولدها على القتال حتى أنه عندما رجع من إحدى المواجهات سالماً سأل أمه: أرضيت عني؟ قالت: ما رضيت أو تُقتل بين يدي الحسين.
  • أم عمر بن جنادة بن الحارث السلمي، وهو غلامٌ قُتل أبوه في المعركة فأراد أن يواجه القوم فرده الإمام(ع) قائلاً: هذا غلامٌ قد قُتل أبوه الساعة ولعل أمه تكره خروجه: فقال الغلام: أمي أمرتني بذلك: فقاتل حتى قُتل، وبعدها أخذت أمه عموداً وخرجت وهي تقول: أنا عجوز في النساء ضعيفة خاوية بالية نحيفة، أضربكم بضربة عنيفة، دون بني فاطمة الشريفة:
  • جارية لمسلم بن عوسجة، وهي التي خرجت بعد مقتل مسلم منادية: وامسلماه وابن عوسجتاه.
  • أم عبد الله بن الحسن المجتبى(ع).
  • فاطمة بنت الحسن المجتبى(ع) وهي زوجة الإمام زين العابدين(ع) وأم الإمام الباقر الذي كان آنذاك في سن الثالثة أو الرابعة من العمر.
  • كثيرات من زوجات الشهداء حيث يؤكد المؤرخون بأن الرجال في الماضي كانوا في الغالب يصطحبون معهم نساءهم في مثل تلك السفرات الطويلة.

فوجود الأولاد الصغار دليل على وجود الأمهات، وقد كان عدد الصغار كبيراً، وهذا يدل على أن عدد النساء كان كبيراً جداً قد ناهز المئة، وقد ورد في بعض الروايات أن عدد النساء اثنان وثمانون، وعدد الأطفال ستون.

وجاء في كتاب(وسيلة الدارين في أنصار الحسين) أن عدد النساء والأطفال بلغ مئتين واثنين وعشرين نفراً، وليس ذلك ببعيد حيث يروي الرواة بأن الحسين(ع) عندما أراد الخروج من المدينة جمع أولاده وزوجاته وأخوته وأخواته وبني عمومته وأولاد أخيه الحسن، وبناته ومواليه وجواريه، وهم الذين خرجوا معه إلى مكة، ولا ندري ما إن بقي منهم أحد في مكة أو أصيب بمرض فبقي فيها أو توفي أحد منهم.

وفي بعض التفاصيل ورد أن ثمان من زوجات أمير المؤمنين(ع) قد خرجن مع الإمام الحسين(ع)، وخمس من نساء الحسن(ع)، وأربع من بناته، واثنتا عشرة من أخوات الحسين، وهذا كله يشير بوضوح إلى ضخامة العدد الذي رافق الإمام الحسين(ع) في تلك الرحلة نحو الشهادة.

قَبْلَ خُرُوْجِ المَوْكِبِ مِنَ المَدِيْنَة

 

كانت القافلة إذا تجهزت للإنطلاق قيل لأهلها إلى اللقاء، إلا قافلة الإمام الحسين(ع) فقد قيل لأهلها وداعاً، لأنهم خرجوا من الديار ولا أمل لهم بالعودة إليه.

ولكنهم خرجوا من ديار الذل والهوان إلى ديار العزة والكرامة، لقد خرجوا من المدينة وكان ذلك مقدمة لخروج أرواحهم الطاهرة من أجسادهم المباركة قربة منهم إلى الخالق القدير، وشعوراً منهم بالواجب المطلوب من كل مؤمن بالله عز وجل.

كانت القوافل تسير خلف التجارة وكسب المال لينعموا بحياة كريمة، أما قافلة الإمام الحسين(ع) فقد سارت من أجل التجارة، ولكن ليست التجارة المعهودة، وإنما هي تجارة خاصة عقدوا شرطها مع الله سبحانه، فباعوه أنفسهم، وقبضوا الثمن، وقد كان الثمن غالياً جداً، وهو الجنة الواسعة التي أعدها الله لعباده المخلصين.

إنها التجارة التي أشار الله عز وجل إليها بقوله الكريم(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)

نعم.. لقد كانت قافلة مميزة، تميزت بأهداف ركّابها ونفوس أهلها، تلك النفوس الزكية التي خضعت لله وحده، ونبذت وساوس الشيطان، وتخلت عن كل شيء في سبيل ربها.

إنها قافلة الحق التي زرعت الأمل في نفوس الأحرار والمظلومين الذين علّقوا آمالهم على تضحية الحسين وأهل بيته وأصحابه.

إنها قافلة الإيمان التي سارت بهدف القضاء على الظلم والعدوان، ومثّلت في ذلك الزمان كل الإيمان حيث التقى هناك الإيمان كله ممثَّلاً بالحسين(ع) ومن معه، مع الكفر كله ممثلاً بيزيد وابن زياد وابن سعد وأعوانهم.

لقد انطلقت تلك القافلة والناس ينظرون إليها بعين الإستصغار نظراً لقلة أفرادها، متجاهلين معنى قوله تعالى(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ)

لقد بدأت تلك القافلة صغيرة، ولكنها انتهت عظيمة وكبيرة، وسار في ركبها العشرات، ورجعت مصطحبة معها الأمة كلها حيث صنعت لها المجد والكيان والنصر العظيم.

إنها القافلة المعجزة التي واجهت الطواغيت، وهدّت عروشهم، وزلزلت كيانهم، وقضت على مصالحهم وأطماعهم، بينما كان الناس متيقنين بالهزيمة لأنهم نظروا إليها نظرة مادية محضة، ونسوا أن الله سبحانه قد آلى على نفسه أن ينصر مَنْ ينصره.

لقد نظر الناس إلى موكب الحق في بداية أمره على أنه ضربٌ من ضروب الجنون والتهور، وقد كان ذلك نتيجة الصدمة التي فاجأت الجميع من خلال قرار الإمام الحسين(ع) القاضي بالخروج من المدينة بهدف القضاء على الظلم.

لقد انطلق هذا الموكب الصغير بأفراده، الكبير بأبعاده، ونظرة الناس على حالها، لم تتغير، ولم تتبدل.

ولكنه بعد أيام من انطلاقه أخذت كلمات الإمام الحسين تتفاعل في قلوب البعض، وذلك من خلال تدقيقهم في صنائع يزيد الذي كان الهدف الأول من أهداف هذا الموكب، فراحت تلك النظرة تكبر وتتغير، وأصبح لها موقع في قلوب الناس ونفوسهم، وهذا ما دفع بالبعض إلى اللحاق به.

وبعد انتهاء المعركة أخذت الضمائر تصحو شيئاً فشيئاً، لأن تلك المعركة قد زرعت فيهم الجراة والشجاعة، إلى أن اصبحت الثورة الحسينية هي الحدث الأبرز في تاريخ الإسلام.

واستمرت تلك النظرات بالتغير، وذلك من خلال ما يكتشفونه من أسرار وأبعاد تلك الثورة التي لم يعيروها اهتماماً في البداية حتى أصبحت النظرة إلى كربلاء بحجم واحد في نفوس المحبين والأعداء، وقد كان كثير منهم يجهلون معنى ما قام به الحسين، وهذا ما شجعهم على الوقوف في وجوه الطواغيت وتفجير الثورات المتتالية التي تولدت من الثورة الحسينية.

وما زالت تلك النظرة تكبر وتعلو حتى هذا الزمان، وسوف تبقى مستمرة بالصعود إلى أن يفهم العالم كله أنه لا حياة كريمة إلا من خلال التضحية ومواجهة الظلم، كما صنع الإمام الحسين بن علي(ع) في كربلاء سنة واحد وستين بعد الهجرة.

 

حالة الهاشميين قبيل الإنطلاق

 

لقد سيطرت حالة من الحزن والأسى على قلوب الهاشميين الذين سوف يفقدون إمامهم العظيم الحسين بن علي(ع) وسبعة عشر شخصاً من أهل بيته في أرض الكرب والبلاء.

لقد أنساهم حبهم للإمام الحسين تلك المسؤولية الكبرى التي حملها(ع) فطلبوا منه البقاء بينهم خوفاً عليه من القتل، وكان(ع) يجيبهم باختصار:شاء الله ان يراني قتيلاً:

والمعنى من ذلك أن الرجاء والحب والحزن لن يغيِّروا من الواقع شيئاً، لأنه سوف يخرج لينفِّذ إرادة الله سبحانه وتعالى.

لقد كانت حالة الهاشميين أثناء توديع الإمام الحسين شبيهة بحال النساء بعد استشهاده.

 

وداع الحسين(ع) لقبر جده(ص)

 

لم يترك الإمام الحسين(ع) مدينة جده من دون أن يودعه لآخر مرة في حياته لأنه كان يدرك بأنها الزيارة الأخيرة لهذا القبر الشريف.

لقد ذهب إلى قبر جده ووقف أمامه وصلى ركعتين ثم دعا ربه بكلمات أنبأت عن معرفته لكل ما يحاط به، وأن الأمويين قد حكموا عليه بالموت هو ومن يناصره، فقال(ع):أللهم هذا قبر نبيك وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، أللهم إني أحب المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلا ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى:

بهذه الكلمات العظيمة والمؤثرة ودّع الإمام الحسين(ع) قبر جده الأعظم محمد(ص) وقد سجل تلك الشهادة العظيمة عند القبر الشريف ليكون شهيداً على القتلة يوم الحساب.

 

لقاؤه(ع) بالسيدة أم سلمة(رض)

قبل خروجه من المدينة التقى بالسيّدة أُمّ سلمة(رضي الله عنها) ليودّعها، فقالت: يا بني لا تحزن بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعت جدّك(صلى الله عليه وآله) يقول: «يقتل ولدي الحسين بأرض العراق؛ بأرض يقال لها كربلا، فقال لها: «يا أمّاه وأنا والله أعلم ذلك، وأنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وأنّي والله لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وأعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وأن أردت يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي، ثمّ قال لها: «يا أُمّاه، قد شاء الله أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مظلومين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً»

 

 

 

سبب الخروج من المدينة المنورة

 

لقد كان لخروج الإمام الحسين(ع) من المدينة أسباب كثيرة، ولكن لا بأس بالإشارة السريعة إلى أهم الأسباب.

فقد شعر الإمام الحسين(ع) بحجم الخطر الذي بات يهدد الرسالة الإسلامية بسبب الممارسات الفظيعة التي كانت تصدر عن يزيد بن معاوية باسم الإسلام، ولم يكن هناك من مُدافع عن هذا الدين الذي أصبح على شفير الهاوية.

لقد كان الناس ينظرون إلى الإسلام من خلال يزيد وأعوانه، وقد احتلت تلك الصورة أذهان كثير من الذين نفروا من هذا الدين بعد أن كان الدين في نظرهم الدين الحنيف الذي نفع الإنسانية ونقلها من الظلمات إلى النور.

لقد حاول الإمام الحسين(ع) ان يعيد تلك الصورة الحسنة عن هذا الدين العظيم ويصرف أذهان الناس عن تلك الصور القبيحة التي صنعها يزيد بن معاوية.

فلم يجد أمامه سوى المواجهة التي من خلالها يستطيع الكشف عن الهوية الحقيقية ليزيد بن معاوية، فإذا نجح في إبراز تلك الحقيقة استطاع حينئذ أن يرجع الصورة الحقيقية للإسلام ويعيد إدخاله إلى القلوب من جديد.

ولم يكن بإمكانه أن يستعمل منطق السلاح في المدينة لأن ذلك سوف يُحدث كارثة كبرى في صفوف المسلمين لأن يزيداً لن يرحم أحداً ولن يشفي غليله إلا بقتل الآلاف من المؤمنين الأبرياء، ولأجل ذلك كانت الوسيلة المناسبة هي الخروج من المدينة نحو الكوفة حيث الأعداد الهائلة من الموالين.

وقد مهّد الإمام الحسين للخروج فأرسل إلى الكوفة ابن عمه مسلم بن عقيل ليهيأ الناس نفسياً لاستقبال الإمام ومشروعه القاضي بالمواجهة العسكرية ضد الطغاة والمتغطرسين، ونحن على ثقة تامة بأن الإمام(ع) لم يصنع كل ما صنعه قبل المعركة من تواصل مع الناس وإرسال السفراء إليهم إلا من باب إلقاء الحجة عليهم لأنه كان يعلم بأدق تفاصيل المخطط اليزيدي، كما أنه كان يعلم بأنه لن يصل إلى كوفة، وأن مسلم بن عقيل سوف يُقتل فيها.

 

هجرة الإمام الحسين(ع) من المدينة إلى مكة

هناك مشابهة كبيرة بين هجرة الإمام الحسين(ع) من المدينة إلى مكة، وبين هجرة جده الأعظم(ص) من مكة إلى المدينة، فلقد كان هدف النبي(ص) من ترك مكة في تلك الظروف الصعبة الإسلام والإنسان، وكذلك كان هدف الإمام الحسين(ع) من ترك المدينة المنورة، فإن نفس الظروف التي سيطرت على مكة المكرمة في عهد النبي هي التي سيطرت على المدينة في عهد الحسين(ع).

ولذا يمكن القول بأن دوافع الهجرة الحسينية هي ذاتها دوافع الهجرة النبوية، ولكن مع وجود فوارق ثانوية:

الفارق الأول: وهو أنّ صاحب الهجرة الأولى هو النبي محمد بن عبد الله(ص)، وصاحب الهجرة الثانية هو الحسين بن علي(ع).

الفارق الثاني: أن هجرة النبي حصلت من أجل التأسيس، أما هجرة الحسين فقد حصلت من أجل الإصلاح، فالنبي أسس الإسلام، والحسين حافظ على الإسلام.

الفارق الثالث: وهو التاريخ، فإن الأولى حصلت، وكانت مبدأ التاريخ الهجري، أما الثانية فقد حصل بعد ستين عاماً من حدوث الأولى.

الفارق الرابع: إختلاف صور الطواغيت مع اتحاد الهدف، لأن الأهداف التي دفعتهم إلى قتل الرسول هي نفسها الأهداف التي دفعت بيزيد إلى قتل الإمام الحسين(ع).

 

دوافع الهجرة الحسينية

 

لو ألقينا نظرة سريعة على الفوارق التي ذكرناها استطعنا أن نستنبط حقيقة تلك الدوافع التي حثّت الإمام الحسين(ع) على مغادرة المدينة المنورة التي تحولت في عهد يزيد إلى قلعة للظلم والفساد والإفساد، حيث فلم يعد للمخلصين فيها أي مكان.

لقد كان المؤمنون في عهد يزيد يُقتَلون على التهمة والظنة بهدف إفراغ الأرض من القيم والأخلاق التي زرعها النبي(ص) في نفوس الناس.

وإن الذي دفع بالإمام الحسين(ع) نحو الهجرة هو الإصلاح والقضاء على يزيد، ولكنه لم يكن بإمكان الحسين أن ينفذ أهدافه في المدينة التي أحكم يزيد فيها سيطرته، فقرر أن يذهب إلى الكوفة، وهناك يمكن تأسيس جيش كبير يقف في وجه هذا المتغطرس.

والذي أكد مبدأ الهجرة هو أن يزيداً حاول أن يجبر الإمام الحسين(ع) على البيعة، فعندها وصف الحسين يزيداً بتلك العبارات المشهورة:ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله.

ولم يدع يزيد بن معاوية الحسين وشأنه، وإنما راح يضايقه وكل الموالين له بهدف زرع الخوف في نفوسهم، وهذا ما جعل فكرة الهجرة ضرورية لهم جميعاً.

ولعل بعض الكتب التي بعثها أهل الكوفة للحسين كانت خدعة من أجل إبعاده عن المدينة حتى يتمكن يزيد من تنفيذ جريمته البشعة بعيداً عن أنظار الموالين، ولم يكن الحسين جاهلاً بتلك المكائد، ولكنه خرج نزولاً عند رغبة عشرات الآلاف من أهل الكوفة، بالإضافة إلى كون خروجه تنفيذاً للإرادة الإلهية بالدرجة الأولى.

 

الإستعداد للخروج من المدينة المنورة

 

عندما أصبحت الهجرة أمراً مُلحاً على الإمام الحسين(ع) ومن تبعه من المؤمنين استعد لمغادرة المدينة خفية عن عيون يزيد وجواسيسه، وذلك حقناً للدماء التي كانت سوف تسفك لو بقي الإمام في المدينة.

لقد تجهز للسفر وجمع أهل بيته وبعض المؤمنين ممن خرجوا معه وعزم على المسير متوجهاً نحو الكوفة.

 

 

 

 

شاء الله أن يراني قتيلاً

 

لقد كان ذلك جواب الإمام الحسين(ع) لأحد محبيه في المدينة، وقد طلب هذا الشخص من الإمام أن يبقى في المدينة لأنها موضع آمن له بالنسبة لباقي المناطق الخاضعة لسيطرة يزيد.

فأطلق الإمام(ع) هذا الجواب ليكون أذاناً ينبه به قلوب الغافلين عن الحق، وقد بين لهم من خلال هذا الكلام أنه عالمٌ بالمصير الذي سوف يؤول إليه، ولأجل ذلك حسم الموقف قائلاً:شاء الله أن يراني قتيلاً:

الأمر ليس بيد الإمام الحسين، وإنما هو بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الذي اختار طريق الجهاد له، لأنها الوسيلة الأقوى للدفاع عن الحقوق والكرامات والمعتقدات.

ثم سُئل(ع) عن سبب إخراج النساء؟ فقال: شاء الله أن يراهن سبايا:

ونفس ما قيل حول السؤال الأول يمكن أن يقال حول السؤال الثاني، فإن الحسين(ع) أعلم بعاقبة الأمور من جميع الناس.

وقد اتضح جلياً للقاصي والداني الحكمة من إخراج النساء معه إلى تلك الصحراء البعيدة، وذلك بعد انتهاء المعركة، وسوف نذكر لكم تلك الحكمة في محلها.

 

نظرة الناس إلى تلك الهجرة

 

لقد كانت وجهات النظر مختلفة من قبل المجتمع المدني وقد انقسم الناس تجاه الهجرة الحسينية ثلاثة أقسام:

القسم الأول: وهم بنوا هاشم الذين خافوا عليه من القتل لعلمهم بانحطاط يزيد أخلاقياً وإنسانياً ولكنهم كانوا عاجزين عن الخروج لأمر خارج عن إرادتهم كعبد الله بن جعفر الذي كان ضريراً.

القسم الثاني: وهم مجموعة من الضعفاء الذين كانت قلوبهم مع الإمام الحسين إلا أن خوفهم من يزيد منهم من الخروج مع إمامهم، وقد كان لهذا القسم حظ في الجريمة لأنهم تخلفوا عن نصرة سيدهم، وقد كان من الممكن أن يكون لخروجهم معه أثر كبير على الآخرين إذ كان من الممكن أن يكون خروجهم مشجعاً لكل الموالين.

القسم الثالث: وهم أعوان يزيد وأتباعه.

القسم الرابع: وهم الأصحاب الذين خرجوا معه من المدينة وقد ناهز عددهم الأربعين شخصاً.

 

 

هل شعر الإمام الحسين(ع) بالخوف

 

لم تسلم الثورة الكربلائية وصاحبها من اختلاق الأكاذيب بغرض تشتيت الأفكار والمعتقدات حول الإمام الحسين(ع).

لقد حاول أعداء الحق عبر قرون من الزمن أن يخدشوا نزاهة تلك الثورة ويحطوا من شأنها في نفوس المؤمنين والأحرار، فراحوا يوجِّهون اتهامات كاذبة وأقاويل باطلة لتلك الثورة العظيمة بكل معانيها وأبعادها وذلك بهدف أن يعكسوا المعادلات فيجعلوا من الجزار ضحية ومن الضحية جزاراً، ولكن الحق أقوى والإستقامة أعظم، فأبى الله تعالى إلا أن تصل الحقيقة إلى العالم كله على طبق من نور، وباء المغرضون بالفشل الذريع، وردَّهم الله تعالى خائبين.

لقد تسلل الأعداء من نوافذ عديدة، ولكنهم ووجهوا من قبل أهل الحق بجرأة وبسالة، فلم يَدَعوا احتمالاً للتشويه إلا استعملوه، ولكن إرادة الله سبحانه فوق إرادة الجميع، فقد وجدوا لكل اتهام رداً مناسباً من قِبَل أصحاب النهج الحسيني.

ومن جملة الأكاذيب الكبرى في حق الإمام الحسين(ع) أنه خرج من المدينة هارباً من يزيد وخائفاً من الموت، ونحن بدورنا نردُّ على هؤلاء بالتالي:

أولاً: إن الإمام الحسين ابن علي(ع) إمام معصوم، والمعصوم يستمد القوة والجرأة من الله مباشرة، فإذا اتهمنا الحسين بذلك فقد تعدينا الخطوط الحمراء التي وضعها الله سبحانه وتعالى.

ثانياً: ينبغي أن ننظر إلى تصرفات المعصوم من زاوية خاصة لأنه يتصرف بالعلم الذي وهبه الله إياه، فقد نظنه في بعض الأحيان مخطئاً، ولكننا إذا دققنا في أعماق الأمر وجدناه محقاً فيما قال أو فعل، فلا ينبغي أن ننظر في سلوك المعصوم كما ننظر في سلوك بعضنا البعض، ولا ينبغي أن نغفل عن مسألة التسديد الإلهي للمعصوم.

ثالثاً: لو كان الإمام الحسين(ع) خائفاً من الموت لما ذهب إليه برجليه، فقد كان عالماً بهذا  المصير المحتم الذي دلّنا عليه بقوله:شاء الله أن يراني قتيلاًً:

رابعاً: لقد كان بإمكانه أن يبقى على قراره تجاه يزيد ويعيش بين أتباعه في المدينة ولا يستطيع يزيد أن يناله بسوء.

خامساً: لو كان خائفاً من الموت أو طالباً الحكم من أجل الدنيا فقد عرض عليه يزيد كل الدنيا في مقابل كلمة رضا منه، فلم يتنازل عن ذرة من عقيدته، ورفض الحياة تحت ظل يزيد مؤثراً الموت بعزة وكرامة.

سادساً: يجب أن نفرق بين الخوف من شيئ والخوف على شيئ، فإن هناك فرقاً كبيراً بينهما.

لقد خاف الإمام الحسين(ع)، ولكنه خاف على شيئ..خاف على الإسلام من يزيد، وهذا ما دفعه للخروج، ولم يخف من يزيد قط، لأن يزيداً في نظر الحسين(ع) عبارة عن حشرة ضعيفة لا تخيف أحداً من الناس.

ونحن الحسينيين ننصح كل الذين يتهمون هذا الإمام العظيم بأن لا يصطادوا في الماء العكر، وأن يتخلوا عن هذا الأسلوب الشيطاني المخادع لأنه لن يؤثر في المؤمنين، بل على العكس هو يربطهم بالحسين أكثر، ويثبتهم على العقيدة الحقة، لأننا ننظر إلى تلك الإتهامات على أنها أدلة واضحة على صحة ما قام به الإمام الحسين(ع) في كربلاء، ولا ننظر أبداً من منظار الشك.

كما ونقول لهم: إن عاقبة هذا الإفتراء هو عذاب جهنم، لأنكم بذلك تفترون على الله الكذب، والحسين(ع) يمثل الإسلام، وكل ما يقال فيه إنما يقال في الإسلام الذي هو دين الله الحق.

وإذا كان بعض المؤمنين قد أخطأ بالتعبير عن حالة الحسين لأثناء خروجه من المدينة أو عن حالته في كربلاء فهذا لا يعني أن الحسين كان ضعيفاً أو خائفاً.

الخائف لا يواجه آلاف السيوف بجسده، ولا يضحي بأولاده وأصحابه، ولا يفكر بمواجهة الظالم، ولكنه(ع) لم يكن خائفاً سوى من الله سبحانه وتعالى.

 

أهمُّ أهداف الهجرة من المدينة

 

 

 

 

 

 

لا يكتفي العقلاء في الحكم على شيء من خلال الظاهر، لأنه في الغالب لا يحكي لنا حقيقة الجوهر، وهذا من شأنه أن يدعو العاقل إلى البحث في أعماق المسائل كيلا يكون حكمه جائراً من خلال تقصيره في المقدمات المطلوبة لإجراء المحاكمة.

وقد هُدر عبر التاريخ حقوق أناس مظلومين كانوا ضحية عدم اكتمال الأدلة وتسرُّع القضاة في الحكم عليهم، في حين كان يجب على القاضي أن يتأنى ويتريث قليلاً علّه يصل إلى دليل يغيِّر مجرى الحكم.

وهناك حقوق إنسانية قد حُكم عليها بداعي البغض والكراهية والتعصب الأعمى الذي من شأنه أن يعرقل كثيراً من الحوادث ويضيّع حقوق أهل الحق، كما حُكم على الثورة الكربلائية من قِبل بعض المعادين لمذهب الحق، أو من قِبل الذين نظروا إلى الظاهر ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الحقيقة، فحكموا بالفشل على ثورة كانت قمة في النجاح المميز الذي لم يشهد التاريخ نجاحاً مثله.

وفي مثل هذه الأحداث الكبرى يجب التأني في إصدار الحكم لأن قائد الثورة ليس بالإنسان المتهور أو المتسرع حتى يُقدم على أمر لا فائدة منه.

إن نفس علمنا بأن الحسين بن علي(ع) هو الذي قام بالثورة يدفعنا إلى البحث عن الحقيقة لأنه لا شك في وجود مصلحة كبرى من وراء هذا العمل الكبير الذي أدى إلى استشهاده واستشهاد أولاده وأصحابه.

لقد كان حكمهم على ثورة أبي عبد الله(ع) أسرع من حكمهم على القضايا الصغرى، ولعل السبب في تسرُّعهم هو علمهم القطعي بوجود فائدة عظمى هم لا يريدون التوصل إلى معرفتها، وذلك بهدف إرضاء الحاكم الظالم أو بسبب خوفهم من جوره وظلمه، وهذا لا يبرر لهم ارتكاب تلك الجريمة القذرة في حق الحسين والإسلام.

لقد حكم الجميع في البداية على استحقاق الحسين ما نزل به في أرض كربلاء لأنه لم يطع الخليفة، بل خرج على حكمه فاستحق هذا العقاب الطبيعي لكل من يخرج على الباطل ويحاول التصحيح.

لقد كان الفساد في نظرهم صلاحاً والباطل حقاً والضحية جزاراً، وقد أشبه حكمهم على الحسين وأصحابه حكم فرعون على موسى ومن آمن معه، وحكم النمرود على إبراهيم الخليل.

لقد كانت حجتهم أن الأنبياء تخلوا عن آلهتهم فاستحقوا الموت والتعذيب قبل الموت، وهكذا كان حكم التابعين ليزيد على الحسين وأصحابه.

لقد كان حكمهم على ثورة كربلاء بعيداً عن منطق العدالة بُعد الأرض عن السماء لأنه كان حكماً جائراً أجراه الشيطان الرجيم على ألسنتهم بإيعاز من شيطان الإنس(يزيد بن معاوية) الذي حاول أن يجيِّر الأمور لمصلحته قبل أن يظهر الحق للناس، فراح يوجِّه الإتهامات ويعطي المبررات التي دفعته لمعاقبة الحسين، فادعى بأن الحسين حاول أن يخرب النظام الإسلامي ويفكك اللُّحمة بين المسلمين لأنه تخلف عن بيعة إمام الزمان الموهوم(يزيد) وقد جعل من فعله الشنيع عبرة لكل من يفكر بالمواجهة.

لقد زرع في نفوس الناس فكرة أن تلك المجموعة التي قضى عليها في كربلاء هي مجموعة تشكِّل خطراً على الدين، مع أنها هي التي تمثل الدين الصحيح.

وقد شرب كثير منهم هذه الفكرة المضللة حيث هجم كثير من أتباع يزيد على موكب السبايا يشتمونهم ويضربونهم ويقولون لهم: الحمد لله الذي قتلكم وأراح البلاد منكم:

وهذا نموذج صغير على مدى تأثير تلك الدعاية على نفوس الناس.

لقد قامت تلك المحاكمة على قواعد الجور والإفتراء، وعلى آثار الدعايات الكاذبة التي افتعلها اليزيديون ضد أهل البيت(ع).

إنها أحقر محاكمة في تاريخ الإسلام، لأن الوحيد الذي يحق له أن يحكم على الآخرين هو المحكوم عليه جوراً في هذه المحاكمة.

ونحن بدورنا نحكم على يزيد بحكم الله ورسوله، وهو الخلد في العذاب الأليم لأنه لم يرتكب جريمة في حق الحسين فحسب، وإنما ارتكب جريمة في حق الإسلام والإنسان.

 

شأن الثورة من شأن أهدافها

 

تارة ننظر إلى الثورة من باب عدد أفرادها ونوعية السلاح الذي يمتلكونه، أو من باب الظروف الخارجية التي لا تدل في الغالب على الحقيقة الباطنة، ومرة أخرى نغيِّر مسار نظرتنا فنتعمق في الأمر قليلاً فننظر إلى أسبابها وأهدافها والنتائج المتولدة عنها.

ولا شك بأن الحكم عليها من النظرة الأولى يختلف تماماً عن الحكم عليها من النظر الثانية التي هي الأنسب والأوسع، وهي الباب الصحيح الذي ننفذ منه إلى الأعماق.

فلو أردنا أن نحكم على الثورة الحسينية من خلال الظاهر وحده لحكمنا عليها بالسلب، لأن الظاهر كان موحياً بالهزيمة، ولكننا حكمنا عليها من خلال أهدافها فكان الحكم عليها عظيماً كعظمة الأهداف فيها.

والثورة تستمد شأنها وعظمتها من شأن أهدافها، فإذا كانت الأهداف كبيرة كانت الثورة كذلك، ولقد كانت أهداف الثورة الحسينية أنزه أهداف في تاريخ الإسلام، ولأجل ذلك كانت ثورته أعظم ثورة في تاريخ الإسلام، إن لم نَقل في تاريخ البشرية.

 

 

 

 

 

أهداف الثورة الحسينية

 

الهدف الأول: إصلاح ما فسد من أمور الدين

 

ينبغي على كل باحث في أهداف الثورة الكربلائية أن يقدم هذا الهدف على غيره من أهدافها لأنه يشكِّل المحور الأساسي لجميع تلك الأهداف، وهو أول هدف تعرَّف عليه الناس في حياة الإمام الحسين(ع).

إن تحقيق هذا الهدف لم يكن واجباً على الحسين فقط، وإنما هو واجب على كل مسلم ومسلمة في هذا الوجود، لأن حفظ الدين من التحريف والمداخيل الشريرة هو من أولى واجبات المسلم الذي إذا أهمل إسلامه فقد أهمل وجوده المستمد من وجود الإسلام.

ويتحتم هذا الأمر على المعصوم لأنه المسؤول الأول باعتباره الخليفة الحق، ومن خلال هذا الواجب تحرك الإمام الحسين(ع) حتى أصلح ما فسد من أمر الدين بطريقته الخاصة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ كثيراً من المسلمين قد أشادوا بأصحاب الحركات الإصلاحية وهي نتاج صغير من نتائج الثورة الكربلائية مهملين بذلك المصدر الأول للإصلاح بداعي العصبية المذهبية.

فكما اعتنيتم برجالات الإصلاح من المسلمين وغيرهم كان من الواجب عليكم كمسلمين أن تشربوا من المصدر الذي تفجرت منه عيون الإصلاح، وهو الإمام الحسين بن علي(ع).

وإننا لم ندرك هذا الهدف العظيم من أهداف ثورة الحسين عن طريق الإيحاء والإستنتاج، وإنما أدركناه عن طريق التصريح الواضح الذي صرح به الإمام الحسين(ع) عندما كان يُسأل عن سبب خروجه فكان جوابه ذا ناحيتين:

الناحية الأولى: وهي بيان الهدف الذي دفعه للخروج.

الناحية الثانية: وهي الرد على من افترى عليه عندما اتهموه بأنه يطلب الزعامة.

لقد أطلق الإمام(ع) كلمته المشهورة التي بين من خلالها هدفه من الثورة حيث قال”إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(ص)”

وقد دل الشطر الأول من كلامه على الناحية الثانية، وهي رد التهم التي وجّهت إليه، ودلّ الشطر الثاني على الهدف الأساسي من خروجه للمواجهة، وهو طلب الإصلاح.

وقد كانت هذه الكلمات هي الرد المناسب على كل ضال ومضل، وقد كان(ع) مدركاً لما سوف يقال فيه، فأراد أن يختصر المسافات ويوفر علينا مشقات الإثبات فوضع هذه القاعدة لنضعها نصب أعين الظالمين والمستفسرين عن الحق، ولا يوجد أوضح من هذا الدليل الصادر من صاحب الثورة.

وإننا مهما اجتهدنا في البيان فلن يكون كلامناً حاسماً ككلام صاحب العلاقة.

 

الدين أمانة في أعناق الجميع

 

لقد أودع الله نفوسنا أمانة عظيمة وأمرنا بالحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة، تلك الأمانة أغلى من أرواحنا لأنها سبب وجودنا ومصدر كل نعمة فينا فهي النعمة الكبرى التي سوف يسألنا الله عنها قبل أي شيء آخر وهي الدين.

فيجب على مسلم في هذا الوجود أن يحفظ الإسلام من كل خطر وضرر لأنه الصلة القوية بيننا وبين الله سبحانه وتعالى.

وقد حافظ الإمام الحسين(ع) على تلك الأمانة الثقيلة التي لا يجوز لأي مسلم أن يفرط بأثر واحد من آثارها.

لقد فهم الحسين دين الله أكثر من غيره، ولأجل ذلك تميزت تضحياته في سبيله.

وما قام به الإمام الحسين تجاه تلك الأمانة كان من الواجب على كل المسلمين أن يفعلوا مثله، لا أن يكونوا يداً على الإسلام كما كان حال الأمة في ذلك العهد.

فلو كان رسول الله(ص) موجوداً في زمن الحسين لقام بنفس الدور الذي لعبه الحسين(ع)، وما قام به هذا الإمام المعظم كان من واجب الأمة أن تنهض به لأنه من أجلها.

 

الهدف الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

لم يكن هذا الهدف بأقل شأناً من سابقه، فهو من الواجبات التي فرضها الله عز وجل على عباده، وذلك لتوقف كثير من مصالح الأمة عليه.

والثورة الكربلائية أبرز عنوان من عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن المصلحة من هذا الواجب قد تحققت مئة بالمئة من خلالها.

وقد ترجم الإمام الحسين(ع) بثورته أرقى مراتب الأمر بالمعروف، وهو الأمر عن طريق اليد والفعل.

ويشتمل هذا الواجب على معانٍ سامية تنبئ عن مدى الغيرة في قلب المؤمن على هذا الدين، كما وتنبئ عن حرصه عليه، لأن كثيراً من مفاهيم الدين ومبادئه وأركانه يتوقف استمرارها على مسألة الأمر والنهي.

وقد نجد كثيراً من المسلمين يتهاونون بهذا الواجب لظنهم بأن الإنسان حر في تصرفاته فلا داعي من ردعه عن المنكر لأنه مخير في هذه الحياة، وهذا مفهوم خاطئ قد زرعه بعض الجهلة في نفوس الناس، فلو كان مفهوم المر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يتوهمون لما كان هناك من داعٍ للأنبياء من التبليغ والدعوة وتوجيه الناس إلى الصلاح.

 

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي

 

تتكون الشريعة الإسلامية من مجموعة معتقدات وأفعال وأقوال وتروك تمثل بمجموعها الدين الحنيف لأن الإسلام قائم عليها بما هي مجموعة.

فمن أراد أن يكون مسلماً عند الله تعالى وجب عليه الإمتثال لجميع الأوامر والنواهي بعد الإعتقاد بمعتقدات الدين.

فمن التزم ببعضها وأهمل البعض الآخر لم يكن مؤمناً حقيقياً في الموازين الإلهية.

لقد أنكر الله عز وجل أفعال الأقوام السابقين الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر واعتبرهم كفاراً لأن الإيمان لا يتحقق إلا بالإعتقاد والإلتزام التامين.

ولا يكون المسلم مطيعاً إلا إذا أطاع الله في كل شيء، فإذا صلى ولم يصم أو صام ولم يصل، أو أتى بهما ولم يحج مع استطاعته لم يكن ملتزماً بأحكام ربه.

وهذا النقص الذي أحدثه بإهماله لواجب أو أكثر قد أحدث فجوة كبيرة في استقامته لا يؤمن معها من الإنحراف لأن الذي يترك واحداً قابل لأن يترك الجميع، وقد يكون حكم ترك الواحد عند الله من دون عذر شرعي حكم ترك الجميع، فلا تنفع الصلاة صاحبها إلا إذا توجها بباقي الواجبات.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب مفروض من قبل الله تعالى كما فرض الصلاة والصوم والحج وغيرها من الواجبات.

وعلى كل مسلم أن يلتزم بهذا الواجب الذي هو السبب الأكبر في بقاء باقي العبادات لأنه يشكل الحصن المنيع لها.

وقد كان الأمر بالمعروف في زمن الحسين(ع) واجباً على الجميع لأن أحكام الله لا تتغير ولا تتبدل فإن الحلال حلال إلى يوم القيامة والحرام حرام إلى يوم القيامة.

وبناءاً على ذلك يمكن لنا أن نقول بأن كل الذين سمعوا نداء الإمام الحسين في ذلك الوقت ولم يلبوا نداءه فقد وقعوا في المعصية لأنهم لم يقوموا بالواجب المفروض عليهم.

ولم يقف الحد في تخلفهم على مسألة واجب قد أهمله الإنسان ثم استغفر ربه، وإنما كان لتخلفهم أثر فظيع، وهو قتل الإمام الحسين وأولاده وأصحابه.

فلم يقف الأمر عند حدود المخالفة وإنما ترقى إلى مستوى المشاركة في تلك الجريمة البشعة التي ارتكبت في حق الحسين كممثل للإسلام.

إن كثيراً من المسلمين يعتقدون بأن الأمر بالمعروف وظيفة رجل الدين فقط، وهذا وهم، لأن الواقع هو أن الأمر بالمعروف واجب كل مسلم ومسلمة في هذا الوجود، ولكن كل بحسب ظروفه.

 

الهدف الثالث: الكشف عن هوية الحاكم الجائر

 

لقد كان يزيد بن معاوية ضالاً ومضلاً وقد ورث المكر والخداع عن أسلافه فأوهم البسطاء من المسلمين بأنه الخليفة المنصوب حقاً، وأنه هو الإمام الذي تجب طاعته.

وبعد أن سيطر على أوهام الناس راح يتدخل في الشؤون الإسلامية العقائدية منها والعبادية فأحل من الأفعال ما يحلو له وحرّم من الأمور ما لا نفع له فيه فجيّر كل المفاهيم الإسلامية إلى مصالحه الخاصة فراح يرتكب الظلم والجور والعصيان باسم هذا الدين الحنيف والبريء من ممارساته الشنيعة.

لقد أخذ الناس ينظرون إلى الإسلام من خلال هذا الرجل الفاسد الذي لا يمثل سوى نفسه الأمارة بالسوء والخاضعة لوساوس الشيطان الرجيم، فلعب في النظام الإسلامي وخربه وحرّفه وأحدث فيه من الخلل ما يصعب إصلاحه لأن خطته العدائية للإسلام وأهله كانت محكة ومدروسة من قبله هو ومن يعاونه من الأشرار الذين قامت معيشتهم على نفس الأركان التي قامت عليها معيشة يزيد.

ما هو السبيل للخلاص؟ وما هي الطريقة الفعالة للقضاء على الجور؟ ومن هو الحكيم الذي يستطيع أن يكشف جور الحاكم؟ ومن هو صاحب الجرأة والإرادة الذي يستطيع أن يقف في وجه هذا التيار الجارف؟

إنه بن بنت رسول الله الحسين بن علي(ع) فهو الأمل للأمة بإنقاذها من جور السلاطين وحفظ الدين من الشوائب التي أدخلوها فيه.

وما هي الطريقة لذلك؟ إنها الثورة، ولأجل ذلك ثار الحسين ضد يزيد وأعوانه واستطاع أن يحقق من خلالها هذا الهدف الراقي الذي عاد بالمنفعة على الأمة بأكملها في الماضي والحاضر، والذي سوف يبقى نفعه مستمراً إلى يوم القيامة.

لقد استطاع الإمام الحسين(ع) أن يكشف نوايا يزيد تجاه الدين والأمة، وذلك من خلال الجرائم البشعة التي ارتكبها في حق الإسلام وكان من أبرزها تلك الجريمة في كربلاء والتي أحدثت صحوة في قلوب الجميع وكانت مفتاح السعادة لهم في الدنيا والآخرة.

 

الهدف الرابع: زرع الجرأة في نفوس المسلمين

 

لم يكن أحد من رؤساء القبائل والعشائر وأصحاب النفوذ ورؤوس الأموال يفكر في مواجهة الوضع الحرج الذي كانت تشهده الأمة الإسلامية في عهد يزيد بن معاوية.

لقد كان الخوف مسيطراً عليهم، وحب الدنيا معشعش في قلوبهم، فلم يكن أحدهم يفكر بالبذل في سبيل الأمة وإن كان البذل قليلاً لأنهم كان يخافون سوء العاقبة من قبل يزيد وأعوانه.

لم يكن للجرأة مكان في قلوبهم رغم اشتهار العرب بالشهامة وحب النضال، ولكنهم في تلك الظروف أمات الخوف مشاعرهم واستفحل الشيطان في إغوائهم لأنهم ابتعدوا عن الدين واتبعوا الضالين المضلين بهدف الحفاظ على حياتهم، مع أن هذا الإتباع كان الموت بعينه حيث أمات فيهم النفوس الأبية وحطّم مشاعرهم الإنسانية، وسلب منهم العادات الكريمة التي ورثوها عن الأجداد.

لقد كانوا بحاجة إلى رجل صاحب قلب شجاع يزرع فيهم الجرأة من جديد ويشجعهم على مواجهة الحكام الفاسدين، وهذا ما حدث بالفعل حيث تحلى المسلمون عقب استشهاد الإمام الحسين(ع) بالجرأة فوقفوا في وجه يزيد وابن زياد وحاربوهما بكل جرأة وبسالة.

وقد كان هذا من الأهداف المهمة التي كان الناس بأمس الحاجة إليها في ذلك الزمان على وجه الخصوص، ولم تزل الحاجة إليه قائمة حتى يومنا هذا، وذلك بفضل الثورة الحسينية العظيمة.

 

الهدف الخامس: ضرورة العمل الكاشف عن الإيمان

 

لا يكتمل الإيمان إلا بالتطبيق العملي له، فإذا ادعى الرجل بأنه مؤمن ولم يلتزم بما يفرضه عليه إيمانه فلا يكون إنساناً مؤمناً، وإنما صاحب ادعاء فارغ.

وقد أمرنا الله عز وجل مراراً بالعمل الصالح الذي ينبئ عن الإيمان الصحيح حيث يقول(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)

وقد حرك الإمام الحسين بثورته جميع المسلمين إلى الإلتزام بالعمل الذي به يحفظ الدين حيث كان أكثر المسلمين بعيدين كل البعد عن المنطق العملي تجاه الإيمان فاكتفوا ببعض الأعمال التي لا تقبل إلا بباقي الواجبات الكبرى.

إن الإيمان المجرد عن العمل لا يخيف أهل الضلال لأن الذي يرعبهم هو الترجمة العملية، وهم يعرفون أثر تلك الترجمة حيث بها تهتز عروشهم وتتزلزل أركانهم.

أنظروا إلى الإمام الحسين(ع) كيف زعزع كيان الظالمين من خلال الإلتزام بالعمل الذي فرضه الله تعالى على كل مسلم في هذا الوجود.

وقد أرشدهم بثورته إلى كون الإيمان في كثير من الموارد يستلزم منا العمل الجدي.

 

الهدف السادس: الكشف عن عظمة الإسلام من خلال حجم التضحية في سبيله.

 

لقد لفت الإمام الحسين(ع) أنظار العالم إلى عظمة هذا الدين الحنيف من خلال حجم التضحية التي قدمها في سبيله ليقول للجميع: إن هذا الدين هو أغلى أمر في هذا الوجود، فهو أغلى من المال والولد والنفس وجميع زخارف الحياة.

ولو لم يكن الدين كذلك لما قدّم روحه وأرواح أولاده وأخوته وأصحابه في سبيل المحافظة عليه.

ولم يكن الأمر مجرد بيان عظمته، وإنما كان ذلك متضمناً لدعوة كبرى، وهي الحث على التضحية في سبيله مهما كانت كبيرة لأن الدين أكبر منها بمراتب.

 

الهدف السابع: تأسيس مدرسة للأجيال.

 

ولا يشك عاقل بوجود مثل هذا الهدف ضمن أهداف الثورة الحسينية التي كانت بالدرجة الأولى مدرسة عظيمة لكل زمن وجيل، وقد تخرج من تلك المدرسة ملايين الملايين من المؤمنين الأبطال عبر القرون الماضية.

لقد كانت مدرسة للحياة، أي أنها وضعت أسس الحياة العزيزة والعيش الكريم، كما كانت مدرسة تعلم الناس أساليب النجاة في يوم الحساب، فهي مدرسة للدنيا والآخرة في آن واحد، وما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا.

 

الهدف الثامن: إحداث صحوة إجتماعية.

 

وقد حققت الثورة هذا الهدف لأنها كانت أكبر عامل من عوامل الصحوة، صحوة العقل والنفس والروح والضمير.

 

أهداف يزيد بن معاوية من معركة كربلاء

 

كما كان لطرف الحق في تلك المعركة أهداف سامية فكذلك كان لطرف الباطل أهداف في مقابلها.

وكما عجزنا عن حصر أهداف الإمام(ع) فكذلك وقعنا في العجز حول حصر أهداف يزيد لأنه مما لا شك فيه هو أنه أخفى بعض الأهداف التي من شأنها أن تؤلب الوضع العام عليه، ولكننا نذكر أهم تلك الأهداف لندرك حجم البغاء الذي كان يتعامل به مع أفراد رعيته.

الهدف الأول: التشفي والإنتقام.

لقد ظهر هذا الهدف جلياً أثناء المعركة وبعدها، ففي المعركة ظهر على ألسنة أعوان يزيد، وبعدها ظهر عند وصول ركب السبايا إلى قصره.

ففي أثناء المعركة صاح كثير من أفراد جيش يزيد:إنما نقتلك بغضاً منا لأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين.

وفي القصر الملعون أصحابه قال يزيد عند وصول السبايا: لقد قضيت من النبي ديوني:

وقد حاول بعض الناس أن يحصر أهداف يزيد في هذا الأمر، ولكننا إذا دققنا قليلاً نجد بأن هذا الأمر مجرد تمويه للأهداف الأخرى من وراء ارتكاب تلك الجريمة.

ومن شيم يزيد وأخلاقه أن ينتقم من أهل الحق بسبب أو بغير سبب لأنه سفاح وسفاك للماء البريئة.

الهدف الثاني:السيطرة على الوضع.

لقد رأى يزيد بأن الإمام الحسين يشكل خطراً كبيراً على حكومته الظالمة لأنه البقية لرسول الله الذي يذكر المسلمين بأصالتهم.

فلم يقبل بأن يكون في الوجود زعيم إسلامي يمتلك قلوب الناس ويسيطر على نفوسهم ويحركهم نحو الخير بجميع أشكاله، فرأى يزيد بأن الطريقة الوحيدة للسيطرة على الوضع هو قتل الإمام الحسين الذي ظن يزيد بأن قتله سوف ينهي المشكلة، مع أن قتله للحسين كان بداية المشكلة التي انتهت بهزيمته وقتله شر قتلة.

الهدف الثالث:زرع الخوف في نفوس الأحرار.

أراد يزيد أن يلقن الجميع درساً من خلال قتل القائد العظيم فقتله ليزرع الخوف في نفوس الجميع فلا يفكر أحدهم بعد ذلك بالمواجهة لأن الثمن سوف يكون غالياً.

فأراد يزيد كيداً فجعله الله من الخاسرين ولم يحقق له تلك الأمنية، لأنه بدل أن يزرع الخوف في الناس بتلك الجريمة إنعكست المعادلات وزرع في نفوسهم جرأة كانت السبب في قتله.

وقد كان يهدف إلى أمور كثيرة فدفن الله ذكره وأهدافه حيث دُفنت في مزبلة التاريخ.

أما الإمام الحسين(ع) فقد أحيا الله ذكره ونهجه وأنار به الوجود والتاريخ وجعله رمزاً للتضحية ومثلاً أعلى للوفاء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخُرُوْجُ مِنَ المَدِيْنَةِ المُنَوَّرَة

 

بعد الدراسة العميقة للظروف الراهنة وتهيأة المتطلِّبات للسفر الطويل برفقة عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال خرج الإمام الحسين(ع) على رأس تلك القافلة المباركة قاصدين الحياة العزيزة والكريمة في ظل حذر شديد وخطر محدِق بهم جميعاً لأن أية معلومة تصل إلى عيون يزيد في تلك المرحلة كانت ستكون كلفتها باهضة جداً، ليس على صعيد القتل للبعض والسَّجْن والتعذيب للبعض الآخر، وإنما على صعيد فشل الثورة التي خُطط لها منذ زمن بعيد.

وكان هناك عدة مواقف لمحبي الإمام الحسين(ع) أبدوا له بعض النصائح:

منها: قال له عمر الأطرف بن أمير المؤمنين : حدّثني أبو محمّد الحسن عن أبيه أمير المؤمنين ، أنّك مقتول ، فلو بايعت لكان خيراً لك . قال الحسين (ع):حدّثني أبي أنّ رسول الله أخبره بقتله وقتلي ، وأنّ تربته تكون بالقرب من تربتي ، أتظنّ أنّك علمت ما لم أعلمه ؟ ، وإنّي لا أعطي الدنيّة من نفسي أبداً ، ولتلقين فاطمة أباها شاكية ممّا لقيت ذريّتها من اُمّته ، ولا يدخل الجنة من آذاها في ذريّتها :

ومنها: قال محمّد بن الحنفية : يا أخي أنت أحبّ النّاس إليَّ وأعزّهم عليَّ  ولستُ أدّخر النّصيحة لأحد من الخلق إلا لك وأنت أحقّ بها ، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثم ابعث برسلك إلى النّاس ، فإنْ بايعوك حمدتَ الله على ذلك ، وإنْ اجتمعوا على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ، ولم تذهب مروءتك ولا فضلك ، وإنّي أخاف عليك أنْ تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف النّاس بينهم فطائفة معك واُخرى عليك فيقتتلون ، فتكون لأول الأسنّة غرضاً ، فإذا خيرُ هذه الاُمّة كلّها نفساً وأباً واُمّاً ، أضيعها دماً ، وأذلّها أهلاً

فقال الحسين(ع) : فأين أذهب ؟ قال : تنزل مكّة فإنْ اطمأنّت بك الدار ، وإلا لحقت بالرمال وشعب الجبال وخرجت من بلد إلى آخر حتّى تنظر ما يصير إليه أمر النّاس ، فإنّك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حتّى تستقبل الاُمور استقبالاً ولا تكون الأمور أبداً أشكل عليك منها حين تستدبرها استدباراً

فقال الإمام الحسين: يا أخي ، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى ، لَما بايعت يزيد ابن معاوية: فقطع محمّد كلامه بالبكاء ، فقال الحسين(ع): يا أخي ، جزاك الله خيراً ، لقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج إلى مكّة ، وقد تهيّأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي أمرهم أمري ورأيهم رأيي ، وأمّا أنت فلا عليك أنْ تقيم بالمدينة ، فتكون لي عيناً عليهم لا تخفي عنّي شيئاً من اُمورهم .

ومنها: قالت اُمّ سلمة : لا تحزنني بخروجك إلى العراق ، فإنّي سمعت جدّك رسول الله يقول: يُقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلا، وعندي تربتك في قارورة دفعها إليَّ النّبي(ص)، فقال الحسين: يا اُمّاه ، وأنا أعلم أنّي مقتول مذبوح ظلماً وعدواناً ، وقد شاء عزّ وجلّ أنْ يرى حرمي ورهطي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً :

قالت اُمّ سلمة : وآعجباً ! فأنّى تذهب وأنت مقتول ؟

قال(ع): يا اُمّاه ، إنْ لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً ، وإنْ لم أذهب في غد ذهبت بعد غد ، وما من الموت والله بدّ ، واني لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه والسّاعة التي اُقتل فيها والحفرة التي اُدفن فيها ، كما أعرفك ، وأنظر إليها كما أنظر إليك ، وإنْ أحببتِ يا اُمّاه أنْ أريك مضجعي ومكان أصحابي: فطلبت منه ذلك ، فأراها تربة أصحابه، ثمّ أعطاها من تلك التربة ، وأمرها أنْ تحتفظ بها في قارورة ، فإذا رأتها تفور دماً تيقّنت قتله، وفي اليوم العاشر بعد الظهر نظرت إلى القارورتين فإذا هما يفوران دماً:

وطلب منه عبد الله بن عمر بن الخطاب البقاء في المدينة فأبى الحسين وقال :يا عبد الله ، إنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا يُهدى إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ، وأنّ رأسي يُهدى إلى بغي من بغايا بني اُميّة ، أما علمت أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الشمس سبعين نبياً ثمّ يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً ؟! فلم يُعجّل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام:

ولما عرف ابن عمر من الحسين العزم على مغادرة المدينة والنّهضة في وجه أتباع الضلال وقمع المنكرات وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المقدّسة ، قال له : يا أبا عبد الله أكشف لي عن الموضع الذي لم يزل رسول الله (ص) يقبّله منك، فكشف له عن سرّته ، فقبّلها ثلاثاً وبكى،

فقال له :اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ، ولا تَدَعَنَّ نصرتي:

وقد كتب(ع) وصية قبل خروجه من المدينة، جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ، إنّ الحسين يشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحقّ من عنده ، وأنّ الجنة حقّ والنّار حقّ ، والسّاعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، اُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب ، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين، وهذه وصيّتي إليك يا أخي . وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب ، ثمّ طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى أخيه محمّد:

وفي السابع والعشرين من شهر رجب سنة ستين للهجرة خرج الموكب الحسيني من المدينة المنورة وهو يضم العشرات من الرجال والنساء والأطفال، وهنا تبدأ الحكاية الواضحة الغامضة.

 

الوصُولُ إِلَى مَكَّةَ المُكَرَّمَة

 

خرج(ع) من المدينة وسلك الطريق التي يسلكها المسافرون عادة، فقيل له: لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير ؛ كيلا يلحقك الطلب؟ فقال(ع): لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاضٍ:

لقد خرج من المدينة ليلة الأحد ووصل إلى مكة يوم الجمعة في الثالث من شهر شعبان لنفس العام، فاستقبله الناس بحرارة وحفاوة وفرحوا بقدومه، فنزل في دار العباس بن عبد المطلب، وقد أصبح داره مقصداً لأكثر المسلمين الذين كانوا يتوافدون إلى مكة فضلاً عن أهلها.

وكان في مكة عبد الله ابن الزبير الذي كره مجيء الحسين إليها لأن وجود الحسين فيها يمنع الناس عن مبايعته، ولكن تفكير ابن الزبير هذا لم يؤثّر شيئاً على موقف الناس تجاه إمامهم.

 

زيارة قبر السيدة خديجة(ع)

 

ومن أبرز الزيارات التي قام بها الإمام الحسين(ع) في مكة المكرمة هي زيارة قبر جدته العظيمة خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها حيث مكث عند قبرها طويلاً وراح يصلي ويدعو ويبتهل.

 

 

 

 

إرسال الكتب إلى رؤساء القبائل

 

وفي مكة بدأ التمهيد المباشر لثورته المجيدة حيث أرسل الكتب إلى رؤساء القبائل يدعوهم فيها إلى القيام بموقف حرٍ وجريء تجاه الممارسات البشعة التي تُرتكب في حق الإسلام والمسلمين باسم الإسلام والمسلمين، فأرسل كتاباً إلى رؤساء البصرة، وهم: مالك بن مسمع البكري والأحنف بن قيس ، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو ، وقيس بن الهيثم ، وعمرو بن عبيد بن معمر:

وقد جاء في كتابه: أمّا بعد ، فإنَّ الله اصطفى محمداً (ص) من خلقه وأكرمه بنبوّته واختاره لرسالته ، ثمّ قبضه إليه ، وقد نصح لعباده وبلّغ ما اُرسل به (ص) وكنّا أهله وأولياءه وورثته وأحقّ النّاس بمقامه في النّاس ، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممَّن تولاه ، وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، فإنّ السُنَّة قد اُميتت والبدعة قد اُحييت ، فإنْ  تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد:

فعندما وصل الكتاب إليهم كان لهم مواقف مختلفة:

أما والمنذر بن الجارود، وهو والد زوجة ابن زياد فقد سلّم رسولَ الحسين إلى ابن زياد في تلك العشية فصلبه.

وأما الأحنف فإنّه كتب إلى الحسين (ع): أمّا بعد: فاصبر إنّ وعد الله حقّ ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون:

وأمّا يزيد بن مسعود فإنّه جمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ، فلمّا حضروا قال : يا بني تميم كيف ترون موضعي فيكم وحسبي منكم ؟ قالوا : بخ بخ  أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً وتقدّمت فيه فرطاً ، قال : فإنّي قد جمعتكم لأمر أريد أنْ اُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه ، فقالوا : إنّا والله نمنحك النصيحة ، ونجد لك الرأي ، فقل حتّى نسمع . فقال : إنّ معاوية مات فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ، إلا وأنّه قد انكسر باب الجَور والإثم ، وتضعضعت أركان الظلم ، وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه ، وهيهات الذي أراد اجتهد والله ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام يزيد ـ شارب الخمور ورأس الفجور ـ يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمّر عليهم بغير رضىً منهم…إلى قوله: وهذا الحسين بن علي وابن رسول الله (ص) ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل له فضل لا يوصف وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر ؛ لسابقته وسنّه وقِدَمه وقَرابته ، يعطف على الصغير ويُحسن إلى الكبير ، فأكرم به راعي رعيّة وإمام قوم وجبت لله به الحُجّة ، وبلغت به الموعظة ، فلا تعشوا عن نور الحقّ ، ولا تسكعوا في وهد الباطل ، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله(ص) ونصرته…

فقالت بنو حنظلة : يا أبا خالد ، نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك ، إنْ رميتَ بنا أصبتَ وإنْ غزوتَ بنا فتحتَ ، لا تخوض والله غمرةً إلاّ خضناها ، ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا إذا شئت .

وتكلّمتْ بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد ، نحن بنو أبيك وحلفاؤك ، لا نرضى إنْ غضبتَ ، ولا نبقى إن ظعنتَ ، والأمر إليك فادعنا إذا شئت .

وقالت بنو سعد بن زيد : أبا خالد ، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال يوم الجمل ، فحمدنا ما أمرنا وبقى عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ونأتيك برأينا . فقال لهم : لئن فعلتموها لا رفع الله السّيف عنكم أبداً ، ولا زال سيفكم فيكم .

ثمّ كتب إلى الحسين (ع) : أمّا بعد ، فقد وصل إليَّ كتابك ، وفهمتُ ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإنّ الله لمْ يخل الأرض قط من عامل عليها بخير ودليل على سبيل نجاة ، وأنتم حُجّة الله على خلقه ووديعته في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها وأنتم فرعها ، فأقدِم سعدتَ بأسعد طائر ، فقد ذللتُ لك أعناق بني تميم ، وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظمّاء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذللتُ لك رقاب بني سعد ، وغسلتُ درن قلوبها بماء سحاب مزن حين استهلّ برقها فلمع .

فلمّا قرأ الحسين (ع) كتابه ، قال :مالك ، آمنك الله من الخوف وأعزك وأرواك يوم العطش الأكبر:
ولمّا تجهز ابن مسعود إلى المسير ، بلغه قَتْل الحسين (ع) فاشتدّ جزعه ، وكثر  أسفه لفوات الأُمنية من السّعادة بالشهاد:

كُتُبُ أهلِ الكُوفَة

وفي مكة أيضاً وافته كتب الكوفيين، وقد اجتمع عنده في أحد الأيام ستماية كتاب، وهكذا حتى عُدّت الكتب الواردة إليه من الكوفة اثني عشر ألف كتاب، وآخر كتاب ورد عليه من شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث، وعزرة بن قيس ، وعمرو بن الحجّاج ، ومحمد بن عُمَير ابن عطارد وفيه : إنّ النّاس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل يابن رسول الله فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار . فأقدم إذا شئت ، فإنّما تقدم على جند لك مجنّدة:

 

 

 

إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة

 

وأمام هذا الواقع لم يكن أمام الحسين(ع) إلا أن يُرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بكتاب سلّمه له، وكان مضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين أمّا بعد ، فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم ـ وكانا آخر مَن قدِم عليَّ من رُسُلكم ـ وقد فهمتُ كلّ الذي قصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام فأقبِل لعلَّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي ، وأمرته أنْ يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإنْ كتب أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قَدِمت عليَّ به رُسُلكم وقرأتُ في كتبكم ، أقدِم عليكم وشيكاً إنْ شاء الله ، فلعَمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحقّ والحابس نفسَه على ذات الله ، والسّلام:

 

وصول مسلم إلى الكوفة

خرج مسلم من مكّة للنصف من شهر رمضان على طريق المدينة ، فدخلها وصلّى في مسجد النّبي وودّع أهله، ولخمس خلون من شوّال دخل الكوفة، فنزل دار المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان شريفاً في قومه.

ووافت الشيعة مسلماً في دار المختار بالترحيب وأظهروا له من الطاعة والانقياد ما زاد في سروره وابتهاجه ، فعندما قرأ عليهم كتاب الحسين ، قام عابس ابن شبيب الشاكري وقال : إنّي لا أخبرك عن النّاس ، ولا أعلم ما في نفوسهم ، ولا أغرّك بهم ، والله إنّي اُحدّثك عمّا أنا موطّن عليه نفسي ، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم ، ولاُقاتلنَّ معكم عدوّكم ، ولأضربنَّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله لا اُريد بذلك إلاّ ما عند الله .

وقال حبيب بن مظاهر : قد قضيتَ ما في نفسك بواجز من قولك ، وأنا والله الذي لا إله إلاّ هو ، على مثل ما أنت عليه ، وقال سعيد بن عبد الله الحنفي مثل قولهما.

وأقبلت الشيعة يبايعونه حتّى أحصى ديوانه ثمانية عشر ألفاً فكتب مسلم إلى الحسين مع عابس بن شبيب الشاكري ، يخبره باجتماع أهل الكوفة على طاعته وانتظارهم لقدومه وفيه يقول : الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي:

وقد حصل ذلك قبل استشهاد مسلم بسبعة وعشرين يوماً، ولكن ما حصل في الكوفة لم يَرُقْ لمحبي بني أمية كعمر بن سعد الذي كتب إلى يزيد في ذلك يحرّضه على مسلم، فأرسل يزيد عبيد الله بن زياد إلى الكوفة بعد أن استبدل عامله عليها، وطلب منه أن يقتل مسلماً أو ينفيه، فوصل ابن زياد إلى الكوفة متنكراً ومنتحلاً شخصية الإمام الحسين(ع) فاستقبله الناس بحرارة،  وعندما انكشفت خديعته تفرق الناس من حوله، وعند الصباح جمع ابن زياد النّاس في الجامع الأعظم ، وخطبهم وحذّرهم ومنّاهم العطيّة وقال : أيّما عريف وُجَد عنده أحد من بغية أمير المؤمنين ولَم يرفعه إلينا ، صُلِب على باب داره:

الإختباء في دار هاني بن عروة

ولمّا بلغ مسلم بن عقيل خطبة ابن زياد ووعيده وظهر له حال النّاس ، خاف أنْ يؤخذ غيلةً ، فخرج من دار المختار بعد العتمة إلى دار هاني بن عروة المذحجي ، وكان شديد التشيع.

استشهاد مسلم بن عقيل

وعندما علم ابن زياد بأن مسلماً في دار هاني دعا أسماء بن خارجة ومحمد بن الأشعث وعمرو بن الحَجّاج وسألهم عن انقطاع هاني عنه ، قالوا : الشكوى تمنعه ، فلم يقتنع ابن زياد بعد أن أخبرته العيون بجلوسه على باب داره كلّ عشيّة ، فركب هؤلاء الجماعة وأتى إلى دار هاني، فالتفت إلى هاني وقال: أتيت بابن عقيل إلى دارك ، وجمعت له السّلاح ؟ وعندما كثر الجدال قال ابن زياد: والله لا تفارقني حتى تأتيني به، فأغلظ عليه هاني القول، فما كان من ابن زياد إلا أن قتله.

وهكذا كانت المواقف متفاوتة بين شخص وشخص في موضوع مسلم إلى أن اعتُقل وأُلقي من أعلى القصر وسقط شهيداً في سبيل الله والحسين.

وفي تلك الأثناء حُبس المختار وأعوانه كيلا يناصروا مسلماً.

 

أخبار الكوفة عند الإمام الحسين(ع)

 

وقد علم الحسين(ع) بما كان يجري في الكوفة فقرر أن يغادر مكة، وخصوصاً عندما أرسل يزيد جواسيسه إليها ليقتلوا الحسين ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، فخاف الحسين(ع) على البيت الحرام أن تُهتك حرمته بسفك دمه فيه، فعزم على الخروج.

ولكنه(ع) قبل أن يخرج منها ألقى الحجة على الجميع، وذلك عندما دعاهم إلى الخروج معه لمواجهة الظالمين فلم يخرج معه سوى القلة المخلصة، خصوصاً بعد أن أيقنوا بأنه ذاهب للموت وليس لجمع الغنائم، وكان(ع) قد خطب فيهم ما بيّن لهم الغاية من الخروج وقطع المناسك حيث قال(ع): الحمد لله وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله وصلّى الله على رسوله ، خُطَّ الموت على ولد آدم مَخَطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيِّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة بين النّواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا اُجور الصابرين  لنْ تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده، ألا مَن كان فينا باذلاً مهجته موطِّناً على لقاء الله نفسَه فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إنْ شاء الله تعالى:

ذكر المؤرخون أن عدداً كبيراً من المسلمين الذين كانوا في مكة قرروا الخروج مع الإمام(ع)، ولكنهم عندما سمعوا تلك الخطبة عدلوا عن قرارهم حيث أيقنوا بأن السفر إلى العراق لا عودة منه أبداً، فلم يبق مع الإمام(ع) سوى الخلّص من أصحابه.

والجدير بالذكر هو أن خروج الإمام صادف اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، أي أنه لم يُكمل حجه، فتساءل الناس عن الأمر الذي رآه الحسين أنه أفضل من الحج، فعرفوا الجواب من خلال خطبته التي ذكرناها قبل قليل، ففضّلوا الحج على الشيء الذي يُحفظ به الحج وغيره من معالم الدين الحنيف.

وقد غادر(ع) مكة المكرمة بعد مكوثه فيها ما يزيد على أربعة أشهر، لأنه(ع) دخلها في الثالث من شعبان، وغادرها في الثامن من ذي الحجة من نفس العام.

وسأله جماعة من أهل بيته وغيرهم التريّث عن هذا السّفر حتّى يستبين له حال النّاس ؛ خوفاً من غدر الكوفيّين وانقلاب الأمر عليه، فكان (ع) يُجيب كلّ واحدٍ بما تتحمّله معرفته .

فقال(ع) لابن الزبير: إنّ أبي حدّثني أنّ بمكّة كبشاً به تستحلّ حرمتها ، فما اُحبّ أنْ أكون ذلك الكبش ، ولَئن اُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أنْ اُقتل فيها، وأيمَ الله لَو كنتُ في ثقب هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم ، والله ليعتدنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت:

وكان الزبير من أعداء الإمام الحسين(ع) لأنه كان يطمع بالحكم، ولا يمكن له ذلك إلا بغياب الإمام(ع)، ولأجل هذا قال(ع) عن الزبير: إنّ هذا ليس شيء من الدنيا أحبّ إليه من أنْ أخرج من الحجاز ، وقد عَلِمَ أنّ النّاس لا يعدلونه بي ، فودّ أنّي خرجتُ حتّى يخلو له:

وأتاه محمّد بن الحنفيّة وقال : عرفتَ غدر أهل الكوفة بأبيك وأخيك ، وإنّي أخاف أنْ يكون حالك حال من مضى ، فأقم هنا فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه:  فقال(ع) أخافُ أنْ يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي تُستباح به حرمة هذا البيت: ثم أشار عليه ابن الحنفيّة بالذهاب إلى اليمن أو بعض نواحي البر ، فوعده أبو عبد الله في النّظر في هذا الرأي .

الخروج من مكة

وفي سَحَر تلك الليلة ارتحل الحسين (ع) ، فأتاه ابن الحنفيّة وأخذ بزمام ناقته وقد ركبها وقال : ألمْ تعدني النّظر فيما سألتك ؟ قال  بلى ، ولكن بعد ما فارقتك أتاني رسول الله (ص) وقال : يا حسين اخرج ، فإنّ الله تعالى شاء أنْ يراك قتيلاً، فاسترجع محمّد ، وحينما لَمْ يعرف الوجه في حمل العيال معه ، وهو على مثل هذا الحال قال له الحسين :قد شاء الله تعالى أنْ يراهنَّ سبايا:

وكتب إليه عبد الله بن جعفر الطيّار مع ابنَيه عون ومحمّد : أمّا بعد ، فإنّي أسألك الله لمّا انصرفت حين تقرأ كتابي هذا ، فإنّي مُشفق عليك من هذا الوجه أنْ يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، إنْ هلكتَ اليوم ، اُطفئ نور الأرض ، فإنّك عَلَمُ المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسّير ، فإنّي في أثر كتابي ، والسّلام .

ثم أخذ عبد الله كتاباً من عامل يزيد على مكّة عمرو بن سعيد بن العاص فيه أمان للحسين وجاء به إلى الحسين ومعه يحيى بن سعيد بن العاص وجهد أنْ يصرف الحسين عن الوجه الذي أراده فلَم يقبل أبو عبد الله (ع) وعرَّفه أنّه رأى رسول الله في المنام وأمره بأمر لابدّ من انفاذه ، فسأله عن الرؤيا ، فقال  :ما حدّثتُ بها أحداً ، وما أنا محدّث بها حتّى ألقى ربّي عزّ وجلّ:

 وقال له ابن عبّاس : يابن العم ، إنّي أتصبَّر وما أصبرُ ، وأتخوَّفُ عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال . إنّ أهل العراق قوم غَدرٍ فلا تقربنَّهم . أقم في هذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز ، وأهل العراق إنْ كانوا يريدونك ـ كما زعموا ـ فلينفوا عاملهم وعدوّهم ثمّ اقدم عليهم ، فإنْ أبيتَ إلاّ أنْ تخرج ، فسِر إلى اليمن ، فإنّ بها حصوناً وشعاباً وهي أرض عريضة طويلة ، ولأبيك فيها شيعة وأنتَ عن النّاس في عزلة ، فتكتب إلى النّاس وترسل وتبثّ دعاتك ، فإنّي أرجو أنْ يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية .

فقال الحسين(ع) يابن العم ، إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مشفق ، وقد أزمعتُ على المسير:

فقال ابن عبّاس : إنْ كنتَ سائراً فلا تسِر بنسائك وصبيتك ، فإنّي لخائف أنْ تُقتل وهم ينظرون إليك ، فقال الحسين : والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام المرأة :

منطقة التنعيم

وبعد فترة وجيزة من مغادرة مكة مرّ الإمام(ع) بمنطقة تسمى(التنعيم) وهناك التقى بمجموعة من الناس، فحدّثهم بأمره وقال لهم: مَن أحبّ منكم أنْ ينصرف معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنّا صحبته ، ومَن أحبّ المفارقة أعطيناه من الكراء على ما قطع من الأرض: فالتحق به مجموعة منهم، وتخلّف آخرون.

 

 

منطقة الصفاح

ثم تابع الإمام سفره حتى وصل إلى منطقة تسمى الصفاح، وهناك التقى بالشاعر الفرزدق بن غالب، فسأله الإمام(ع) عن خبر الناس خلفه؟ فقال له الفرزدق: قلوبهم معك والسيوف مع بني اُميّة ، والقضاء ينزل من السماء . فقال: صدقت، لله الأمر ، والله يفعل ما يشاء ، وكلّ يوم ربّنا في شأن ، إنْ نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر ، وان حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته:

منطقة ذات عرق

ثم تابع الإمام مسيره فمرّ بمنطقة تسمى(ذات عرق) فالتقى برجل يُدعى بشر بن غالب، فسأله(ع) عن خبر الناس خلفه؟ فقال له بشر: السيوف مع بني أمية، والقلوب معك: فقل له(ع):صدقت:

وينقل أحد الرواة هذا الكلام فيقول: بعد أنْ حججتُ انطلقتُ أتعسّف الطريق وحدي ، فبينا أسير إذ رفعتُ طرفي إلى أخبية وفساطيط فانطلقتُ نحوها فقلتُ : لِمَن هذه الأخبية ؟ قالوا : للحسين بن علي ، وابن فاطمة (عليهم السّلام) وانطلقتُ نحوه فإذا هو متّكئ على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يدَيه فقلتُ : يابن رسول الله (ص) بأبي أنت واُمّي ، ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة ؟ قال (ع) إنّ هؤلاء أخافوني ، وهذه كتب أهل الكوفة وهم قاتلي ، فإذا فعلوا ذلك ولَم يدعوا لله محرماً إلاّ انتهكوه ، بعث الله إليهم من يقتلهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام الأمة:

 

 

 

منطقة الحاجر

وتابع(ع) مسيره حتى وصل إلى منطقة الحاجر، وهناك كتب إلى أهل الكوفة جواباً على كتاب مسلم ابن عقيل وأرسله مع قيس بن مسهّر الصيداوي، جاء فيه: أمّا بعد ، فقد ورد عليَّ كتاب مسلم بن عقيل يخبرني باجتماعكم على نصرنا والطلب بحقّنا ، فسألتُ الله أنْ يُحسن لنا الصنع ويثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحِجّة ، فإذا قدم عليكم رسولي ، فانكمشوا في أمركم ، فإنّي قادم في أيّامي هذه:

وفي تلك الأثناء كانت جواسيس يزيد تلاحقه من مكان إلى مكان، ولكنه(ع) لم يتراجع عن قراره الذي أمره به جده(ص).

منطقة الخزيمية

ثم تابع مسيره حتى وصل إلى الخزيمية فبات فيها يوماً وليلة.

منطقة زَرود

ثم تابع(ع) مسيره نحو منطقة زرود، وهناك نزل زهير بن القين البجلي بالقرب منه، وكان زهير كارهاً للنزول بالقرب من الإمام(ع) ولكن الماء جمعهم في تلك المنطقة، فأتى رسول الحسين إلى زهير يدعوه إليه فرفض فحثّته زوجته على مقابلته، فمشى زهير إلى الحسين (ع) ، وما أسرع أن عاد إلى أصحابه فرحاً قد أسفر وجهه وأمر بفسطاطه وثقله فحوِّل إلى جهة سيّد شباب أهل الجنّة ، وقال لامرأته : الحقي بأهلك ، فإنّي لا اُحبّ أنْ يصيبك بسببي إلاّ خير . ثمّ قال لمَن معه : مَن أحبّ منكم نصرة ابن الرسول (ص) وإلاّ فهو آخر العهد .

ثمّ حدّثهم بما أوعز به سلمان الفارسي من هذه الواقعة فقال : غزونا بَلَنجَر ففتحنا وأصبنا الغنائم ، وفرحنا بذلك ، ولمّا رأى سلمان الفارسي ما نحن فيه من السرور قال : إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد (ص) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم من الغنائم . فأمّا أنا فأستودعكم الله، فقالت زوجته : خار الله لك وأسألك أنْ تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين:

وفي زرود اُخبر بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، فاسترجع كثيراً وترحم عليهما مراراً وبكى ، وبكى معه الهاشميّون وكثر صراخ النّساء حتّى ارتجّ الموضع لقتل مسلم بن عقيل وسالت الدموع كلّ مسيل:

فقال له عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل الأسديّان : ننشدك الله يابن رسول الله إلاّ انصرفت من مكانك هذا ؛ فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر .

فقام آل عقيل وقالوا : لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا ، فنظر إليهم الحسين وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء:

منطقة الثعلبية

ثم تابع(ع) مسيره حتى وصل إلى منطقة الثعلبية، وفيها أتاه رجل وسأله عن قوله تعالى : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) فقال(ع): إمام دعا إلى هدى فأجابوا إليه ، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوا إليها ، هؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النّار ، وهو قوله تعالى ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)

وفي هذا المكان اجتمع به رجل من أهل الكوفة فقال له الحسين : أما والله ، لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل في دارنا ونزوله بالوحي على جدّي . يا أخا أهل الكوفة ، من عندنا مستقى العلم ، أفَعَلِموا وجهلنا ؟! هذا ممّا لا يكون:

منطقة الشقوق

ثم تابع مسيره نحو منطقة الشقوق، وفي هذه المنطقة التقى الإمام الحسين(ع) برجل من الكوفة فسأله(ع) عن أخبار العراق؟ فأجابه الرجل: إنهم مجتمعون عليك: فقال(ع): إنّ الأمر لله ، يفعل ما يشاء ، وربّنا تبارك هو كلّ يوم في شأن:

ويذكر المؤرخون بأن الإمام(ع) في تلك المنطقة أنشد قائلاً:

فـإنْ  تـكن الـدنيا تُـعَدُّ نـفيسة      فـدار  ثـواب اللـه أعـلى وانبل
وإنْ  تـكن الأمـوال للترك جمعها      فـما  بـال متروك به المرء يبخل
وإنْ تـكن الأرزاق قَـسْماً مـقدّراً      فقلّة حرص المرء في الكسب أجمل
وإنْ تـكن الأبـدان للموت أُنشئت      فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل
عـليكم سـلام الله يـا آل أحـمد      فانِّي  أراني عنكُمُ سوف أرحل

 

منطقة زُبالة

وسار الإمام الحسين(ع) بقافلته المباركة حتى وصل إلى منطقة تسمى(زُبالة) وفي تلك المنطقة اُخبر بقتل عبد الله بن يقطر الذي أرسله الحسين من الطريق إلى مسلم بن عقيل ، فقبض عليه الحصين بن نمير في القادسيّة وسرّحه إلى عبيد الله بن زياد ، فأمره أنْ يصعد المنبر ويلعن الكذّاب ابن الكذّاب ، ولمّا أشرف على النّاس قال : أيّها النّاس أنا رسول الحسين بن فاطمة ؛ لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة ، فأمر به عبيد الله فاُلقي من فوق القصر ، فتكسّرت عظامه وبقي به رَمَق ، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه ، فلمّا عيب عليه قال : إنّما أردت أنْ اُريحه:

ويذكر المؤرخون أن عدداً كبيراً من الناس كانوا برفقة الإمام(ع) لدى وصوله إلى منطقة زبالة، ولكنه(ع) بعد أن أخبرهم بما جرى في الكوفة تفرقوا عنه يميناً وشمالاً خوفاً من الموت، ولم يبق معه سوى الذين أتوا معه من مكة.

ويمكن القول بأن الإمام(ع) في تلك المنطقة قد غربل أصحابه فعلم الصادق منهم من الكاذب، ولم يحب الإمام(ع) أن يأخذ الناس إلى المجهول، ولأجل ذلك أخبرهم بحقيقة الأمر فلم يبق معه سوى الذين واسوه بأرواحهم.

منطقة بطن العقبة

ترك الإمام(ع) منطقة زرود وتوجّه إلى منطقة بطن العقبة، وفي تلك المنطقة خاطب أصحابه قائلاً: ما أراني إلاّ مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليَّ كلب أبقع:

وفي تلك المنطقة أشار عليه عمرو بن لوذان من بني عكرمة بالرجوع إلى المدينة ؛ لِما عليه أهل الكوفة من الغدر والخيانة ، فقال أبو عبد الله (ع): ليس يخفى عليَّ الرأي ، وإنَّ الله لا يغلب على أمره:

ثم قال(ع):إنّهم لَن يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فِرَق الاُمم:

 

منطقة شراف

غادر الحسين(ع) بطن العقبة متوجهاً نحو منطقة شراف، وهناك أمر(ع) فتيانه أن يُكثروا من جمع الماء، وفي منتصف النهار كبّر أحد الأصحاب، فسأله الإمام عن السبب؟ فقال: إني أرى نخلاً، فأنكر عليه الناس وجود نخل في تلك المنطقة، وأخبروه بأن ما رآه إنما هو أسنّة الرماح، وبعدها سأل الحسين(ع) عن ملجأ فأشاروا عليه بأن يقصد منطقة ذو حسَم.

 

منطقة ذو حسَم

عندما وصل الموكب الحسيني إلى هذه المنطقة طلع عليهم الحر الرياحي ومعه ألف فارس أمرهم ابن زياد بأن يمنعوا الحسين من الرجوع إلى المدينة أو أن يأتوا به إلى الكوفة، فوقف الحرّ وأصحابه مقابل الحسين في حَر الظهيرة، فلمّا رأى الإمام(ع) ما بالقوم من العطش أمر أصحابه أنْ يسقوهم ويرشفوا الخيل ، فسقوهم وخيولهم عن آخرهم.

ثمّ إنّ الحسين استقبلهم فحمد الله وأثنى عليه وقال : إنّها معذرةً إلى الله عزّ وجلّ وإليكم ، وإنّي لَم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقَدِمَت بها عليَّ رُسُلكم أنْ اقْدِم علينا فإنّه ليس لنا إمام ولعلّ الله أنْ يجمَعنا بك على الهدى ، فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم ، وإنْ كنتم لمَقدمي كارهين ، انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم: فسكتوا جميعاً .

وأذَّنَ الحَجّاج بن مسروق الجعفي لصلاة الظهر ، فقال الحسين للحرّ : أتصلّي بأصحابك ؟ قال : لا ، بل نصلّي جميعاً بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين .

وبعد أنْ فرغ من الصلاة أقبل عليهم فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبي محمّد وقال : أيّها النّاس إنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل بيت محمّد (ص) أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين بالجور والعدوان ، وإنْ أبَيتم إلاّ الكراهيّة لنا والجهل بحقّنا وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم ، انصرفتُ عنكم:

فقال الحرّ : ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها ، فأمر الحسين عقبة بن سمعان فأخرج خرجَين مملوأين كتباً .

قال الحرّ : إنّي لستُ من هؤلاء ، وإنّي اُمرت أنْ لا اُفارقك إذا لقيتك حتّى أقدمك الكوفة على ابن زياد .

فقال الحسين : الموت أدنى إليك من ذلك : وأمر أصحابه بالركوب ، و ركبت النّساء ، فحال بينهم وبين الانصراف إلى المدينة فقال الحسين للحرّ  ثكلتك اُمّك ما تريد منا ؟ .

قال الحرّ : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذا الحال ، ما تركتُ ذكر اُمّه بالثكل كائناً من كان ، والله ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه . ولكن خذ طريقاً نصفاً بيننا لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى ابن زياد ؛ فلعلّ الله أنْ يرزقني العافية ، ولا يبتليني بشيء من أمرك . ثمّ قال للحسين : إنّي اُذكرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لَتقتلَنَّ ، فقال الحسين : أفبالموت تخوفني ؟! وهل يعدو بكم الخطب أنْ تقتلوني ، وسأقول ما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله صلّى الله عليه وآله :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى      إذا مـا نـوى حـقاً وجـاهد مسلما
وواسـى الـرجال الصالحين بنفسه      وفـارق  مـثبوراً وخـالف مجرما
فـان  عشت لم اندم وان متُّ لم أُلَمْ      كـفى بـك ذَّلاً ان تـعيش وتُرْغما

فلمّا سمع الحرّ هذا منه ، تنحى عنه .

فكان الحسين يسير بأصحابه في ناحية والحرّ ومَن معه في ناحية:

منطقة البيضة

وفي البيضة وقف(ع) خطيباً بجيش الحر: فقال بعد الحمد لله والثناء عليه :أيّها النّاس إنّ رسول الله قال : مَن رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً عهده ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قَول ، كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفَيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممَّن غير ، وقد أتتني كتبكم وقدمتْ عليَّ رُسُلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني فإنْ أتممتم عليَّ بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم ولكم فيَّ اُسوة ، وإنْ لَمْ تفعلوا ونَقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلَعَمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، فالمغرور من اغترّ بكم فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

 

منطقة الرُّهَيمة

ثم خرج الإمام(ع) من منطقة البيضة، وتوجه نحو منطقة تسمى(الرهيمة) وفيها التقى(ع) برجل من الكوفة يقال له:أبو هرم: فسأل الإمامَ عن سبب خروجه من المدينة؟ فأجابه(ع) بقوله: يا أبا هرم إنّ بني اُميّة شتموا عرضي فصبرت ، وأخذوا مالي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيمَ الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً ويسلّط عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ ، إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم:

 

منطقة القادسية

ثم غادر(ع) منطقة الرهيمة فوصل إلى منطقة تسمى(القادسية) وفيها قبض الحصين بن نمير التميمي على قيس بن مسهّر الصيداوي رسول الحسين إلى أهل الكوفة ، وكان ابن زياد أمره أن ينظم الخيل ما بين القادسيّة إلى خفان ومنها إلى القطقطانة، ولمّا أراد أنْ يفتّشه أخرج قيس الكتاب وخرّقه وجيء به إلى ابن زياد ، فقال له : لماذا خرّقت الكتاب ؟ قال : لئلاّ تطّلع عليه ، فأصرّ ابن زياد على أنْ يُخبره بما فيه ، فأبى قيس ، فقال : إذاً اصعد المنبر وسبّ الحسين وأباه وأخاه وإلاّ قطّعتك إرباً ، فصعد قيس المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبي وآله وأكثر من الترحّم على أمير المؤمنين والحسن والحسين ، ولعن عبيدَ الله بن زياد وأباه وبني اُميّة ، ثم قال : أيّها النّاس أنا رسول الحسين إليكم ، وقد خلّفته في موضع كذا ، فأجيبوه . فأمر ابن زياد أنْ يُرمى من أعلى القصر ، فرمي وتكسّرت عظامه ومات، ويقال كان به رمق فذبحه عبد الملك بن عمَير اللخمي ، فعيب عليه قال : أردت أن اُريحه:

 

منطقة العذيب

وصل الموكب الحسيني إلى منطقة تسمى(عذيب الهجانات) وهناك وافاه أربعة نفر خارجين من الكوفة وهم: عمرو بن خالد الصيداوي، وسعد مولاه، ومجمع بن عبد الله المذحجي ، ونافع بن هلال ، ودليلهم الطرمّاح بن عدي الطائي يقول :

يا ناقتي لا تذعري من زجري      وشـمّري قـبل طلوع الفجر
بـخير ركـبان وخـير سفر       حتّى تـحلى بـكريم النجر
الـماجد  الحر رحيب الصدر      أتـى  بـه الله لـخير أمـر

فلمّا انتهوا إلى الحسين (ع) أنشدوه الأبيات ، فقال(ع): أما والله ، إنّي لأرجوا أنْ يكون خيراً ما أراد الله بنا قُتِلْنا أم ظفرنا:

وسألهم الحسين عن رأي النّاس ، فأخبروه بأنّ الأشراف عظمت رشوتهم وقلوب سائر النّاس معك والسّيوف عليك ، ثمّ أخبروه عن قتل قيس بن مسهّر الصيداوي ، فقال(ع)) :فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)  اللهم اجعل لنا ولهم الجنّة ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك:

وقال له الطرمّاح : رأيتُ النّاس قبل خروجي من الكوفة مجتمعين في ظهر الكوفة فسألتُ عنهم ، قيل : إنّهم يعرضون ثم يسرّحون إلى الحسين ، فانشدك الله أنْ لا تقدم عليهم ، فإنّي لا أرى معك أحداً ، ولَو لَم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكفى ، ولكن سِر معنا لتنزل جبلنا الذي يُدعى ( أجا ) فقد امتنعنا به من ملوك غسّان وحمير ، ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر ، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتّى تأتيك طيء رجالاً وركباناً وأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم إلى أنْ يستبين لك ما أنت صانع .

فجزاه الحسين وقومه خيراً وقال :إنَّ بيننا وبين القوم عهداً وميثاقاً ولسنا نقدر على الانصراف حتّى تتصرّف بنا وبهم الاُمور في عاقبة:

فاستأذنه الطرمّاح وحده بأن يوصل الميرة إلى أهله ، ويعجّل المجيء لنصرته . فأذِن له وصحِبه الباقون .

فأوصل الطرمّاح الميرة إلى أهله ورجع مسرعاً ، فلمّا بلغ عذيب الهجانات ، بلغه خبر قتل الحسين (عليه السّلام) فرجع إلى أهله:

منطقة قصر بني مقاتل

وسار(ع) من عذيب الهجانات حتّى نزل قصر بني مقاتل، فرأى فسطاطاً مضروباً ورمحاً مركوزاً وفرساً واقفاً ، فسأل عنه ، فقيل : هو لعبيد الله بن الحرّ الجعفي فبعث إليه الحَجّاج بن مسروق الجعفي ، فسأله ابن الحرّ عمّا وراءه قال : هديّة إليك وكرامة إنْ قبِلتها ، هذا الحسين يدعوك إلى نصرته فإنْ قاتلتَ بين يدَيه اُجِرت ، وإنْ قُتلت استشهدت فقال ابن الحرّ : والله ، ما خرجتُ من الكوفة ؛ إلاّ لكثرة ما رأيته خارجاً لمحاربته وخذلان شيعته ، فعلمتُ أنّه مقتول ولا أقدر على نصره ، ولست أحب أن يراني وأراه

فأعاد الحَجّاج كلامه على الحسين ، فقام صلوات الله عليه ومشى إليه في جماعة من أهل بيته وصحبه ، فدخل عليه الفسطاط ، فوسّع له عن صدر المجلس ، يقول ابن الحرّ : ما رأيت أحداً قط أحسن من الحسين ولا أملأ للعين منه ، ولا رققت على أحد قط رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حوله ، ونظرت إلى لحيته فرأيتها كأنّها جناح غراب ، فقلت له أسواد أم خضاب ؟ قال : يابن الحرّ عجّل عليَّ الشيب : فعرفتُ أنّه خضاب ولمّا استقرّ المجلس بأبي عبد الله ، حمد الله وأثنى عليه وقال : يابن الحرّ إنّ أهل مصركم كتبوا إليّ أنّهم مجتمعون على نصرتي ، وسألوني القدوم عليهم ، وليس الأمر على ما زعموا، وإنّ عليك ذنوباً كثيرة ، فهل لك من توبة تمحو بها ذنوبك ؟  قال : وما هي يابن رسول الله ؟ فقال : تنصر ابن بنت نبيّك وتقاتل معه ، فقال ابن الحرّ : والله ، إنّي لأعلم إنّ من شايعك كان السّعيد في الآخرة ، ولكن ما عسى أن أغني عنك ، ولَم اخلف لك بالكوفة ناصراً ، فانشدك الله أنْ تحمّلني على هذه الخطة ، فإنّ نفسي لا تسمح بالموت ، ولكن فَرَسي هذه ( الملحقة ) والله ، ما طلبتُ عليها شيئاً قط إلاّ لحقته ، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلاّ سبقته ، فخُذها فهي لك .

قال الحسين : أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا ، فلا حاجة لنا في فَرَسك ولا فيك ، وما كنتُ متّخذ المضلّين عضداً ، وإنّي أنصحك كما نصحتني ، إن استطعت أنْ لا تسمع صراخنا ، ولا تشهد وقعتنا فافعل  فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلاّ أكبّه الله في نار جهنّم :

وندِم ابن الحرّ على ما فاته من نصرة الحسين (ع) ، فأنشأ :

أيـا لـك حـسرة ما دمت حيّاً      تـردَّد بـين صدري والتراقي
غـداةَ يـقول لي بالقصر قولا      أتـتـركنا  وتـعزم بـالفراق
حسين حين يطلب بذل نصري      عـلى أهـل الـعداوة والشقاق
فـلو  فـلق الـتَّلهُّف قلب حرٍّ      لـهمَّ  الـيوم قـلبي بـانفلاق
ولـو واسـيته يـوماً بـنفسي      لـنلت كـرامةً يـوم الـتَّلاق
مـع ابـن محمّد تفديه نفسي       فـودع ثـم أسـرع بـانطلاق
لـقد فاز الأولى نصروا حسيناً      وخاب الآخرون ذووا النفاق

 

 

منطقة قرى الطف

لما كان آخر الليل أمر الحسين(ع) أصحابه بالإستقاء والرحيل من منطقة قصر مقاتل، وبينما هم يسيرون قال الإمام الحسين(ع): إنا لله وإنا إليه راجعون: وقد كرر هذا القول، فسأله ولده علي الأكبر عن سبب كلامه؟ فقال(ع): إنّي خفقتُ برأسي ، فعنَّ لي فارس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيت إلينا : فقال علي الأكبر : لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحق ؟ قال :بلى والذي إليه مرجع العباد: فقال : يا أبت ، إذن لا نبالي أنْ نموت محقين،فقال(ع)جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده: وفي رواية أخرى:أولسنا على الحق.. إذاً لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا:

ولم يزل الموكب يتياسر حتى وصل إلى نينوى، وإذا براكب مسلَّح فانتظروه فإذا هو رسول ابن زياد إلى الحر يحمل إليه كتاباً مضمونه: جَعجِع بالحسين حين تقرأ كتابي ، ولا تنزله إلا بالعراء على غير ماء وغير حصن

فقرأ الحرّ الكتاب على الحسين فقال له: دعنا ننزل نينوى أو الغاضريات أو شفية ، فقال الحرّ : لا أستطيع فإنّ الرجل عين علي: فقال زهير بن القين : يابن رسول الله إنّ قتال هؤلاء أهون علينا من قتال مَن يأتينا من بعدهم ، فلَعمري ليأتينا ما لا قِبَل لنا به ، فقال الحسين : ما كنتُ أبدأهم بقتال  ثمّ قال زهير : ههنا قرية بالقرب منّا على شطّ الفرات وهي في عاقول حصينة ، والفرات يحدق بها إلاّ من وجه واحد قال الحسين :ما اسمها ؟  فقال: تسمى  العقر :فقال(ع) نعوذ بالله من العقر

 

 

الوصول إلى كربلاء

التفت الحسين إلى الحرّ وقال : سِر بنا قليلاً فساروا جميعاً حتّى إذا وصلوا أرض كربلاء وقف الحرّ وأصحابه أمام الحسين (ع) ومنعوه عن المسير وقالوا : إنّ هذا المكان قريب من الفرات .

ويقال : بينا هم يسيرون إذ وقف جواد الحسين ولم يتحرّك ، كما أوقف الله ناقة النّبي (ص) عند الحديبيّة فعندها سأل الحسين عن الأرض قال له زهير : سِر راشداً ولا تسأل عن شيء حتّى يأذن الله بالفرَج ، إنّ هذه الأرض تسمّى الطف  فقال(ع) فهل لها اسم غيره ؟  قال : تُعرف كربلاء، فدمعت عيناه وقال : اللهمّ ، أعوذ بك من الكرب والبلاء ، ههنا محطّ ركابنا وسفك دمائنا ومحلّ قبورنا ، بهذا حدّثني جدّي رسول الله :

وقد وصل الموكب الهاشمي إلى كربلاء في الثاني من شهر محرم عام إحدى وستين للهجرة.

وهناك جمع (ع) ولده وإخوته وأهل بيته ونظر إليهم وبكى وقال : اللهمّ ، إنّا عترة نبيّك محمّد قد اُخرِجنا وطُرِدنا واُزعِجنا عن حرم جدّنا ، وتعدّت بنو اُميّة علينا ، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين:

ثم أقبل على أصحابه فقال :النّاس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درت معائشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء ، قلّ الديانون :

ثمّ بعد ذلك حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله وقال : أمّا بعد ، فقد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، ولَم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمَل به وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه ؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله . فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما :

فقام زهير وقال : سمعنا يابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها .

وقال بريد : يابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا ؛ أنْ نقاتل بين يدَيك ، تُقَطَّع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة:

وقال نافع بن هلال : أنت تعلم أنّ جدّك رسول الله لَم يقدر أنْ يشرب النّاس محبّته ، ولا أنْ يرجعوا إلى أمره ما أحبّ ، وقد كان منهم منافقون يعِدونه بالنصر ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ويخلّفونه بأمَرّ من الحنظل حتّى قبضه الله إليه ، وإنّ أباك علياً كان في مثل ذلك فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتّى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمَن نكث عهده وخلع بيعته فلَن يضرّ إلاّ نفسه والله مغن عنه ، فسِر بنا راشداً معافى مشرِّقاً إنْ شئت أو مغرِّباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَن والاك ونعادي من عاداك:

تَبَادُل الكتب بين الإمام(ع) وابن زياد

بعث الحرّ إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين في كربلاء فكتب ابن زياد إلى الحسين : أمّا بعد ، يا حسين فقد بلغني نزولك كربلاء ، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أنْ لا أتوسّد الوثير ، ولا أشبع من الخمير أو اُلحقك باللطيف الخبير ، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد ، والسّلام .

ولمّا قرأ الحسين الكتاب رماه من يده وقال : لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق: وطالبه الرسول بالجواب ، فقال :ما له عندي جواب ؛ لأنّه حقّت عليه كلمة العذاب :

 

ردّة فِعل ابن زياد

رجع الرسول وأخبر ابن زياد بما قاله أبو عبد الله (ع) فاشتدّ غضبه ، وأمر عمر بن سعد بالخروج إلى كربلاء ، وكان معسكِراً (بحمام أعين) في أربعة آلاف ليسير بهم إلى دستبى ؛ لأنّ الديلم قد غلبوا عليها ، وكتب له ابن زياد عهداً بولاية الري وثغر دستبى والديلم فاستعفاه ابن سعد ، ولمّا استردّ منه العهد استمهله ليلته ، وجمع عمر بن سعد نصحاءه فنهوه عن المسير لحرب الحسين ، وقال له ابن اُخته حمزة بن المغيرة بن شعبة : اُنشدك الله أنْ لا تسير لحرب الحسين ، فتقطع رحمك وتأثم بربّك ، فوالله لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّه لو كان لك لكان خيراً لك من أنْ تلقى الله بدم الحسين.

فقال ابن سعد : أفعل إنْ شاء الله ، وبات ليلته مفكّراً في أمره وسُمع يقول :

أأترك  ملك الري والري رغبتي      أم أرجـع مـذموماً بقتل حسين
وفـي قتله النار التي ليس دونها      حجاب وملك الري قرة عيني

وعند الصباح أتى ابن زياد وقال : إنّك ولّيتني هذا العمل وسمع به النّاس ، فأنفذني له وابعث إلى الحسين مَن لستُ أغنى في الحرب منه . وسمّى له اُناساً من أشراف الكوفة .

فقال ابن زياد : لستُ استأمرك فيمن أُريد أن أبعث ، فإن سرت بجندنا ، وإلاّ فابعث إلينا عهدنا ، فلمّا رآه ملحّاً قال : إنّي سائر ، فأقبل في أربعة آلاف وانضمّ إليه الحرّ فيمن معه . ودعا عمر بن سعد عزرة بن قيس الأحمسي ، وأمره أن يلقى الحسين ويسأله عمّا جاء به فاستحيا عزرة ؛ لأنّه ممَّن كاتبه ، فسأل مَن معه من الرؤساء أنْ يلقوه فأبوا ؛ لأنهم كاتبوه .

فقام كُثَير بن عبد الله الشعبي وكان جريئاً فاتكاً وقال : أنا له ، وإنْ شئت أنْ أفتك به لفعلت . قال : لا ، ولكن سله ما الذي جاء به ؟ فأقبل كُثَير وعرفه أبو ثمامة الصائدي فقام في وجهه ، وقال : ضع سَيفك وادخل على الحسين ، فأبى واستأبى ثمّ انصرف .

فدعا عمر بن سعد قرّة بن قيس الحنظلي ليسأل الحسين ، ولمّا أبلغه رسالة ابن سعد : قال أبو عبد الله : إنّ أهل مصركم كتبوا إليَّ أنْ اقدم علينا ، فأمّا إذا كرهتموني انصرفتُ عنكم:

فرجع بذلك إلى ابن سعد ، وكتب إلى ابن زياد بما يقول الحسين ، فأتاه جوابه : أمّا بعد ، فاعرض على الحسين وأصحابه البيعة ليزيد ، فإنْ فعل رأينا رأينا:

 

ابن زياد يحرّض على قتل الحسين

جمع ابن زياد النّاس في جامع الكوفة فقال : أيّها النّاس إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد قد عرفتموه ، حسن السّيرة ، محمود الطريقة محسناً إلى الرعيّة ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السّبل على عهده وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد يُكرم العباد ويغنيهم بالأموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مئة مئة ، وأمرني أنْ أوفرها عليكم ، وأخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين ، فاسمعوا له وأطيعوا .

ولكن أهل الكوفة كانوا ما يزالون يكرهون قتال الحسين(ع) لأنه ابن الرسول الأعظم وصاحب الكرامات الكبرى.

فعند ذلك اختار ابن زياد مجرمين حاقدين طامعين لمواجهة الحسين، فلبوا أمره طمعاً بالجوائز والمناصب.

خروج الجيوش لقتال الإمام الحسين(ع)

خرج الشمر في أربعة آلاف ، ويزيد بن الركاب في ألفين ، والحصين بن نمير التميمي في أربعة آلاف ، وشبث بن ربعي في ألف ، وكعب بن طلحة في ثلاثة آلاف ، وحجّار بن أبجر في ألف ، ومضاير بن رهينة المازني في ثلاثة آلاف ، ونصر بن حرشة في ألفين، فتكامل عند ابن سعد لستٍ خلون من المحرم عشرون ألفاً ، ولَم يزل ابن زياد يرسل العساكر إلى ابن سعد حتّى تكامل عنده ثلاثون ألفاً .

وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: إنّ الحسين دخل على أخيه الحسن في مرضه الذي استشهد فيه فلمّا رأى ما به بكى ، فقال له الحسن : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ قال : أبكي لما صنع بك ، فقال الحسن (عليه السّلام : إنّ الذي اُوتي إليَّ سمّ اُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفاً يدَّعون أنّهم من اُمّة جدّنا محمّد وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني اُميّة اللعنة ،  وتمطر السّماء رماداً ودماً ، ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار:

 

كرامةٌ من كرامات الإمام الحسين(ع)

يذكر المؤرخون أن عمر بن سعد أنزل الخيل على الفرات فحموا الماء وحالوا بينه وبين سيّد الشهداء ، ولَم يجد أصحاب الحسين طريقاً إلى الماء حتّى أضرّ بهم العطش ، فأخذ الحسين فأساً وخطا وراء خيمة النّساء تسع عشرة خطوة نحو القبلة وحفر فنبعت له عين ماء عذب ، فشربوا ثمّ غارت العين ولَم يرَ لها أثر ، فأرسل ابن زياد إلى ابن سعد : بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه فانظر إذا ورد عليك كتابي ، فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت وضيّق عليهم غاية التضيّيق ، فبعث في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ونزلوا على الشريعة، وذلك قبل مقتل الحسين بثلاثة أيّام:

في اليوم السابع من المحرم

في اليوم السّابع من شهر محرم الحرام عام إحدى وستين للهجرة اشتدّ الحصار على سيّد الشهداء ومَن معه ، وسُدّ عنهم باب الورود، ونفد ما عندهم من الماء ، فعاد كلّ واحد يعالج لهب العطش  ويوجد بينهم وبين الماء رماح مشرعة وسيوف مرهفة ، لكن ساقي العطاشى لَم يتطامن على تحملّ تلك الحالة .

وهنا قيض أخاه العبّاس لهذه المهمّة ، في حين أنّ نفسه الكريمة تنازعه إليه قبل المطلب ، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية ، وضمّ إليه عشرين راجلاً مع عشرين قربة ، وقصدوا الفرات بالليل غير مبالين بمَن وُكِّل بحفظ الشريعة ؛ لأنّهم محتفون بأسد آل محمّد، وتقدّم نافع بن هلال الجملي باللواء ، فصاح عمرو بن الحَجّاج : مَن الرجل ؟ قال : جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه، فقال : اشرب هنيئاً ولا تحمل إلى الحسين منه ، قال نافع : لا والله ، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن معه من آله وصحبه عطاشى ، وصاح نافع بأصحابه : املأوا أسقيتكم ، فشدّ عليهم أصحاب ابن الحَجّاج فكان بعض القوم يملأ القرب وبعض يقاتل وحاميهم هو أبو الفضل ، فجاؤا بالماء  وليس في أعدائهم من تحدثه نفسه بالدنوّ منهم خوفاً من ذلك البطل المغوار :

ولكن كمية الماء التي أت بها كانت قليلة جداً لا تسد الحاجة، وسرعان ما ألمّ بهم العطش مرة أخرى.

 

 

لقاءٌ بين الحسين(ع) وابن سعد

أرسل الحسين(ع) عمرو بن قرظة الأنصاري إلى ابن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين ، فخرج كلّ منهما في عشرين فارساً ، وأمر الحسين مَن معه أنْ يتأخّر إلاّ العبّاس وابنه علياً الأكبر ، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه .

فقال الحسين : يابن سعد أتقاتلني ؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك ؟! فأنا ابن مَن قد علمتَ ! ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى ؟  قال عمر : أخاف أنْ تهدم داري ، قال الحسين : أنا أبنيها لك ، فقال : أخاف أنْ تؤخذ ضيعتي، … ولما أيس منه الحسين قام وهو يقول : مالك ، ذبحك الله على فراشك عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إنّي لأرجو أنْ لا تأكل من بَرّ العراق إلا يسيراً:

وأول ما شاهده من غضب الله عليه ذهاب ولاية الري ، فإنّه لمّا رجع من كربلاء طالبه ابن زياد بالكتاب الذي كتبه بولاية الري ، فادّعى ابن سعد ضياعه ، فشدّد عليه باحضاره ، فقال له ابن سعد : تركته يقرأ على عجائز قريش اعتذاراً منهن ، أما والله لقد نصحتك بالحسين نصيحة لَو نصحتها أبي سعداً كنت قد أديت حقّه . فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله : صدق ، وددتُ أنّ في أنف كلّ رجل من بني زياد خزامة إلى يوم القيامة وإنّ الحسين لَم يُقتل:

 

شمر بن ذي الجوشن المحرِّض الأول

بين افتراء بن سعد وتحريض شمر بن ذي الجوشن سُفكت تلك الدماء الزكية، فبعد لقاء الحسين(ع) بعمر بن سعد، أراد الأخير أن يُظهر نفسه أمام ابن زياد أنه انتصر على الحسين وأرغمه على الرجوع من حيث أتى، فكتب إلى ابن زياد: أمّا بعد فإنّ الله أطفأ النّائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة ، وهذا حسين أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى ، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور ، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا رضىً لكم وللاُمّة صلاح: وكان ذلك كذباً وافتراءاً على الإمام(ع).

ولمّا قرأ ابن زياد كتاب ابن سعد قال : هذا كتاب ناصح مشفق على قومه، وأراد أن يجيبه ، فقام الشمر ، وقال : أتقبل هذا منه بعد أنْ نزل بأرضك ؟ والله ، لئن رحل من بلادك ولَم يضع يده في يدك ليكونّن أولى بالقوّة وتكون أولى بالضعف والوهن ، فاستصوب رأيه وكتب إلى ابن سعد : أمّا بعد ، إنّي لَم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السّلامة ولا لتكون له عندي شفيعاً ، اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على حكمي ، فابعث بهم إليَّ سِلماً ، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مستحقّون ، فإنْ قُتل حسين فاوطىء الخيل صدره وظهره ، ولستُ أرى أنّه يُضرّ بعد الموت ، ولكن على قول قلته : لَو قتلتُه لفعلتُ هذا به . فإنْ أنت مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السّامع المطيع ، وإنْ أبيتَ فاعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناه بذلك:

فلمّا جاء الشمر بالكتاب ، قال له ابن سعد : ويلك لا قرب الله دارك ، وقبّح الله ما جئت به ، وإنّي لأظنّ أنّك الذي نهيته وافسدت علينا أمراً رجونا أنْ يصلح ، والله لا يستسلم حسين فانّ نفس أبيه بين جنبَيه .

فقال الشمر : أخبرني ما أنت صانع ، أتمضي لأمر أميرك ؟ وإلاّ فخلّ بيني وبين العسكر . قال له عمر : أنا أتولّي ذلك ، ولا كرامة لك ، ولكن كن أنت على الرجّالة:

كلام حبيب بن مظاهر مع بني أسد

 

استأذن حبيب بن مظاهر من الحسين أنْ يأتي بني أسد وكانوا نزولاً بالقرب منهم فأذِن له ، ولمّا أتاهم وانتسب لهم عرفوه ، فطلب منهم نصرة ابن بنت رسول الله فإنّ معه شرف الدنيا والآخرة ، فأجابه تسعون رجلاً ، وخرج من الحي رجل أخبر ابن سعد بما صاروا إليه ، فضمّ إلى الأزرق أربعمئة رجل وعارضوا النّفر في الطريق واقتتلوا ، فقُتل جماعة من بني أسد، وفرّ مَن سلِم منهم إلى الحي فارتحلوا جميعاً في جَوف الليل خوفاً من ابن سعد أنْ يبغتهم ، ورجع حبيب إلى الحسين وأخبره ، فقال : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم:

 

اليوم التاسع من شهر محرم

لا شك بأنه كان يوماً صعباً على الهاشميين والأصحاب، فالرجال كانوا يتهيأون للقتال، والنسوة كانت تتهيأ للترمّل والثكل واليتم والسبي.

وقد شهد ذلك اليوم تحركاً واسعاً من الطرفين، كلٌ يريد تحقيق أهدافه، ولم يكن من العدل العسكري أن يواجه مئة شخص ثلاثين ألفاً، وهذا يعني أن الطرف اليزيدي قد جمع في مقابل كل رجل من الطرف الحسيني ثلاثماية رجل، ولكن الجيش الحسيني كان مؤمناً بقول الله تعالى(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)

كانوا مملوئين بالثقة ومتلهفين للمواجهة ومستعدين للدفاع عن إمامهم الذي يمثّل للبشرية كل خير، وموطّنين أنفسهم على تحمّل الآلام في سبيل نصرة الدين والدفاع عن الحق، فلم يكونوا ينظرون في تلك الأثناء إلا إلى رضا الله تعالى عنهم.

وفي ذلك اليوم أيضاً أمر ابن سعد جنوده بالزحف نحو مخيّم الحسين، وفي تلك الأثناء كان الإمام الحسين(ع) جالساً بالقرب من الخيمة فغفت عينه قليلاً، فرأى رسول الله(ص) وهو يقول له:إنك طائرٌ إلينا عن قريب:

سمعت زينب(ع) أصوات الرجال قد علت فأتت إلى أخيها قائلة: قد اقترب العدو منا: فأرسل الإمام(ع) أخاه العباس لمعرفة الخبر، فركب العبّاس في عشرين فارساً فيهم زهير وحبيب ، وسألهم عن ذلك قالوا : جاء أمر الأمير أنْ نعرض عليكم النّزول على حكمه ، أو ننازلكم الحرب:

فرجع العباس ليخبره أخاه بالأمر وبقي الأصحاب هناك يعظون المقاتلين من الطرف اليزيدي.

 

حوارٌ بين حبيب بن مظاهر وعزرة بن قيس

قال لهم حبيب بن مظاهر : أما والله لبئس القوم عند الله غداً ، قوم يقدمون عليه وقد قتلوا ذريّة نبيّه وعترته وأهل بيته وعبّاد أهل هذا المصر المتهجدين بالأسحار الذاكرين الله كثيراً: فقال له عزرة بن قيس : إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت: فقال زهير : يا عزرة ، إنّ الله قد زكّاها وهداها فاتّق الله يا عزرة ، فإنّي لك من النّاصحين ، اُنشدك الله يا عزرة أنْ لا تكون ممَّن يعين أهل الضلالة على قتل النّفوس الزكيّة : ثمّ قال عزرة : يا زهير ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت ، إنّما كنتَ على غير رأيهم: قال زهير : أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم ، أما والله ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولا وعدته نصرتي ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه ، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله ومكانه منه ، وعرفتُ ما يقدم عليه عدوّه ، فرأيت أنْ أنصره وأن أكون من حزبه وأجعل نفسي دون نفسه ؛ لما ضيّعتم من حقّ رسوله :

 

 

موقفٌ للإمام الحسين(ع)

رجع العباس بن علي إلى أخيه الإمام وأخبره بنية القوم، فقال له الحسين(ع): ارجع إليهم، واستمهلهم هذه العشيّة إلى غد ، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو  يعلم أنّي اُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار: فرجع العباس إلى القوم وبلّغهم طلب الإمام، فراوغ عمر ابن سعد في تحقيق هذا الطلب، فقال عمرو بن الحَجّاج : سبحان الله ! لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أنْ تجيبهم إليه . وقال قيس بن الأشعث : أجبهم إلى ما سألوك ، فلَعمري ليستقبلك بالقتال غدوة . فقال ابن سعد : والله لو أعلم أنّه يفعل ما أخّرتهم العشية . ثمّ بعث إلى الحسين : إنّا أجّلناكم إلى غد ، فإنْ استسلمتم سرحنا بكم إلى الأمير ابن زياد ، وإنْ أبيتم فلسنا تاركيكم:

 

حوار بين الحسين(ع) وأصحابه(رض)

 

جمع الإمام الحسين أصحابه قرب المساء فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: أُثنى على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء ، اللهمّ إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً ، ولَم تجعلنا من المشركين: أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً، وقد أخبرني جدّي رسول الله (ص) بأنّي ساُساق إلى العراق فأنزلُ أرضاً يقال لها عمورا وكربلاء ، وفيها اُستشهد، وقد قرب الموعد ، ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذِنت لكم فأنطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ! وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم ، فإنّ القوم إنّما يطلبونني ، ولَو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري:

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : لِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ؟! لا أرانا الله ذلك أبداً:

والتفت الإمام إلى بني عقيل وقال :حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا قد أذِنت لكم :فقالوا : إذاً ما يقول النّاس ، وما نقول لهم ؟ أنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ؟! ولَمْ نرمِ معهم بسهم ولَمْ نطعن برمح ولَمْ نضرب بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ؟! لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، نقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك:

وقال مسلم بن عوسجة : أنحن نخلّي عنك ؟ وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك ؟ أما والله ، لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لَمْ يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك:

وقال سعيد بن عبدالله الحنفي : والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك ، أما و الله لو علمتُ أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى ، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ، لَما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً :

وقال زهير بن القين : و الله وددتُ أنّي قُتلتُ ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف مرّة ، و إنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك :

وتكلّم باقي الأصحاب بما يشبه بعضه بعضاً فجزّاهم الحسين خيراً.

ليلة عاشوراء

لقد كانت ليلة عاشوراء من ذلك العام آخر ليلة لهم في دار التعب والعمل، حيث سيلتحقون غداً بالرفيق الأعلى، ويشربون من كأس أعدها لهم رسول الله(ص)، والجميع عرفوا بأن أحداً منهم لن يبقى على قيد الحياة حيث أخبرهم إمامهم(ع) بتلك الحقيقة عندما قال لهم: إنّي غداً اُقتل وكلّكم تقتلون معي ولا يبقى منكم أحد حتّى القاسم وعبد الله الرضيع ، إلاّ ولدي علياً زين العابدين ؛ لأنّ الله لَمْ يقطع نسلي منه وهو أبو أئمّة ثمانية:

فقالوا بأجمعهم: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك ، أولا نرضى أنْ نكون معك في درجتك يابن رسول الله ؟ ، فدعا لهم بالخير:

ولا يمكن لأحد أن يشعر بما كان يشعر به الأصحاب وأهل البيت من رجال ونساء إلا إذا عشنا تلك المرحلة وكأننا كنا معهم، حيث كانت أشد ليلة تمر على أهل البيت، وخصوصاً النساء والأطفال الذين لن يبقى معهم من يدفع عنهم ويحميهم سوى شاب عليل لا يقدر على الحركة.

واللافت في الأمر أن أصحاب الحسين(رض) كانوا مستبشرين ورابطي الجأش، ومنهم من رأوه يضحك كحبيب بن مظاهر الذي خرج ضاحكاً فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: وخرج حبيب بن مظاهر يضحك ، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني : ما هذه ساعة ضحك: قال حبيب : وأي موضع أحقّ بالسرور من هذا ؟ ما هو إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور:

وكان يُسمع من مخيم الحسين(ع) دويٌّ كدويّ النحل حيث كانوا يجهزون أنفسهم للحرب ويقضون تلك الليلة بالصلاة وتلاوة الكتاب وقراءة الدعاء.

قال الضحّاك بن عبد الله المشرقي : مرّت علينا خيل ابن سعد فسمع رجل منهم الحسين يقرأ(وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ) فقال الرجل نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم . قال له برير : يا فاسق ، أنت يجعلك الله في الطيّبين ؟! هلمّ إلينا وتُب من ذنوبك العظام ، فوالله لنحن الطيّبون وأنتم الخبيثون . فقال الرجل مستهزئاً : وأنا على ذلك من الشاهدين

وقال علي بن الحسين (ع) سمعتُ أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها يقول ، وهو يصلح سيفه :

يا  دهر اُفٍّ لك من خليل      كم لك بالاشراق والأصيل
مِنْ  صاحب وطالب قتيل      والـدهر  لا يقنع بالبديل
وانّـما  الأمر إلى الجليل      وكـلّ حـيٍّ سالك سبيل

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ، ففهمتُها وعرفتُ ما أراد وخنقتني العبرة ، ولزمتُ السكوت وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل . وأمّا عمّتي زينب لمّا سمعتْ ذلك وثبتْ تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه وقالت : وآثكلاه ! ليتَ الموت أعدمني الحياة ! اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي عليٌ وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي ! فعزّاها الحسين وصبَّرها وفيما قال : يا اُختاه تعزّي بعزاء الله واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون ، وأهل السّماء لا يبقون وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله اُسوة حسنة . فقالت (عليها السّلام) : افتغصب نفسك اغتصاباً ، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي:

وبكت النّسوة معها ولطمن الخدود ، وصاحت اُمّ كلثوم : وآ محمداه ! وآ علياه ! وآ اُمّاه ! وآ حسيناه ! وآ ضيعتنا بعدك ! فقال الحسين : يا اُختاه يا اُمّ كلثوم ، يا فاطمة ، يا رباب ، انظرْنَ اذا قُتلت فلا تشققن عليَّ جيباً ولا تخمشن وجهاً ولا تقلن هجراً :

ثمّ إنّه (ع) أمر أصحابه أنْ يقاربوا البيوت بعضها من بعض ؛ ليستقبلوا القوم من وجه واحد . وأمر بحفر خندق من وراء البيوت يوضع فيه الحطب ويلقى عليه النّار إذا قاتلهم العدو ؛ كيلا تقتحمه الخيل ، فيكون القتال من وجه واحد.

 وخرج (ع) في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد الوضع ، فتبعه نافع بن هلال الجملي ، فسأله الحسين عمّا أخرجه قال : يابن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي ، فقال الحسين (ع):إنّي خرجت أتفقّد التلاع والروابي ؛ مخافة أنْ تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون: ثمّ رجع (ع) وهو قابض على يد نافع ويقول : هي هي والله ، وعد لا خلف فيه : ثمّ قال له : ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك ؟

فوقع نافع على قدمَيه يقبّلهما ويقول : ثكلتني اُمّي ، إنّ سيفي بألف وفرسي مثله ، فوالله الذي مَنّ بك عليَّ ، لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فرّي وجرّي .

ثمّ دخل الحسين (ع) خيمة زينب ، ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره فسمع زينب تقول له : هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم ؟ فإنّي أخشى أنْ يسلّموك عند الوثبة، فقال لها : والله ، لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس ، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب اُمّه : قال نافع : فلمّا سمعتُ هذا منه ، بكيتُ وأتيت حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن اُخته زينب ، قال حبيب : والله ، لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة، قلت : إنّي خلّفته عند اُخته وأظنّ النّساء أفقن وشاركنها في الحسرة ، فهل لك أنْ تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهن ؟ فقام حبيب ونادى : يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة . فتطالعوا من مضاربهم كالاُسود الضارية ، فقال لبني هاشم : ارجعوا إلى مقرّكم لا سهرت عيونكم . ثمّ التفت إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع ، فقالوا بأجمعهم : والله الذي مَنّ علينا هذا الموقف ، لو لا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا السّاعة ، فطب نفساً وقر عيناً . فجزّاهم خيراً ، وقال هلمّوا معي لنواجه النّسوة ونطيّب خاطرهنّ ، فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح : يا معشر حرائر رسول الله ، هذه صوارم فتيانكم آلَوا ألاّ يغمدوها إلاّ في رقاب مَن يريد السّوء فيكم ، وهذه أسنّة غلمانكم أقسَموا ألاّ يركزوها إلاّ في صدور مَن يفرّق ناديكم . فخرجن النّساء إليهم ببكاء وعويل وقلن : أيّها الطيّبون حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين . فضجّ القوم بالبكاء حتّى كأنّ الأرض تميد بهم.

رؤيا نورانية

في السّحر من تلك الليلة خفق الحسين(ع) خفقة ثمّ استيقظ وأخبر أصحابه بأنّه رأى في منامه كلاباً شدّت عليه تنهشه وأشدّها عليه كلب أبقع ، وإنّ الذي يتولّى قتله من هؤلاء رجل أبرص ، وإنّه رأى رسول الله (ص) بعد ذلك ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول له : أنت شهيد هذه الاُمّة ، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى وليكن افطارك عندي الليلة عجّل ولا تؤخّر ، فهذا ملك قد نزل من السّماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء:

وربما لم ينم منهم أحد في تلك الليلة التي كانت آخر ليلة في الحياة الدنيا عندهم حيث استغلوا كل لحظة من لحظاتها فيما يرضي الله تعالى عنهم.

 

يوْمُ عَاشُورَاء

وما أدراك ما يوم عاشوراء، إنه اليوم الذي حدثت فيه أبشع مجزرة في تاريخ الإسلام، ويوم بكت فيه أهل السموات حزناً على ما جرى، ولكنه في ذات الوقت كان يوماً عظيماً للأمة حيث فتح المجال أمام الأحرار ليقفوا في وجوه الظالمين ويدافعوا عن دينهم ووجودهم وحقوقهم التي اغتصبها الحكام ظلماً.

وقد كان لهذا اليوم وقعٌ أليم على قلوب الموالين، وما زال الموالون للحسين وبعد مرور ما يقرب من أربعة عشر قرناً يجلسون فيه ويتذاكرون ما حدث فيه سنة إحدى وستين للهجرة.

لقد دخل عبد الله بن سنان على أبي عبد الله الصادق (ع) في يوم عاشوراء ، فرآه كاسف اللون ظاهر الحزن و دموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ فقال له : مِمَّ بكاؤك يابن رسول الله ؟ قال عليه السّلام : أوَفي غفلة أنت ؟ أما علمت أنّ الحسين اُصيب في هذا اليوم ؟

ولم ينس أئمتنا(ع) ذلك اليوم أبداً، فهذا الإمام السجاد(ع) لم يُقدَّم له طعام أو شراب إلا وبلّله بدموعه حزناً على أبيه الحسين، وقد كان لهذا الحزن أثر كبير على استمرار هذا النهج القويم.

وأمّا الإمام الكاظم (ع) فلَم يُرَ ضاحكاً أيّام العشرة، وكانت الكآبه غالبة عليه ، ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته .

ويقول الرضا (ع) فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء.

وفي زيارة النّاحية المنسوبة إلى الإمام الحجة(عج): فلأندبنّك صباحاً ومساءً ، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً:

قال ابن قَولويه و المسعودي : لمّا أصبح الحسين يوم عاشوراء وصلّى بأصحابه صلاة الصبح ، قام خطيباً فيهم حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إنّ الله تعالى أذِن في قتلكم و قتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال :  ثمّ صفّهم للحرب وكانوا اثنين وثمانين فارساً وراجلاً ، فجعل زهير بن القين في المَيمنة ، وحبيب بن مظاهر في المَيسرة ، وثبت هو (ع) وأهل بيته في القلب، وأعطى رايته أخاه العباس.

وأقبل عمر بن سعد نحو الحسين في ثلاثين ألفاً وكان رؤساء الأرباع بالكوفة يومئذ : عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي على ربع أهل المدينة ، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الحنفي على ربع مذحج وأسد ، وقيس بن الأشعث على ربع ربيعة وكندة ، والحرّ بن يزيد الرياحي على ربع تميم وهمدان ، وكلّهم اشتركوا في حرب الحسين إلاّ الحرّ الرياحي .

وجعل ابنُ سعد على المَيمنة عمرو بن الحَجّاج الزبيدي ، وعلى المَيسرة شمر بن ذي الجوشن العامري ، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي ، والراية مع مولاه ذويد.

وأقبلوا يجولون حول البيوت فيرون النّار تضطرم في الخندق ، فنادى شمر بأعلى صوته : يا حسين ، تعجّلت بالنّار قبل يوم القيامة ؟ فقال الحسين (ع) مَن هذا ؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن ، قيل نعم فقال (ع) يابن راعية المعزى ، أنت أولى بها منّي صِليّا :  ورام مسلم بن عوسجة أنْ يرميه بسهم ، فمنعه الحسين و قال : أكره أنْ أبدأهم بقتال:

ولمّا نظر الحسين (ع) إلى جمعهم كأنّه السيل ، رفع يدَيه بالدعاء وقال : اللهمّ ، أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة ، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ ، أنزلته بك وشكوته إليك ، رغبةً منّي إليك عمَّن سواك فكشفته وفرّجته ، فأنت ولي كلّ نعمة ومنتهى كلّ رغبة:

ثمّ دعا براحلته فركبها ، و نادى بصوت عال يسمعه جلّهم : أيّها النّاس اسمعوا قَولي ، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حقّ لكم عليَّ ، وحتّى أعتذر إليكم من مَقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النّصف من أنفسكم ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليَّ سبيل . وإنْ لَم تقبلوا مِنّي العذر ولَم تعطوا النّصف من أنفسكم ، فأجمعوا أمركم و شركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة . ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون . إنّ ولييّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين  .

فلمّا سمعت النّساء هذا منه صحنَ وبكينَ وارتفعت أصواتهنَّ ، فأرسل إليهنَّ أخاه العبّاس وابنه علياً الأكبر وقال لهما : سكّتاهنَّ فلعمري ليكثر بكاؤهنَّ.

ولمّا سكتنَ ، حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء وقال : عباد الله ، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر ؛ فإنّ الدنيا لَو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء ، غير أنّ الله خلق الدنيا للفناء ، فجديدها بالٍ ونعيمها مضمحل وسرورها مكفهر ، والمنزل تلعة والدار قلعة ، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى ، واتقوا الله لعلّكم تفلحون  . أيّها النّاس إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدنيا ، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتُخيّب طمع من طمع فيها . وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحلَّ بكم نقمته ، فنِعمَ الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم ؛ أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد (ص) ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولِما تريدون . إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين . أيّها النّاس أنسبوني مَن أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه ؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي ، أوَ لَم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ ـ والله ما تعمدتُ الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه ـ وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟

فقال الشمر : هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول .

فقال له حبيب بن مظاهر : والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك .

ثمّ قال الحسين  فإنْ كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم ، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم اتطلبوني بقتيل منكم قتلته ؟! أو مال لكم استهلكته ؟! أو بقصاص جراحة ؟فأخذوا لا يكلّمونه !

فنادى : يا شبث بن ربعي ، ويا حَجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إليَّ أنْ اقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة ؟

فقالو : لَم نفعل .

قال : سبحان الله ! بلى والله لقد فعلتم. ثمّ قال : أيّها النّاس ، إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض:  فقال له قَيس بن الأشعث : أولا تنزل على حكم بني عمّك ؟ فإنّهم لَن يروك إلاّ ما تُحبّ ولَن يصل إليك منهم مكروه .

فقال الحسين (ع) أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل ؟ لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد ، عباد الله إنّي عذتُ بربّي وربّكم أنْ ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبِّر لا يؤمن بيوم الحساب:

خطبة زهير بن القين

وخرج إليهم زهير بن القين على فرس ذنوب وهو شاك في السّلاح فقال : يا أهل الكوفة ، نذار لكم من عذاب الله إنَّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد ، ما لَم يقع بيننا وبينكم السّيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السّيف انقطعت العصمة ، وكنّا اُمّة وأنتم اُمّة ، إنّ الله ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّد (ص) ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون . إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد ، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عمر سلطانهما ، يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثّلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النّخل ، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حِجر بن عدي وأصحابه ، وهاني بن عروة وأشباهه . فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا : لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً .

فقال زهير : عباد الله إنّ ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنّصر من ابن سميّة ، فإنْ لم تنصروهم ، فاُعيذكم بالله أنْ تقتلوهم ، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد ، فلَعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين:

فرماه الشمر بسهم وقال : اسكت أسكت الله نامتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك .

فقال زهير : يابن البوّال على عقبيه ، ما إيّاك اُخاطب ، إنّما أنت بهيمة والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتَين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم . فقال الشمر : إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة . فقال زهير : أفبالموت تخوّفني ؟ فوالله لَلموت معه أحبّ إليَّ من الخلد معكم . ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال : عباد الله ، لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فوالله لا تنال شفاعة محمّد (ص) قوماً هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته ، وقتلوا مَن نصرهم وذبَّ عن حريمهم .

فناداه رجل من أصحابه ، إنّ أبا عبد الله يقول لك : أقبِل ، فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء ، فلقد نصحتَ هؤلاء وأبلغت لَو نفع النّصح والإبلاغ.

ثم عاود الإمام الحسين(ع) كلامه معهم قائلاً: تبّاً لكم أيّتها الجماعة و ترحاً ، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم . فهلاّ ـ لكم الويلات  ـ تركتمونا والسّيف مشيم والجأش طامن والرأي لَما يستحصف ، ولكنْ أسرعتم إليها كطيرة الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ، ثمّ نقضتموها ، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلِم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئيّ السّنَن ! ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون ! أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه اُصولكم وتأزّرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة ، شجى للناظر وأكلة للغاصب ! ألا وإنّ الدّعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتَين ؛ بين السّلة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة ، من أن نؤثر طاعة اللئام من مصارع الكرام ، ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد وخذلان النّاصر … أما والله ، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس ، حتّى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور ، عهدٌ عَهَده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله ، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون ، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم ، ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط المستقيم ،  ثمّ رفع يدَيه نحو السّماء وقال : اللهمّ ، احبس عنهم قطر السّماء ، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة ، فإنّهم كذبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير :

ثم استدعى الحسين (ع) عمر بن سعد ، فدُعي له فقال(ع): أي عمر ، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الري وجرجان ؟ والله لا تتهنّأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتّخذونه غرضاً بينهم  :

توبة الحرّ

ولمّا سمع الحرّ بن يزيد الرياحي كلامه واستغاثته ، أقبل على عمر بن سعد وقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟ قال : إي والله ، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي . قال : ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال ؟ فقال : لَو كان الأمر إليَّ لقبلت ، ولكن أميرك أبى ذلك . فتركه ووقف مع النّاس ، وكان إلى جنبه قرّة بن قيس فقال لقرّة : هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال : لا ، قال : فهل تريد أن تسقيه ؟ فظنّ قرّة من ذلك أنّه يريد الاعتزال ويكره أن يشاهده ، فتركه فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلاً ، فقال له المهاجر بن أوس : أتريد أن تحمل ؟ فسكت وأخذته الرعدة ، فارتاب المهاجر من هذا الحال وقال له : لَو قيل لي : مَن أشجع أهل الكوفة ؟ لَما عدوتك ، فما هذا الذي أراه منك ؟ فقال الحرّ : إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنّة والنّار ، والله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو اُحرقت . ثمّ ضرب جواده نحو الحسين منكّساً رمحه قالباً ترسه وقد طأطأ برأسه ؛ حياءً من آل الرسول بما أتى إليهم وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ ، رافعاً صوته : اللهمّ إليك اُنيب فتب عليَّ ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك . يا أبا عبدالله إنّي تائب ، فهل لي من توبة ؟ فقال(ع): نعم يتوب الله عليك :

وتقدّم عمر بن سعد نحو عسكر الحسين ورمى بسهم وقال : اشهدوا لي عند الأمير إنّي أول من رمى . ثمّ رمى النّاس ، فلَم يبقَ من أصحاب الحسين أحد إلاّ أصابه من سهامهم ، فقال(ع)   لأصحابه : قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ، فإنَّ هذه السّهام رسل القوم إليكم  . فحمل أصحابه حملةً واحدةً واقتتلوا ساعة ، فما انجلت الغبرة إلاّ عن خمسين صريعاً

وخرج يسار مولى زياد وسالم مولى عبيد الله بن زياد فطلبا البراز ، فوثب حبيب وبرير ، فلم يأذن لهما الحسين (ع) . فقام عبد الله بن عمير الكلبي ، من بني عليم ، وكنيته أبو وهب ، وكان طويلاً شديد السّاعدين بعيد ما بين المنكبين ، شريفاً في قومه شجاعاً مجرّباً ، فأذن له وقال : أحسبه للأقران قتّالاً  . فقالا له : مَن أنت ؟ فانتسب لهما ، فقالا : لا نعرفك ليخرج إلينا زهير أو حبيب أو برير ، وكان يسار قريباً منه فقال له : يابن الزانية أوَبك رغبةً عن مبارزتي ؟ ثمّ شدّ عليه بسيفه يضربه ، وبينا هو مشتغل به إذ شدّ عليه سالم ، فصاح أصحابه قد رهقك العبد فلم يعبأ به ، فضربه سالم بالسّيف فاتقاها عبد الله بيده اليسرى فأطار أصابعه ، ومال عليه عبد الله فقتله . وأقبل إلى الحسين يرتجز وقد قتلهما .

وأخذت زوجته اُمّ وهب بنت عبد الله بن النمر بن قاسط ، عموداً ، وأقبلت نحوه تقول له : فداك أبي واُمّي قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّد صلّى الله عليه وأله وسلّم . فأراد أنْ يردّها إلى الخيمة ، فلَم تطاوعه وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول : لن أدعك دون أنْ أموت معك . فناداها الحسين(ع):جزيتم عن أهل بيت نبيكم خيراً ، ارجعي إلى الخيمة ، فإنّه ليس على النّساء قتال

ولمّا نظر مَن بقي من أصحاب الحسين إلى كثرة مَن قُتل منهم ، أخذ الرجلان والثلاثة و الأربعة يستأذنون الحسين في الذبّ عنه والدفع عن حرمه ، وكلّ يحمي الآخر من كيد عدوّه . فخرج الجابريّان وهما : سيف بن الحارث بن سريع ، ومالك بن عبد بن سريع ، وهما ابنا عمّ وأخوان لاُمّ ، وهما يبكيان، قال(ع) ما يبكيكما ؟ إنّي لأرجو أنْ تكونا بعد ساعة قريرَي العين : قالا : جعلنا الله فداك ، ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك ؛ نراك قد اُحيط بك ولا نقدر أنْ ننفعك . فجزاهما الحسين خيراً . فقاتلا قريباً منه حتّى قُتلا:

وجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريّان فقالا : قد حازنا النّاس إليك . فجعلا يقاتلان بين يدَيه حتّى قُتلا .

وخرج عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه وجابر بن الحارث السلماني ومجمع بن عبد الله العائذي ، وشدّوا جميعاً على أهل الكوفة فلمّا أوغلوا فيهم ، عطف عليهم النّاس وقطعوهم عن أصحابهم ، فندب إليهم الحسين أخاه العبّاس فاستنقذهم بسيفه ، وقد جُرحوا بأجمعهم ، و في أثناء الطريق اقترب منهم العدوّ فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح ، و قاتلوا حتّى قتلوا في مكان واحد.

ولمّا نظر الحسين إلى كثرة مَن قُتل من أصحابه ، قبض على شيبته المقدّسة وقال : اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً ، واشتدّ غضبه على النّصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم . أما والله ، لا اُجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي ، ثمّ صاح : أما من مغيث يغيثنا ! أما من ذابّ يذبُّ عن حرم رسول الله : فبكت النّساء وكثر صراخهن .

وأخذ أصحاب الحسين (ع) ـ بعد أن قلّ عددهم يبرز الرجل بعد الرجل فأكثروا القتل في أهل الكوفة . فصاح عمرو بن الحَجّاج لأصحابه : أتدرون مَن تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين ، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه على قلّتهم ، والله لَو لَم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . فقال عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت ، ارسِل في النّاس مَن يعزم عليهم أنْ لا يبارزهم رجل منهم ، ولَو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم.

ثمّ حمل عمرو بن الحَجّاج على مَيمنة الحسين (ع) ، فثبتوا له وجثوا على الركب وأشرعوا الرماح ، فلَم تقدم الخيل . فلمّا ذهبت الخيل لترجع ، رشقهم أصحاب الحسين بالنّبل فصرعوا رجالاً وجرحوا آخرين.

ثمّ حمل عمرو بن الحَجّاج من نحو الفرات فاقتتلوا ساعة ، وفيها قاتل مسلم بن عوسجة ، فشدّ عليه مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الله بن خشكارة البجلي ، وثارت لشدّة الجلاد غبرة شديدة وما انجلت الغبرة إلاّ ومسلم صريع وبه رمق . فمشى إليه الحسين (ع) ومعه حبيب بن مظاهر فقال له الحسين(ع):  رحمك الله يا مسلم ! فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً:

ودنا منه حبيب وقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشِر بالجنّة . فقال بصوت ضعيف : بشّرك الله بخير . قال حبيب : لَو لَم أعلم أنّي في الأثر لأحببت أنْ توصي إليَّ بما أهمّك . فقال مسلم : اُوصيك بهذا وأشار إلى الحسين (ع) أنْ تموت دونه . قال : أفعل وربِّ الكعبة . وفاضت روحه بينهما . وصاحت جارية له : وآ مسلماه ! يا سيّداه ! يابن عوسجتاه ! فتنادى أصحاب ابن الحجاج : قتلنا مسلماً .

وحمل الشمر في جماعة من أصحابه على ميسرة الحسين (ع) فثبتوا لهم حتّى كشفوهم ، وفيها قاتل عبد الله بن عمير الكلبي فقتل تسعة عشر فارساً واثني عشر راجلاً ، وشدّ عليه هاني بن ثبيت الحضرمي فقطع يده اليمنى ، وقطع بكر بن حي ساقه .

 فاُخذ أسيراً وقُتل صبراً، فمشت إليه زوجته اُمّ وهب وجلست عند رأسه تمسح الدم عنه وتقول : هنيئاً لك الجنّة أسأل الله الذي رزقك الجنّة أنْ يصحبني معك . فقال الشمر لغلامه رستم : اضرب رأسها بالعمود ، فشدخه وماتت مكانها ، وهي أول امرأة قُتلت من أصحاب الحسين .

وحمل الشمر حتّى طعن فسطاط الحسين (ع) بالرمح وقال : عليَّ بالنّار لاُحرقه على أهله . فتصايحت النّساء وخرجن من الفسطاط ، وناداه الحسين  يابن ذي الجوشن ، أنت تدعو بالنّار لتحرق بيتي على أهلي ؟! أحرقك الله بالنّار:

والتفت أبو ثمامة الصائدي إلى الشمس قد زالت ، فقال للحسين (ع) : نفسي لك الفداء ، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، لا و الله لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، و اُحبّ أنْ ألقى الله وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها . فرفع الحسين رأسه إلى السّماء وقال : ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها ، سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نصلّي  فقال الحصين : إنّها لا تُقبل.

فقال حبيب بن مظاهر : زعمت أنّها لا تُقبل من آل الرسول وتُقبل منك يا حمار ؟! فحمل عليه الحصين فضرب حبيبُ وجه فرسه بالسّيف ، فشبّت به ووقع عنه واستنقذه أصحابه فحملوه، وقاتلهم حبيب قتالاً شديداً ، فقتل على كبره اثنين وستّين رجلاً ، وحمل عليه بديل بن صريم فضربه بسيفه ، وطعنه آخر من تميم برمحه فسقط إلى الأرض ، فذهب ليقوم وإذا الحصين يضربه بالسّيف على رأسه فسقط لوجهه ، ونزل إليه التميمي واحتزّ رأسه فهدّ مقتلُه الحسين :

وخرج من بعده الحرّ بن يزيد الرياحي ومعه زهير بن القين ـ يحمي ظهره ـ فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم شدّ الآخر واستنقذه ، ففعلا ساعة وإنّ فرس الحرّ لمضروب على اُذنَيه وحاجبَيه و الدماء تسيل منه ، وهو يتمثّل بقول عنترة :

ما زلت ارميهم بثغرة نحره     ولبانه حتّى تسربل بالدم

فقال الحصين ليزيد بن سفيان : هذا الحرّ الذي كنت تتمنى قتله ؟ قال : نعم . وخرج إليه يطلب المبارزة فما أسرع أنْ قتله الحرّ ، ثمّ رمى أيّوب بن مشرح الخيواني فرس الحرّ بسهم فعقره ، وشبّ به الفرس فوثب عنه كأنّه ليث وبيده السّيف ، وجعل يقاتل راجلاً حتّى قتل نيفاً وأربعين ، ثمّ شدّت عليه الرجّالة فصرعته . وحمله أصحاب الحسين (ع) ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلون دونه ـ وهكذا يؤتى بكلّ قتيل إلى هذا الفسطاط ـ و الحسين (ع) يقول : قتلة مثل قتلة النبيين وآل النبيّين : ثمّ التفت إلى الحرّ ـ وكان به رمق ـ فقال له ، وهو يمسح الدم عنه : أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك ، وأنت الحرّ في الدنيا والآخرة  .

وقام الحسين إلى الصلاة ، فقيل إنّه صلّى بمَن بقي من أصحابه صلاة الخَوف ، وتقدّم أمامه زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي في نصف من أصحابه

ولمّا اُثخن سعيد بالجراح سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود وابلغ نبيّك منّي السّلام وابلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك ثوابك في نصرة ذريّة نبيّك (صلّى الله عليه وآله وسلّم:

ولمّا فرغ الحسين (ع) من الصلاة قال لأصحابه : يا كرام ، هذه الجنّة قد فتحت أبوابها ، واتصلت أنهارها ، وأينعت ثمارها ، وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومَكم ويتباشرون بكم ، فحاموا عن دين الله ودين نبيِّه ، وذبّوا عن حرم الرسول  . فقالوا : نفوسنا لنفسك الفداء ، ودماؤنا لدمك الوقاء فوالله لا يصل إليك وإلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب.

 

 

شهادة علي الأكبر

عندما لَم يبقَ مع الحسين إلاّ أهل بيته ، عزموا على ملاقاة الحتوف وأقبل بعضهم يودّع بعضاً، وأول مَن تقدّم أبو الحسن علي الأكبر وعمره سبع وعشرون سنة.

وقد عزّ فراقه على النساء لأنه كان أشبه الناس يرسول الله(ص) خَلقاً وخُلُقاً.

ومن جهة أنَّ ليلى اُمّ الأكبر بنت ميمونة ابنة أبي سفيان ولذا  صاح رجل من القوم : يا علي إنّ لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد ، ونريد أنْ نرعى الرحم ، فإنْ شئت آمنّاك . قال (عليه السّلام) : إنّ قرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحقّ أنْ تُرعى . ثمّ شدّ يرتجز معرِّفاً بنفسه القدسيّة وغايته السّامية :

أنـا  علي بن الحسين بن علي      نـحن وربُّ البيت أُولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي      أضرب بالسيف اُحامي عن أبي

ضرب غلام هاشميًّ قرشي

ولَم يتمالك الحسين (عليه السّلام) دون أن أرخى عينيه بالدموع وصاح بعمر بن سعد : مالك ؟ قطع الله رحمك كما قطعتَ رحمي ، ولَم تحفظ قرابتي من رسول الله (ص) وسلّط عليك من يذبحك على فراشك. ثمّ رفع شيبته المقدّسة نحو السّماء وقال : اللهمّ اشهد على هؤلاء فقد برز إليهم أشبه النّاس برسولك محمّد خَلقاًَ وخُلُقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه ، اللهمّ فامنعهم بركات الأرض ، وفرِّقهم تفريقاً ، ومزِّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترضِ الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونا لينصرونا ، ثمّ عدَوا علينا يقاتلونا  :

فقاتل قتالاً شديداً حتى أنهكته الجراحات، فنادى رافعاً صوته : عليك منّي السّلام أبا عبد الله، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : إنّ لك كأساً مذخورةً فأتاه الحسين (ع) وانكبّ عليه واضعاً خدّه على خدِّه وهو يقول : على الدنيا بعدك العفا ، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول ، يعزّ على جدّك و أبيك أنْ تدعوهم فلا يجيبونك ، وتستغيث بهم فلا يغيثونك .

ثم أمر فتيانه أنْ يحملوه إلى الخيمة ، فجاؤوا به إلى الفسطاط الذي يقاتلون أمامه ، والنساء ينظرن إليه محمولاً قد جللته الدماء ، وقد وزع جثمانه الضرب والطعن ، فاستقبلنه بصدور دامية وأمامهنّ عقيلة بني هاشم زينب الكبرى صارخةً نادبةً فألقت بنفسها عليه.

وخرج من بعده عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، واُمّه رقية الكبرى بنت أمير المؤمنين،  وهو يقول :

اليوم ألقى مسلماً وهو أبي    وعصبة بادوا على دين النبي

فقتل جماعة بثلاث حملات،  ورماه يزيد بن الرقاد الجهني ، فاتقاه بيده فسمرها إلى جبهته ، فما استطاع أنْ يزيلها عن جبهته فقال : اللهمّ انّهم استقلونا واستذلونا فاقتلهم كما قتلونا . وبينا هو على هذا إذ حمل عليه رجل برمحه فطعنه في قلبه ومات.

وخرج أبو بكر ابن أمير المؤمنين واسمه محمد فقتله زحر بن بدر النخعي.

وخرج عبد الله بن عقيل فما زال يضرب فيهم حتّى اُثخن بالجراح وسقط إلى الأرض ، فجاء إليه عثمان بن خالد التميمي فقتله .

وخرج أبو بكر بن الحسن بن أمير المؤمنين (ع) ، وهو عبد الله الأكبر ، واُمّه اُمّ ولد ، ويقال لها رملة ، فقاتل حتّى قُتل.

وخرج من بعده أخوه لاُمّه وأبيه القاسم ، وهو غلام لَم يبلغ الحلم ، فلمّا نظر إليه الحسين (عليه السّلام) اعتنقه وبكى ثمّ أذن له ، فبرز كأنّ وجهه شقّة قمر وبيده السّيف وعليه قميص وإزار وفي رجلَيه نعلان ، فمشى يضرب بسيفه فانقطع شسع نعله فوقف يشدّ شسع نعله وبينا هو على هذا إذ شدّ عليه عمرو بن سعد بن نُفيل الأزدي ، فقال له حميد بن مسلم : وما تريد من هذا الغلام ؟ يكفيك هؤلاء الذين تراهم احتوشوه . فقال : والله لأشدنّ عليه . فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف ، فوقع الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه ! فأتاه الحسين كالليث الغضبان ، فضرب عمراً بالسّيف فاتّقاه بالسّاعد فأطنّها من المرفق ، فصاح صيحةً عظيمةً سمعها العسكر ، فحملت خيل ابن سعد لتستنقذه ، فاستقبلته بصدرها ووطأته بحوافرها فمات . وانجلت الغبرة وإذا الحسين (ع) قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه  والحسين (ع) يقول : بُعداً لقوم قتلوك ! خصمهم بوم القيامة جدّك  ، ثمّ قال : عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ثمّ لا ينفعك ، صوتٌ والله كثر واتره وقلَّ ناصره .

ولمّا رأى العبّاس (عليه السّلام) كثرة القتلى من أهله قال لإخوته من اُمّه وأبيه ، عبد الله وعثمان وجعفر : تقدّموا يا بني اُمّي حتّى أراكم نصحتم لله ولرسوله . والتفت إلى عبد الله وكان أكبر من عثمان وجعفر وقال : تقدّم يا أخي حتّى أراك قتيلاً وأحتسبك فقاتلوا بين يدَي أبي الفضل حتّى قُتلوا بأجمعهم .

ولَم يستطع العبّاس صبراً على البقاء بعد أنْ فُني صحبُه وأهلُ بيته ، ويرى حُجّة الوقت مكثوراً قد انقطع عنه المدد ، وملأ مسامعه عويل النّساء وصراخ الأطفال من العطش ، فطلب من أخيه الرخصة ، ولمّا كان العبّاس (ع) أنفس الذخائر عند السّبط الشهيد (ع) ؛ لأنّ الأعداء تحذر صولته وترهب إقدامه ، والحرم مطمئنّة بوجوده مهما تنظر اللواء مرفوعاً ، فلَم تسمح نفس أبي الضيم القدسيّة بمفارقته فقال له : يا أخي أنت صاحب لوائي   قال العبّاس : قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين واُريد أنْ آخذ ثأري منهم ، فأمره الحسين (ع) أنْ يطلب الماء للأطفال ، فذهب العبّاس إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار ، فلَم ينفع . فنادى بصوت عالٍ : يا عمر بن سعد ، هذا الحسين ابن بنت رسول الله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى ، فاسقوهم من الماء قد أحرق الظما قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول : دعوني أذهب إلى الروم أو الهند واُخلي لكم الحجاز والعراق . فأثّر كلامه في نفوس القوم حتّى بكى بعضهم ، ولكنّ الشمر صاح بأعلى صوته : يابن أبي تراب ، لو كان وجه الأرض كلّه ماء وهو تحت أيدينا ، لَما سقيناكم منه قطرة ، إلاّ أنْ تدخلوا في بيعة يزيد.

فرجع إلى أخيه يخبره ، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش فلَم تتطامن نفسه على هذا الحال ، وثارت به الحميّة الهاشميّة :

ثمّ إنّه ركب جواده و أخذ القربة ، فأحاط به أربعة آلاف ورموه بالنّبال فلَم ترعه كثرتهم ، وأخذ يطرد اُولئك الجماهير وحده ولواء الحمد يرفّ على رأسه ، ولَم يشعر القوم أهو العبّاس يجدل الأبطال أم أنّ الوصي يزأر في الميدان ؟! فلم تثبت له الرجال ، ونزل إلى الفرات مطمئنّاً غير مبال بذلك الجمع .

ولمّا اغترف من الماء ليشرب ، تذكّر عطش الحسين ومَن معه ، فرمى الماء وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني      وبـعده  لا كـنت أن تكوني
هـذا  الـحسين وارد المنون      وتـشـربين بـارد الـمعين

تالله ما هذا فعال ديني

ثمّ ملأ القربة وركب جواده وتوجّه نحو المخيّم ، فقُطع عليه الطريق ، وجعل يضرب حتّى أكثر القتل فيهم وكشفهم عن الطريق.

فكمِن له زيد بن الرقاد الجهني من وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي ، فضربه على يمينه فبرأها فقال :

والله إنْ قـطعتُمُ يـميني      إني أُحامي ابداً عنiiديني
وعـن إمام صادق اليقين      نجل النبيِّ الطاهر الأمين

فلَم يعبأ بيمينه بعد أنْ كان همّه إيصال الماء إلى أطفال الحسين (ع) وعياله ، ولكن حكيم بن الطفيل كمِن له من وراء نخلة فلمّا مرّ به ضربه على شماله فقطعها وتكاثروا عليه ، وأتته السّهام كالمطر ، فأصاب القربة سهم واُريق ماؤها ، وسهم أصاب صدره ، وضربه رجل بالعمود على رأسه ففلق هامته .

وسقط على الأرض ينادي : عليك منّي السّلام أبا عبد الله . فأتاه الحسين (ع) وعندما رآه على تلك الحال قال كلمته الشهيرة: الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي.

واللافت في الأمر أن العباس(ع) هو الوحيد من بين شهداء كربلاء الذي لم يُصطحب إلى الخيام، ولا شك بأن في الأمر سراً لدى الحسين(ع).

ورجع الحسين (ع) إلى المخيّم منكسراً حزيناً باكياً يكفكف دموعه بكُمّه ، وقد تدافعت الرجال على مخيّمه فنادى : أما من مغيث يغيثنا ؟ أما من مجير يجيرنا ؟ أما من طالب حقّ ينصرنا ؟ أما من خائف من النّار فيذبّ عنّا ؟  فأتته سكينة وسألته عن عمّها ، فأخبرها بقتله . وسمعته زينب فصاحت : وآ أخاه ! وآ عبّاساه ! وآ ضيعتنا بعدك ! وبكين النّسوة وبكى الحسين معهنّ:

الإمام الحسين(ع) وحده في ساحة القتال

عندما استشهد العبّاس التفت الحسين (ع) ، فلم يرَ أحداً ينصره ، ونظر إلى أهله وصحبه مجزّرين كالأضاحي ، وهو يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال صاح بأعلى صوته : هل من ذابّ عن حرم رسول الله ؟ هل من موحّد يخاف الله فينا ؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا ؟فارتفعت أصوات النّساء بالبكاء.

ونهض السّجاد (ع) يتوكّأ على عصا ويجرّ سيفه ؛ لأنّه مريض لا يستطيع الحركة . فصاح الحسين باُمّ كلثوم : احبسيه ؛ لئلاّ تخلو الأرض من نسل آل  محمّد  فأرجعته إلى فراشه .

ثمّ إنّه (ع) أمر عياله بالسّكوت وودّعهم ، والتحف ببردة رسول الله (ص) وتقلّد بسيفه ، وطلب ثوباً لا يرغب فيه أحد يضعه تحت ثيابه ؛ لئلاّ يجرّد منه فإنّه مقتول مسلوب.

ثم دعا بولده الرضيع يودّعه ، فأتته زينب بابنه عبد الله ابن الرباب فأجلسه في حجره يقبّله ويقول : بُعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدّك المصطفى خصمهم .

ثمّ أتى به نحو القوم يطلب له الماء ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه ،  فتلقّى الحسين الدم بكفّه ، ورمى به نحو السّماء .

ثمّ قال الحسين(ع): هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى.

 وتقدّم الحسين (ع) نحو القوم مصلتاً سيفه ، آيساً من الحياة ، ودعا النّاس إلى البراز ، فلم يزل يقتل كلّ مَن برز إليه حتّى قَتل جمعاً كثيراً ثمّ حمل على الميمنة وهو يقول :

الموت أولى من ركوب العار    والعار أولى من دخول النّار

وحمل على الميسرة وهو يقول :

أنا الحـسين بـن علي    آلـيتُ أنْ لا أنـثـني

 أحمي عيالات أبي    أمضي على دين النّبي

قال عبد الله بن عمّار بن يغوث : ما رأيت مكثوراً قط ، قد قُتل ولده وأهل بيته وصحبه ، أربط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً ، ولقد كان الرجال تنكشف بين يدَيه إذا شدّ فيها ولَم يثبت له أحد .

فصاح عمر بن سعد بالجمع : هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، احملوا عليه من كلّ جانب ، فصاح بهم : يا شيعة آل أبي سفيان ، إنْ لَم يكن لكم دين وكنتم ولا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عرباً ، كما تزعمون. فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة ؟ قال : أنا الذي اُقاتلكم ، والنّساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمتُ حيّاً  .

فقال الشمر : لك ذلك .

وقصده القوم واشتد القتال وقد اشتدّ به العطش ، فحمل من نحو الفرات على عمرو بن الحَجّاج ، وكان في أربعة آلاف ، فكشفهم عن الماء ، ولمّا مدّ الحسين (ع) يده ليشرب ناداه رجل : أتلتذّ بالماء وقد هُتكت حرمك ؟! فرمى الماء ولَم يشرب ، ورجع إلى الخيام فعلم أنها كانت خديعة.

ثمّ إنّه ودّع عياله ثانياً ، وأمرهم بالصبر ولبس الأزر وقال : استعدّوا للبلاء ، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شرّ الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذِّب عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم.

والتفت الحسين (ع) إلى ابنته سكينة ، فرآها تبكي  ، فوقف عليها مصبّراً .

فقال عمر بن سعد : ويحكم اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه ، والله إنْ فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم . فحملوا عليه يرمونه بالسّهام حتّى تخالفت السّهام بين أطناب المخيّم وشكّ سهم بعض اُزر النّساء ، فدهشنَ وارعبنَ وصحن ودخلن الخيمة ، ينظرن إلى الحسين (ع) كيف يصنع ، فحمل عليهم كالليث الغضبان فلا يلحق أحداً إلاّ بعجه بسيفه فقتله ، والسّهام تأخذه من كلّ ناحية وهو يتّقيها بصدره ونحره، ورجع إلى مركزه يُكثر من قول لا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم.

ورماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته فنزعه وسالت الدماء على وجه فقال : اللهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة ، اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً ، ثم قال: يا اُمّة السّوء ، بئسما خلفتم محمّداً في عترته ، أما إنّكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي . وأيمَ الله ، إنّي لأَرجو أنْ يكرمني الله بالشهادة ، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.

ولمّا ضعف عن القتال ، وقف يستريح ، فرماه رجل بحجر على جبهته ، فسال الدم على وجهه ، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن عينيه ، رماه آخر بسهم محدّد له ثلاث شعب وقع على قلبه فقال: بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله  ورفع رأسه إلى السّماء وقال : إلهي إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ غيري  .

ثمّ أخرج السّهم من قفاه وانبعث الدم كالميزاب ، فوضع يده تحت الجرح فلمّا امتلأت رمى به نحو السّماء وقال : هوّن عليَّ ما نزل بي ، أنّه بعين الله، ثمّ وضعها ثانياً فلمّا امتلأت ، لطخ به رأسه ووجهه ولحيته وقال : هكذا أكون حتّى ألقى الله وجدّي رسول الله (ص) وأنا مخضّب بدمي ، واقول : يا جدّي قتلني فلان وفلان  .

وأعياه نزف الدم فجلس على الأرض ينوء برقبته ، فانتهى إليه في هذا الحال مالك بن النّسر فشتمه ، ثمّ ضربه بالسّيف على رأسه ، وكان عليه برنس فامتلأ البرنس دما فقال الحسين(ع) لا أكلت بيمينك ولا شربت ، وحشرك الله مع الظالمين.

وأقبل الفرس يدور حوله ويلطّخ ناصيته بدمه صاح ابن سعد : دونكم الفرس ؛ فإنّه من جياد خيل رسول الله (ص) . فأحاطت به الخيل ، فجعل يرمح برجلَيه حتّى قتل أربعين رجلاً وعشرة أفراس . فقال ابن سعد : دعوه لننظر ما يصنع . فلمّا أمِن الطلب أقبل نحو الحسين (ع) يمرّغ ناصيته بدمه ويشمّه ويصهل صهيلاً عالياً فلمّا نظرن النّساء إلى الجواد مخزياً والسّرج عليه ملويّا خرجن من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ، وبعد العزّ مذللات ، وإلى مصرع الحسين (ع) مبادرات.

ونادت اُم كلثوم زينب العقيلة : وآ محمداه ! وآ أبتاه ! وآ علياه ! وآ جعفراه ! وآ حمزتاه ! هذا حسين بالعراء صريع بكربلاء مّ نادت : ليت السّماء اُطبقت على الأرض  وليت الجبال تدكدكت على السّهل وانتهت نحو الحسين وقد دنا منه عمر بن سعد في جماعة من أصحابه ، والحسين يجود بنفسه . فصاحت : أي عمر ، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟! فصرف بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته فقالت : ويحكم أما فيكم مسلم ؟! فلَم يُجبها أحد ثمّ صاح ابن سعد بالنّاس : انزلوا إليه وأريحوه . فبدر إليه شمر فرفسه برجله ، وجلس على صدره وقبض على شيبته المقدّسة وضربه بالسّيف اثنتى عشرة ضربة واحتزّ رأسه المقدّس .

وأقبل القوم على سلبه ؛ فأخذ إسحاق بن حوية قميصه ، وأخذ الأخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي عمامته ، وأخذ الأسود بن خالد نعلَيه ، وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأودي ، ويقال رجل من بني تميم اسمه الأسود بن حنظلة . وجاء بجدل فرأى الخاتم في إصبعه والدماء عليه فقطع اصبعه وأخذ الخاتم ، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته ، وكان يجلس عليها فسمّي قيس قطيفة.

ثم داسوا صدره الشريف بحوافر الخيول ختى طحنوا عظام صدره، وراحوا يتجاذبون رأسه الشريف، كلٌ يريد السبق لنيل جائزة الأمير.

وقد بقي جسده الشريف مطروحاً على رمضاء كربلاء ثلاثة أيام إلى أن أتى ولده الإمام زين العابدين(ع) ودفنه بمساعدة قوم من بني أسد.

لقد انتهت معركة كربلاء من بعد ظهر اليوم العاشر من المحرم، فتكالب القوم على خيم النساء فأحرقوها والأطفال في داخلها فراحوا يهربون من خيمة إلى خيمة، وزينب(ع) تنقذ هذه وتخلّص تلك وتحضن أخرى، ولقد عاشت النسوة حالة من الذعر والخوف رغم ما فيهن من الحزن على مقتل الأزواج والأخوة والآباء.

كل ذلك والعطش قد بلغ فيهن مبلغه، ولقد كانت ليلة الحادي عشر من المحرم أشد ليلة مأساوية على نساء الحسين وأطفاله.

ففي العاشر من المحرم بدأت معركة كربلاء وانتهت في نفس اليوم، ولكن تلك المعركة كانت بداية مرحلة جديدة للأمة حيث بدّلت مجرى التاريخ وقلبت الموازين رأساً على عقب.

أيها الأعزاء.. لو اكتفينا بالكلام الذي ذكرناه فقط لما كان وافياً حيث لا بد من متابعة أحداث الموكب الحسيني، والذي عُرف بموكب السبايا حتى تتم الفائدة المرجوة.

 

 

 

 

 

مَاذَا بَعْدَ ثَوْرَةِ كَرْبَلاء

 

فجْرَ اليوم العاشر من شهر محرم عام إحدى وستين للهجرة بدأ القتال العسكري بين جيش الإمام الحسين(ع) الذي لم يتجاوز عدده المئة، وبين جيش يزيد بن معاوية الذي تجاوز عدده ثلاثمائة ضعف جيش الحسين(ع) حيث قُدِّر بأكثر من ثلاثين ألف مقاتل جمعهم أعوان يزيد من بقاعٍ مختلفة.

وانتهت تلك المعركة عصر اليوم نفسه بالنتيجة التالية:

استشهاد الإمام الحسين(ع) وسبعة عشر رجلاً من أهل بيته وما يقرب من سبعين رجلاً كانوا معه على السراء والضراء، فكان الحر الرياحي أول شهيد في تلك المعركة، والإمام الحسين(ع) آخر شهدائها.

ولم تقتصر الخسارة في الأرواح على الطرف الحسيني فقط، وإنما شملت الطرف الآخر بزيادة ملحوظة في عدد قتلاهم وجرحاهم، فإذا كان قد سقط من معسكر الحسين مئة رجل فقد سقط من معسكر يزيد المئات حيث لم يستشهد بطلٌ من أبطال كربلاء إلا بعد أن يقتل مجموعة من الطرف الآخر ويجرح مجموعة أخرى.

والجدير في الأمر هو أنّ الأنظار توجهت إلى عدد شهداء الطرف الحسيني ولم تعط الإهتمام لعدد قتلى الطرف اليزيدي، مع أنّ إحصاء عدد قتلاهم ينفعنا كثيراً في دراسة شؤون الثورة الحسينية.

فبعد استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه عطاشى في تلك الصحراء هجم القوم الظالمون على خيام النساء والأطفال فأحرقوها وألقوا الرعب في قلب كل طفل وامرأة انتقاماً منهم للحسين وتشفياً من أهل البيت(ع) من دون أي سبب يدعو إلى ذلك، هذا بالإضافة إلى أن العطش لم يقتصر على الرجال فقط وأنما طال النساء والأطفال لأيام، وكذلك لم يكتف القوم بأسرهن وسبيهن وسبّهن بل راحوا يضربونهن ضرباً مبرحاً.

لملم الجيش اليزيدي عتاده ودفن قتلاه وداوى جرحاه، ولا ندري كم من الجرحى ماتوا بعد ذلك بسبب الجراحات، وأتاهم الأمر بسبي بنات الرسول بهدف التشفي والإنتقام، ولم يكن معهن من الرجال سوى واحد عليل لا يقوى على الوقوف بسبب المرض، وهو الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع).

وعلى ذِكر مرض الإمام السجاد تجدر الإشارة إلى مسألة مهمة في هذا المجال.

لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا موضوع الحكمة الإلهية التي تدخلت في بعض شؤون هذه الثورة، فلقد حاول الجيش اليزيدي أكثر من مرة أن يقتلوا الإمام السجاد، ولكن السيدة زينب(ع) كانت تمنعهم في كل مرة وتحول بينهم وبين قتله، وكانوا يتراجعون عن قرارهم مع أن الأمر أتى بإفراغ الساحة من جميع رجال أهل هذا البيت.

وكذلك فإنهم عندما أسروا الإمام(ع) لم يكن لديه القدرة على الجلوس فوق ظهر الناقة فربطوه ببطنها واصطحبوه معهم، ولم يفعلوا هذا حتى مع بعض أهم رجالهم من الجرحى، فكيف صبروا على الإمام؟

الجواب: إن الإرادة الإلهية هي التي حالت بينهم وبين الإمام السجاد لأن الله تعالى أراد له أن يبقى حتى ينجز الجزء الآخر من تلك الثورة الإلهية(الثورة الحسينية) ولا أقول بأن الإرادة الإلهية نظرت إلى كون الإمام زين العابدين هو مصدر باقي الأئمة(ع) لأن الإمام الباقر(ع) في تلك الأثناء كان موجوداً مع أبيه ولكنه كان طفلاً صغيراً، فعلى فرض أن الجيش اليزيدي أقدم على ارتكاب تلك الجريمة وقتل الإمام السجاد فإن الأئمة سوف يستمرون بسبب وجود الإمام الخامس(ع)

وقد شاءت حكمة الله تعالى أن يشفى الإمام السجاد من مرضه بشكل سريع بحيث أن آثار البرء من المرض بدأت تظهر عليه فور خروج القوم من كربلاء لأنه(ع) هو الذي أتى بعد يومين تقريباً ودفن جثث شهداء كربلاء مع بني أسد.

 

نَدْبَةُ الحَوْرَاءِ زَيْنَبَ(ع) لِجَدِّهَا(ص)

 

مهما تكن قدرة الإنسان على التحمّل قوية فلا بد أن ينهار أمام بعض الأحداث المفجعة، ومهما كان واعياً ومدركاً فلا يمنعه ذلك من أن يبدي مشاعره الإنسانية تجاه بعض النكبات والمصائب، ولكن المهم هو أن لا يخرجه حزنه عن صوابه فتزداد بذلك حجم مصيبته.

فعندما نظرت العقيلة زينب(ع) إلى تلك الأجساد الطاهرة مطروحة على ثرى كربلاء صاحت قائلة: يا جداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء هذا حسين مرمّل بالدماء مقطع الأعضاء وبناتك سبايا وإلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء وامحمداه هذا حسين محزوز الرأس من القفا مسلوب العماة والرداء، بأبي من أضحى معسكره يوم الإثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا هو غائب فيرتجى، ولا جريح فيداوى، بأبي من ردت له الشمس حتى صلى.

لقد أبكت بهذه العبارات كل عدو وصديق، وقد سألتها سكينة: من تخاطبين؟ فقالت(ع): أخاطب أباك الحسين، فألقت بنفسها من محملها إلى جسد أبيها واعتنقت جثته، وقد بكى لها الأعداء، فقال ابن سعد: نحّوها عن جسد أبيها، فاجتمع عليها أكثر من رجل فجروها من على جسد أبيها.

ونفس هذه الكلمات المؤثرة التي صدرت من زينب(ع) تحكي لنا الحالة النفسية التي كانت عليها تلك المرأة الجليلة، أم المصائب واللوعات، زينب ابنة علي عليهما السلام.

 

 

مُغَادَرَةُ المَوْكِبِ أَرْضَ كَرْبَلاء

 

في فجر اليوم الحادي عشر من شهر محرم لذلك العام غادر الموكب أرض كربلاء متوجهاً كمرحلة أولى إلى قصر الإمارة في الكوفة حيث الطاغية عبيد الله بن زياد ينتظرهم للإحتفال بهذا النصر الموهوم والمزعوم، وأقول ذلك لأن هذا الإحتفال في الكوفة وبعده الإحتفال في الشام لم يكن سوى بداية لدمارهم وسقوطهم بفضل الله أولاً وفضل أهل الإيمان ثانياً الذين تابعوا الثورة واقتلعوا الطغاة من جذورهم.

فبعد أن أرعبوا النساء والأطفال وأحرقوا الخيام وهتكوا حرمة النساء وعاملوهن بقسوة وغلظة حملوهن على الجمال والنياق سبايا كما كانت تسبى نساء الأتراك والروم.

وقبل مغادرة أرض الطف طلبت النسوة من عمر ابن سعد وأعوانه ان يمروا بهن على مصارع الشهداء حتى يودعن تلك الأجساد الطاهرة التي صنع أصحابها تاريخاً مشرقاً للأمة الإسلامية عبر الزمن.

لقد وافق عمر ابن سعد على طلبهن، ولكن السؤال هنا: هل نبعت الموافقة من الإنسانية أو من أمر آخر؟

إن للموافقة على طلب النساء ثلاثة وجوه:

الوجه الأول:يحتمل أن تكون الموافقة على هذا الطلب بداعي الشفقة عليهن لأن ما صنعوه بهن كان كافياً للتشفي والإنتقام.

الوجه الثاني: ربما كانت الموافقة على طلبهن بهدف زيادة الأذى لهن من خلال النظر إلى الأحباب وهم جثث مقطعة وأشلاء متناثرة.

الوجه الثالث: قد تكون الموافقة على طلبهن ليست من باب الشفقة ولا من باب التشفي، وإنما استسلاماً للأمر الواقع ومراعاة لظروف أعوانهم.

وعندما مروا بهن على مصارع الشهداء أخذت يصحن ويبكين ويضربن على وجوههن حزناً على قتلاهن.

وبدأ السير باتجاه الكوفة حيث رايات النصر الموهوم مرفوعة، والناس مهيؤون للإحتفال بانتصار يزيد على الإسلام، لقد غادر الموكب أرض الطف مخلفاً وراءه ما يقرب من مئة جثة، وهي جثث الحسين وأهل بيته وأصحابه، ولم يكن في ركب الحسين(ع) ما يمكن أن يغنمه القوم سوى بعض السيوف المتواضعة، فلم يكن معهم عتاد ولا مال ولا أمتعة، فضلاً عن أنهم لم يكن لديهم طعام أو شراب، ففي معركة كربلاء لم تكن الغنائم مالاً وأسلحة، وإنما كانت رؤوس الشهداء التي تقاتل أفراد الجيش على اغتنامها لأن في إيصالها إلى ابن زياد ويزيد جوائز قيمة.

 

حَالَةُ أَهْلِ البَيْتِ لَدَى خُرُوْجِهِمْ مِنْ كَرْبَلاء

 

نساءُ ثكلى وأرامل، وبناتٌ يتيمات، وأولاد أيتام، وإمام مربوط ببطن الناقة في ظل الخوف والعطش والحزن والسب والشتم والضرب وغير ذلك من أشكال العنف التي واجهها أهل الموكب الزينبي يأتي الأمر بالخروج فيسير الموكب مودعاً شهداء كربلاء فتنظر زينب(ع) إلى جثة أخيها الإمام الحسين(ع) مطروحة على رمضاء كربلاء محزوزة الرأس من القفا، فهذه تبكي أباها، وتلك تندب أخاها، وهذه تودع أولادها، ورمال مجبولة بالدماء، وأرض احتوت الأشلاء، وصراخ ورعبٌ وضياع لبعض الأولاد وكان عدد الأولاد معهم ما يزيد على الثمانين وليس معهم رجل يحميهم ويراعي شؤونهن، كيف يا تُرى سيكون الحال؟ لا شك بأنه أسوأ مرحلة تمر بها مجموعة من الناس.

وهم على تلك الحال غادر الموكب أرض كربلاء تاركاً فيها الذكريات الأليمة التي لا يمكن أن تُنسى أبداً.

ومهما حاولنا أن نصوّر تلك الحالة فلن نستطيع بيان الواقع إلا إذا تخيّلنا بأننا كنا معهم أو كنا أحد أفراد ذلك الموكب، ولهذا فلننظر إلى الموكب وكأننا معهم وسوف ندرك الحالة النفسية التي كان عليها النساء والأطفال.

وأبلغ تعبير لهذا الوضع مني هو أن أسكت عن بيان تلك الحالة مراعاة مني لمشاعر بعض القراء.

 

إِرْسَالُ الرُّؤُوْسِ إِلَى الأُمَرَاءِ

 

روي بأن رؤوس الأصحاب رضوان الله عليهم قد تقاسمتها القبائل لتتقرب بها إلى يزيد وابن زياد.

فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً، وهوازن باثني عشر رأساً، وقبيلة بني تميم بسبعة عشر رأساً، وبنوا أسد بستة عشر رأساً، ومذحج بسبعة رؤوس، وسائر الناس بثلاثة عشر رأساً.

لقد تكالبت تلك القبائل على تسليم تلك الرؤوس الشريفة ليزيد وابن زياد بهدف التزلّف لهما ونيل الرضا منهما.

لقد أعمت الدنيا بصائرهم، وأنساهم حب الجاه أنفسهم، فراحوا يبيعون ضمائرهم بأزهد الأثمان وأرخص الأسعار، تلك الأسعار التي كان يحددها الحاكم وليس الناس.

 

قُبْحُ التَّمْثِيْلِ بِالجَسَد

 

لقد حرّمت الشريعة الإسلامية التمثيل في جثث الأموات، لأنها تحترم الإنسان حياً وميتاً، وقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: لا تمثّلوا ولو بالكلب العقور.

والتمثيل هو التشويه بالجثة بعد موتها، وقد نهانا الرسول(ص) عن المثلة حتى بالحيوان ليكون النهي في الإنسان بشكل أولى وآكد، حيث ليس من شيم الأخلاق الإسلامية ذلك، ولا يدعو الإسلام إلى أي أمر يخرق الأحاسيس الإنسانية، كالعنف والظلم والإهانة وغير ذلك من صفات النقص في الإنسان.

لقد كان التمثيل بالجثة في العصر الجاهلي أمراً عادياً فإن الدليل الأوضح على كون فلان قد نفذ أمر السلطان المجرم بقتل فلان أو فلان هو قطع الرأس، فلم يكن السلطان ليطمئن إلا إذا رأى رأس المستهدَف أمام عينيه.

إن التمثيل ضرب من ضروب الإجرام، ولو رجع العرب إلى عروبتهم لوجدوا بأن المبادئ التي نشأت عليها العرب تحرّم المثلة لأنها توحي بالجبن، حيث لم يكن من الشجاعة أن تجلس على جسد ميت وتقطع رأسه أو يده أو تستخرج كبده كما فعلت زوجة أبي سفيان بجثة حمزة بن عبد المطلب بعد معركة أحد.

لقد كان من عاداتهم أن يقطعوا رأس الظالم بعد قتله ليدخلوا الفرحة إلى قلوب الناس فيتداولون الرأس من بلد إلى بلد مباهاة بالإنتصار الذي حققوه.

ولكن شريعة يزيد بن معاوية كانت شريعة خاصة يباح فيها القبيح، ويحرّم فيها الواجب ويُستقبَح فيها الحسن.

لقد تعامل العرب المسلمون بعد معركة كربلاء مع رؤوس الحسين وأصحابه كما كانوا يتعاملون مع رؤوس الظالمين في الجاهلية بل بشكل أبشع وأفظع.

لقد بالغ يزيد بالمثلة في تلك الأجساد، فلم يكتفوا بقتلها، وإنما أمروا الفرسان بالمرور عليها وطحن عظامها، ولم يشعر يزيد بالإرتواء بعد، فراح يضرب شفتي الرأس الشريف وهو يتبختر في قوله ومشيه مشيراً بذلك إلى كونه قد حقق أعظم انتصار للإسلام، ولكنه في الحقيقة كان انتصاراً للشيطان من خلال الأهداف اليزيدية، وانتصاراً للإسلام حقاً من خلال الأهداف الحسينية.

كانت الأفراد من أعوانه يتقاتلون على حمل الرمح الذي حُمل في أعلاه رأس الإمام الحسين(ع).

مِن أجل مَنْ فعلتم فعلتكم القبيحة؟

على أي شيء حصلتم بعد أن شاركتم في سفك الدماء الطاهرة؟

ماذا أعطاكم يزيد بن معاوية؟

الجواب: لم يعطهم سوى كلام لا يقدم ولا يؤخر، فلم يعطهم ما وعدهم به من المال والجاه، وإنما قتل الكثير منهم لاعتقاده بأن من يجرؤ على قتل الحسين كان من السهل عليه أن يقتل غيره.

لقد ظنوا بأنهم عندما تناقلوا الرؤوس قد أبلوا بلاءاً حسناً، ولكنهم في الحقيقة قد جلبوا العار لأنفسهم في الحياة والنار لها بعد مفارقة هذه الحياة.

 

الوُصُوْلُ إِلَى الكُوْفَةِ

 

كان أهل الكوفة مهيئين نفسياً لاستقبال السبايا، فمنهم من كان يعرف الحقيقة وهوية السبايا، ومنهم من كان يجهل ذلك إذ لا نريد أن نظلم المظلوم، وهم بالأمس قتلوا سفير الحسين بعد أن بايعه الآلاف منهم فغدروا به وقتلوه شر قتلة.

لقد غادر موكب السبايا صحراء كربلاء وهم على الحالة التي ذكرناها متوجهين بهم نحو المحطة الأولى(الكوفة) من أجل الإحتفال بانتصارهم المزعوم على الحسين وأصحابه، وعندما شارف الموكب الوصول إلى الكوفة خرج الناس من بيوتهم للنظر إلى السبايا والمشاركة بهذا الإحتفال، ولكن كثيراً من لم يكونوا يعرفون هوية السبايا لأن أعوان ابن زياد كانوا قد نشروا بين الناس مقولة أن السبايا هم نساء وأطفال الخارجين عن الإسلام بخروجهم على مبايعة الخليفة يزيد، فلم يكونوا يعلمون بأن تلك النساء هم نساء رسول الله وحريمه.

لقد أثيرت هذه الدعاية قبل البدء بمعركة كربلاء لأن هناك كثيراً من المسلمين الثابتين على العقيدة الصحيحة كانوا على استعداد للجهاد، ولكن الظروف القاسية قد منعتهم من تحريك أي ساكن، وهم يشكلون قلة قليلة من أهل الكوفة الذين كانوا على علم بما يريد الحسين أن يصنعه، وذلك من خلال ما أخبرهم به مسلم ابن عقيل.

ولكن سرعان ما قضي على تلك الدعاية بفضل السيدة الجليلة زينب بنت علي(ع) التي لم تقابل مجموعة من الناس إلى وبادرتهم بالحقيقة المجهولة، فتحولهم بذلك من أعداء إلى أحباب ومناصرين.

وقد اقترب رجل من الموكب وقال للنساء: الحمد لله الذي قتلكم وأراح البلاد منكم: ولكن هذا الرجل المخدوع عندما عرف الحقيقة أخذ يبكي نادماً على ما قال.

فعندما قارب الموكب مدينة الكوفة خرج الناس للنظر إليهم، أقبلت امرأة من الكوفيات وسألت السبايا: من أي الأسارى أنتن؟

فأجابتها النساء: نحن أسارى آل محمد(ص) فأعطتهن ما يسترن به أبدانهن.

وقد غصت شوارع الكوفة وأزقتها بالناس، ويا له من شعور مرير قد اعترى تلك النسوة العظيمات.

قال بشير الأسدي: فجعل الناس ينوحون ويبكون، فقال الإمام علي بن الحسين(ع) أتنوحون وتبكون من أجلنا؟ فمن الذي قتلنا؟

 

خُطْبَةُ السَّيِدَةِ زَيْنَبَ(ع) فِيْ أَهْلِ الكُوْفَة

بعد أن اجتمع آلاف الناس حول موكب السبايا إستغلت السيدة زينب(ع) تلك الجموع وتلك الظروف المؤثرة للكشف عن الحقيقة التي لم يكن بعضهم عالماً بها، فأومأت بيدها إلى الناس أن اسكتوا فسكت الجميع ليسمعوا كلامها، فقالت(ع):

الحمد لله والصلاة على محمد وآله الطاهرين، أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر والمكر، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة أو الزفرة، وإنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف، والصدر الشنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون؟ إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدرة سنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة، ويلكم با أهل الكوفة..أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم، وأي كريمة له أبرزتم، لقد جئتم بها صلعاء عنقاء فقماء خرقاء شوهاء كطلاع الأرض وملئ السماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الله أخزى وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربكم لبالمرصاد”

أيها القارئ الكريم.. إنها عبارات كبيرة وكلمات معبرة ومؤثرة والتي إن دلت على أمر فإنما تدل على مدى الظلم الذي ألحقه أهل الكوفة بأهل البيت(ع).

بهذه الكلمات أحدثت العقيلة زينب(ع) ثورة نفسية بداخل الكوفيين الذين تمنوا لو أن الأرض تنشق وتبتلعهم قبل أن يروا زينب(ع) غاضبة عليهم حيث أوحى لهم هذا الغضب بغضب الله عليهم.

لقد شعر الكوفيون بعد هذه الكلمات بحجم الذنب الذي ارتكبوه في حق نبيهم وآله، واستصغروا أنفسهم التي اتبعت الهوى وتخلت عن الهدى.

ماذا يصنعون وقد جرى ما جرى، ماذا يقولون وجسد الحسين مطروح على أرض كربلاء، ماذا يفعلون وقد غضب الله عليهم.

 

خُطْبَةُ السَّيِدَةِ فَاطِمَةَ الصُّغْرَىْ فِيْ أَهْلِ الكُوْفَة

 

لم يقف الأمر عند كلام السيدة زينب(ع) فقد تتالت الكلمات العلوية كصواعق نزلت على رؤوس أهل الكوفة.

وقد تحدثت النساء من منطلق قوي، فلم يضعفن أمام ابن سعد وأعوانه، ولم تؤثر تلك الظروف على بلاغتهن وفصاحتهن لأنهن ثمرة أهل البيت(ع).

لقد نقل المؤرخون تلك الخطب لكونها من المستندات الأساسية التي يُعتمد عليها في الحكم على بني أمية، فإن السبايا أصدق مورد لمعرفة الحقيقة لأنهن شاهدن بأعينهن وسمعن بآذانهن كا ما جرى أو قيل في كربلاء، وما قالته تلك النسوة فهو الصحيح الذي يجب الأخذ به والإعتماد عليه.

فبعد أن أنهت السيدة زينب ابنة علي عليهما السلام كلامها قامت فاطمة الصغرى فخطبت في الناس خطبة لم تكن بأقل شأناً من خطبة العقيلة(ع) وبعد مقدمة طويلة قالت فاطمة الصغرى:

” أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته، وحجته على الأرض في بلاده لعباده، وأكرمنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمد(ص) على كثير ممن خلق تفضيلاً بيّناً، فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً، كأننا اولاد ترك أو كابُل، كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم، قرّت لذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم افتراءاً على الله، ومكراً مكرتم والله خير الماكرين، فلا تدعُونّكم أنفسكم إلى الجذل فيما أصبتم من دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا، فإنما أصابنا من المصائب الجليلة، والرزء العظيم في كتاب من قبل أن نقرءها، إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما أتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور، تبّاً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حلّ بكم، وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بعذاب ويذيق بعضكم بأس بعض ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين، ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم، وأية نفس نزعت إلى قتالنا، أم بأية رِجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا، والله قست قلوبكم وغلظت أكبادكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتم على سمعكم وبصركم، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون، فتباً لكم يا أهل الكوفة، أي تراث لرسول الله قبلكم، وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه علي بن أبي طالب(ع) جد بنيه وعترته الطيبين الأخيار، وافتخر بذلك مفتخر فقال:

نحن قتلنا علياً وبني علي

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب، افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وطهرهم، وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقع كما أقعا أبوك، فإنما لكل امرء ما كسب وما قدمت يداه، أحسدتمونا ويلاً لكم على ما فضلنا الله تعالى به…الخ ”

أيها القراء الأعزاء.. ما رأيكم بهذه الكلمات الفصيحة والبليغة التي صدرت عن فاطمة الصغرى وهي لا تبلغ من العمر احد عشر عاماً؟

لو تأملنا قليلاً بمنبع هذا الكلام لأدركنا الحقيقة التي نبحث عنها، فلا يكفي العلم لوحده من دون تفكّر وتأمّل.

إن فاطمة الصغرى رضوان الله عليها لم تنبئ بكلامها عن حجم المأساة فقط، وإنما كشفت أسراراً أخرى من أسرار آل محمد، وهي الحكمة التي وضعها الله في تلك الذرية المباركة التي توارثت العلم والحلم والأخلاق الفاضلة والصفات الكريمة.

أيها القراء..أليس من هوان الدنيا أن تسبى مثل تلك البنات العظيمات والنساء الكريمات؟

 

خُطْبَةُ أُمِّ كُلْثُوْم

 

بعد أن أنهت فاطمة الصغرى كلامها وضج له الناس بالبكاء، ولم يستطيعوا الرد على أية واحدة منهن لأنهم علموا بجريمتهم التي ارتكبوها في حق الرسول وآله(ص) قامت إليهم أم كلثوم إبنة أمير المؤمنين(ع) وتابعت البيان والكشف عن الحقائق فقالت:

” يا أهل الكوفة.. سوأة لكم ما لكم خذلتم حسيناً وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه، فتباً لكم وسحقاً، أتدرون أي دواه دهتم، وأي وزر على ظهوركم حملتم، وأي دماء سفكتموها، وأي كريمة أصبتموها، وأي صبية سلبتموها، وأي أموال انتهبتموها، قتلتم خير رجالات بعد النبي، ونُزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إن حزب الله هم المفلحون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

قتلتم أخي ظلماً فويل لأمكم

ستجزون ناراً حرها يتوقد

سفكتم دماءاً حرّم الله سفكها

وحرّمها القرآن ثم محمد

 

كَيْفَ سُمِحَ لِلسَّبَايَا بِالكَلامِ

 

لو حصل السبي قبل افتعال مجزة كربلاء لما أذن أعوان يزيد لواحدة أن تتكلم، ولكنهم سمحوا لهن لأن كلامهن في نظرهم لن يقدم ولن يؤخر، فما أرادوا فعله فقد فعلوه، فلم يعد هناك خوف من إفشال المهمة.

ثم إن الله تعالى قد أعمى أفئدتهم عمّا يمكن أن يحدث بعد كلام النساء، وقد كان للغيب دور في ذلك.

ولم يكن ابن سعد ليظن بأن الكلام سوف يكون بهذا المستوى من البيان والتأثير على قلوب الناس، ولم يكن بإمكانه أن يسكتهن كيلا يقال فيه: لقد خاف من امرأة، وهذا معيب عند العرب.

ولم يكن قادراً على إسكاتهن لأن الناس هم الذين يريدون سماع كلامهن بهدف حب الكلام.

لقد كانت الأهداف في البداية كما ذكرنا، ولكنه بعد أن تكلمت النسوة بلهجة محمدية وبلاغة علوية وحكمة حسنية وجرأة حسينية فقد انقلبت الموازين لصالح أهل البيت.

فلو منع ابن سعد بنات رسول الله من الكلام لحكم الناس لصالحهن مباشرة، وهذا ما أجبره على القبول كما أُجبر يزيد على صعود زيد العابدين(ع) إلى منبره.

السَّبَايَا فِيْ قَصْرِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَاد

 

بعد أن أنهت النسوة كلامها أمر ابن سعد بهنّ إلى قصر ابن زياد لمتابعة مراسم الإحتفال بالنصر العظيم.

وقد كان ابن زياد قد أذن لجميع الناس بالدخول إلى قصره في ذلك اليوم ليشاركوه فرحة الإنتصار فاجتمع جمع كبير من أهل الكوفة في قصره ثم أُدخلت السبايا عليه.

ولم يكن ابن زياد قد حسب حساباً لما قد يطرأ على برنامجه، كان يظن بأن الدفّة لصالحه دائماً لأنه الأقوى، فلم يكن يعلم بأن ركب السبايا هو بداية هزيمته وبوادر قتله واقتلاع حكمه الجائر.

لقد جلس ابن زياد على عرشه متبختراً كعادته، وأمر بأن يأتوه برأس الحسين فيوضع بين يديه، هذا والسبايا ينظرن إلى الرأس الشريف أمامهنّ، فجعل ابن زياد ينظر إلى الرأس الشريف ويتبسم بسمة فرحة وتشفّ، وكان يحمل في يده سوطاً فراح يضرب ثنايا الرأس بسوطه ويقول: إنه كان حسن الثغر: ويقصد بذلك الحسين بن علي(ع) ثم قال مستهزءاً : لقد أسرع الشيب إليك أبا عبد الله، يوم بيوم بدر:

وكان الصاحبي أنس بن مالك موجوداً في قصر ابن زياد، فراح يبكي لحال الحسين ويقول: كان أشبههم برسول الله(ص)

كما وحضر المجلس زيد بن أرقم صاحب رسول الله وهو شيخ كبير، فلما رآه يضرب ثناياه قال: إرفع سوطك عن هاتين الشفتين فوالله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله-ما لا أحصيه كثرة- يقبلهما:

ثم انتحب زيد بن أرقم باكياً، فالتفت إليه ابن زياد وقال له: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله؟

لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، وعندما سمع زيد من ابن زياد هذا الكلام نهض قائلاً: أيها الناس.. أنتم العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمّرتم ابن مرجانة، والله ليقتلنّ خياركم، وليستعبدنّ شراركم، فبعداً لمن رضي بالذل والعار.

ثم قال لعبيد الله بن زياد:لأحدثنّك أغلظ عليك من هذا: رأيت رسول الله(ص) أقعد حسناً على فخذه اليمنى، وحسيناً على فخذه اليسرى، ثو وضع يده على يافوخيهما، ثم قال أللهم إني أستودعك إياهما وصالح المؤمنين.

فكيف كانت وديعة رسول الله عندك يابن زياد؟

ومن كل ما ذُكر هنا أعلق على كلمة من كلام ابن زياد وهي وصف قتل الحسين بالفتح.

هكذا كان ينظر ابن زياد وأميره إلى جرائمهم في حق الإسلام والمسلمين، فلقد قتلوا وظلموا ونشروا الفساد في البلاد واستعبدوا الناس وشربوا الخمر وتعاطوا كل المنكرات باسم الدين والخلافة.

إن الذين يعتبرون قتل ابن بنت رسول الله فتحاً لا شك أنهم لا يعرفون من الحق شيئاً.

لقد فتحوا بهذا الفتح المزعوم أبواب جهنم على حكمهم، وقد كانت أفعالهم القبيحة سبباً في هلاكهم على مستوى الدنيا والآخرة، ولقد كانوا عبرة لمن يعتبر عبر الزمن.

 

الحِوَارُ بَيْنَ زَيْنَبَ(ع) وَابْنِ مَرْجَانَة

 

لم يكن حديث العقيلة زينب(ع) مع ابن زياد بأقل شدة مما كان عليه مع أهل الكوفة إذ أنها لا تهاب سوى الله تبارك وتعالى.

وقد كان لهذا الحوار الذي دار بينهما صدى كبير في الوسط الإسلامي حيث كان كلامها معه إثباتاً لأحقية الحسين ونفياً لخلافة يزيد بن معاوية، وأن ما جرى في كربلاء من قبل الأمويين لم يكن من أجل الإسلام وإنما كان على الإسلام، لأن الذي يمثل الإسلام حقاً وصدقاً إنما هو الحسين بن علي(ع) وليس يزيد كما يزعم هو وأعوانه.

لقد ظن بن زياد بأنه سوف يذل زينب في مجلسه، فكان هو الذليل بفضل حكمتها وجرأتها.

يذكر المؤرخون بأن ابن زياد حاول أن يستفز العقيلة زينب(ع) ببعض الأسئلة، ولكنها كانت أقوى منه وأجرأ وأعلم إذ لا نسبة بالوعي والفهم والحكمة بينهما، فمن الطبيعي أن يكون النصر في ذلك لإبنة أمير المؤمنين، وإليكم نص الحوار:

إبن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم.

زينب: إنما يُفتضح الفاسق، ويُكذّب الفاجر، وهو غيرنا يا عدو الله.

إبن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟

زينب: ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج؟ ثكلتك أمك يومئذ يابن مرجانة.

فعندما سمع ابن زياد أجوبتها انتفض يريد ضربها أو قتلها، فقيل له: إن المرأة لا تؤاخذ بما تقول، ثم تابعا حوارهما:

إبن زياد: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك.

زينب: لعمري لقد قتلت كلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاك فقد اشتفيت.

إبن زياد: هذه سجّاعة، ولعمري لقد كان أبوك شاعراً وسجاعاً.

زينب: يابن زياد، ما للمرأة والسجاعة، إن لي عن السجاعة لشغلاً، ولكن نفث صدري با قلت.

أيها القراء الأعزاء.. لو لم تتكلم السيدة الحوراء زينب ابنة علي(ع) بتلك الجرأة والشجاعة لاستطاع ابن زياد أن يسيطر على الموقف، ولكن حكمة زينب حالت بينه وبين ذلك.

وقد لاحظتم من خلال هذا الحوار كيف حاول ابن زياد بألاعيبه الكلامية وخدعه الشيطانية أن يصور للناس بأن هؤلاء السبايا هنّ من أهل بيت عصاة ومردة، ولكن بعون الله تعالى فقد انقلب السحر على الساحر، وفضح الله نوايا ابن زياد على يد العقيلة زينب(ع).

لقد أسست ابنة علي(ع) بكلامها قواعد عامة ثبتت في نفوس الناس، وهي تقضي بكذب يزيد وأعوانه وأحقية الحسين واصحابه حتى أصبح كلامها ميزاناً يفرقون به بين الخير والشر في كل زمان ومكان.

لقد فشل ابن زياد في ذلك الحوار مع أنه عندما بدأ الكلام فقد كان واثقاً من نفسه وظاناً بأنه الأقوى حيث لم يكن يعلم مستوى زينب(ع)، ولأجل ذلك أوقف الحوار كيلا تتضح الفضيحة أكثر واتهمها بالسجاعة فأفهمته وكل الحاضرين بأن الوضع التي هي عليه لا يسمح لها بالسجاعة، وإنما نبع الكلام من واقعها الأليم، ولأجل ذلك حوّل الحوار بينه وبين زين العابدين فكانت النتيجة عليه وخيمة لأنه رأى من كلام الإمام السجّاد(ع) ما لم يكن يتوقعه.

 

حِوَارُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَاد مَع الإِمَامَ عَلِيٍّ بْنِ الحُسَيْنِ(ع)

بعدما كُتب عليه الفشل في حواره مع زينب أراد أن يحاور زين العابدين(ع) كي يرجح الأمر لصالحه، ولكن ما كان، لم يكن بمستوى ما يهدف إليه لأن حواره مع الإمام السجاد(ع) قد زاد الطين بلة وزاده عاراً فوق العار الذي هو عليه.

إبن زياد: أليس قد قتل الله علياً؟

الإمام: كان لي أخ يقال له علي بن الحسين قتله الناس.

إبن زياد: بل قتله الله.

الإمام: ألله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها.

إبن زياد: أو لك جرأة على رد جوابي؟ ثم أمر ابن زياد بضرب عنق الإمام(ع).

وهنا لعبت السيدة زينب(ع) دوراً مهماً حيث حفظت الإمام السجاد من القتل، وعندما سمعت زينب أمر ابن زياد القاضي بقتل ابن أخيها زين العابدين فتعلقت به، فقالت يابن زياد حسبك ما أبديت من دمائنا إنك لم تبق منا أحداً، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني قبله، فقال زين العابدين لعمته زينب: أسكتي يا عمة حتى أكلمه، ثم أقبل(ع) على ابن زياد وقال له: أبالقتل تهددني يابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة.

ثم أمر ابن زياد بإخراج الإمام السجاد من داخل القصر.

 

 

وَيَنْتَهِي الإِحْتِفَالُ فِيْ الكُوْفَةِ

 

بعد أن جالوا بركب السبايا في شوارع الكوفة وأزقتها، وشفى اليزيديون صدورهم بالإنتقام من رسول الله وأهل بيته(ع) ودار ما دار بين الركب والمحتفلين بهذا الإنتصار، اختتم هذا الإحتفال بهزيمة بن زياد وأعوانه.

لقد شعر ابن زياد بحجم الخطر الذ يتهدد عرشه وحكمه إن أبقى زينب وابن أخيها في الكوفة ساعة أخرى لأنهما سوف يحدثان ثورة كبرى ضد الحكم الأموي الغاشم.

أمام تلك الظروف الخطيرة بعث ابن زياد برسالة إلى أميره يزيد بن معاوية يخبره بقتل الحسين وأصحابه وما فعل بالسبايا، فأمره يزيد بإرسال السبايا إلى الشام ليتم بذلك مراسم الإحتفال بهذا الإنتصار الذي كان بوابة هزيمتهم وهم لا يشعرون.

 

مُغَادَرَةُ الكُوْفَةِ

 

بعد وقت صعبٍ قضاه السبايا في الكوفة أمر أميرها بإرسالهن والإمام زين العابدين إلى الشام ليحتفل يزيد بهزيمتهن وسبيهن، وكما مهّد ابن زياد طريق إذلال السبايا وحرّض الناس عليهنّ ليكون ذلك دعامة لجريمته التي ارتكبها في حق الحسين وأهل بيته وأصحابه، من باب المثل الشعبي الشهير(ضربني وبكى وسبقني واشتكى) فكذلك صنع المسؤول الأول عن تلك الجريمة البشعة يزيد بن معاوية الذي بثّ في الأوساط الشامية دعايات كاذبة تهدف إلى إسقاط الحسين في نظرهم ليكونوا عوناً ليزيد على متابعة طريقه ضد الحق.

لقد بثّ عيونه وجواسيسه لبث تلك الدعايات خوفاً من أن تنقلب الموازين لصالح أهل البيت عندما يرون حالة السبايا.

لقد زرع يزيد في نفوس الناس أفكاراً شيطانية تمس بكرامة أهل البيت وتنفّر القلوب منهم حيث اتهمهم بالظلم وليس كمثله ظالم، واتهمهم بالعصيان والتمرد، وإن الذي يتمرد على الباطل لا يكون متمرداً وإنما مجاهد في سبيل الله تعالى.

لقد تهيأ الناس في الشام للحذر من تلك العصبة التي وصفها يزيد بالمجرمة والمتمردة واستعدوا لرضخهم بالحجارة ومشاركة الخليفة يزيد بمعاقبتهم ليكونوا عبرة لغيرهم ممن يفكر يوماً في مواجهة الحكم المتمثل بيزيد.

ولكن الواقع الذي رآه أهل الشام كان مختلفاً تماماً مع ما صوره يزيد لهم حيث رأوا نساءاً ثكلى وأطفالاً قد أيتمتهم معركة كربلاء، فلم يروا في وجوههم أثراً من آثار الإجرام والعصيان والتمرد كما وصفهم يزيد.

لقد رأوا وجوهاً ملائكية، وسمعوا كلاماً نبوياً، وشاهدوا أخلاقاً رسالية عالية.

لقد شاهدوا أشخاصاً مظلومين، ولم يروا ظالمين كما قيل لهم، ولأجل ذلك انقلبت الموازين لصالح الإمام الحسين(ع).

 

إِرْسَالُ السَّبَايَا إِلَى الشَّامِ

 

لم يكن ما واجهه موكب السبايا في الكوفة كل شيء، وإنما كان ينتظرهم من الأذى المادي والمعنوي ما هو أشد مما رأوه في الكوفة، لأن أهل الشام ليسوا بأرأف بهن من أهل الكوفة.

فإذا كانت الكوفة تحت سيطرة ابن زياد الظالم فإن الشام تحت سيطرة يزيد الأظلم.

فبعدما تشفى ابن زياد بأهل البيت وأمر بأن يُمَرَّ بهنّ في أزقة الكوفة تابع مسلكه القبيح بإرسال كتاب للطاغية الأكبر يزيد بن معاوية يخبره فيه عن قتل الحسين وسبي نسائه، فأمره يزيد بأن يرسل له السبايا ليضيف إلى الأذى الذي ألحق بهم أذى آخر، ويحمل معه رأس الحسين ورؤوس الأصحاب كعلامة على انتصارهم.

فانطلقوا بالموكب نحو مركز الخليفة الظالم وقد استعد أهل الموكب المظلوم أهله إلى مواجهة الأمر بكل حكمة ووعي وتدبر لأن الأمر لا يقف عند حدود السبي أو المرور بهن على أكبر عدد ممكن من الناس، ولكن الأمر هو رسالة تريد زينب الحوراء أن توصلها إلى أكبر عدد ممكن من المسلمين.

انطلق موكب السبايا وفي مقدمته رأس أبي عبد الله(ع) وقد كان كل ما واجهه السبايا من ظلم وضرب وإهانات في كفة، والنظر إلى الرأس الشريف في كفة أخرى، وكأن وضعه أمامهن كان بهدف الإيذاء النفسي.

لقد انطلقوا بهن وقد أجهدهن التعب وأنهكهن السفر فمضوا وقتاً طويلاً في السير من دون راحة لأن أمر يزيد كان مستعجَلاً.

وبعد مسير طويل أشرف الموكب على الوصول للشام.

 

المُرُوْرُ بِمَدِيْنَةِ تَكْرِيْت

 

عندما وصل موكب السبايا إلى مدينة تكريت كتب شمر ابن ذي الجوشن إلى حاكمها أن يخرج مع أهلها لاستقبال سبايا الخوارج ورأس قائدهن، ولما وصل الكتاب إلى حاكم المدينة نشر أعلام الفرح وخرج مع الناس للإحتفال بهذا الإنتصار ضد ما أطلق عليهم(الخوارج)

وعندما وصل الحاكم ورفقاؤه إلى مكان موكب السبايا سأل عن صاحب هذا الرأس الموضوع في المقدمة؟

فقيل له: هو رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، فاستنكروا الحادث وأنزلوا أعلام الفرح التي نشروها، وضربوا نواقيس الحزن ونصبوا أعلام الحزن.

لم يصنع شمر بن ذي الجوشن هذا في تكريت فقط وإنما كان يصنع ذلك في كل بلدة يمر بها ليؤلّب الناس ضد أهل هذا الموكب، ولكن الناس كانوا يتراجعون عندما يعلمون بأن السبايا هم آل محمد(ص) وأن صاحب الرأس المحمول على الرماح هو رأس الحسين بن علي.

وكان كلما استنكِر عليه فعله من قبل أهل البلدات كان يسرع بالخروج كيلا يثور عليه الناس.

وكان إذا قدّم الناس شيئاً من الطعام والثياب للسبايا كان يأخذها ويمنعهم منها.

ويذكر المؤرخون بأنّ سكينة بنت الحسين(ع) كانت كلما رفعت رأسها رأت رأس والدها فوق الرمح فترفع صوتها بالبكاء، هذا بالإضافة إلى تعبها من طريق السفر الطويل، فوجّه لها الحادي إنذاراً وأمرها بأن توقف البكاء، ولكنها لم تتمالك نفسها فرمى بها من على راحلتها في الصحراء ليلاً.

فجعلت سكينة تصرخ وتستغيث فسمعت العقيلة زينب صراخ سكينة فرمت بنفسها من على ظهر الناقة وراحت تبحث في تلك الليلة المعتمة عن ابنة أخيها فوجدتها وأرجعتها إلى الراحلة.

 

مَوْكِبُ السَّبَايَا يَصِلُ إِلى مَدِيْنَةِ المُوْصِل

 

عندما اقترب الموكب من مدينة الموصل فعل شمر ما فعله في تكريت، فكتب إلى حاكم الموصل بأن يتهيّأ لاستقبال موكب الخوارج من أجل الإحتفال بنصر يزيد عليهم، وكان في الموصل رجل يعرف حقيقة الأمر فصاح في أهل الموصل قائلاً: يا قوم..ليس هذا برأس خارجي، وإنما هو رأس ابن بنت نبيّكم، وهؤلاء السبايا بنات رسول الله(ص) فلما سمع أهل الموصل هذا الكلام غضبوا على يزيد وأعوانه وخرجوا لقتال شمر وأخذ الرأس الشريف منه، ولما علم شمر بذلك سار مسرعاً قبل أن يدركوه.

 

الوصول إلى مدينة حلب

 

كان حاكم حلب من الموالين ليزيد بن معاوية، ولذلك عندما وصله كتاب شمر أمر بأعلام الفرح وقرع الطبول، واستقبلهم استقبالاً عظيماً وكرّمهم غاية التكريم، وقضوا في مدينة حلب ثلاثة أيام ثم تابعوا السير نحو الشام.

 

أهل قنسرين يغلقون أبواب مدينتهم

 

ذكر صاحب كتاب(الدمعة الساكبة) أنه عندما بلغ أهل قنسرين كتاب شمر أدركوا بأنها كذبة من أكاذيبه هو وأميره يزيد بن معاوية، فأغلقوا باب مدينتهم ولعنوا يزيد وأعوانه على ارتكابهم تلك الجرائم في حق النبي وآله.

وقد قيل بأن أهل قنسرين خرجوا إلى الموكب ودارت معركة بينهم وبين شمر وأعوانه بهدف حماية السبايا وأخذ الرأس، ولكن شمراً أمر رجاله بالهروب كيلا يخسروا الرأس فيحرمهم يزيد من الجائزة ويعاقبهم على ذلك.

 

في مدينة حمص

 

لم يلق الشمر ترحيباً من أهل مدينة حمص، وإنما لقي منهم اللعن والتوبيخ، وقد أغلقوا باب المدينة في وجهه ومنعوه من الدخول إليها والإحتفال فيها برأس الحسين والسبايا.

 

في مدينة حماه

 

تابع الموكب سيره باتجاه مدينة حماه التي صنع أهلها مع الشمر ما صنعه أهل حمص.

 

راهب حماه

 

لو أردنا أن نحصي الإستنكارات التي صدرت من الرهبان لوجدناها كثيرة جداً لأن الجريمة التي ارتكبها يزيد في حق الحسين لم تكن جريمة في نظر الدين الإسلامي فقط، وإنما كانت جريمة إنسانية يستنكرها كل صاحب ضمير من المسلمين وغيرهم.

فعندما أغلق أهل مدينة حماه باب مدينتهم في وجوه الظالمين وقف الموكب أمام صومعة الراهب، فسمع الراهب أصواتاً وضجيجاً فنظر فإذا به يرى ما رآه كثير من الناس فنزل وسأل عن قائد الموكب فأرشدوه إلى شمر بن ذي الجوشن.

تقدم الراهب من شمر وسأله عن صاحب هذا الرأس فقال له: إنه رأس خارجي خرج على يزيد فقتلناه، فقال الراهب: وما اسم صاحبه؟ فقال شمر: الحسين بن علي، وعندما سمع الراهب ذلك خرّ مغشياً عليه من هول تلك الجريمة التي ارتكبها الناس في حق ابن بنت نبيهم، فلما أفاق الراهب قال للشمر: أعطني هذا الرأس قليلاً، فقال الشمر: لا أعطيك الرأس إلا إذا أعطيتنا الجائزة، وهي عشرة آلاف درهم، فدخل الراهب إلى الصومعة وأحضر المال المطلوب، ثم أخذ الرأس الشريف وهو يبكي ويقول: لعن الله قاتليك وظالميك، ثم نطق هذا الراهب بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم أرجع الرأس إلى شمر بن ذي الجوشن.

 

قبل دخول الموكب إلى الشام

 

كان كلما تقدم الموكب خطوة نحو الشام كلما ازداد الحزن وعظم الأسى عليهم لأنهم سوف يواجهون أكثر مما واجهوه في الكوفة، وكانت كل خطوة باتجاه الشام تبعدهم عن الأجساد الطاهرة التي خلّفوها وراءهم في كربلاء.

قبل الدخول إلى دمشق أقبلت أم كلثوم من شمر بن ذي الجوشن تطلب منه طلباً إنسانياً، ولكنه لم يكن إنساناً حتى يلبي مثل هذا الطلب لأنه كان وحشاً بصورة إنسان.

قالت له أم كلثوم: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في طريق قليل النّظّارة، وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال.

فأمر في جواب سؤالها أن يجعلوا الرؤوس على الرماح، فلم يستجب لطلبها، وإنما راح يصنع كل ما يدخل الأذى على قلوبهن.

وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على انعدام الإنسانية في داخلهم.

وقد اختار الطرق الغاصة بالنظّار وسار بهم بين تلك الجموع بهدف الإهانة والإذلال.

وعندما اقتربوا من دمشق كتب شمر إلى يزيد بن معاوية باقترابه من المدينة فأمر يزيد أهل الشام بأن يظهروا الزينة والفرح والسرور لاستقبال الموكب، وأمر بتجهيز الجيش وخروجهم لاستقبالهم.

 

الوصول إلى الشام

 

بين العراق والشام مسافات شاسعة وطرق طويلة تنشق لها أكباد المسافرين، وبالأخص من كان يحمل منهم الهموم والأحزان، فإن ذلك يجعل الطريق أطول وأشق وأمر، وبعد هذا المسير المتعب الذي كان يحتاج من الوقت شهراً  وصل موكب السبايا إلى الشام في خلال عشرة أيام يتقدمه الرؤوس الشريفة، وفي مقدمتها رأس الإمام الحسين بن علي(ع) وأعوان يزيد يرقصون من شدة الفرح ويتسارعون لحمل الرماح التي وضعت في أعلاها تلك الرؤوس المظلوم أصحابها.

وقد كانت النساء والأطفال في وضع مزري لا يحسدون عليه، حيث كانوا فرجة لمن يرغب بالنظر إليهم، وموضعاً للشتم والضرب لمن سوّلت له نفسه ذلك.

لقد أتى بهم شمر بن ذي الجوشن باب دمشق فأوقفهم أمام المسجد الجامع حيث يقام السبي.

 

حوار بين زين العابدين(ع) والشيخ الشامي

 

جاء شيخ شامي ودنا من نساء الحسين وعياله وقال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد من رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين(يزيد) منكم، فقال له الإمام زين العابدين(ع): يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قال نعم، قال(ع) فهل عرفت هذه الآية(قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قال الشيخ: نعم، قد قرأت ذلك، فقال(ع) فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت في بني إسرائيل(وآت ذا القربى حقه) فقال الشيخ قد قرأت، فقال(ع) فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية(فاعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) قال الشيخ نعم، فقال(ع) فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال(ع) نحن أهل البيت الذين خصنا الله بآية التطهير، فسكت الشيخ نادماً على ما صدر منه تجاه أهل البيت(ع) ثم التفت إلى زين العابدين(ع) وقال: بالله عليك..أنتم هم؟ فقال(ع) إنا لنحن هم من غير شك وحق جدنا رسول الله، فبكى الشيخ ورمى عمامته على الأرض ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: أللهم إنّا نبرأ إليك من عدو آل محمد من جنّ وإنس، ثم قال الشيخ للإمام:هل لي من توبة؟ فقال(ع) نعم إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا: فقال: أنا تائب، فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ مع الإمام السجّاد(ع) فأمر بقتله فقُتل.

 

سهل الشهروزي

 

وهو من الذين شهدوا ظلم يزيد لموكب السبايا في الشام حيث كان حاضراً أثناء دخول الموكب.

يقول هذا الرجل: كنت حاضراً عند دخولهم إلى دمشق، فنظرت إلى السبايا فإذا فيهم طفلة صغيرة على ناقة مهزولة، وهي تقول: وا أبتاه وا حسيناه، ثم نظَرَت إليَّ وقالت لي: أما تستحي من الله وأنت تنظر إلى بنات رسول الله؟ فقلت لها يا بنية والله ما نظرت إليكم نظرة أستوجب بها التوبيخ، فقالت: من أنت؟ قلت أنا سهل الشهروزي قد كنت في زيارة جدك رسول الله، فهل لك من حاجة يا سيدتي؟ فقالت إن كان معك شيء من الدراهم فأعط حامل الرأس وقل له أن يتقدم برأس أبي الحسين أمامنا حتى تشغل الأنظار إليه عنّا فقد خزينا من نظرة الناس إلينا.

كرامة من كرامات الرأس الشريف

 

اجتمع الناس للإحتفال بهذا النصر المزعوم فرحين مستبشرين، فمرّ حامل رأس الحسين أمام نسوة شاميات قد اجتمعن للمشاركة في هذا الإحتفال، وكان من بينهن امرأة عجوز محدوبة الظهر، فحملت بيدها حجراً ورمت به الرأس المبارك، فرأتها أم كلثوم فدعت عليها وقالت: أللهم أهلكها: فوقعت العجوز من على الروشن الذي كانت واقفة عليه وماتت على الفور.

 

موكب السبايا أمام قصر يزيد

 

لقد أُدخل الموكب من باب جيرون ووقفوا بهم على باب قصر يزيد، وكان الإمام زين العابدين(ع) موثقاً بالقيود، والنساء مربطات بالحبال واحدة بالأخرى، وعندما نظر بن معاوية إليهم ابتسم وقال:

نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح

فلقد قضيت من النبي ديوني

ثم دخل شمر إلى القصر وقال ليزيد: إن السبايا والرؤوس واقفون أمام باب القصر: فأمره بأن يدخلهم حتى ينظر إليهم ويشمت بهم.

فخرج الشمر وأخذ الرأس الشريف فغسلّه وطيبه ووضعه في طشت من الذهب وأُدخل الرأس إلى يزيد، وقال حامله:

أنا صاحب الرمح الطويل المهند

أصول به على الأعداء في كل مشهد

طعنت  به  في  بني   محمد

كي أرضي به مولانا يزيد المؤيد

 

فأخذ يزيد الرأس ووضعه بي يديه وقال:

لعبت هاشم  بالملك  فلا       خبر جاء ولا وحي نزل

قد قتلنا القرم من ساداتها       وعدلناه  ببدر   فاعتدل

 

ثم طرد يزيد شمر بن ذي الجوشن من مجلسه ولم يعطه الجائزة، وقد خسر الدنيا والآخرة.

 

 

وبدأت المواجهة

 

بعد احتفال أهل الشام بوصول الرؤوس والسبايا إنتهى الموكب داخل قصر يزيد الذي بدت عليه ملامح الفرح والسرور، ولم يكن ذلك فرحاً بالإنتصار لأنه في قرارة نفسه لم يكن مقتنعاً بكونه منتصراً، وإنما كان ذلك فرحة الإنتقام بدليل مخاطبته للرأس قائلاً: وقد قضيت منك كل دين.

ففي داخل القصر بدأت المواجهة الثانية بين الحق والباطل، وبدأت ثمار الثورة الكربلائية تظهر منذ ذلك الحين، فلقد كانت المواجهة الكلامية بين يزيد وزين العابدين أشد على يزيد من المواجهة العسكرية في كربلاء، حيث لم يكن أثر كلام الإمام بأقل من أثر الدماء التي سفكت ظلماً على أرض الطف.

فقال الإمام زين العابدين(ع) ليزيد بن معاوية: يا يزيد فما ظنك برسول الله لو رآنا ونحن على هذه الحالة وسألك، فما يكون جوابك؟

فأمر يزيد بفك الحبال عنهم، وطلب من السبايا أن يجلسوا على الأرض، ثم راح يتنصّل من دم الإمام الحسين ويقول: ما علمت بقتل الحسين ولا بخروجه من مكة، لعن الله ابن زياد، لو كان بينكم وبينه قرابة ما صنع معكم هذا العمل.

ثم نزع الستار عن الرأس الشريف، ولمّا رأته زينب(ع) بكت ونادت بصوت حزين: واأخاه واحسيناه يل حبيب رسول الله يابن مكة ومنى يابن زمزم والصفا يا أخاه يعز على رسول الله أن يراك على هذه الحالة.

وقد أبكت كل من حضر ذلك المجلس.

ورغم هذه الكلمات المؤثرة التي أبكت الجميع لم يخشع قلبه ولم يتأثر لتلك الحادثة الإنسانية، إذ كيف يتأثر وهو الذي أمر بارتكاب الجريمة، فأخذ عود الخيزران وراح يحرك به شفتي الرأس الشريف بهدف التشفي والتحقير.

 

موقف أبي برزة الأسلمي تجاه ممارسات يزيد

 

لو كان يزيد بن معاوية يدرك عواقب الأمور لما أقدم على قتل الإمام الحسين(ع) ولكن كرهه لآل الرسول قد أعمى بصيرته عن التأمل في عاقبة فعله.

لقد فتح على نفسه أبواب جهنم من خلال محاولته لإذلال السبايا وزين العابدين(ع) لأنه واجه مشاكل كثيرة أطاحت بدولته وحطمت عرشه الذي قام على الظلم.

فبعدما ضرب شفتي الإمام الحسين(ع) بقضيب الخيزران قام رجل من الحاضرين يدعى(أبو برزة الأسلمي) وقال ليزيد: ويلك يا يزيد، تنكث ثنايا الحسين وكان جده يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول لهما: أنتما سيدا شباب أهل الجنة أحب الله من أحبكما وقاتل الله من قتلكما: فغضب يزيد على الأسلمي غضباً شديداً وأمر بضربه وإخراجه من المجلس.

 

موقف لإحدى نساء الشام الصالحات

 

وهي هند بنت عبد الله من بني هاشم.

قال سهل الشهروزي: بينما نحن جالسون عند يزيد وإذا بامرأة تدخل مجلسه وهي ترفل باذيالها فأقبلت ووقفت بين يدي يزيد فقالت له: ما هذا الرأس؟ قال لها: هذا رأس الحسين، فقالت: يعز والله على جده وأبيه وأمه وأهل بيته، والله لقد رأيت الساعة وأنا نائمة كأن أبواب السماء قد فتحت وهبط منها خمسة من الملائكة بأيديهم كلاليب من النار وهم يقولون: أمرنا الله بإحراق هذا الدار ولكن صبرنا حتى يخرج منها آل رسول الله، فقال لها يزيد: ويلك أنت في ملكي ونعمتي وتنطقين بهذا الكلام؟ فقالت: نعم، أتكلم الحق وأنكر الباطل، بجده وأبيه قد هدانا الله وأنقذنا من الضلالة والجهالة، فقال يزيد: والله لأقتلنّك شر قتلة أو تتبرئين منه وتسبيه هو وأباه وأخاه، فقامت وقالت:أيها الناس إن يزيد يأمرني أن أسب علياً وأولاده وهو الساقي على الحوض غداً، ولواء الحمد بيده، وولداه سيدا أهل الجنة، فاسمعوا ما أقول: ألا لعنة الله على يزيد ولعنة اللاعنين على كل ساع في قتل الحسين وأهل بيته، وصلاة الله وسلامه على علي وعلى أولاده وأهل بيته الطاهرين.

وبعد تلك الكلمات العظيمة أمر يزيد بقتلها فقتلها وأخفى أثرها، وقد كان لتلك الحادثة أثر عظيم في نفوس الناس حيث ازدادت بذلك حقيقة يزيد وضوحاً وجلاءاً.

 

زينب(ع) تهز عروش الأمويين

 

كانت نظرة العرب للمرأة مختلفة عمّا أصبحت عليه بعد أن رأوا الدور الذي قامت به النساء الصالحات، ومنهن زينب بنت أمير المؤمنين علي(ع) تلك البطلة المجاهدة التي أنارت التاريخ بمواقفها البطولية ومحطاتها الجهادية حيث لعبت دوراً مهماً في عملية حفظ الدين وأهله بعد استشهاد أخيها الحسين(ع) في كربلاء.

لقد تابعت السيدة زينب مسيرة جدها وأبيها وأمها وأخويها فأتمت ما بدأ به الحسين، وتحملت تلك المسؤولية الكبرى بعده، ولم تكن مسؤولية حفظ النساء والأطفال فقط، وإنما كانت مسؤولية حفظ الدين والأمة.

ولو نظرنا إلى المواقف التي اتخذتها ضد أعداء الدين والإنسانية لأدركنا حجم دورها تجاه هذا الدين العظيم، وأنها العامل الثاني بعد أخيها من عوامل حفظ الإسلام.

ونحن كمؤمنين بها نعتقد بأن يزيد ابن معاوية لو كان على علم بجوهر زينب وجرأتها لما أتى بها إلى قصره وجال بها المدن والبلدات لأنها لم تدخل بلدة إلا وأحدثت فيها ثورة ضد يزيد وحكمه الجائر.

لقد ثارت زينب ضد يزيد وكانت ثورتها إكمالاً لثورة أخيها الحسين(ع) لأنها قامت بمهمة الإكمال هي وزين العابدين بعد أن قام الإمام الحسين بمهمة التنفيذ.

لقد بدأت الثورة الزينبية من قصر يزيد، وذلك بعد أن خطبت هناك خطبة كشفت بها الحقائق وفضحت بها يزيد بن معاوية وأعوانه، فحركت المشاعر الإنسانية والدينية في داخل المسلمين، وحثتهم على التحلي بالجرأة في وجوه الظالمين.

وقد نجحت في تنفيذ المهمة حيث ثار الناس ضد الظالمين واقتلعوا الحكم اليزيدي من جذوره.

لقد دخلت قصر يزيد وهي حزينة ومكبلة بالحبال، وخرجت منه منتصرة بعد أن أحدثت ثورة نفسية في قلوب الجميع.

دخلت القصر وبعض الناس ينظرون إليها من منظار الشفقة، وخرجت وهم ينظرون إليها من منظار الإجلال والإكبار.

 

خطبة السيدة زينب(ع) في قصر يزيد

 

خطبت عقيلة بني هاشم خطبة غيّرت بها مجرى التاريخ، وأصلحت بها ما فسد من أمور الدين، حيث شفت القلوب بالحقيقة، وروت الأنفس بعذوبة كلامها فظن الناس بأن علياً(ع) هو الذي يتكلم، وذلك لقرب منطقها وبلاغتها من منطقه وبلاغته.

ولم تقف(ع) موقف المدافع عن حق شخصي، ولم تهدف بكلامها إلى التشفي، وإنما وقفت موقف المدافع عن الحق والدين، فقالت عليها السلام:

” الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين، وصدق الله سبحانه حيث يقول(ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون) أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء، أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت بعطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطش جملاً، أنسيت قول الله تعالى(ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين) أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والشريف والدني، ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، وكيف ترتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأذكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يُستبطَئ من بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف، والشنآن والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم داعياً بأشياخك، ليت أشياخي ببدر شهدوا، منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة، تنكثها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد(ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، أتهتف بأشياخك.. زعمت أنك تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنك شُللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت، أللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فوالله يا يزيد ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك، ولتردنّ على رسول الله(ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقهم(ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد خصيماً، وبجبريل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً، ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي مطروحة في كربلاء، تنتابها العواسل، وتعفوها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّ وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة”

أبرز ما ورد في هذه الخطبة

 

كل الخطبة عظيمة، وجميع عباراتها جليلة، وكل ما ورد فيها كان يحمل في طياته الخير للمعتبرين بهذا الكلام الذي لا يصدر إلا عن أهل النبوة، وزينب(ع) سليلة بيت الوحي والنبوة.

ولقد كان الأجدر بالمؤرخين أن يخطوا عباراتها بحروف من ذهب، فهي خلاصة الحق والحقيقة، وعصارة جوهر الإسلام، وثمرة من ثمرات القرآن.

كان جديراً أن يخطوها بحروف من نور، ويزينوا بها التاريخ، فقد كانت عبارات معجزة أنبأت عن عظمة أهل البيت حيث صدرت منها في تلك الظروف التي يجمد عندها الفكر، ويكل أمامها اللسان.

لقد أنبأت تلك العبارات عن أشياء عظيمة ينبغي الوقوف عليها من باب لفت النظر إلى أهميتها.

أولاً: لقد لاحظ الجميع تلك الجرأة التي تكلمت بها هذه المرأة المنكوبة، مما يؤكد لهم كونها على حق، فلو لم تكن كذلك لما استطاعت أن تتكلم بتلك الجرأة النادرة.

ثانياً: كان كلامها كلام المستميت في سبيل هدف راق وقضية كبرى، تلك القضية عندها كانت قضية الحق المطلق.

ثالثاً: لم يكن تحقيرها ليزيد استفزازاً، وإنما كان واجباً تؤديه من أجل جلاء الصورة لمن كان ظاناً بكونه على حق، فلقد هزأته وفضحته وذكرت أسلافه بسوء، ولم يستطع أن يفعل معها شيئاً، فقد دل هذا الوضع على كونه ملاماً، إذ لو لم يكن مذنباً لما سكت لكلامها الذي كان بمثابة صاعقة نزلت على رأسه.

فإن قيل بأنه لم يقتلها لكون المرأة لا تقتل بكلامها، فلقد قتل امرأة قبل أن تبدأ السيدة زينب بكلامها، تلك المرأة التي أخبرته بالمنام الذي رأته ثم صلّت على النبي وآله وتبرأت من يزيد وأعوانه فأمر بضرب عنقها.

لم يكن المانع من قتل زينب أنوثتها، وإنما كان المانع هي الحقيقة الواضحة التي لم يكن لأحد أن ينكرها في ذلك المجلس، فلقد سكت يزيد وسكت من كان يحرضه ويوسوس له.

رابعاً: لقد كشفت عن سبب ارتكابه للجرائم البشعة في حق أهل البيت ومن اتبعهم من المؤمنين.

خامساً: أنبأته بالمصير الأسود الذي سوف يواجهه، وقد واجه ذلك المصير السيء.

سادساً: لقد أرعبه تهديدها الواضح فأحدث ذلك في نفسه خوفاً، ولأجل ذلك بدأ بتغيير سياسة العنف ضد آل الرسول من أجل المحافظة على وجوده، غير أن أساليبه لم تنجح، فباءت بالفشل الذريع وقُتل شر قتلة.

سابعاً: لا شك بأنه كان لفصاحتها وبلاغتها أثر في نفوس القوم الذين تذكروا بمنطقها أمير المؤمنين علياً(ع).

 

أحداث ما بعد خطبة العقيلة زينب(ع)

 

لقد أحدث كلام زينب(ع) ثورة في داخل نفوس الناس حيث كشفت لهم الحقائق، وذكّرتهم بالماضي الذي كانوا عليه قبل مبعث جدها(ص) وكيف منّ الله تعالى عليهم بمحمد بن عبد الله الذي أنقذهم من العمى والضلال بعد أن كانوا على شفير الهاوية.

لقد أحدث كلامها زلزالاً في عروش الظالمين حيث أشعرتهم بأن أصحاب الضمائر الحية ما زالوا موجودين، وأن خطرهم على الظلم كبير، وقد وضعت بهذا الكلام حدوداً لتجاوزات الحكام الظلمة حيث جعلتهم يحسبون لأفعالهم وأقوالهم ألف حساب قبل أن يقدموا عليه.

لقد كان كلاماً نافعاً على مستوى الأمة كلها ليس في زمن يزيد فقط، وإنما في كل زمان ومكان.

ونحن بدورنا نستخلص عدة فوائد من تلك الخطبة العظيمة:

الفائدة الأولى: تحريك القوى الإيمانية في داخل المسلمين.

لم يكن أهل الشام ملحدين أو مشركين، وإنما كانوا مسلمين ومؤمنين بالله ورسوله، غير أن الطاغية يزيداً هو الذي زرع الشك والوهم في قلوبهم فأعمى لهم بصائرهم تجاه مسؤولياتهم الدينية تجاه ربهم وأسرهم وأخوانهم في الدين، وبالأخص تجاه أولي الأمر الذين تجب طاعتهم.

لقد ظنّ يزيد بن معاوية بأنه من خلال تلك القوة التي يتمتع بها سوف يسيطر على الأرواح والعقول والنفوس، ولكنه كان مخطئاً في ظنه وتفسيره، وذلك لوجود أشخاص لا ترهبهم الكثرة، ولا ترعبهم القوة، ولا يستطيع أحد من الناس أن يجردهم من مشاعرهم الدينية والإنسانية.

إن هناك فرقاً واضحاً بين أن يسكت الإنسان حفاظاً على نفسه وماله وعياله، وبين أن يتخلى عن مبادئه أمام الخوف والرعب.

إن كثيراً من المسلمين آنذاك لم يتخلوا عن دينهم، ولكنهم لم يعرفوا كيف يتصرفون معه بسبب تلك الضغوط التي كانت تواجههم بين الفينة والفينة من قبل يزيد وأعوانه الذين قام وجودهم على ظلم الناس.

الفائدة الثانية: تهييج المشاعر الإنسانية التي ترفض بطبعها منطق العنف.

ويدلنا على وجود هذه الفائدة وقوف رسول قيصر في وجه يزيد وتوبيخه على تلك الجريمة البشعة التي ارتكبها في حق ابن بنت نبيّه.

فلو حكمنا على فعل يزيد من باب الإنسانية المجردة عن أحكام الأديان لتبين لنا قبح فعله النادر.

الفائدة الثالثة: تحقير يزيد في نفوس الناس.

لقد حطمت السيدة زينب(ع) بكلامها الجريء شخصية يزيد في نفوس الذين كانوا يرونه عظيماً وقوياً، وهذا من أهم العوامل المساعدة على مواجهة العدو.

فلكي تنجح في القضاء على عدوك فلا بد أن تصغره في نفسك، وإلا إذا بقي كبيراً في نظرك فلن تستطيع أن تحرك ساكناً تجاهه.

الفائدة الرابعة: زرع الجرأة في القلوب.

فكما استطاع الإمام الحسين(ع) أن يزرع الجرأة في قلوب الناس من خلال ثورته العسكرية على أرض كربلاء فكذلك استطاعت أخته العقيلة أن تزرع الجرأة في نفوسهم من خلال ثورتها الإنسانية التي بدأت بها في قصر يزيد.

الفائدة الخامسة: صياغة أسس لحياة عزيزة وكريمة.

لقد أوضحت بكلامها العظيم معنى الحياة الكريمة ووضعت للناس نهجاً ينتهجونه في حياتهم من أجل أن يحافظوا على كيانهم أمام ممارسات أي ظالم في الوجود.

رسول قيصر في قصر يزيد

 

لم تكن ممارسات يزيد منافية للشريعة الإسلامية فقط، وإنما كانت منافية للشرائع الإنسانية في كل بقاع الأرض.

لقد صادف وصول السبايا إلى قصر يزيد وجود رسول قيصر النصراني الذي استنكر على يزيد فعله في حق أهل بيت نبيّه وقال له: يا يزيد يوجد في بعض الجزر حافر الحمار الذي كان لعيسى بن مريم(ع) ونحن نقصد ذلك المكان في كل سنة ونقدم له النذور والهدايا، وأنتم تفعلون ذلك بآل نبيكم؟ فأمر يزيد بقتله فانكب رسول قيصر على رأس الحسين(ع) يقبله ثم نطق بالشهادتين قبل أن يقتله يزيد.

أيها القراء الكرام.. انظروا إلى مدى إجرام يزيد وحقده على محمد وآله، فلقد كان يأمر بقتل كل من يدافع عنهم ولو بكلمة، وقد وطّن نفسه على تحمّل عقاب قيصر في سبيل أن ينفذ حقده في آل رسول الله.

 

هند زوجة يزيد ترفض فعل زوجها

 

بعد أن نظرت زوجة يزيد إلى حال زينب والسبايا وسمعت تلك الخطبة الباهرة خرجت إلى مجلس زوجها مهتوكة الحجاب وحافية الأقدام مستنكرة بذلك فعل زوجها مع زينب وباقي السبايا، فغطاها بثوبه وأخرجها من المسجد.

لقد أرادت زوجته أن تقول له من خلال فعلها: كيف ترضى بأن تهتك حرمة بنات رسول الله ولا تقبل ذلك على نفسك.

لقد كان لفعل هند أثر كبير على حكومة يزيد لأنها أقرب المقربين لديه، وعندما نظر الناس إلى ذلك أيقنوا بكون يزيد ظالماً ومفترياً.

 

الإجتماع في المسجد الأموي

 

بعد أن شعر يزيد بحجم الخسارة التي سوف يتكبدها من خلال البقاء في القصر أراد أن يغير المعادلة فأمر الناس بالإجتماع في المسجد علّه يستطيع ستر ما حدث داخل القصر.

فاجتمعوا في المسجد وأمر يزيد بعض الخطباء أن يصعد المنبر ويسب علياً والحسين عليهما السلام، فلما بدأ الخطيب بالسب قام إليه الإمام زين العابدين(ع) فوبخه وأسكته وقال له: ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار.

 

الإمام علي بن الحسين(ع) يطلب الإذن بالكلام

 

لقد استغل الإمام السجاد(ع) وجود تلك الجموع في المسجد من أجل بيان الحقيقة التي أخفاها يزيد عن كثير من الناس فقال(ع)يا يزيد أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه لله رضا ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب؟

امتنع يزيد عن ذلك وقال لبعض زبانيته: إن صعد هذا الشاب تلك الأعواد فإنه لن ينزل إلا بفضيحة وفضيحة آل أبي سفيان فإنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقاً.

فألح الناس على يزيد أن يسمح له بالكلام ليزدادوا سخرية به لظنهم بأنه شاب لا يعرف من الكلام شيئاً.

فأذن له يزيد على مضض فصعد منبر المسجد وبدأ بالكلام.

 

خطبة الإمام زين العابدين(ع)

 

قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)

“أيها الناس..أعطينا ستاً وفُضّلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأنّ منا النبي المختار ومنا الصدّيق ومنا الطيار ومنا أسد الله وأسد رسوله ومنا سيدة النساء ومنا سبطا هذه الأمة ومنا مهديها.

أيها الناس.. من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا بن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء مثنى، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا بن مجمد المصطفى، أنا بن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنيت ووارث النبيين وقامع الملحدين ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وتاج البكائين وزين العابدين وأصبر الصابرين وأفضل القائمين من آل يس رسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرائيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حُرَم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعدائه الناصبين، وأفضل من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله ولي أمر الله، وبستان حكمة الله وعيبة علمه، سمح سخي، بهي بهلول زكي، أبطحي رضي، مقدام همام، صابر صوّام، مهذب قوام، قاطع الأصلاب ومفرق الأحزاب، أربطهم عناناً، وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة واقتربت الأعنة طحن الرحى، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز وكبش العراق، مكي مدني، خيفي عقبي، جري مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، ذاك جدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

أنا ابن عديمات العيوب، أنا ابن نقيات الجيوب، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء.

أنا ابن المذبوح بكربلاء، أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى، أنا ابن من حُرمه من كربلاء إلى الشام تسبى”

ثم تابع الإمام كلامه والناس تضج بالبكاء فأمر يزيد المؤذّن أن يصعد المنبر ويؤذن ولم يكن وقت أذان.

قال المؤذن: الله أكبر: قال(ع) كبّرت كبيراً لا يقاس، ولا شيء أكبر من الله.

فلما قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، قال(ع) شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي وعظمي وجلدي ومخي.

ولما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله، قال(ع) ليزيد: محمد هذا جدي أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت وأثمت، وإن زعمت أنه جدي فلما قتلت ذريته وسبيت نساءه.

ثم نزل(ع) من على المنبر والتف النس حوله.

ولا حاجة إلى بيان عظمة هذه الخطبة وآثارها فإن ذلك واضح ومعلوم.

 

خوف يزيد من وقوع الفتنة

 

لو دققنا فيما اعتبره يزيد فتنة لوجدناه رحمة للناس وكرامة لهم، وليس فتنة كما ادعى يزيد.

نعم.. هو فتنة بالنسبة له، لأن بقاء زين العابدين(ع) والسبايا في الشام سوف يقلب الموازين رأساً على عقب، أي من صالح الأمويين إلى صالح الهاشميين.

فعندما رأى كيف انكب الناس على آل رسول الله، واجتمعوا حول الإمام زين العابدين(ع) يسألونه عن الحقيقة شعر يزيد بحجم المخاطر التي سوف تواجه ملكه وسلطانه فأمر بعودة الموكب إلى الوطن، أي إلى المدينة المنورة.

لقد اتخذ هذا القرار بعد فوات الأوان حيث وقع فيما خشيه، وواجه ما احترز منه حيث لم يكن قراره من الأول حكيماً، فقد أخطأ عندما قتل الحسين وأولاده وأصحابه في كربلاء، وأخطأ عندما أمر بإرسال السبايا إليه، لقد أراد من خلال ذلك أن يذل آل رسول الله(ص) فكانت المذلة له ولأعوانه لأن إرادة آل محمد أقوى من إرادته، والحكمة التي متعهم ربهم بها لم يمتع بها غيرهم.

كان كلما أُخبِر يزيد بتفاصيل مسير السبايا كان يضحك شامتاً ومستهزءاً، وفي المقابل كان الدهر يضحك عليه، حيث خبّأ له هذا العمل ما لا يحب ولا يرغب.

 

قبل مغادرة الشام

 

قبل أن يغادر موكب السبايا مدينة الشام كان قد حدث أحداث كبرى لصالح الأمة الإسلامية، فما بناه يزيد بالظلم والجور عبر سنوات طويلة قد هدمه آل الرسول بساعات من الزمن وكلمات لم تتجاوز مدتها ساعة.

لقد أحدث كلام الإمام السجاد وعمته زينب عليهما سلام الله ثورة في نفوس أهل الشام، وزلزالاً تحت عروش الظالمين، لقد انقلبت الدفة من صالح أهل الظلم والضلال إلى مصلحة الإسلام المتمثل بأهل هذا الموكب الشريف.

قبل مغادرة الشام كان أهلها وكأن على رؤوسهم الطير، منهم مؤنب لنفسه، ومنهم نادم على تقصيره، ومنهم من يفكر في وسيلة لبقاء الحكم القائم لأنه مستفيد منه، ومنهم من يقي متأملاً بكلام زينب وزين العابدين ويخطط لكيفية القضاء على الظلم بعد أن فتح(ع) لهم المجال للمواجهةوحلاّهم بالجرأة.

 

 

كيف كان وضع يزيد عند مغادرة الموكب

 

لم يكن يزيد بن معاوية لدى مغادرة السبايا من الشام في وضع يُحسد عليه، فلقد كان ما حصل له بمثابة صاعقة نزلت على رأسه فمنعته من التفكير، وشلّته من الحركة، وقد كان تغييره لسياسة العنف موضع استهجان لكثير من المسلمين وغيرهم، فإذا كان يزيد القوي قد ضعف أمام تلك الحادثة، كان من الأولى لباقي الناس أن يتعاطفوا مع آل نبيهم، وبالأخص بعد أن قصّروا بواجباتهم تجاه الدين الحنيف وأهله.

وبعبارة أخرى، لم يكن يزيد عند مغادرة الموكب هو يزيد الذي عرفه الناس قبل ذلك، هذا الشخص الذي أرعب الكبار فضلاً عن الصغار أصبح اليوم خائفاً ومتحيراً لا يدري ما يقول ولا يعلم ماذا يصنع.

ولو كان المسلمون يؤمنون بالسحر آنذاك لظنوا بأنه مسحور.

 

الرفق الملغوم

 

لقد تحوّل يزيد من إنسان قاس ومتحجر إلى إنسان يتعامل بالرفق واللين، ولم يكن ذلك ندماً على ما فعل بأهل البيت، وإنما كان ذلك بسبب الرعب الذي دخل إلى قلبه من خلال كلام زينب في قصره، وكلام زين العابدين في المسجد، والتفاف الناس حولهما، وتعاطفهم معهما، وتأييدهم لهما.

إن كل تلك الأمور حالت بين يزيد وقوته التي كانت قبل ذلك مرعبة، لأن ما حدث في مجلسه جعله يحسب لكل حركة ألف حساب.

فقبل خروج الموكب من الشام أمر يزيد بن معاوية بعض رجاله بمرافقة الموكب إلى المدينة، كما وأمرهم بالرفق واللين.

وإذا أردنا أن نحلل هذا السلوك ونقارنه بالسلوك الذي بدا منه قبل وصول الموكب إلى الشام لانكشفت لنا عدة احتمالات وتساؤلات.

لماذا عاملهم معاملة قاسية من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى الشام، وتغيرت السياسة لديه عند إرجاعهم إلى المدينة؟

لماذا بعث معهم الأدلاء والحماة ليرافقوهم حتى المدينة؟ هل من أجل الحفاظ عليهم؟ فلو كانت النية هكذا فلماذا أمر بقتلهم من الأساس.

نحن نستنتج من خلال هذا السلوك ومقارنته بالماضي أن الأدلاء الذين أمرهم بمرافقة السبايا لم يكونوا مجرد أدلاء وحماة، وإنما كانوا جواسيس يراقبون تحركات الموكب وينظرون ماذا سيكون من أمر الناس معهم في كل بلدة ومنطقة.

 

إسترداد الرؤوس

 

قبل انطلاق الموكب طلب الإمام زين العابدين(ع) من يزيد رأس الحسين(ع) ورؤوس الأصحاب فلم يتردد في إجابته لهذا الطلب فدفع إليه الرؤوس بالإضافة إلى تزويد الموكب بكل ما يلزمه أثناء السفر.

وانطلق الموكب متجهاً نحو مدينة رسول الله(ص) من أجل متابعة المسيرة وإكمال ما بدأ به الحسين(ع) في كربلاء.

لقد خرج السبايا من الشام بشكل مختلف عما كانوا عليه أثناء الدخول إليها، فقد خرجوا منتصرين أعزاء قد حققوا للأمة أعظم انتصار في تاريخها.

 

العروج إلى كربلاء

 

في طريق العودة من الشام إلى المدينة طلب الإمام زين العابدين(ع) من الأدلاء أن يعرّجوا بهم نحو كربلاء، إذ لا يعقل أن يرجعوا إلى مدينة جدهم من دون أن يزوروا ذلك المكان الذي حدثت فيه الفاجعة الكبرى والمصيبة العظمى.

لقد كان من الضروري أن يزوروا كربلاء ليعبروا عن مشاعرهم الإنسانية بحرية بعد أن منعه جيش يزيد من الإقتراب نحو الجثث الطواهر عصر يوم المجزرة.

فتوجه الموكب نحو هذا المكان الذي اقترن بالدمعة والحزن والأسى منذ اليوم الذي استشهد فيه أبو عبد الله الحسين(ع).

 

 

 

 

 

الوصول إلى أرض كربلاء

 

قلنا في الجزء السابق إن السبايا وزين العابدين(ع) كانوا كلما ابتعدوا عن كربلاء باتجاه الشام خطوة كلما ازداد حزنهم بسبب بعدهم عن الأجساد الطاهرة، ونفس هذه المعادلة تجري أثناء عودتهم إلى أرض الكرب والمصائب فلقد كانت قلوبهم تقطر حزناً كلما دنوا من ذلك المكان الذي يذكرهم بالأهل والأحبة والحماة الذين قُطّعت أجسادهم فيه.

ولكي نستطيع تقريب المعنى إلى الأذهان فلنتصور بأننا نحن هم، فكيف سيكون شعورنا عند الإقتراب من المكان الذي فقدنا فيه أهلنا وأحبتنا.

إن وصف هذه الحالة لا يمكن أن يتم إلا من خلال التصور لأن كل الأقلام لا تستطيع كتابة تلك المشاعر النابعة من الحزن على أفراد مثلّوا الأمة كلها، ودفعوا أرواحهم ثمناً لبقائها قوية وعزيزة ومستمرة.

لقد كان السير نحو كربلاء سريعاً من أجل لقاء الأحبة وضم الرؤوس المباركة إلى أبدانهم الشريفة.

وبعد مسير طويل قطعوا به الصحاري والأودية والجبال والمدن والبلدان أشرفوا على ذلك الموقع وقد تجدد الحزن وكأنهم فقدوا الأحبة لتوهم.

لقد كان اللقاء مؤثراً حيث تعانقت هناك أرواح الأحياء بأرواح الشهداء إذ يستحيل عليهم أن يعانقوا الجسد الذي غيّبه التراب.

 

 

جابر بن عبد الله

 

وصل ركب السبايا إلى مدينة كربلاء في أواسط شهر صفر، فوجدوا في مكان المصرع الصحابي الجليل(جابر بن عبد الله الأنصاري) ومعه جماعة من بني هاشم قدموا لزيارة قبر الإمام الحسين(ع) وقبور أهل بيته وأصحابه، وقد كان جابر أول زائر لقبر الحسين بعد استشهاده.

لقد التقى الطرفان وهم يبكون وينتحبون حزناً على أبي عبد الله(ع) وأقاموا المأتم الأول من مآتم كربلاء، وقد اجتمع في ذلك المكان أهل ذلك السواد الذين شاركوا زين العابدين وبنات رسول الله(ص) مصابهم الأليم، وقد بقوا في كربلاء ثلاثة أيام كانت من أكثر الأيام ألماً وحزناً وبكاءاً.

 

من هو جابر الأنصاري

 

هو أحد أكبر الصحابة الذين لازموا رسول الله(ص) وكانوا عوناً له في جميع مراحل حياته الرسالية.

وهو من المملوئين فهماً وعلماً ومخافة من الله تعالى وحباً للرسول وآله الأطهار(ع).

 

 

ماذا صنع جابر ابن عبد الله الأنصاري في كربلاء

 

عندما وصل جابر إلى كربلاء أتى شاطئ الفرات واغتسل ثم ائتزر بإزار وارتدى بآخر، ثم توجه نحو القبر الشريف وهو يذكر الله تعالى بكل خطوة، وهو يريد بذلك أن يشير إلى عظمة ساكنه حيث كان يسمع رسول الله(ص) مراراً يدعو إلى نصرة الحسين لأنه باب السعادة ومصباح الهدى.

ولمّا وصل إلى القبر الشريف خرّ مغشياً عليه من شدة الحزن على أبي عبد الله الحسين(ع) فقدم إليه أحد الأصحاب ورشّ عليه الماء حتى أفاق من تلك الغيبوبة القصيرة، وعندما رجعت نفسه صاح قائلاً يا حسين، يا حسين، يا حسين، حبيب لا يجيب حبيبه، ثم قال: وأنّى لك بالجواب وقد شُخبت أوداجك على أثباجك، وفُرِّق بين بدنك ورأسك، أشهد أنك ابن خير النبيين، وابن سيد المؤمنين، وابن حليف التقوى وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء، وما لك لا تكون هكذا وقد غذتك كف سيد المرسلين، ورُبيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفطمت في الإسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك، ولا شاكة في حياتك، فعليك سلام الله ورضوانه وتحياته.

ثم أقبل جابر على قبور الأصحاب الكرام وقال: السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين، وأناخت برحله، أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين.

ثم قال: والذي بعث محمداً بالحق قد شاركناكم فيما دخلتم فيه، فقال له عطية العوفي: فكيف ذلك يا جابر ولم نهبط مع القوم وادياً ولم نعل جبلاً ولم نضرب بسيف ولم نطعن برمح والقوم قد فُرّق بين أبدانهم ورؤوسهم، وأؤتمت الأولاد وأرملت الأزواج؟ فقال جابر: يا عطية.. سمعت حبيبي رسول الله(ص) يقول: من أحب قوماً حشره الله معهم:

وبينما هم كذلك وإذا بسواد قد طلع عليهم من جهة الشام، فقال جابر لعطية: إنطلق إلى هذا السواد وآتنا بخبره، فإن كان ابن سعد وأصحابه فارجع إلينا حتى نتحول عن القبر ونلجأ إلى ملجأ يمنعنا من الأعداء، وإن كان زين العابدين فأنت حر لوجه الله تعالى، فانطلق عطية نحو ذلك السواد ثم رجع بعد قليل وهو يقول: يا جابر قم واستقبل حرم رسول الله، هذا زين العابدين قد جاء بعماته وأخواته.

ثم انطلق جابر مسرعاً لاستقبال الموكب المبارك، ولما رآه الإمام زين العابدين(ع) قال له: أنت جابر؟ قال نعم يابن رسول الله.

 

كلام يدمي الفؤاد

 

عندما التقى الإمام زين العابدين(ع) بجابر بن عبد الله وجد من يشكو إليه خزنه من الناس، وقد حملت شكواه بياناً لما حدث مع الحسين وأهل بيته وأصحابه في هذا المكان، فقال(ع) هاهنا والله قتلت رجالنا، وذبحت أطفالنا، وسبيت نساؤنا، وحرقت خيامنا.

 

 

زينب تنظر إلى القبر الشريف لأول مرة

 

مهما حاول الخطيب أو المحاضر أو الكاتب أن يصوروا الحالة التى اعترت زينب(ع) عندما وقفت أمام قبر أخيها الحسين.

لقد كان حالها حاكياً عن حجم حزنها، وكان الناس يبكون لبكائها ويحزنون لحالها.

وأنا الآن أخاطب كل من فقد حبيباً لأقول له إن شعور زينب تجاه فقيدها الأكبر لم يكن بأقل من حزنك على ولدك أو والدك أو أحد ممن تحب، وإنما كان حزنها أكبر من حزنك لأن الظروف التي فقدت فيها أحبتها زادتها حزناً فوق حزنها.

وإن أعظم ما أصف به حالة زينب(ع) في هذا المقام هو قولي: إنني لا أستطيع بيان حالها وحزنها وألمها عبر الكلمات.

 

الخروج الثاني من كربلاء

 

بعد مكوث في كربلاء استغرق ثلاثة أيام قرر الإمام زين العابدين(ع) الرجوع إلى المدينة المنورة من أجل متابعة المسيرة في الطريق التي خطها الإمام الحسين(ع) بدمه الشريف.

لقد كان خروجهم من كربلاء هذه المرة مشابهاً لخروجهم منها إلى الكوفة، ولكن هناك فارقاً صغيراً بينهما، فلقد خرجوا أول مرة والجثث الطواهر مطروحة على وجه الأرض، أما خروجهم الثاني فقد حصل وتلك الجثث تحت التراب.

لقد خرجت من كربلاء أجسامهم، ولكن قلوبهم ومشاعرهم بقيت مستقرة بجنب القبر الشريف.

 

العودة إلى الوطن

 

بعد حوالي تسعة أشهر من مغادرة المدينة المنورة رجع الموكب إليها بصورة مختلفة عن الصورة التي خرجوا بها من وطنهم.

لقد كان خروجهم من الوطن مأساوياً، ولكن العودة إليه كانت أكثر مأساة من الخروج، فقد خرجوا من الديار بفقة الرجال والحماة، وعادوا إليها من دونهم.

لقد تغيرت أمور كثيرة في أشهر الغياب، فقد خرجوا من المدينة والناس عليهم، ورجعوا إليها والناس معهم بفضل ما قام به الإمام الحسين(ع).

قال بشر بن جذلم: لما انفصل زين العابدين عن كربلاء وتوجه نحو المدينة حتى أشرفوا عليها، وقبل أن يدخل زين العابدين المدينة أمر بحط رحاله وضرب خيامه، وأنزل أخواته وعماته خارج المدينة ثم قال يا بشر: رحم الله أبك إنه كان شاعراً، فهل أنت تقدر على شيء من الشعر؟ فقال بشر: يابن رسول الله إني لشاعر: فقال(ع):تقدم وادخل المدينة وانع أبا عبد الله ببيتين من الشعر، فركب بشر فرسه ودخل المدينة، وعندما وصل إلى مسجد رسول الله(ص) رفع صوته بالبكاء وأنشأ هذه الأبيات:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها    قُتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج     والرأس منه على القناة يدار

يا أهل يثرب يا لها من محنة    ومصيبة تروى بها الأخبار

ثم قال لأهل المدينة: يا أهل المدينة هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه.

فما بقي في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا وخرجت تلطم الخد وتشق الجيب حتى أشبه ذلك اليوم ببكائهم يوم وفاة رسول الله(ص)

ثم قالت له إحداهن: أيها الناعي جدّدت حزننا بأبي عبد الله، وخدشت منا جروحاً لمّا تندمل، فمن أنت؟ قال: أنا بشر بن جذلم، وجهني مولاي علي بن الحسين إليكم وهو نازل خارج المدينة ومعه أهل بيته:

فتركوه وأسرعوا في المشي، فركب فرسه وعاد إلى الإمام يخبره بما حدث، وبعد قليل وصلت وفود أهل المدينة من أجل أن يعزوا بالإمام الحسين وهم يبكون وينحبون، فأومأ إليهم الإمام بالسكوت فسكتوا ثم خطب فيهم خطبة جاء فيها:

” الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعد فلا يُرى، وارتفع في السموات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وآلم الفظائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاجعة الفادحة الجائحة، أيها الناس..إن الله وله الحمد قد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين وعترته، وسبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها في الإسلام، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله، أم أي فؤاد لا يحزن من أجله…فقد بكت السبع الشداد لأجله، وبكت البحار بأمواجها، والسموات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقربون، وأهل السموات أجمعون، أيها الناس..أي قلب لا ينصدع لقتله، أم أي فؤاد لا يحن إليه، أم أي سمع يسمع هذه الثلمة ولا يصم، أيها الناس..إنّا أهل بيت رسول الله أصبحنا مطرودين مشردين شاسعين عن الأبصار، كأننا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة ثلمناها في الإسلام، ما سمعنا بهذا في الملة الأولى…لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوه بنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأمرها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ منا، فإنه عزيز ذو انتقام، هذا ابن رسول الله يبقى طريحاً على الرمضاء ثلاثة أيام تصهره الشمس، لا يدفن ولا يوارى في التراب…وأهله سبايا من بلد إلى بلد ينظر إليهن البر والفاجر”

 

بنوا أسد في أرض كربلاء

 

يذكر الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب(أسرار الشهادة) أنه عندما غادر جيش يزيد أرض كربلاء بقيت الجثث الطاهرة ملقاة ثلاثة أيام، مرّ في كربلاء جماعة من بني أسد ولم يكونوا على علم بما حدث في تلك المنطقة.

وصلوا إلى كربلاء ونصبوا خيامهم وأرسلوا نساءهم إلى الفرات ليملأن قرب الماء.

فعندما اقتربت النسوة من الماء رأين جثثاً كثيرة، فرجعن إلى رجالهن وأخبرنهم بالأمر، فأتى الرجال للتعرف على تلك الجثث ودفنها، فلم يستطيعوا فعل شيء أمامها.

لقد كان في عجزهم عن دفن الجثث حكمة من الله سبحانه وتعالى، وبينما هم على تلك الحالة من الحيرة في أمر الجثث إذا بإعرابي يأتي على فرس وينزل بتلك الدار.

 

الإمام زين العابدين يدفن الجثث المباركة

 

لقد واكبت المشيئة الإلهية موكب الحق لحظة بلحظة وخطوة بخطوة كيلا تسير الأمور بشكل غير صحيح.

فليس من الحكمة أن تضيع آثار تلك الجثث التي أصبحت قبورها مقصداً للمؤمنين من كل بقاع الأرض.

لقد نزل الإمام السجاد(ع) من على فرسه وأمر بني أسد بحفر قبور كثيرة لدفن تلك الجثث كلها فأعانوه على ذلك وترك جثة الإمام الحسين(ع) إلى الأخير.

وكان بنوا أسد قبل مجيء الإمام السجاد قد عجزوا عن تحريك جسد الإمام الحسين(ع) فأيقنوا أن في الأمر سراً وحكمة، وقد عرفوا هذا السر بعد قدوم الإمام(ع) الذي أخبرهم عن تلك المجزرة ودلهم على أصحاب تلك الأجساد حيث لم يكن لبني أسد ولا لغيرهم أن يميزوا بين جثة وأخرى لأنها كانت أجساداً بلا رؤوس.

 

 

 

 

جثث تفوح منها روائح المسك

 

ماذا نقول في أجساد مقطعة بقيت مطروحة على وجه الثرى ثلاثة أيام تحت أشعة الشمس المحرقة، كيف يمكن أن تكون رائحة تلك الجثث التي لو كانت لغير الحسين وأصحابه لأصبحت جيفة يحظر الإقتراب منها.

إن بني أسد قد جالوا على جميع تلك الجثث ولم يشموا منها سوى الروائح الطيبة وكأن أحداً قد عطّرها بالمسك والعنبر، وتلك كرامة من الله سبحانه وتعالى.

 

دفن جسد الإمام الحسين(ع)

 

بعد أن أنهى الإمام زين العابدين(ع) دفن أجساد الشهداء من أهل البيت والأصحاب أتى إلى جسد أبيه الحسين(ع) فجاء إليه بنوا أسد ليساعدوه في دفنه فمنعهم من ذلك وقال لهم: إن معي من يعينني: أي معي الله ورسوله، فوضع(ع) يده تحت ظهره الشريف وقال: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، هذا ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله: ثم قال: طوبى لأرض فيها دفنت يا أبا عبد الله،أودعتك الله من شهيد قتيل محتسب، أما الدنيا بعدك فمظلمة، وأما الآخرة بنورك مشرقة، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، حتى يختار الله لي دارك التي أنت فيها، ثم ألحد الجسد الشريف وأهال عليه التراب، ثم كتب على القبر: هذا قبر الحسين المظلوم.

 

التمييز بين أصحاب الجثث

 

لم يكن لأحد من الناس القدرة على التمييز بين جسد وآخر حيث كانت عبارة عن أشلاء متناثرة فاقدة للرؤوس.

ولكن العلم الذي أودعه الله تعالى في صدور أهل البيت كانوا يقدرون به على معرفة ما لا يعرفه الناس.

فلو دفنت الجثث على يد غير زين العابدين(ع) لضاعت آثارها وأخبارها، ولكنه(ع) كتب اسم كل شهيد على قبره كما هو عليه الحال في هذا اليوم.

ولعله(ع) دفن كل جثة في مكان استشهاد صاحبها.

وهذا هو سبب التباعد بين قبر وقبر.

 

كرامة من كرامات أهل البيت(ع)

 

لقد استغرق مسير موكب الإمام السجاد والسبايا إلى الشام من اثنين وعشرين يوماً، ولقد كان الإمام زين العابدين من جملة ركاب هذا الموكب، وقد دفن الجثث بعد يومين من مغادرته لكربلاء، فكيف حدث ذلك وما هو السر في هذا الأمر؟

فلو كان ذهابه وإيابه بالطائرة لما استطاع العودة إل كربلاء في أقل من يومين.

لا يوجد لهذا الأمر تفسير سوى الكرامة التي أجراها الله تعالى على يد الإمام زين العابدين من أجل أن يتم أمره في شأن الإمام الحسين(ع).

ولا يمكن لأحد أن ينكر كون الإمام السجاد هو الذي دفن الجثث في كربلاء.

ولا نستغرب حدوث كرامة لأشخاص أودع الله فيهم أسراره وعله وحكمته.

أما سؤالنا، كيف حصل ذلك وما هي الطرق التي استعملها الإمام في تركه للموكب دون أن يشعر به أحد، وفي وصوله إلى كربلاء في ذلك الوقت القصير، مع أنه كان مريضاً ومقعداً من شدة المرض.

ولكي تستريح نفوسنا وتطمئن قلوبنا تجاه هذا الحدث لزمنا العمل بمقتضى القاعدة القائلة: أسكتوا عمّا سكت الله عنه:

 

جراحات الإمام الحسين(ع)

 

إنّ جسد الإمام الحسين يحكي لنا مدى الظلم إذ لم يسلم من جسده الشريف أي موضع بل كانت الضربة تقع على الضربة والطعنة تنزل على الطعنة ..هذا أثناء المعركة وقبل الإستشهاد أما ما حصل بعد استشهاده فلم يكن أقل ظلماً وفتكاً من فتكهم به قبل ذبحه وقطعِ رأسه الشريف، فالذي يواجه آلافاً مؤلَّفة من الفرسان لا شك بأن الجراحات التي سوف تصيبه سوف تُعدُّ بالمئات، وهذا ما كان من شأن إمامنا المظلوم(ع) الذي عدت جراحاته بالمئات، ولذا ينقل صاحب كتاب المناقب حديثاً عن الإمام الباقر(ع) يقول فيه:أصيب الحسين ووُجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرون طعنةً برمح أو ضربة بسيف أو رميةً بسهم: وفي رواية أخرى عن الصادق(ع) وُجد بالحسين(ع) ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة: طبعاً لم يُذكَر في هذا الحديث عدد الرميات والرشقات بالنبال والحجارة وغير ذلك لأن الثابت هو أن عدد الجراحات التي تحمّلها جسد الحسين كانت أكثر من ذلك، ولذا يقول المسعودي في مروج الذهب وابن الأثير في الكامل: إن في جسده أثر ثلاث وثلاثين طعنة وأربع وثلاثين ضربة غير أثر السهام، وهذا الكلام يوافق ما ورد في الحديث عن الصادق(ع) وقد ورد في كتاب روضة الواعظين أن جميع تلك الضربات والطعنات كانت موجودة في مقدمة جسد الحسين الذي لم يعط ظهره للأعداء قط.

هذا كله غير أثر حوافر الخيول التي وطئت جسده الشريف وطحنت عظامه، حيث أمر بن سعد عشرة من جنوده بأن يدوسوا جسد الحسين بخيولهم ففعلوا ذلك.

 

الذين داسوا عظام صدر الإمام بحوافر خيولهم

 

لقد أحصى المؤرخون أسماء الذين داسوا جسد الحسين وقد حُقِّق في تواريخهم فتبيّن بأن الجميع أبناء عاهرات فاجرات زانيات، وهؤلاء العشرة الذين داسوا جسد الحسين بحوافر الخيول هم: إسحاق بن حَيوَة الحضرمي الذي سلب قميص الحسين، وأحبش بن مُرثِد الذي سلب عمامة الحسين، والحكيم بن الطفيل الذي قتل أبا الفضل العباس، وعمرو بن صبيح الصيداوي، ورجاء بن المنقذ العبدي، وسالم بن خيثمة، وصالح بن وهب، وواخط بن ناعم، هانئ بن شبيب، وأُسيد بن مالك.

وبعد أن نفّذ هؤلاء المجرمون جريمتهم النكراء ذهبوا إلى ابن زياد فقال أسيد بن مالك: نحن رضضنا الصدر بعد الظهرِ بكل يَعبوبٍ شديد الأسر، فقال ابن زياد من أنتم؟ فقالوا نحن الذين وطأنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنا جناجر صدره وجناجن ظهره فأمر لهم بجائزة صغيرة، ويظهر من كلامهم أنهم لم يعبروا بخيولهم على جسد الحسين مرة واحدة بل أكثر من مرة لأنهم وطأوه مرة وهو على ظهره ومرة وهو على صدره، وهؤلاء العشرة الذين حصلوا على جائزة الأمير كان لهم جائزة أخرى يستحقونها وهي أن المختار أحضرهم جميعاً فقيّد أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد وأوطأ الخيل على ظهورهم حتى هلكوا، ويظهر لنا من بعض الروايات أن معاقبتهم لم تتم مرة واحدة بل كان يعاقب واحداً تلو الآخر.

ويذكر التاريخ بأن بعض الأغنياء اشتروا بعض نعال الخيول بأثمان غالية وعلّقوها على أبواب دورهم افتخاراً منهم بقتل الحسين وتقرباً منهم إلى يزيد، وربما علّق بعضهم حوافر الخيول وهو لا يعرف السبب كما في مصر والعراق، وبعضهم حتى الآن يعلق نعالاً على باب داره شماتة منه بالحسين وحباً ليزيد الحاقد، وأنا أقول إن الذين يصنعون ذلك هم ألعن من يزيد لأن يزيد فعل بالحسين ما فعل من أجل أن يحافظ على مركزه، أما هؤلاء الذين يعلقون النعال على أبواب دورهم شماتة هم أخبث من يزيد.

 

 

 

 

أحداث الرأس الشريف

في يوم عاشوراء وعلى يد اللعين المجرم شمر بن ذي الجوشن قُطع الرأس الشريف باثنتي عشرة ضربة بسيفه الحاد الممزوج بالخبث والإجرام والحقد فقد قطع رأس إمامنا بعد تلك الجراحات الكثيرة وبعد الألم والعطش والحزن والتعب وعلت الأصوات مبتهجةً بقتل الخير والبركة والإنسانية المتمثلة بالإمام أبي عبد الله(ع) فلقد قُطع الرأس الشريف وتكالب الطامعون على أخذه فلم يسمح لهم عمر بن سعد لأن ثمن هذا الرأس عنده رفيع للغاية فثمنه كما ظنَّ ملك الري الذي لم يهنأ به بعد أن نفّذ لأمرائه تلك الجريمة في حق الحسين، وعلى كل حال فقد أمر عمر بن سعد خولى بن يزيد الأصبحي وحُميد بن مسلم الأزدي بأن يأخذا الرأس الشريف ويسلّماه للأمير عبيد الله بن زياد،  فحمل خولى بن يزيد الأصبحي الرأس الشريف على الفور وسار نحو الكوفة ليبشر ابن زياد بمقتل الحسين ويأخذ الجائزة التي وعدهم بها فسار مسرعاً حتى وصل إلى الكوفة ودخل على ابن زياد وهو يقول له: إملأ ركابي فضة وذهباً إني قتلت الملك المحجبا وفي بعض الروايات إني قتلت السيد المحجبا قتلت خير الناس أماً وأبا وخيرَهم إن يُنسبون النسبا، فقال له ابن زياد ويحك، إذا علمتَ أنه خير الناس أماً وأباً فلم قتلتَه إذاً؟ وعندها أمر ابن زياد بقتل خولى فقُتل، وفي بيان هوية الشخص الذي حمل الرأس الشريف إلى ابن زياد اختلاف بين المؤرخين فمنهم من قال بأنه سنان بن أنس الذي قتله المختار عقاباً لمشاركته في هدر الدماء الزكية، ومنهم من قال بأن حامل الرأس كان بشر بن مالك، وأياً تكن هويته فإن الثابت في التاريخ أن هذا الأمر قد حدث وأن ابن زياد لم يعط حامل الرأس الجائزة بل قتله خوفاً منه لأن الذي يتجرأ على قتل الإمام الحسين لا يتورع عن قتل يزيد وابن زياد.

ولكن المشهور هو أن الذي حمله إلى ابن زياد هو خولى بن يزيد الأصبحي وليس سنان بن أنس الذي قُتل على يد المختار، وقيل بأن خولى وصل إلى الكوفة في الليل فلم يُرد أن يزعج الأمير فأخذ الرأس الشريف ووضعه في منزله فعلمت زوجته بذلك فوبخته أشد توبيخ وأقسمت أن لا يجمعها وإياه سقف واحد أو ستر واحد لإقدامه على تلك الجريمة في حق الرسول(ص).

ويحدّث جمع كبير من المؤرخين بأن عمر بن سعد قد أرسل مع رأس الإمام رؤوس أصحابه الذين قضوا نحبهم في تلك المعركة، ويقول صاحب التذكرة: ثم بعث ابن سد إلى ابن زياد برأس الحسين ورؤوس أصحابه وحُمل مع رأس الحسين اثنان وتسعون رأساً.

ويقول إبن كثير لما سرّح عمر برأس الحسين من يومه إلى ابن زياد كان معه رؤوس أصحابه، ولكن الأصح هو أن الرأس الشريف أُرسل إلى ابن زياد قبل رؤوس الأصحاب لأنه الأساس فلو بعثوا إليه جميع الرؤوس من دون رأس الحسين لما أجزأهم ذلك عنده.

ويؤيد ذلك السرعة التي أُرسل فيها رأس الحسين لم تكن لتسمح بانتظار رؤوس الأصحاب، ثم إنه من المستحيل لشخص أو شخصين أن يحملا معهما عشرات الرؤوس.

وعليه تكون الرؤوس الكريمة قد حُملت مع السبايا في الحادي عشر من محرم، وأما كلام صاحب التذكرة الذي ادعى بأنه حُمل مع رأس الحسين إثنان وتسعون رأساً فهو غير دقيق، لأن أصحاب الحسين وأهل بيته الذين استشهدوا معه لم يتجاوز عددهم التسعين، فلقد كان معه من أهل بيته سبعة عشر رجلاً ومن أصحابه اثنان وسبعون، ومجموع الجميع مع الإمام تسعون رجلاً، ثم إن بعض القبائل التي شاركت في تلك المجزرة لم تسمع بإرسال رؤوس من ينتمي إليها إلى ابن زياد وغيره، وهناك أصحاب لم تُقطع رؤوسهم من الأساس كالحر بن يزيد الرياحي الذي استنكرت قبيلته قطع رأسه وهددت ابن سعد إن أقدم على ذلك، وبناءاً على هذا التحقيق البسيط الذي ذكرته لكم يتبين لنا عدم صحة ما قاله صاحب التذكرة وغيره ممن اعتمدوا مضمون كلامه، وفي كتاب الأخبار الطوال أن عمر بن سعد عندما آذن بالرحيل من كربلاء، حُملت الرؤوس على أطراف الرماح وكانت اثنين وسبعين رأساً، جاءت هَوَازِنُ منها باثنين وعشرين رأساً وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً مع الحصين بن نمير، وجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً مع قيس بن الأشعث، وجاءت بنوا أسد بستة رؤوس مع هلال الأعور، وجاءت الأَزد بخمسة رؤوس مع عَيهمة بن زهير، وجاءت ثقيف باثني عشر رأساً مع الوليد بن عمر، ويقول الطبري بأن رؤوس الأصحاب رضوان الله عليهم قد جاء بها إلى ابن زياد شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس.

وورد في اللهوف أن القبائل تقاسمت الرؤوس لتتقرب بها إلى يزيد بن معاوية وقد ذكر التفصيل الذي بيناه قبل قليل.

ويذكر بعض المؤرخين بأن رؤوس أولاد الحسين وأخوته وأبناء عمه قد أُتيَ بها إلى الكوفة محمولة على رؤوس الرماح.

وقيل بأن ابن زياد أمر أن تنصب الرؤوس على الرماح ليستقبل بها السبايا، وقيل بأن عمر بن سعد أمر بوضعها على الرماح وأن يسار بها أمام السبايا، وفي كتاب كشف الغمة: أول رأس حُمل على رمح في الإسلام رأس الحسين بن علي(ع) ويقول الراوي فلم أر باكياً أو باكية أكثر من ذلك اليوم.

وعن حميد بن مسلم قال: دعاني عمر بن سعد فسرّحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وبعافيته، فأقبلت حتى أتيت أهله فأعلمتهم بذلك ثم أقبلت حتى أدخل فأجد بن زياد قد جلس للناس وأجد الوفدَ قد قدموا عليه فأدخلهم وأذن للناس فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه وإذا هو ينكتُ بقضيبٍ بين ثناياه ساعة فلما رآه زيد بن أرقم لا يُنجم عن نكته بالقضيب قال له: أعلُ بهذا القضيب عن هاتين الشفتين فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله(ص) على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم انفضح الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد أبكى الله عينيك فوالله لولا أنك شيخ قد خرِفتَ وذهب عقلك لضربت عنقك، فخرج زيد وقال الناس والله لقد قال زيد قولاً لو سمعه ابن زياد لقتله، فقال حميد ما قال؟ قالوا مرّ بنا وهو يقول: ملّكَ عبدٌ عبداَ فاتخذهم تُلَداً أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبُعداً لمن رضي بالذل.

وجاء في كتاب مثير الأحزان وكتاب التذكرة أن زيد بن أرقم قال لابن زياد أيضاً يابن زياد لأحدثنك حديثاً هو أغلظ عليك من هذا، رأيت رسول الله(ص) أقعد حسناً على فخذه اليمنى وحسيناً على فخذه اليسرى ثم وضع يده على يافوخَيهما ثم قال:اللهم إني أستودعك إياهما وصالحَ المؤمنين، فكيف كانت وديعة رسول عندك يابن زياد؟

وعن هشام بن محمد قال: لما وُضع الرأس بين يدي بن زياد قال له كاهنه: قم فضع قدمك على فم عدوك، ففعل ذلك ثم قال لزيد بن أرقم كيف ترى؟ فقال زيد والله رأيت رسول الله واضعاً فِيه حيث وضعتَ قدمَك:

ويذكر بعضهم بأنه وضع الرأس الشريف في وعاء وراح بن زياد يضرب ثناياه ويقول: لقد أسرع إليك السيب يا أبا عبد الله، ثم قال يوم بيوم بدر، وكان عنده أنس بن مالك فبكى وقال كان أشبههم برسول الله، وعن سعد بن معاذ وعمر بن سهل أنهما حضرا مجلس عبيد الله فرأياه يضرب بالقضيب الذي كان يحمله أنف الحسين وعينيه ويطعن في فمه:

وفي الإرشاد للشيخ المفيد أن عمر بن سعد أمر بإحضار الرأس فجعل ينظر إليه ويتبسم وبيده قضيب يضرب به ثناياه.

وقد حدثت عدة كرامات للرأس الشريف ولكن بعضهم لم يعبر بها لعناده وحقده على فضل النبي وآله(ص) فلقد جاء في ترجمة تاريخ الأعثم الكوفي أنه قال: لما وُضع رأس الحسين عند ابن زياد أخذه بيده وجعل ينظر إلى وجهه وشعره وإذا باللعين يرتعش ارتعاشاً شديداً فوضع الرأس على فخذه فسال من حلقه قطرة دم على ثيابه فجاوز الدم عن ثيابه وفخذه فصار في موضعه جرحاً متعفناً كلما عالجوه لم ينفع إلى أن قُتل لعنه الله.

وجاء في التذكرة أن ابن زياد نصب الرؤوس كلها بالكوفة على الخشب وكانت زيادة على سبعين رأساً وهي أول رؤوس نصبت في الإسلام بعد رأس مسلم بن عقيل بالكوفة.

ويقول الطبري في تاريخه بأن ابن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة فجعل يدار به في الكوفة.

وفي إرشاد المفيد لما أصبح عبيد الله بن زياد بعث برأس الحسين(ع) فدِير به في سكك الكوفة كلها وقبائلها، وورد أن الذي دار بالرأس هو عمر بن جابر المخزومي.

لقد بعث ابن زياد برأس الحسين إلى الشام وكان رسله كلما وصلوا إلى منطقة أخرجوا رأس الحسين من صندوق ورفعوه على رأس رمح ليراه الناس وليكون درساً لكل من يجرؤ على الوقوف في وجه الخليفة الطاغي يزيد، والمستفاد من التواريخ أن ابن زياد أرسل الرؤوس إلى يزيد قبل أن يبعث إليه بالأسرى حيث وكّل بهم شمر بن ذي الجوشن، ثم بعد يوم أو يومين أتبع جنوده بجنود آخرين على رأسهم عمر بن سعد أرسلهم سنداً لحاملي الرؤوس والموكلين بالأسرى كيلا تحدث انتفاضة من الناس إذا استطاع الأسرى أن يكشفوا الحقيقة لهم.

وقد حدثت أمور وكرامات للرأس الشريف أثناء نقله من الكوفة إلى الشام فلقد ذكر بن حجر في الصواعق بأن الذين ساروا برأس الحسين أرادوا أن ينتهكوا حرمة الرأس الشريف فراحوا يشربون الخمر به فحدث أمر رهيب أرعبهم فهربوا من مكانهم، وقريب من هذا ما ذكره القاضي حسين بن محمد المالكي في كتابه الخميس في أحوال أنفس النفيس حيث قال: فساروا إلى أن وصلوا إلى دير في الطريق فنزلوا به، فوجدوا مكتوباً على بعض جدرانه: أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحسابِ، فسألوا الراهب عن هذا السطر ومن كَتَبه فقال لهم الراهب إنه مكتوب فيها من قبل أن يُبعث نبيكم خمس مئة عام.

وفي كتاب مثير  الأحزان عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف أيام الموسم إذا رجل يقول: اللهم اغفر لي وأنا أعلم أنك لا تغفر، فسألته عن السبب فقال كنت أحد الأربعين الذين حملوا رأس الحسين إلى يزيد على طريق الشام فنزلنا على دير للنصارى والرأس مركوز على رمح، فوضعنا الطعام ونحن ونأكل فإذا بكف على حائط الدير فكتوب عليها بالدم: أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحسابِ، فجزعنا جزعاً شديداً وأهوى بعضنا إلى الكف ليأخذها فغابت.

وفي كتاب روضة الأحباب لما اقترب القوم من الموصل كتب الشمر إلى عاملها أن يهيأ لهم الزاد والعلف وأن يزين المدينة حيث كتب له: إن معنا رأس الخارجي الحسين بن علي بن أبي طالب فأخبر العامل أهل الموصل بكتاب الشمر فاستنكروا الأمر واجتمع حوالي أربعة آلاف شخص وقد استعدوا لقتال الشمر ومن معه فبعث العامل إلى الشمر بأن لا يأتي وأخبره بأن أكثر أهل الموصل من شيعة الإمام الحسين فخاف الشمر أن يدخلها بل تمركز بعيداً عنها.

وفي ذلك المكان وضعوا الرأس الشريف على صخرة فسالت عليها نقطة دم من الرأس الشريف فأصبحت تلك الصخرة مكاناً للزيارة حيث كان الناس يتهافتون إليها لأنها موضع الرأس الشريف، وبقي هذا الحال قائماً إلى أيام عبد الملك بن مروان الذي أخفى الصخرة ولم يبق لها أثر فبنى الناس في ذلك المكان قبة وأطلقوا عليها إسم مشهد النقطة.

ومن أحداث الرأس الشريف أثناء إرساله إلى الشام قضية الراهب الذي أسلم بعد أن أبدى الحب الكامل للإمام وأبيه وجده، فقد ورد في التذكرة أن حملة الرأس نزلوا في إحدى المنازل وفي ذلك المنزل دير فيه راهب فأخرجوا الرأس الشريف من الصندوق ووضوه على رأس الرمح وأسندوا الرمح إلى الدير وفي منتصف الليل لفت نظرَ الراهب نورٌ يصعد من الخارج أي من المكان الذي فيه الرأس الشريف فجاء إليهم وسألهم وقال لهم من أنتم قالوا نحن أصحاب بن زياد، قال وهذا رأس من؟ قالوا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت محمد، قال نبيكم؟ قالوا نعم قال بئس القوم أنتم لو كان للمسيح ولد لأسكناه أحداقَنا، ثم طلب منهم أن يأخذ الرأس منهم لما تبقّى من الليل فقط على أن يعطيهم في المقابل عشرة آلاف دينار…. فوافق أصحاب بن زياد على عرض الراهب فأعطوه الرأس لليلة وأخذوا منه الدنانير، فأخذ الراهب الرأس المبارك ووضعه في حجره وقعد تلك الليلة يبكي على مظلومية صاحب هذا الرأس وعندما أسفر الصبح قال الراهب يا رأس لا أملك إلا نفسي وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن جدك رسول الله وأُشهِد الله أني مولاك وعبدك، وقد أصبح هذا الراهب من خدمة أهل البيت(ع).

وقد نقل جملة من المؤرخين حديث سهلِ الساعدي الذي نُقل في العديد من الكتب المعتبرة فقال سهل: خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطتُ الشام في يوم ورود الأسارى…إلى قوله قلت ولما ذلك؟ قالوا هذا رأس الحسين عترة محمد يُهدى من أرض العراق قلتُ واعجباً يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون.. قلت من أي باب يدخل؟ فأشاروا من باب الساعات قال فبينما أنا كذلك حتى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً فإذا نحن بفارس بيده لواء عليه رأس من أشبه الناس برسول الله(ص) ورأيت نسوة على جمال بغير وطاء فدنوت من أولاهن فقلت يا جارية من أنت؟ فقالت أنا سكينة بنت الحسين، فقلت لها ألكِ حاجة إليَّ؟ فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك وسمع حديثه قالت يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا حتى يتشغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله، فلبى سهل سؤالها وأتى إلى حامل الرأس الشريف وطلب منه أن يتقدم بالرأس مقابل مبلغ من المال ففعل ذلك.

وهذا مما يبين لنا مأساة أهل البيت وبالخصوص النساء والأطفال الذين أحيطوا برؤوس الآباء والأخوة والأحباب فيا لها من مصيبة ما أعظمها وما أشدها على الرسول وآله.

وقد ذُكر في بعض المقاتل أنه بينما هم يطوفون بالرأس الشريف في بعض شوارع الشام فإذا بغرفة وروشن فيها خمس نسوة وبينهن عجوز محدودبة الظهر فلما حاذى الرأس الروشن أخذت العجوز حجراً رضربت به الرأس الشريف فأصابته ولكن مشيئة الله تعالى تدخلت فأحدثت كرامة لهذا الرأس المبارك حيث وقع الروشن من الأعلى فماتت النسوة اللواتي كن فيه على الفور، وأنا هنا أتساءل عن مدى الحقد الذي كان مركوزاً في قلوب بعض الناس، والذي يظهر من خلال هذه الكرامة أن هذه العجوز كانت تعرف صاحب الرأس ولحقدها على أبيه فعلت ما فعلت إذ لو كانت جاهلة بالأمر لما عاقبها الله تعالى، وليس ببعيد أن يكون هناك حقد بهذا الحجم لأن كثيراً من الناس لم يكونوا راضين عن آل الرسول بسبب الأحقاد التي زرعها الأمويون في قلوبهم والضغائن التي زرعوعا في نفوسهم، وعلى فرض أن هذه العجوز كانت جاهلة بهوية صاحب الرأس فلقد كان الأجدر بها أن تسأل عن صاحبه قبل أن ترميه بحجر ولكنها أحبت أن تتقرب من أمراء الجور وتشارك بالإحتفال الملعون مهما كان الأمر.

وفي بعض الروايات أن الإمام السجاد(ع) رأى تلك العجوز تضرب رأس أبيه بالحجر فدعا عليها فسقط الروشن على الفور وماتت هي ومن كان معها.

هذا الحقد لم ينته بعد بل هو آخذٌ بالزيادة في تلك المناطق التي كانت مركزاً للحكم الأموي، وما زال أولاد قتلة الإمام الحسين موجودين في الشام وهم يتباهون بهذا الذي يظنونه شرفاً لهم بل هو خزي لهم في الدنيا وفي الآخرة.

فبنو السراويل: وهم الذين سلب جدهم سراويل الإمام الحسين، وبنو السراج: وهم أحفاد الذين أسرجوا خيولهم وداسوا صدر الإمام الحسين، وبنو السنان: وهم أحفاد الذين نصبوا الرأس الشريف على السنان، وبنو الملح: وهم الذين ألقوا الملح على الرأس المبارك، وبنو الطست: وهم أولاد من وضع رأس الحسين على الطست وأتى به إلى يزيد، وبنو القضيب: وهم أولاد من أعطى يزيد بن معاوية القضيب الذي ضرب به رأس الحسين، وبنو الفروجي وهم أولاد من داروا برأس الحسين في فروج جيرون الشام، وهكذا ما زال بعضهم يتباهى بما فعله أجداده بآل رسول الله(ص).

ووصل الموكب إلى باب قصر يزيد وانتظر حملة الرأس ساعة أمام باب داره، فأذن لهم بالدخول فوضعوا الرأس على طست من ذهب ووضعوا الطست بين يدي يزيد، ثم جاء المعرّف وعرّف عن أصحاب الرؤوس واحداً واحداً، وكان رأس الإمام مغطىً بمنديل فرفع يزيد المنديل بالقضيب الذي كان يحمله فجعل ينكث ثنايا الرأس الشريف ويقول:

ليت أشياخي ببدر شهدوا       جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القَرمَ من ساداتهم       وعدلناه ببدر فاعتدل

….لعبت هاشم بالملك    فلا خبر جاء ولا وحي نزل

ويذكر المسعودي أنه جعل ينكث ثنايا الحسين ويقول: نُفَلَِق هاماً من رجال أعزة    علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما، وقد كان أبو برزة الأسلمي حينها موجوداً عند يزيد فقال له إرفع قضيبك فطال والله ما رأيت رسول الله يضع فمه على فمه يلثمه.

وفي رواية أخرى أنه عندما نكث يزيد ثنايا الحسين بقضيب الخيزران قام إليه أبو برزة الأسلمي وقال ويحك يا يزيد تنكث بقضيبك ثنايا الحسين وقد كان جده يرشف ثناياه وثنايا أخيه ويقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنة قاتل الله قاتلَكما: فغضب يزيد لهذا الكلام وأمر بإخراجه من مجلسه سحباً، لقد غضب يزيد لأن هذا الشخص نطق بالحق، ويزيد عدو للحق بجميع أشكاله.

وفي رواية أنه لما ضرب يزيد بقضيبه على ثنايا الحسين(ع) قال سَمُرة بن جُندَب وكان حاضراً عند يزيد قطع الله يديك يا يزيد أتنكث موضعاً رأيتُ رسولَ الله يقبله، قال له يزيد لولا صحبتك لرسول الله لقتلتك، قال سمرة أتراعي فيَّ صحبة رسول الله ولم تراع فيهم قرابته وهم أولاده وأهل بيته، فعند ذلك بكى الناس وخاف يزيد من وقوع الفتنة.

 

دفن الرأس الشريف

 

لقد دُفنت الأجساد الطاهرة التي سقطت في سبيل الحق على أرض الطف في الثالث عشر من شهر محرم سنة إحدى وستين للهجرة على يد الإمام الرابع من أئمة الهدى علي بن الحسين زين العابدين(ع) وقد أعانه على دفن الجثث مجموعة من بني أسد الذين صادف مرورهم في ذلك اليوم بأرض كربلاء، فلقد أجرى الله تعالى كرامة للإمام السجاد حيث منّ عليه بالشفاء السريع وأوصله إلى أرض كربلاء بشكل سريع خارج عن حدود الطبيعة، فلقد دفن الإمام السجاد جسد أبيه وأجساد الأهل والأحباب والأصحاب، وقد اقتضت حكمة الله أن يتحير بنوا أسد في دفن الجثث حتى يأتي الإمام لأنه الوحيد الذي يعرف أصحاب الأجساد والأشلاء لأنها كان جثثاً من دون رؤوس، فهو(ع) الذي كتب على كل قبر إسم صاحبه، ولولا ذلك لما عرفنا شيئاً حول تلك المقامات الشريفة.

لقد دُفن جسد الإمام الحسين في تلك الفترة وبقي رأسه الشريف مرفوعاً على رؤوس الأسنة والرماح يدار به من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة بهدف الشماتة وتخويف كل من يفكر بالخروج على أمر الأمير وأعوانه الظلمة، لقد حُمل هذا الرأس المبارك من كربلاء إلى الكوفة، وهناك حدث ما حدث ثم نُقل إلى الشام وقد أشرنا إلى أحداث الرأس الشريف في الشام وفي قصر يزيد، ثم انتقل الرأس من الشام إلى كربلاء، ولا شك بأن هناك اختلافاً بين المؤرخين في تحديد الموضع الذي دُفن فيه رأس الإمام، ولكن المشهور والأصح والمتفق عليه بين الفريقين من الخاصة والعامة هو أن الرأس دفن مع الجسد في العشرين من صفر بعد أن بقي فوق الأرض أربعين يوماً.

قال صاحب اللهوف: فأما رأس الحسين فروي أنه أعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف.

وجاء في كتاب مثير الأحزان: والذي عليه المُعوّل من الأقوال أنه أعيد إلى الجسد بعد أن طيف به في البلاد ودفن معه.

ويقول صاحب روضة الواعظين: وخرج علي بن الحسين عليهما السلام بالنسوة من الشام ورُد رأس الحسين إلى كربلاء.

ويقول صاحب البحار: المشهور بين علمائنا الإمامية أنه دفن رأسه مع جسده رده علي بن الحسين(ع).

ويقول صاحب التذكرة: ثم رُد إلى الجسد بكربلاء فدفن معه.

ويقول المرتضى: بأن الرأس رد إلى البدن من الشام إلى كربلاء، ويقول الطوسي: ومنه زيارة الأربعين، وفي ترجمة تاريخ الأعثم: ثم جهز يزيدُ عليَ بن الحسين ومن معه إلى المدينة وسلّم إليهم رؤوس الشهداء فتوجهوا إلى المدينة ووصلوا إلى كربلاء في يوم العشرين من صفر فدُفن الرأس مع الجسد الشريف ودفنوا رؤوس سائر الشهداء هناك.

 

بناء القبر الشريف وتوسعته

 

في العشرين من شهر صفر سنة إحدى وستين للهجرة وأثناء عودة السبايا من الشام إلى المدينة عرّجوا على كربلاء لزيارة الإمام الحسين والشهداء ولدفن الرأس الشريف مع الجسد أو بالقرب منه، فنزلوا في تلك البقعة وقد تجدد عليهم المصاب من جديد ومكثوا فترة هناك حيث وجدوا هناك الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري الذي كان له مواقف كثيرة تجاه ما جرى على آل الرسول في تلك البقعة وقد أشرنا إلى ذلك في البحوث السابقة.

ثم ترك الموكب أرض كربلاء بالحزن والأسى والبكاء وتوجه نحو المدينة لمتابعة الثورة التي افتتحها الحسين بمعركته في كربلاء، وقد تحول قبره الشريف إلى مزار للمؤمنين والأحرار عبر الزمن حيث ظهرت لهذا القبر كرامات لا يستطيع أحد أن ينكرها.

يقع المرقد الشريف وسط مدينة كربلاء غربي نهر الفرات ويحيط به شارع رئيسي يوصل إلى ضواحي المدينة، وعلى بُعد ثلاث مئة متر يقع ضريح العباس، فبعد استشهاد الحسين(ع) دُفن في الحائر المقدس وقد أقيم على لقبره الشريف رسماً نُصب عليه علامة وبناءٌ كيلا يزول أثره، وفي عهد بني أمية وُضعت على القبر مسالح لمنع الزائرين من الوصول إليه حيث كان متوقاً بمخافر تتولى هذه المهمة البشعة، وبعد هذا العهد أخذ الناس يتوافدون لزيارة القبر الشريف وبدأ عمران المدينة يتسع وقد استوطنها الكثيرون سنة مئة وسبعين للهجرة.

وقد حدثت تغييرات كثيرة للقبر الشريف عبر الزمن، ففي سنة خمس وستين للهجرة بنى المختار بن أبي عبيدة الثقفي قبة على القبر الشريف، وفي أيام أبي العباس السفاح سنة مئة وست وثلاثين جرى تعمير المرقد الشريف، وفي عهد المأمون عام مئة وثمانية وتسعين أعيد بناء القبر الشريف بعد أن هدم الرشيد الأبنية التي كانت محيطة بالأضرحة المقدسة وموضع القبر، وفي عهد المنتصر بالله العباسي سنة مئتين وسبع وأربعين للهجرة تم بناء الضريح المقدس، وفي سنة مئتين وثمانين قام محمد بن محمد بن زيد القائم بطبرستان بتجديد البناء، وفي عام ثلاثمئة وسبعة وستين بنى عمران بن شاهين أحد أمراء البطائح الرواق المعروف باسمه وبنى بجنبه مسجداً، وفي عام ثلاث مئة وواحد وسبعين شيّد عَضُد الدولة البويهي قبةً ذات أروقة وضريحاً من العاج وعمّر حولها بيوتاً وأحاط المدينة بسور، وفي عام ثلاثمئة وثمانين شيد الداعي العلوي محمد بن زيد بن الحسن قبة على القبر لها بابان وبنى حولها سقفين وأحاطهما بسور، وفي سنة أربعمئة وسبعة وعلى إثر الحريق الذي أصاب الحرم الشريف قام الحسن بن الفضل وزير الدولة البويهية بإعادة البناء نفسه مع تشييد السور.

وفي عام أربعمئة وتسعة وسبعين أمر الملك شاه السلجوقي بترميم سور الحائر الحسيني، وفي عام سبعمئة وسبعة وستين جدد السلطان أويس الجلائري بناء القبر، والقبة الموجودة حالياً هي من آثار بنائه وقد أتم نجله السلطان أحمد تجديد القبر، ومن بعده ولده السلطان حسين حيث شيد البهو الأمامي للروضة المعروف بإيوان الذهب،  وفي عام تسعمئة وأرعة عشر أمر الشاه اسماعيل الصفوي بتذهيب حواشي الضريح وقد أهدى اثني عشر قنديلاً من الذهب كما أهدى صندوقاً فضياً بديع الصنع للحائر المقدس تم وضعه على القبر عام تسعمئة واثنين وثلاثين.

وبين عام تسع مئة وثلاثين وعام تسع مئة واثنين وثمانين بذل الشاه طهماسب الصفوي الكثير من الأموال لأجل تعمير الروضة الحسينية وقد وسّع المسجد الكبير الملحق بالمشهد الشريف، وفي عام ألفٍ وثمانية وأربعين للهجرة شيد السلطان مراد الرابع العثماني القبة وجصص خارجها، وفي عام ألف ومئتين وسبعة قام السلطان آغا محمد خان مؤسس الدولة القاجارية بتذهيب القبة لأول مرة، وفي عام ألف ومئتين وسبعة وعشرين أمر السلطان فتح علي القاجاري بتجديد بناء المشهد وتبديل صفائح الذهب القديمة وقد تبرعت زوجته بتذهيب المئذنتين، وقد أمر هذا السلطان أيضاً سنة ألف ومئتين وخمسين بإعادة بناء قبة مرقد الإمام الحسين وقبة مرقد العباس، وفي عام ألف ومئتين وسبعة وثمانين أمر ناصر الدين شاه بتجديد المشهد ووسّع الصحن الشريف من الجهة الغربية، وفي عام ألف وثلاثمئة وخمسة وخمسين أمر السلطان طاهر سيف الدين الإسماعيلي بتجديد شباك الضريح من الفضة الخالصة ، وما زال المحسنون حتى هذه الأيام يتبرعون في سبيل هذا المَعلَم الكبير من معالم الإسلام الحق ومعالم البذل والتضحية والجهاد في سبيل الله عز وجل.

 

أحداث القبر الشريف

 

لو لم يذكر المؤرخون ما حدث عند القبر الشريف عبر التاريخ البعيد والقريب لأدركنا وأيقنا بحدوث أمور يعجز المؤرخون عن إحصائها لكثرتها لأن أحداث العظماء لا تتوقف عن موتهم وغياب أجسادهم عن الساحة بل إن أحداثهم تستمر كما لو كانوا موجودين بين الناس بأجسادهم وأرواحهم، والإمام الحسين موجود فينا قبل ولادته وموجود فينا بعد ولادته وكذلك بعد استشهاده ولو كشف لنا الغطاء ما ازددنا يقيناً بعظمته ونزاهة ثورته، فلقد تتالت الأحداث بعد استشهاده وبقي الجسد الطاهر محط أنظار الناس قبل دفنه وبعده، وما زال مرقده الشريف مزاراً لملايين الناس من كل حدب وصوب، وها هي كربلاء حتى اليوم مزدهرة ببركة ما حدث عليها قبل أربعة عشر قرناً ومباركة لضمّها الأجساد المباركة وفي مقدمتها جسد أبي عبد الله الحسين(ع) وها هم المؤمنون يتوافدون على شكل الدوام إلى تلك البقعة الطاهرة رغم الأخطار المحدقة بهم من قبل أعداء الله والحسين والإنسانية.

لقد تعرّض القبر الشريف إلى نكبات على أيدي مبغضي صاحبه ومنكري الحق بجميع وجوهه، كما وأنه حدثت أمور جيدة عند قبره المقدس، فمن جملة تلك الأحداث الجيدة زيارة الناس له بُعَيد استشهاده بأيام حيث تحولت أرض الطف إلى مزار للشرفاء والأحرار والأوفياء وأصحاب الإرادات الصادقة النابعة من الإخلاص لله ورسوله وآل الرسول(ص) ويذكر التاريخ بأن أول من قام بزيارة الحائر المقدس عبيد الله بن الحر الجعفي الذي كان قريباً من ذلك الموضع، ونحن نحتمل بأن أكثر الذين أتوا إلى زيارة تلك القبور كانوا خائفين من جواسيس يزيد وأعوانه لأن الخطر آنذاك لم يكن محدقاً بالحسين فقط بل بكل من يحبه وينصره بفعل أو بقول أو بإشارة ولقد أحصى التاريخ وقائع كثيرة قريبة من هذا النوع فلقد حدثنا المؤرخون عن كثير من المؤمنين الذين قُتلوا على أيدي الأمويين وغيرهم لمجرد أنهم موالون لعلي وأولاده كما صنع معاوية بأصحاب الإمام علي كحجر بن عدي الكندي وميثم التمار وأبي ذر الغفاري وغيرهم من الأطهار الذين قضوا لأنهم من شيعة علي، وقد استفحل هذا الأمر في عهد المجرم الأكبر الحجاج بن يوسف الثقفي الذي لاحق المؤمنين في كل مكان وقتلهم لأنهم من شيعة علي، فعبيد الله بن الحر الجعفي هو أول من زار القبور في كربلاء حيث وقف عليها واستعبر باكياً ورثا الحسين بقصيدة معروفة.

وكذا فعل الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري حيث زار القبر الشريف مع جماعة من أهل المدينة في العشرين من صفر، وقال لمن معه ألمسوني القبر لأنه كان كفيفاً، وهذا دليل على كون قبر الحسين لم يكن مخفياً كما يدعي بعض المشككين والمعادين.

فيقول بعض المؤرخين بأن زيارة جابر بن عبد الله حصلت سنة اثنتين وستين للهجرة ونحن نعلم بأن ذلك حدث سنة إحدى وستين للهجرى حيث التقى الإمام زين العابدين والسيدة زينب بجابر أثناء عروجهم إلى كربلاء لدى عودتهم من الشام إلى المدينة فلا مانع من أن تكون الزيارة قد تكررت من جابر في السنة الثانية ولا مانع من أن يكون هناك خطأ من المؤرخ فبدل أن يقول سنة 61 قال سنة62 وربما يكون ذلك خطئاً مطبعياً لأن الأرجح أن يكون جابر قد زار القبر الشريف مرة واحدة، هذا بالنسبة للأحداث الجيدة وهي كثيرة، وأما بالنسبة للأحداث السلبية ففي سنة مئة وأربعين للهجرة المنصور الدوانيقي العباسي بتخريب القبر الشريف….. وفي عهد هارون الرشيد أي من سنة مئة وسبعين للهجرة وإلى سنة مئة وثلاث وتسعين ضُيّق الخناق على زائري القبر الشريف وقُطعت شجرة السدرة التي كان يستدل بها الزائرون على موقع القبر الشريف ويستظلون تحتها من حرارة الشمس، وفي عهد هارون أيضاً خُرّب القبر وهدمت الأبنية التي كانت تحيط به.

وفي الفترة ما بين سنة 236 و247 أمر المتوكل العباسي بهدم القبر الشريف وحرث أرضه وأسال الماء عليه فحار الماء حول القبر الشريف وبسبب ذلك سميت البقعة الشريفة لموضع القبر بالحائر كما أنه منع الناس من زيارته.

وفي شهر شوال سنة 247 قُتل المتوكل على يد ابنه المنتصر الذي سمح بزيارة المرقد الشريف ووضع إشارة يُستدل بها على موضعه وأعاد بناء القبر فراح العلويون يتوافدون إلى كربلاء في ذلك العهد وسكنوا بجوار المرقد وقد كان أول ساكن لكربلاء في ذلك العهد هو السيد ابراهيم المجاب.

وفي سنة 407 احترق حرم الإمام الحسين حيث كان مزيناً بخشب الساج وذلك على إثر سقوط شمعتين كبيرتين فيه، وفي سنة 1216 هاجم سعود بن عبد العزيز الوهابي مدينة كربلاء وأباد أهلها قتلاً وسبياً وكسر جنوده شباك القبر الشريف ونهبوا ما فيه من كنوز ذهبية ثمينة، وفي سنة 1258 وقعت مجزرة نجيب باشا التي سميت بغدير دم حيث لم يمنعه احتماء المستضعفين بضريح الإمام من أن يقتحم المرقد ويجعل دماء الضحايا تسيل في الحرم وقد وقعت هذه المجزرة البشعة في حق المؤمنين يوم عيد الأضحى من تلك السنة.

ثم تعرض المرقد منذ سنوات إلى القصف والدمار على يد النظام الذي كان حاكماً.

 

 

موقف ابن الزبير من قتل الإمام الحسين(ع)

 

كثير من الذين تستروا بثوب الإسلام النزيه بهدف تحقيق مطامع لهم ومكاسب لا يمكن الحصول عليها إلا بالتستر خلف السمعة الدينية التي استعملها كثير من الماضين والحاضرين لأغراض خاصة لا تخدم المصلحة العامة، فلقد شابه كثير من الماضين تلك الحيوانات التي تأكل بقايا الفريسة من دون أي تعب وعناء فهم يجلسون في أعالي الشجر ينظرون إلى الصراع بين المفترس والفريسة وينتظرون القاتل حتى يشبع ويترك موضعه فينزلون من أعالي الشجر ليأكلوا لقمتهم بكل سهولة، هذا ما صنعه عبد الله بن الزبير تجاه افتراس يزيد للإمام الحسين ومن كان معه، وقبل ابن الزبير صنع ذلك معاوية الذي استغل قتل عثمان للتشويش على سمعة أمير المؤمنين علي(ع) فكما انتظر معاوية الثوار قتل عثمان فكذلك انتظر ابن الزبير يزيداً حتى يقتل الحسين ليستعمل دم الحسين في تنفيذ خطته الجهنمية، بمعنى أنه كان أول المتاجرين بدم الإمام الحسين لأنه لم يطلب الثأر لقتله بل حمل دم الحسين ليعتلي عرش الحكم الذي كان يشغَله يزيد بن معاوية.

لقد كان كل هم معاوية أن يُقتل عثمان بن عفان لتخلو الساحة أمامه لأنه كان طامعاً بالحكم وإن كان على حساب دم عثمان أو دم علي أو دماء كل الأبرياء لأن الطمع بالسلطة قد أعمى قلبه وشغله عن التفكير في العواقب، وعندما قُتل عثمان كان ملامح الفرحة ظاهرة على وجه معاوية الذي طالما سعى إلى الحصول على منصب الخلافة وقد كان له الدور الأكبر في قتل عثمان لأنه عمل على التخلص منه من بعيد مدعياً بأن الإمام علياً هو الذي قتله، وبهذه الفتنة وهذا المكر يتخلص من عثمان ومن علي حيث أنه سيستعمل دم عثمان كسلاح قوي يقف به في وجه أمير المؤمنين.

وكذلك كان هم عبد الله بن الزبير تجاه الإمام الحسين فلقد استعمل نفس الطريقة التي اتبعها معاوية للتخلص من عثمان وعلي حيث خطط للتخلص من الحسين باعتداء يزيد عليه وللتخلص من يزيد في نفس الوقت بحمل دم الإمام الحسين كوسيلة للتخلص من يزيد وبهذا تخلو الساحة أمامه، ولكنه تفاجأ بالإمام السجاد والعقيلة زينب اللذين حالا بينه وبين تحقيق مطامعه على حساب دم الإمام الحسين(ع).

فعندما حصلت تلك الصدمة عند قتل الإمام راح ابن الزبير يشنّع بالأمويين وبما ارتكبوه من المجازر وعندما سمع الناس منه هذا الكلام التفوا حوله وطلبوا منه بأن يتصدى لمنصب الخلافة ولكنه كان يتظاهر بالإمتناع ويطلب منهم التروي وكان دائماً يذهب إلى البيت الحرام ويقضي فيه وقتاً طويلاً حتى يمدحه الناس وينظروا إليه على أنه إنسان عابد يستحق منصب الخلافة، وقد كان يواجه ابن الزبير خطر كبير وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي كان يطلب من الزبير أن يخرج من هذه العزلة المصطنعة وأن يتوقف عن إعلان البيعة لنفسه فلم يعمل بنصيحة المختار بل أصر على موقفه فيئس منه المختار وهاجر إلى الطائف مسقط رأسه وراح يراقب جميع التحركات السياسية وبالأخص تحركات ابن الزبير،  وعندما علم يزيد بسلوك ابن الزبير وتخطيطه للقضاء عليه واستلام زمام الأمر أمر يزيد عامله على مكة بأن يقتل عبد الله ابن الزبير، فتريّث عامل يزيد قليلاً عن تنفيذ هذا الأمر لأن الناس لم يستيقظوا بعد من صدمة كربلاء فلم يرغب بأن يضيف إلى موقفه الحرج موقفاً آخر يزيده صعوبة وتعقيداً، لأن آثار المجزرة البشعة كانت تتفاعل يوماً بعد يوم في الأوساط الإسلامية.

وقد ارتفع شأن ابن الزبير في مكة حتى كاتبه أهل المدينة آنذاك وقالوا له: ليس لها بعد الحسين غير بن الزبير، وأمام هذه الأحداث استطاع عبد الله بن الزبير أن يستغل الموقف بمهارة بدءاً من اعتكافه في الكعبة ومروراً بتباكيه على الحسين ووصولاً إلى تظاهره بعدم الرغبة في الوصول إلى منصب الخلافة، وهذا ما جعل الناس ينجذبون إليه ويصرون على تولّيه لهذا المنصب، وعندما أُخبر ابن الزبير بتهديدات يزيد له وأنه سوف يصنع به ما صنعه بالحسين أجاب الذي أخبره بقوله: إن الحسين خرج إلى من لا يعرف حقه وإن المسلمين قد اجتمعوا عليّ ليبايعوني على الموت: فقيل له: إن ابن عمر وابن عباس لم يبايعاك وهما من قد عرفتَ بين المسلمين: وعند ذلك أدرك ابن الزبير بخطورة موقفه لأن هذين الشخصين يشكلان خطراً على وضعه وخططه، فعند ذلك قرر أن يقنعهما بالمبايعة له فذهب أولاً إلى زوجة عبد الله بن عمر وهي أخت المختار الثقفي وأخبرها بأن خروجه على يزيد لم يكن إلا غضباً لله ورسوله والمهاجرين والأنصار وللحسين وأصحابه…..وطلب منها أن تقنع زوجها ببيعته، فعرضت على زوجها ما طلبه ابن الزبير فرفض ذلك بعد أن وصف ابن الزبير بأوصاف تليق به، ثم طلب من عبد الله بن عباس أن يبايعه فرفض ذلك مبيناً له بأنه ليس بأشرف من الأمويين وأنه يتاجر بالدماء الطاهرة والأرواح الزكية.

وقد علم يزيد برفض عبد الله ابن عباس لبيعة عبد الله بن الزبير فكتب يزيد لابن عباس كتاباً جاء فيه: أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيراً وأنك امتنعت عليه واعتصمت ببيعتنا وفاءاً منك لنا وطاعةً لله فيما عرّفك من حقنا فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم.

ولا شك بأن هذا الكلام قمة المهزلة وأن ابن عباس لم يمتنع عن بيعة ابن الزبير من أجل يزيد كما ظن يزيه لأن ابن عباس كان ينكر يزيداً كما أنكر ابن الزبير.

ولم يسكت ابن عباس على كلام يزيد وإنما أجابه بجواب فضح فيه آل أمية وهتك أقنعتهم واستعرض جميع مفاسدهم ومما جاء في كتاب ابن عباس ليزيد بن معاوية: لا تحسبني لا أبا لك أني نسيت قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلب مصابيح الدجى ونجوم الأعلام غَادَرَتهم جنودُك مصرّعين في الصعيد مرملين في التراب مسلوبين بالعراء تسفي عليهم الرياح وتعاورهم الذئاب حتى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم فأدرجوهم في أكفانهم.

 

جواب ابن عباس على كتاب يزيد

لقد تاجر عبد الله ابن الزبير بدم الإمام الحسين(ع) وجعله وسيلة للوصول إلى المنصب الذي كان قد اغتصبه يزيد بن معاوية، فحاول أن يقنع الكبار بالمبايعة له، ومن جملة الذين عرقلوا له عمله وأحبطوا له خطته عبد الله بن عباس الذي رفض أن يبايع ابن الزبير، وعندما علم يزيد بهذا الإمتناع ظن بأن ابن عباس رفض ذلك من أجله فكتب إليه كتاباً يشكره فيه على هذا الموقف فقال في كتابه: أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيراً وأنك امتنعت عليه واعتصمت ببيعتنا وفاءاً منك لنا وطاعةً لله فيما عرّفك من حقنا فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم …. فرد عليه ابن عباس بجواب عنيف كان بمثابة فضيحة ليزيد وآل أبي سفيان حيث عدّد له في الكتاب بعضاً من مفاسده، ومما ورد في كتاب ابن عباس ليزيد: لا تحسبني لا أبا لك أني نسيت قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلب مصابيح الدجى ونجوم الأعلام غَادَرَتهم جنودُك مصرّعين في الصعيد مرملين في التراب مسلوبين بالعراء تسفي عليهم الرياح وتعاورهم الذئاب حتى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم فأدرجوهم في أكفانهم، وبي وبهم والله جلستَ مجلسك الذي جلست، فلستُ بناسٍ تسليطَك عليهم الدعيَ العاهر بن العاهر البعيدَ رَحِماً اللئيم أباً وأماً الذي في ادعاء أبيك إياه ما اكتسب إلا العار والخزي والمذلة في الآخرة والأولى وفي الممات والمحيا وإن النبي(ص) يقول: الولد للفراش وللعاهر الحجر..إلى قوله: ولستُ بناسٍ دسك الرجال إلى الحسين بن علي لتغتاله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة حتى أشخصته من حرم جده إلى الكوفة…وكتبتَ إلى ابن مرجانة ليستقبله بالرجال وبمعاجلته والإلحاح عليه حتى يُقتل هو ومن معه من بني عبد المطلب أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس، ولا شيء عندي أعجب من طلبك ودي ونصرتي وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي وأنت أحد ثاري …ألا ومن أعجب الأعاجيب وما عشتَ أراك الدهر عجباً حملُك بنات عبد المطلب وغلمةً صغاراً من وُلده إليك بالشام لتُريَ الناس أنك قهرتنا وأنك تأمرت علينا:

فلقد كان ابن الزبير يؤسس لنفسه ويمهد الطريق أمام أطماعه، وفي المقابل كان يزيد يعمل على إلغاء ابن الزبير من الوجود، وكلاهما ألعن من الآخر إذ لا فرق بين من يقتل الإنسان وبين الذي يتاجر بدمه، ولكن الأرض لم تخل من أصحاب الضمائر الحية هؤلاء الذين تابعوا مسيرة قائدهم وطالبوا بدمه وسلكوا طريقه تحت إمرة الإمام السجاد(ع) ولهذا يمكن القول بأن الظالمين قتلوا بعضهم البعض كالذين يسرقون مبلغاً كبيراً من المال فيختلفون عند القسمة فيقتل بعضهم البعض أو يشي به فيخسر الجميع في وقت واحد، وعندما حصلت تلك المواجهات العنيفة بين ابن الزبير وأعوانه من جهة وبين يزيد ومن ناصره من جهة ثانية فانشغلوا بأنفسهم عما يخطط له المؤمنون الذين انقضوا على الظالمين وعاقبوهم.

وفي تلك المرحلة كان وضع يزيد في الأوساط الإسلامية أسوأ من وضع ابن الزبير الذي استطاع أن يخدع الناس بأسلوبه الشيطاني الذي لم يمر على المخلصين، حيث بلغت النقمة على يزيد أقصى حدودها حيث أدرك الناس بأن السكوت على تلك المجزرة يشكل خطراً على حياة الجميع وكراماتهم لأنهم إن سكتوا هذه المرة فلن يبقى لأحد منهم أية حرمة على الإطلاق لأن السكوت عن قتل الحسين يفتح الطريق أمام يزيد لقتل من يشاء وساعة من يشاء من دون أن يعارضه أحد، وهذا ما أشار له ابن مطيع الذي قال للحسين عند خروجه من مكة: إذا قدمتَ العراق ستُقتَل يا أبا عبد الله وإذا قتلوك لن يهابوا بعدك أحداً أبداً.
وعندما تأزمت الأوضاع وازدادت النقمة على الدولة الأموية حاول يزيد أن يتبرأ ويتنصل من تلك الجريمة حيث شعر بخطورة الموقف الذي طالما استهزأ به من قبل، فلقد تبرأ يزيد من تلك الجريمة وأنكر كونه الآمر بها وحمّل ابن زياد مسؤولية قتل الحسين ولذا راح يقول للناس: لعن الله ابن مرجانة لو كنت مكانه لرضيت من الحسين بأقل من ذلك: وكذا فعل عمر ابن سعد عندما علم بكثرة اللعنات التي تنهال عليه من الناس فلقد أرسل إلى نساء الأنصار في المدينة ليبرئ نفسه من قتل الحسين، كما وأرسل مع رسوله كتاب ابن زياد له الذي ينهاه فيه عن مداراة الحسين ويأمره فيه بقتله حيث اعتبر بن سعد بأن كتاب ابن زياد يشكل وثيقة تبرئة له من دم الحسين ودماء أولاده وأصحابه، فلقد أرسل هذا الكتاب إلى المدينة حيث الناس يلوذون بالإمام السجاد وعمته زينب يواسونهم ويعلنون البراءة من يزيد وأعوانه، ولكن هذه الكتب لم تشفع للظالمين لأن الناس بفضل السجاد وزينب والأصحاب الخلّص قد فهموا الحقيقة وعرفوا تلك الألاعيب التي تعامل بها يزيد وأعوانه مع الناس، وعند ذلك أدرك ابن زياد أنه أصبح المسؤول الأكبر فأرسل إلى عمر بن سعد يطلب منه الكتاب الذي أرسله إليه فأجابه ابن سعد بأنني أرسلته إلى نساء قريش، وبعد ذلك سيطر القلق والرعب على قلوب جميع الظالمين الذين شاركوا في تلك الجريمة النكراء التي ارتكبت في حق الإسلام المتمثل بالحسين ومن كان على نهجه من المؤمنين.

 

إنتفاضة المدينة المنورة

لقد كانت المدينة المنورة تعيش مأساةً حقيقية بعد مجزرة الطف مما دفع بهم إلى نزع الخوف من قلوبهم ومواجهة السلطان الجائر، وهذه الروح الجريئة لم تنبع من حاق أنفسهم بل بقدرة الإمام السجاد وعمته الحوراء زينب وبعض من شاهد تلك المجزرة بعينه من النساء والأطفال الذين كانوا مصدر تلك الحركة التصحيحية التي انطلقت من المدينة المنورة، حيث لم يكفوا عن بيان ما حدث في العاشر من شهر محرم تارة بالكلام وأخرى بالسلوك والفعل كما كان يصنع إمامنا علي بن الحسين(ع) الذي نقل عنه الرواة بأنه عاش بعد المجزرة حزيناً باكياً حتى لنتقل إلى جوار ربه، فلم يُقدَّم له طعام أو شراب إلا وبلّله بدموع عينيه، وقد تأثر بتلك الحالة الصديق والعدو والقريب والبعيد، وكان(ع) إذا مرّ بسوق القصابين يسألهم إذا كانوا يسقون ذبيحتهم قبل ذبحها ثم يقول لهم وهو يبكي: لقد ذُبح أبو عبد الله عطشاناً: وكان يبكي أهل السوق لبكائه.

وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أن بعض الأشخاص قال للإمام السجاد عندما كان يرى تلك الحالة التي كان عليها بعد استشهاد أبيه، كان يقول له: إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، فيقول له الإمام:كيف لا أبكي وقد نظرت إلى أبي وأخي وعمي وبني عمومتي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي مجزرين كالأضاحي: وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) إن جدي علي بن الحسين بكى على أبيه طيلة حياته وكان إذا قُدم له طعامه وشرابه ووُضع بين يديه لا يزال يبكي حتى يبتل طعامه من دموع عينيه:

وهذا السلوك كان له الأثر الكبير على نفسيات الآخرين الذين شعروا بحجم المأساة التي عاشها آل الرسول قُبيل المعركة وبعدها، كما كان له الأثر الأكبر على إظهار الحقيقة التي كانت مخفية على كثير من الناس.

وقد روى المؤرخون بأن الرباب إحدى زوجات الحسين(ع) لما رجعت إلى المدينة ودخلت بيتها أمرت بقلع سقفه لتجلس تحت حرارة الشمس، وعندما يقال لها قومي إلى الداخل تصيح باكية لقد رأيت الحسين بعيني تصهره حرارة الشمس، وهذا أحد النماذج التي ألهبت شعور أهل المدينة وأحدثت ضجة كبيرة في المدينة مما جعل واليها عمرو بن سعيد الأشدق يشعر بحجم الأخطار التي باتت تتهدده من خلال وقع تلك الأحداث المريرة التي جرت على آل الرسول، وقد ورد بأن والي يزيد على المدينة كتب إلى يزيد: إن زينب بنت علي وأخواتِها قد هيّجن عليك الرأي العام، والمدينةُ سائرة إلى الثورة لا محالة ما دامت فيها، فأمره يزيد بأن يخرجها من الحجاز ويفرق بينها وبين الناس، فعرض عليها الوالي أمر أميره يزيد فقالت(ع):لقد كنا نساق كما تساق الأنعام عندما قُتل خيارنا وحملنا على الأقتاب من بلد إلى بلد فوالله لا أخرج من حرم جدي، فجاءتها زينب بنت عقيل وقالت لها: يابنة عماه لقد صدَقَنا الله وعده وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء فطيبي نفساً وقري عيناً وسيجزي الله الظالمين بما اقترفت أيديهم أتريدين بعد هذا هواناً إرحلي إلى بلد آمن ثم اجتمع إليها نساء بني هاشم فما زلن بها حتى اختارت مصر، ولا أريد أن أعلق الآن على مكان دفنها وكيف أنها جاءت من مصر إلى دمشق أو أنها توفيت في مصر فهذا بحث آخر، المهم أنها(ع) خرجت من المدينة وبقيت الأمور تتفاعل وتتصاعد حيث أصبح الحديث عن مجزرة كربلاء الشغل الشاغل لأهل المدينة، وبسببه ازدادت نقمة الناس على يزيد الذي اصبح في وضع حرج لا يُحسد عليه، وقد أحس المسلمون بالمسؤولية لتخاذلهم عن نصرة إمامهم وتلبية ندائه للجهاد، فكانوا كلما تذكروا هذا الخذلان ازدادت مشاعر الحقد على بني أمية فراحوا يفكرون بالقائد البديل فلم يجدوا أمامهم سوى عبد الله ابن الزبير المخادع الأول الذي اعتصم في بيت الله الحرام ليتصف بالصبغة الدينية التي تخوّله في نظر الناس إلى استلام زمام الأمور وتولي منصب الخلافة، وقد استعمل هذا المخادع دم الإمام الحسين كوسيلة للوصول إلى هدفه الدنيوي الطامع، ولقد عبّر أهل المدينة عن شعورهم تجاه يزيد بإعلان العصيان والتمرد ورفضهم لتلك البيعة التي فرضها عليهم معاوية بالمال والسلاح عندما سلّم ولده زمام الأمور، فلقد كان هذا الحكم المتسلط والظالم والمتغطرس سبباً لحصول انتفاضات كثيرة، وقد أججت نيرانَها مجزرةُ كربلاء، فقام أهل المدينة بانتفاضة لم تأخذ طابعاً شيعياً وإن كان سببها قتل الإمام الحسين(ع) حيث شغلتهم بشاعة تلك المجزرة عن التفكير في المذهبية والمعتقد.

فلقد أدرك يزيد خطورة الموقف وأراد أن يتنصل من تلك الجريمة فراح يغير سياسته وطريقته في التعامل مع الرعية ويُظهر لهم الرفق واللين ليُثبت لهم عكس ما يعرفون عنه من الإجرام والظلم، ولكن هذه اللعبة في هذه المرة لم تمر على الناس بفضل الوعي الذي زرعه الإمام السجاد وعمته زينب في عقول الناس فبقيت صورة يزيد في عقولهم على حالها، بقيت تلك الصورة البشعة والملوثة بالدماء البريئة بل الدماء الطاهرة والأنفس الزكية.

لقد أخاف الحسين(ع) يزيداً مرتين، مرة في حياته ومرة بعد استشهاده ولكن خوفه من الحسين بعد استشهاده كان أعظم من خوفه في حياته لأنه في حياة الحسين كانت الدعايات اليزيدية ذات أثر على قلوب الناس ونفوسهم ولكن بعد أن ارتكب يزيد تلك الجريمة النكراء لم يعد لتلك الدعايات أي أثر أو أي مفعول حيث أبطل استشهاد الحسين مفعولها فلم يعد الناس يصدقون شيئاً مما يصدر عن الجهة الأموية لأن أمرهم قد فُضح على رؤوس الأشهاد.

فالإمام الحسين في حياته لم يقصد إرعاب يزيد بل يزيد هو الذي كان يشعر بالرعب من وجود الحسين لكونه الخليفة الشرعي ولكون الجميع يعرفون بأن ابن معاوية مغتصب للخلافة وهي لا تصلح له لأنه فاقد للأهلية وللعقل ولجميع الصفات الإنسانية فهو لا يصلح أن يكون قائد نفسه حتى يكون قائداً للأمة، هو إمام يدعو إلى النار والحسينu يدعو إلى الجنة، وقد كان مصدر خوف يزيد من الحسين هو معرفته بشأن الإمام الحسين ووزنه في الوسط الإسلامي بل في غيره من المجتمعات التي كانت تعرف رسول الله وخلفاءه الحق الشرعيين.

وهذا الخوف لم يصب يزيداً فقط وإنما أصاب كل ظالم مغتصب للحق، ولأجل ذلك نلاحظ بأن جميع أئمتنا سلام الله عليهم قُتلوا على أيدي الحكام الظالمين بسبب خوف الحكام من أوضاعهم الدينية والإجتماعية والسياسية والشعبية حيث امتلك الأئمة قلوب الناس من دون تخويف وترهيب وإغراء بالمال والسلطة وغيرهما من وسائل الإغراء التي كان يستعملها بنوأ أمية وبنوا مروان وبنوا العباس من بعدهم.

وهذا التغيير المفاجئ الذي ظهر من يزيد لم يقف عنده فقط بل غيّر في نظام إدارته وحكمه فعزل بعض ولاته ونصّب مكانهم أشخاصاً لم يكونوا ذوي شهرة بالظلم وأمرهم بالإحسان إلى الناس كما فعل بواليه على المدينة الوليد بن عتبة حيث عزله عن المدينة وولى عليها عثمان بن محمد بن أبي سفيان وقد أراد هذا الوالي الجديد أن يقوم بشيء يغير به صورة يزيد ويصوره للناس بعكس ما يظنون فجمع زعماء المدينة وأشرافها وكوّن منهم وفداً كبيراً وأرسلهم إلى الشام لينزلوا في ضيافة الأمير يزيد ويروا بأعينهم تعامله الرفيق مع أهل رعيته ويرجعوا إلى أهل المدينة بالخبر اليقين فسافر الوفد إلى الشام وبقي أهل المدينة ينتظرون رجوع الوفد بفارغ الصبر.

فعندما عزل يزيد واليه على المدينة الوليد بن عتبة وعيّن مكانه عثمان بن محمد بن أبي سفيان حاول هذا الأخير أن يقوم بشيء يُرضي الأمير ويدخل السرور والإطمئنان إلى قلبه، فكوّن وفداً كبيراً من أعيان المدينة وزعمائها وأشرافها وأرسلهم إلى أميره يزيد ليلمسوا الحفاوة عنده والإكرام علهم يخففون من نقمتهم عليه ويحاولون أن يقنعوا أهل المدينة ببراءته من دم الإمام الحسين(ع) وبهذه الطريقة يتخلون عن دعوة عبد الله ابن الزبير ويستقر يزيد على كرسي عرشه القائم على الدماء والكرامات فسار الوفد المؤلف من أشراف المدينة يترأسهم عبد الله ابن حنظلة والمنذر بن الزبير وبقي أهل المدينة ينتظرون رجوع الوفد بفارغ الصبر ليعرفوا النتيجة والحقيقة، وعندما حط الوفد رحاله في قصر الخضراء بالغ يزيد في إكرامهم وعطائهم واحترامهم حيث أبدى لهم كل رفق ولين وشفقة وتكريم وقد أعطاهم الأموال الكثيرة ليموّه مسؤوليته عن تلك الجريمة التي قصمت ظهور المسلمين، حيث ظن بأن الوفد سوف يرجع إلى المدينة وهو يحمل روحية تختلف عن الروحية التي أتى بها، فإذا استطاع يزيد أن يقنع أفراد هذا الوفد بعدم مسؤوليته عن مجزرة كربلاء فقد استطاع أن يسيطر على الموقف، ولكن ظنه لم يكن في محله فلقد طاشت سهامه وخابت ظنونه لأنه لم يحصل من أفراد الوفد إلا على السباب والشتائم والتوبيخ والتأنيب والغضب فلقد عاد الوفد إلى المدينة وقالوا لأهلها: لقد وفدنا على رجل لا يعرف الدين ولا الإسلام يشرب الخمور ويتعاطى جميع أنواع الفجور ويسامر الغلمان وينكح البنات والأخوات وإنا نُشهدكم بأنّا قد خلعناه فاخلعوه: وقال عبد الله بن حنظلة: والله لو لم يكن معي أحد لقاتلته بنفسي ولدي ومن معي من أهلي: ثم اجتمع عليه أهل المدينة يبايعونه على قتال يزيد، وقد علم يزيد بهذا الخبر وأيقن بأن طريقته الخداعية التي استعملها مع وفد أشراف المدينة لم تنفعه بشيء ولم تستر عليه جرائمه اشتد به الغضب واشتعلت بداخله نيران الشر وعاد إلى طريقته الأولى ثم أرسل إلى المدينة النعمان بن بشير ليحذرهم من عاقبة موقفهم ضد حكمه ويخوفهم من سطوته فأتى إلى المدينة ثم عاد فاشلاً لم يستطع أن يغير في موقفهم شيئاً وقد أطلع أميره على ما جرى بينه وبين أهل المدينة الذين أعلنوا رفضهم القاطع لحكم يزيد وأصروا على قتاله، وقد بدأ أهل المدينة بالتحرك الفعلي والإنتفاضة الغاضبة فهجموا على دور الأمويين وأنصارهم فهربت نساؤهم وأطفالهم إلى بيوت العلويين بهدف الإحتماء بهم وبالخصوص دار الإمام زين العابدينu فعاملوهم برفق ولين وقد قالت نساء الأمويين بعد ذلك: والله لم نجد مع أهلنا وفي بيوتنا معاملة كالتي وجدناها من الإمام زين العابدين وبقية العلويين، وقد استغاث الأمويون بيزيد بن معاوية فانتدب عمرو بن سعيد الأشدق ليرسله على رأس جيش كبير ليؤدب به أهل المدينة فاعتذر عمرو عن ذلك فأرسل مسلم بن عقبة على رأس جيش تجاوز عدده خمسة وعشرين ألف مقاتل لينتقم من أهل الصلاح ويلقنهم درساً قاسياً ويخوّف كل من يريد الوقوف في وجهه، وقد أوصى قائدَ جيشه بأن يسرف في قتال أهل المدينة والفتك بهم وإباحة المدينة لجيشه مدة ثلاثة أيام إن استطاع التغلب على أهلها، ثم أمره بعد الإنتهاء من غزو المدينة أن يغزو مكة ويجبر أهلها على بيعته وعلى أن يكونوا عبيداً له ولأسرته، وسار مسلم بن عقبة بالجيش متوجهاً نحو المدينة التي حفر أهلها خندقاً لاتقاء جيش الشام كما فعل النبي(ص)في معركة الأحزاب، ولما وصل جيش يزيد إلى مشارف المدينة أشار عبد الملك على الغزاة أن ينزلوا من الجهة الشرقية منها في مكان يدعى الحرة فدخلوا المدينة من تلك الجهة ودارت بين الطرفين معركة دامية انتهت بانتصار جيش يزيد لعدم تكافؤ القوتين إذ أن جيش يزيد بلغ ثلاثين ألفاً ولم يتجاوز عدد المقاتلين من أهل المدينة الألفين، فلقد دخل الجيش الظالم مدينة رسول الله وقتلوا من أصحاب الرسول أكثر من ثمانين شخصاً ثم اعتدوا على الأطفال فقتلوا سبعمئة طفل من أولاد المهاجرين والأنصار وأكثر من عشرة آلاف شخص من أهل المدينة، ثم أبيحت نساؤها لجيش يزيد فكان الرجل منهم يصنع بأية امراة أو فتاة ما يريد من دون أن يمنعه أحد، ويذكر كثير من المؤرخين بأن المرأة من أهل المدينة كانت تلوذ بمحراب رسول الله فكان الرجل منهم يدخل إلى المسجد ويغتصب المرأة بداخله من دون أن يراعي أية حرمة لتلك البقعة المقدسة والمكان المبارك، وقد ذكر المؤرخون بأن شامياً دخل على امرأة من الأنصار حديثة عهد بالولادة وهي تحتضن طفلها الذي لم يتجاوز عمره خمسة عشر يوماً فلم يجد في بيتها شيئاً فطلب منها مالاً فقالت له والله ما ترك لنا القوم شيئاً فجذب الطفل من على ثديها وضرب به الحائط فتناثر لحم الطفل ودماغُه في أنحاء البيت، بهذه الطريقة تعاطى يزيد مع كل من أنكر جرائمه وبهذه الطريقة اعتلى الأمويون سدة الحكم حيث لا علم عندهم ولا حلم ولا إيمان ولا رحمة ولا شفقة ولا صفات حسنة يجذبون بها الناس ليس عندهم سوى ما يرضي الشيطان الرجيم، ويذكر أبن كثير واليعقوبي وغيرهما بأن ألف إمرأة أولدت في تلك السنة من غير أزواج، ثم بعد أن فعل بهم قائد الجيش ما فعل أمرهم بالبيعة ليزيد وأنهم عبيد له ولأسرته وأنهم لا يملكون من أمرهم شيئاً وكل من يمتنع عن البيعة له كان عقابه الموت، ولم يكن ذلك سوى انتقام أبداه يزيد ضد محمد وآله9والذين قتلهم يزيد وعذبهم هم مسلمون آمنوا بالله ورسوله ونصروا الرسول ولأنهم كذلك فقد عاقبهم كرهاً منه لله ورسوله والإسلام.

وبعد أن رفض أهل المدينة مبايعة يزيد اشتد غضبه عليهم وأرسل جيشه إليهم فقتلوا منهم الآلاف من الرجال والأولاد واستباحوا النساء ونهبوا كل شيء من دون أن يراعوا أية حرمة من الحرمات حتى حرمة قبر النبي ومسجده وأذلوا الجميع شر ذل حتى أصحاب رسول الله منهم، بعد ذلك زادت نقمة الناس عليه واشتد كرههم له ونبذهم لسلوكه السيء في التعاطي مع أفراد رعيته، فبعد أن أنهى قائد الجيش اليزيدي مهمته في المدينة المنورة خرج منها بجيشه قاصداً مكة المكرمة ليفعل بها وبأهلها ما فعله بالمدينة وأهلها بناءاً لأوامر يزيد بن معاوية، فقد خرج مسلم بن عقبة قائد الجيش اليزيدي من المدينة متوجهاً نحو مكة لقتال عبد الله ابن الزبير ومن التف حوله من المكيين ساءت حالته الصحية فاستدعى الحصين بن نمير وولاه أمر الجيش وأوصاه بتنفيذ أوامر يزيد وخصوصاً قتال ابن الزبير وإذلال أهل مكة وبعد ذلك مات ودفنه بن النمير في مكانه، فجاءت إحدى النساء ونبشت قبره وصلبته في ذلك المكان واجتمع عليه الناس يرجمونه بالحجارة فعلم الحصين بن النمير بذلك فرجع وواراه في قبره وقتل جماعة ممن رجموه كما يذكر اليعقوبي في تاريخه.

وعندما أشرف بن نمير بجيشه على مكة استعد ابن الزبير لمقاومته ودارت بين الطرفين معركة قوية وراح جيش الشام يرمي الكعبة المشرفة بالنيران حتى أحرقوها وانهدمت ولم يبق لها أثر وكان عبد الله بن عمير الليثي ينادي بأهل الشام ويقول: يا أهل الشام هذا حرم الله الذي كان مأمناً في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد فاتقوا الله في حرمته: ولكنهم لم يأبهوا بهذا الكلام حيث سقطت في نظرهم جميع المحرمات والقيم والعادات والتقاليد.

يقول المسعودي في مروج الذهب: إن الحصين بن نمير ومن معه من أهل الشام نصبوا المناجيق على مكة والمسجد من الجبال والفجاج …فانهالت أحجار المنجنيق والنيران والنفط وغيره من المحرقات على الكعبة وما زالوا يقذفونها حتى تهدمت واحترقت:

وقد حصل هذا الأمر سنة ثلاث وستين للهجرة قبل موت يزيد بن معاوية بأيام، وفي هذا قال أبو حرة المديني:  ابن نمير بئس ما تولى         قد أحرق المقام والمصلى

وبعد أيام من هذا الإعتداء الشنيع على المدينة ومكة هلك يزيد بن معاوية في موضع من الشام، وعندما انتهى خبر موته إلى الجيش وقائده الحصين الذي حاول أن يخفي نبأ موته على الجيش خوفاً من الفتور غير أن انتشار الخبر كان أسرع من إخفائه وأقوى حيث علم الجميع بموت يزيد وهلاكه، وما أن انتشر خبر موته بين الجيش حتى دبت فيه الفوضى، فرأى الحصين بن نمير أن يرجع إلى الشام لينظر في أمر الخلافة فطلب من عبد الله بن الزبير أن يذهب معه إلى الشام ووعده بأن يبايعه فرفض ابن الزبير ترك مكة بل بقي معتصماً فيها.

وقد بايعته كثير من الأمصار، أما أهل الشام فقد بايعوا معاوية بن يزيد وكان شاباً يافعاً لم يبلغ العشرين من العمر، وبعد أيام قليلة من مبايعته صعد المنبر وخطب في الناس وقال لهم:لقد نازع جدي معاوية من هو أولى منه بالخلافة وأحق بها لقرابته من رسول الله وركب بكم ما تعلمون حتى أتته منيته وصار رهيناً في قبره بذنوبه وأسيراً لأخطائه وجرائمه وقبل أن يرحل عن هذه الدنيا قلّد الأمرَ أبي فصار أسيراً بجرمه وذنوبه وإن من أعظم الأمور علينا سوء مصرعه وقبح منقلبه وقد قَتل عترة الرسول وأباح مدينته وهدم الكعبة، ثم قال: لقد وُلّيتُ وتقلدت أمراً ليس لي فإن أحببتم تركتها لرجل قوي … وإن شئتم تركتها بينكم شورى، وقد أصر على موقفه رغم إصرار أهله عليه بتولي هذا المنصب، فظنوا بأن شخصاً إسمه عمر هو الذي حرضه على ذلك فدفنوه حياً.

لقد بقي معاوية بن يزيد بن معاوية مصراً على موقفه رغم إصرار الناس عليه، وكان رده الأخير عليهم: إن الدنيا لو كانت مغنماً فقد لقينا منها حظاً وافراً وإن لم تكن كذلك فحسب آل أبي سفيان منها ما أصابوا، ثم دخل منزله ولم يخرج منه إلى أن مات وقد مات بعد موت أبيه يزيد بأربعين يوماً وقيل بأربعة أشهر.

وهذا الموقف أتاح الفرصة أمام ابن الزبير أكثر حيث اتسعت دعوته في مختلف الأمصار، وقد انتهى الأمر باستيلاء مروان ابن الحكم عليها ولم يكن له في ماضيه وحاضره ما يجعله مقرباً من المسلمين فأبوه لأنه كان طريد رسول الله ولعينَه وقد كانت مواقفه تجاه الإسلام والمسلمين سلبياً فلم يقبل به أحد سوى الزمرة التي كانت على شاكلته، لقد كان مروان بن الحكم إنساناً مجرماً وداهية كبرى فلقد كان له مواقف سلبية تجاه أمير المؤمنينu وكذلك فقد رأى الناس بأن بيعتهم لابن الحكم هي استمرار للعهد الأموي وهو العهد الأسود والأسوأ على المسلمين منذ ظهور الإسلام، إذاً كان هناك شخصان متصديين للحكم، عبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم، وكلاهما سيء ولكن الناس كانوا يرون بأن مبايعة ابن الزبير أهون الشرين حيث كانت مواقفهما سيئة عبر تاريخهما الحافل بالمواقف الذليلة تجاه أهل الحق.

وفي تلك الفترة توالت الأحداث وتراكمت الإضطرابات فمات معاوية الثاني تاركاً الدولة مضطربة ومفككة تتجاذبها الأطماع من جميع الجهات، فالعلويون يريدونها للعلويين، وأكثر المسلمين في الحجاز والبصرة يريدونها لابن الزبير وقد بايعوه ولم يبق إلى جانب الأمويين سوى الشام وبعض المناطق القريبة منها، وقد انقسم الأمويون قسمين: قسم أرادها لخالد بن يزيد وقسم أرادها لمروان بن الحكم، وقد أدى هذا الإنقسام بين الأمويين إلى أن يبايع بعضهم عبدَ الله بن الزبير، وقد كان الرابح الأكبر من تلك الإضطرابات والإنقسامات هو ابن الزبير الذي بايعه أكثر المسلمين، منهم من كان يرى فيه صفات الحاكم ومنهم من كان يعلم جوهره الخبيث وإنما بايعه من أجل أن يتخلص من الحكم الأموي كما فعل بعض الهاشميين.

 

ثورة التوّابين

هناك صفة نقص تنطبق على كثير من الناس من الذين أهملوا المعرفة حول ما يتعلق بدينهم ومقدساتهم وتاريخهم، فهم يحبون النبي وآله ويوالونهم في الحياة، ولكنهم لا يهتمون بتفاصيلهم وتواريخهم التي تشتمل على علوم ومواقف تزيدنا حباً لهم وفهماً لحقيقتهم.

لقد حدثت ثورة كربلاء في العاشر من المحرم واستشهد فيها الحسين ومن كان معه وقد استنكرنا هذه الجريمة وأدنّا مفتعليها وتبرأنا منهم ولم نعرف عن الثورة سوى القشور التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا أمر لا يليق بنا كمؤمنين بالحسين ولا ينسجم مع الخط الحسيني الذي يدعو إلى العلم والمعرفة، ونحن إذا أردنا أن نفهم الحسين وجب علينا أن نفهمه من جميع النواحي والجهات إذ أن نهج الحسين لم يبدأ عن ولادته ولم ينته عند استشهاده بل استمر ووصل إلينا وما زال باقياً وسوف يستمر إلى يوم البعث لأنه خط الرسالة السمحاء.

وما حدث بعد ثورة كربلاء من الثورات والمواقف الكثيرة لم يكن بعيداً عنها وإنما كان جزءاً متمماً لها بدءاً من سبي بنات رسول الله ووصولاً إلى أيامنا هذه لأن كل ما حدث بعدها إنما حدث بسبب المجال الواسع الذي فتحه الحسين أمام الأحرار، ولهذا فإننا نعتبر بأن الثورة الحسينية كانت البداية لما حدث بعدها.

ومن جملة الأحداث التي تولدت عن ثورة الإمام الحسينu ثورة التوابين فلقد تنفس الشيعة بهلاك يزيد بن معاوية في تلك الظروف الغامضة التي هلك فيها وكذلك تنفسوا بمواقف إبنه معاوية من الخلافة التي اعترف بأنها ليست من حق آل أبي سفيان والذي اعتبر بأن جده معاوية نازع علياً الذي هو أحق بالخلافة منه فلقد بكى معاوية بن يزيد على أبيه وجده معترفاً بأن مصيرهما سيء بسبب الجرائم التي ارتكباها في حياتهما.

فبعد مجزرة كربلاء والإضطرابات التي حدثت بسببها إلتجأ أهل العراق إلى عبد الله ابن الزبير لكونه أقوى المعارضين للحكم الأموي، والتجأ عبيد الله بن زياد إلى البصرة التي كان أكثرها من مؤيدي الحكم الأموي الجائر فلقد أخافه موت يزيد وولده لأن الجهة التي كانت تغطي عليه جرائمه ضد الأبرياء قد زالت من الوجود فأتى البصرة وكان فيها أميراً ولكن هذه الإمارة لم تدم طويلاً حيث تجرأ الناس عليه فلم يعد أحد يهابه أو يخاف من سطوته بل أصبح رأيه غير نافذ حيث كان أي واحد من الناس يرد عليه آراءه بعد أن كانت أوامره قبل ذلك نافذة من دون معارض، وقد بلغ ضعفه ووهنه أنه إذا صعد المنبر للكلام كان الناس يرضخونه بالحجارة من دون أن يمنعهم أحد حيث تحولت البلاد إلى غابات يحكمها الإضطراب وتسيطر عليها الفوضى بسبب غياب الحاكم المؤهل لتولي السلطة.

فلقد شعر الناس بحجم الخطر الذي بات يتهدد أمنهم واقتصادهم بوجود عبيد الله ابن زياد ورأوا بأن بقاءه يشحن في عزيمة الخوارج الذين كانوا يتحيلون الفرص للإنقضاض على أهل الحق وبالأخص الموالين لعلي وأبنائه(ع) فذهب الشيعة إلى الأحنف بن قيس لينهض بهم فأبى عليهم فقالوا أنت سيدنا فقال لست بسيدكم: وكان ابن زياد قد عيّن عمر بن سعد أميراً على الكوفة فخرجت نساء الكوفة باكيات نائحات يندبن الحسين ومن قُتل معه في كربلاء فألهب بكاؤهن شهور أهل الكوفة فذهبوا إلى قصر عمر بن سعد وطردوه منه وقالوا له:لا حاجة لنا في بني أمية ولا في إمارة ابن مرجانة واختاروا عامر بن مسعود أميراً عليهم فأخبروا ابن الزبير بذلك فوافقهم وعينه أميراً عليهم إلى أن عزله وعيّن مكانه عبد الله بن يزيد.

وكان عبد الله بن الزبير ومن معه يلتمسون أية حركة ضد الحكم الأموي حيث كانوا يرون في ذلك دعماً لحركتهم وأهدافهم وقد وجد الزبيريون أمنيتهم في ثورة التوابين فلقد أحس الشيعة بالخطأ الفادح الذي ارتكبوه في حق إمامهم الحسين بن علي’ووجدوا بأن هذا الخذلان لا يغسله إلا قتل كل من قاتل الحسين فلقد راحوا يُكثرون من البكاء على الإمام وقد أطلقوا على أنفسهم إسم التوابين حيث أعلنوا توبتهم من عدم نصرتهم لإمامهم وقد سيطر عليهم الندم لحظة دخول السبايا إلى الكوفة نادبات يتقدمهن رأس الإمام على رأس الرمح والإمام السجاد مكبّل بالحديد وقد صمموا منذ تلك اللحظة على القيام بثورة ضد الحكم الأموي صاحب تلك الجريمة النكراء، وعندما لمس ابن زياد هذا الأمر وقف على المنبر وراح يتحداهم ويخوفهم من إصرارهم على موقفهم كما راح يصف الحسين بأوصاف لا تليق بشأنه الرفيع، فلقد ذكر هذه الأوصاف في وقت كانت النفوس فيه مشحونة بالغضب ضد بني أمية فوق من بين الناس رجل إسمه عبد الله بن عفيف الأسدي وقال لابن زياد: الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ومن استعملك وأبوه يا عدو الله تقتلون النبيين وأبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين فأمر ابن مرجانة باعتقاله وقتله، ولقد زادت هذه الحادثة في الطين بلّة ووسعت رقعة النقمة على ابن زياد فاجتمع زعماء الشيعة وارتأوا أن يهدّؤوا الوضع حتى يتهيأ عندهم الظرف المناسب للتخلص من ابن زياد، وقد تزعّم حركة التوابين خمسة من كبار الموالين لعلي بن أبي طالب(ع) وهم سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجية الفزاري وعبد الله بن سعد الأزدي وعبد الله بن وال التميمي ورفاعة بن شداد البجلي، وكلهم عاصروا أمير المؤمنين علياً وقاتلوا معه في صفين والجمل والنهروان وكانوا يجتمعون بين الحين والآخر في غاية من التكتم والحذر على قاعدة إستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، وكانوا في اجتماعاتهم يذكرون مصيبة الحسين ويبكون عليه ويعلنون ندمهم على الخذلان الذي صدر منهم في حقه يوم المعركة ويعاهدون الله تعالى على الأخذ بثأره من كل من كان له علاقة بارتكاب تلك الجريمة حتى ولو أبيدوا على آخرهم حيث أدركوا كما علّمهم الحسين أن الحياة في ظل الحكم الجائر هي موت أحمر وأن الحياة الحقيقية هي الحياة العزيزة وإن لم تكن إلا بالموت، فكلما اجتمعوا كان يقول أحدهم: فويل للقاتل وملامة للخاذل إن الله لم يجعل لقاتله حجة ولا لخاذله معذرة إلا أن يناصح الله في التوبة فيجاهد القاتلين وينابذ القاسطين فعسى الله عند ذلك أن يقبل التوبة ويقيل العثرة إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل بيته.

وقد كان هؤلاء الزعماء يجتمعون مع من يأوي إليهم ويطمئنون إلى وفائه وإخلاصه في منزل سليمان الخزاعي ويؤنبون أنفسهم وضمائرهم على الخذلان الذي صدر منهم في حق الحسين.

 

 

تحرك التوابين للأخذ بالثأر

إجتمع زعماء حركة التوابين في منزل سليمان بن صرد الخزاعي وعاهدوا الله تعالى على الأخذ بالثأر من قتلة الإمام الحسين وأصحابه في كربلاء ورأوا بأن السكوت عن الحكم الظالم جريمة في حق الإسلام وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس فقرروا القيام بثورة ينتقمون بها من كل ظالم شارك في هدر دم الإمام الحسين، فلقد بدأت حركتهم بعد استشهاد الحسين بأشهر قليلة ولكنهم لم يعلنوا عن تلك الحركة لعدم توفر الأجواء المناسبة وبقيت في طي الكتمان إلى شهر ربيع الأول سنة أربعة وستين للهجرة أي عندما بلغهم خبر وفاة يزيد بن معاوية وكانوا في تلك الفترة يجمعون الأموال ويشترون السلاح الذي يحاربون به بني أمية فلقد بدأ التأسيس سنة إحدى وستين للهجرة وكانوا يدعون الناس سراً إلى الأخذ بثأر الإمام الحسين وقد أجابهم كثير من الناس إلى دعوتهم واستعدوا لقتال يزيد عندما تتاح لهم الفرصة وتتهيأ الأجواء والمناسبة والمقدمات اللازمة للحرب، فعندما هلك يزيد بن معاوية كتب سليمان الخزاعي إلى الشيعة في المدائن التي انتقلوا إليها من الكوفة وإلى شيعة البصرة يستنهضهم للأخذ بثأر الحسين والقيام بثورة ضد بني أمية فأظهروا استعدادهم لذلك حيث ضاق بهم الخناق بسبب الطوق الأمني والنفسي الذي فرضه الأمويون على كثير من الناس وبالخصوص على الموالين لعلي وأبنائه(ع) وقد اعتبر أصحاب حركة التوابين بأن وفاة يزيد وانقسام الأمويين على بعضهم البعض هي الفرصة المناسبة لتفجير الثورة والإنتقام من الظالمين وعندها بدأت حركتهم تظهر بين الناس وراع زعماء الثورة يجتمعون بالناس ويدعونهم إلى الوقوف ضد الحكم الأموي الغاشم فراح يأتي الناس مجموعات مجموعات حتى اجتمع ستة عشر ألف شخص كلهم أعلنوا استعدادهم لقتال النهج الحاقد المتمثل بالدولة الأموية آنذاك، وقد حركتهم روح كربلاء فاستماتوا في سبيل الدفاع عن نهج الحق، وقد كان من المفروض على عبد الله بن الزبير أن يرتاح لهذه الحركة التي أصرت على قتال أعدائه الأمويين، فلقد كان بإمكانه أن يضم أفراد هذه الحركة إلى جيشه ولكن جماعة من أنصار ابن الزبير أشاروا على عامله على الكوفة عبد الله بن يزيد الأنصاري أن يهاجم التوابين ويمنعهم من الخروج لقتال الأمويين حيث كان يرى هؤلاء بأن استيلاء الشيعة على الحكم يشكل خطراً على مخطط ابن الزبير الذي كان يعمل ضد الشيعة وضد الأمويين في آن واحد، ولكن بن يزيد الأنصاري لم يتهور في اتخاذ القرار في شأن التوابين بل قال لتلك الجماعة التي أشارت عليه بمنع التوابين من القيام بثورة:الله بيننا وبينهم إن هم قاتلونا قاتلناهم وإن تركونا لم نطلبهم وليس لدينا ما يمنع من خروجهم على من قاتل الحسين لعن الله قاتليه وظالميه، ثم تابع الأنصاري كلامه قائلاً:هذا ابن زياد قاتل الحسين وقاتل خياركم وأماثلكم قد توجه إليكم من الشام وأصبح على مسيرة يوم فقتاله والإستعداد له أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم ليقتل بعضكم بعضاً فيلقاكم عدوكم غداً وقد أنهككم القتال وتلك والله أمنيته:

لقد كان عامل ابن الزبير على الكوفة يرى بأن نجاح الشيعة في الثورة أهون من بقاء الحكم الأموي حيث يمكن التفاهم مع الموالين، وقد نجح فيما طرحه على جماعته ورأوا السداد في رأيه وقد كان يعلم بأن ابن زياد لم يأت إلى الكوفة من أجل قتال الشيعة أو التوابين وإنما أتى من أجل القضاء على ابن الزبير وأنصاره، وبهذه الطريقة يصل ابن الزبير إلى هدفه من دون أن يقاتل ابن زياد تاركاً أمر قتاله إلى التوابين وهو بعد المعركة يقطف الثمار من دون أدنى تعب، وقد عزم قادة ثورة التوابين على الخروج لقتال الأمويين الذين كان عددهم كبيراً جداً فأرسلوا إلى الشيعة فلم يستجب لهم سوى أربعة آلاف رجل فخرجوا إلى النخيلة وأقاموا بها ثلاثة أيام ثم تابعوا إرسال الرسل إلى الذين لم يتحركوا معهم فالتحق بهم ألف رجل، فأصبح عددهم خمسة آلاف مقاتل، أما سليمان بن صرد الخزاعي أحد زعماء ثورة التوابين فلقد استشار الناس في موضوع الخروج لقتال بن زياد فأشير عليه بأن يذهب إلى الكوفة ويقاتل عمر بن سعد ومن أعانه على قتل الحسين بدل أن يجازف ويواجه جيش الشام فرفض سليمان ذلك وسار بمن معه إلى كربلاء ومكثوا هناك يوماً وليلة عند قبر الإمام الحسين وهم يندبونه ويبكونه ويقولون: ربنا لقد خذلنا بنَ بنت نبينا فاغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

ومن كربلاء اتجه التوابون عبر الفرات حتى وصلوا إلى مدينة قَرقِيسيا وكان فيها أحد أعوان ابن الزبير فساعدهم وأخبرهم ببعض تفاصيل الجيش الأموي الذي بلغ عدده آنذاك ثلاثين ألفاً ونصحهم بأن يسبقوه إلى عين الوردة وينزلوا غربيّها ويجعلوها من ورائهم  لتحمي ظهورهم، وبعد خمسة أيام من نزولهم في عين الوردة إلتقى الجيشان فطلب منهم عبيد الله ابن زياد أن يستسلموا ويبايعوا عبد الملك بن مروان بن الحكم فرفض قادة التوابين هذا الطلب وطلبوا من جيش الشام أن ينضموا إليهم ويسلموا الخلافة إلى آل الرسول فرفض أهل الشام هذا الرأي وقابلوه بالسخرية والإستهزاء وأصر الطرفان على القتال، وبدأت المعركة بين الفريقين مع عدم وجود تكافؤ عسكري لأن الجيش الأموي كان أكثر وأقوى ولكن التوابين صمدوا في وجه هذا الجيش الكبير وقاتلوا مستأسدين وكادوا ينتصرون على الجيش الأموي ويهزموه لولا غزارة النبال التي كانت تنزل عليهم من كل جانب حيث أصيب قائدهم سليمان الخزاعي بنبل فقتله على الفور فأخذ الراية من بعده المسيب بن نجية وكان من أبطال الكوفة فحمل بمن بقي معه على أهل الشام فقاتلهم قتالاً عنيفاً قتال المستميت الذي لا طمع له بالحياة ثم أحاط بهم الجيش الأموي من كل جانب وهم ينادون الجنة الجنة إلى البقية من أصحاب أبي تراب الجنة الجنة إلى الترابية، ثم انضم إلى التوابين خمسمئة فارس أتوا من البصرة والمدائن فقيل لعبد الله بن سعيد وهو يصول ويجول لقد جاءك المدد ولحق بنا إخواننا من البصرة والمدائن: فقال يا حبذا لو كان مجيئهم ونحن من الأحياء، فاشتركوا في المعركة وقلوبهم عامرة بالتقوى وعندما قُتل عبد الله بن سعيد وصُرع أكثرهم انسحب رفاعة بن شداد من المعركة وبقي حويرث العبدي بمن بقي معه فطلب منهم أهل الشام أن ينسحبوا من المعركة وانتهت المعركة لصالح أهل الشام ورجع من بقي من التوابين إلى ديارهم وهم قلة قليلة رجعوا يبكون لأنهم لم يحققوا الهدف من ثورتهم.

 

المختار بن أبي عبيدة الثقفي

لقد كانت ثورة كربلاء وما تزال نوراً لأهل الأرض ومصدراً لعزتهم وكرامتهم لأنه نشرت الوعي والجرأة بين الجميع وفتحت لهم مجالات واسعة من أجل التصحيح ودفع الظلم ونصر المظلوم والدفاع عن المعتقدات والذود عن الكرامات وقد كانت كربلاء وما تزال مدرسة للأجيال، فلقد تعلّم منها التوابون كيف يرفضون الذل ويواجهون الظلم فقاموا بمعركة ضخمة استشهد فيها ما يقرب من خمسة آلاف رجل وقد كانت تلك الثورة من نتاج الثورة الحسينية.

ولم يقف الأمر عند حدود ثورة التوابين بل تشجع غيرهم على القيام بما قاموا به فظهر المختار بن عبيدة الثقفي الذي سلك نهج الحق وواجه الظالمين وعاقبهم.

فلقد تركت ثورة كربلاء وما رافقها من الجرائم التي ارتكبها الأمويون أثراً كبيراً في نفوس الأحرار وعبّأت الجميع للثورة ودفعت بهم في طريق النضال والجهاد ومتابعة المسيرة النزيهة بعد أن عمل معاوية على نزع هذه الروح من قلوب المسلمين في عهده فجاءت ثورة كربلاء وخربت مخططات الأمويين وأفشلت لهم جميع مؤامراتهم التي حاكوها ضد الحق وأهله.

لقد رفض الثائرون في كربلاء جميع العروض والمغريات لأن الهدف عندهم كان تحرير الأمة من جور الظالمين، وهذا هو الهدف أيضاً من جميع الثورات التي تولدت عن ثورة كربلاء حيث كان هدف أصحابها إنقاذ الأمة من أيدي الأمويين الذي كانوا مصدر الفتنة والشرخ وكل مصيبة نزلت في ساحة الإسلام.

ولقد حاول كثير من الناس أن يثوروا في وجه الظلم فمنهم من وُفِّق لذلك ومنهم من لم يوفق، فلقد حدثت انتفاضة المدينة وتلاها ثورة التوابين بقيادة سليمان الخزاعي، هذا وقد كان المختار بن عبيدة الثقفي في جميع تلك المراحل يخطط بهدوء ويعمل ويؤسس للثورة بحكمة وروية ويدرس الأمر من جميع زواياه الإيجابية والسلبية، ومن المستحسن عندنا أن نتحدث قليلاً عن شخصية هذا الرجل ليساعدنا ذلك على فهم الدور الذي قام به وقيمة الثورة التي فجرها…

المختار الثقفي هو إبن أبي عبيدة بن مسعود الذي اعتنق الإسلام وأخلص له وقد اشترك في معارك المسلمين مع الفرس وقد اختاره ابن الخطاب للقيادة فأبدى شجاعة قلّ نظيرها وقد مات أبو عبيدة على شاطئ الفرات شهيداً في سبيل الإسلام عندما هجم عليه فيل أبيض من الفيلة التي كان يستخدمها الفرس في حروبهم وداسه حتى قتله، وقد كان له أولاد من خيرة البشر جميعهم قُتلوا في سبيل الله عز وجل، فلقد وُلد المختار الثقفي في مدينة الطائف في السنة الأولى للهجرة حيث استشهد في السابعة والستين من عمره سنة سبعة وستين للهجرة، ويذكر المؤرخون بأن والد المختار أتى به إلى أمير المؤمنين(ع) فمسح الإمام على رأس المختار وقال له: يا كيّس يا كيس: وقد استنتج الباحثون من هذه الكلمة أن أمير المؤمنين(ع) كان يعبّر بهذه الكلمة عن مخبّآت المستقبل وبما سوف يظهر من البطولات في سبيل الإسلام وحنكة سياسية وتصرفات رشيدة كالأخذ بثأر أهل البيت(ع) ولقد عاصر المختار المغيرة بن شعبة الثقفي وقد كانا من أبرز أهل قبيلتهما في الذكاء والدهاء ولكن المغيرة استعمل دهاءه وذكاءه في المكر والخداع والنفاق كما وصفه كثير من المؤرخين، فقد جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي: لو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يمكن الخروج من باب منها إلا بمكر واحتيال لخرج المغيرة من أبوابها كلها، وقد استعمل ذكاءه في خدمة سلاطين الجور فأعانهم على ظلمهم وجورهم ضد الأبرياء، وقد عاصر المغيرة معاوية في فترة حكمه وقد جاراه على كل مواقفع ضد أمير المؤمنين علي، وأما المختار فلقد استعمل ذكاءه لخدمة الناس وفي سبيل الدين والأمة، وقد اختار الكفاح والثورة لبلوغ أهدافه بدلاً من النفاق والمراوغة، وقد اعتمد على ذكائه وسيفه وجهوده فكان طريقه طويلاً ومحفوفاً بالمشاق والمخاطر وبقي مجاهداً وحاملاً هم الأمة حتى آخر لحظة من عمره المبارك.

لقد كان المختار معارضاً للحكم الأموي وسياسته الخاطئة وكان موالياً للنبي وآله(ص) وقد وقف إلى جانب مسلم بن عقيل في الكوفة ودعا الناس إلى الإلتحاق بالحسين ونصرته، وبسبب ذلك اعتقله الأمويون وسجنوه وعذبوه أشد تعذيب وقد حارب الأمويين مع ابن الزبير عندما فرّ من الكوفة وذهب إلى مكة، وقد دافع عن مكة عندما هجم عليها الجيش اليزيدي بكل ما أوتي من قوة، وقد حارب جيش بن زياد الذي أراد أن يُرجع العراق إلى الحكم الأموي، كما وحارب الزبيريين عندما اكتشف نواياهم وقد قُتل على أيدي أعوان عبد الله بن الزبير.

لقد كان المختار يعمل بكل نشاط وجد في سبيل الحفاظ على الأمة من أيدي الأطماع والطامعين وقد كان سياسياً ناجحاً ورجلاً موهوباً وبطلاً من أبطال التاريخ وحارب قتلة الحسين وقتلهم وأخذ منهم الثأر، وقد اختار العراق لمخططاته السياسية حيث كان أكثر أهل العراق من الموالين لأهل البيت، ولأن المختار كان مواياً صادقاً فقد حاول كثير من الناس أن يشوهوا بصورته ويبتدعوا فيه العديد من الأكاذيب والأساطير، كما هو حال أهل البيت(ع) الذين وضع الوضاعون عنهم الآلاف من الأحاديث التي لم تصدر عنهم ونسبوها إليهم بداعي تشويه الصورة وتعتيم الموقف وقد كان الوضاعون أحد أهم الدعائم للحكام الظالمين، فلقد حارب المختار دولة الأمويين منذ نشوئها بقيادة معاوية وظل يحاربها حتى قضى على ابن زياد في معاركه معه في الموصل وعلى أعوانه ممن اشتركوا في معركة كربلاء فطهر الأرض منهم وخلّص الناس من جورهم وظلمهم الذي لم يكن له مثيل، وقد حارب عبدَ الله بن الزبير وقضى على نفوذه في الكوفة وغيرها من مدن المسلمين ولذا فقد انتقم منه أعوان الزبير أشد انتقام وقتلوه، وقتلوا معه ما يقرب من سبعة آلاف مسلم، وقد عاتبهم عبد الله بن عمر على تلك المجازر التي ارتكبوها ضد المختار والمسلمين أجابوه بقولهم: إنهم سَحَرة كفرة: وقد اجتهد الوضاعون في الكذب والتزوير فاتهموا المختار بالسحر والكفر وأنه كان يخاطب الملائكة وأنها كانت تحارب إلى جانبه في معاركه وأن جبرائيل كان ينزل عليه بصورة طير وإلى ما هنالك من الأكاذيب التي اختلقوها من أجل أن يبرروا ضعفهم أمام إرادة الموالين، ولو دققنا في هذه الأكاذيب لوجدنا بأنها تدينهم وهم لا يشعرون لأن قولهم بأن الملائكة كانت تحارب مع المختار فهذا يعني أنه كان على حق ولو لم يكن على حق لما قاتلت معه الملائكة.

ويُعتبر المختار الثقفي أحد أكبر الأبطال وأعظم الموالين لنهج الحق، والذي ندر وجوده في تلك الأيام التي كان الموالي فيها منبوذاً ومتهَماً ومبغوضاً لدى كثير من الفرقاء والأمم لأن الموالي على حق فهو يرعب أصحاب المطامع الخاصة وإن كان أعزلاً من السلاح حيث كان يرى الناس بأن هناك قوة غيبية تدعم الموالي للنبي وآله، فلقد كان المختار الثقفي بطلاً شجاعاً فشكّل عائقاً كبيراً في طريق كل طامع من الأمويين والمروانيين والزبيريين ولأجل ذلك كان مستهدَفاً من قبل الجميع لأنه شكل خطراً على الجميع في وقت واحد، فلقد كانت نيته أن يأخذ بثأر الحسين ويُرجع الخلافة إلى موقعها الصحيح، أما باقي الفرق فلقد كانوا طامعين بمنصب الخلافة كلٌ يطلبها لنفسه، والطامعون في ذلك الزمان لم يكتفوا بقتل المختار وإنما راحوا يعملون على قتل نهجه وتشويه صورته حتى يتبرأ الناس منه بعد موته، لأنهم إذا تابعوا السير على خطى المختار فهذا يعني أنه تولد عن المختار ألف مختار أو أكثر، فقتلُ المختار فقط لا يكفي لتحقيق أهدافهم لأن وجود نهجه بين الناس حكمه كحكم وجوده بينهم ولأجل ذلك راحوا يستهدفون نهجه وسيرته ويشوهون بسلوكه وصورته حتى يجذبوا الناس إليهم.

لقد اتهموه بالسحر والكفر ووضعوا الأحاديث الكاذبة في شأنه كما وضعوا الأحاديث الكاذبة لمصلحة الخط الأموي فقالوا بأن النبي قال: إن الله يدني معاوية منه يوم القيامة ويجلسه إلى جانبه لأنه حارب علي بن أبي طالب:

فإذا نسبوا هذا الكلام للنبي في ذم علي فليس من الغريب أن يذموا المختار وغيره من الموالين وينسبوا إليهم السحر والكفر والنفاق وغير ذلك من الصفات الذميمة لأنه حارب معاوية الذي سوف يدنيه الله منه يوم القيامة كما يقول الوضاعون الكذابون ولأنه حارب ابن الزبير الذي لا يفترق عن معاوية في شيء، ولأنه قتل من شارك في هدر دم الإمام الحسين في كربلاء.

المختار الثقفي قاتل الزبير الذي اضطهد العلويين خلال الفترة التي حكم بها العراق والحجاز وأعلن البراءة من علي وأبنائه وتَرَك الصلاة على النبي، فلقد كان المختار من أقطاب الشيعة في عصره ولم يكن عثمانياً كما ادعى بعض الباحثين فموقفه الصلب نوعاً ما من صلح الإمام الحسن مع معاوية لا يجعله أموياً أو من اعوانهم فإن كثيراً من الموالين تعاملوا مع فكرة الصلح بشكل قاس وسلبي لأنهم لم يكونوا يعرفون ما ينوي له الإمام(ع) وهذا حجر بن عدي وسليمان بن صرد الخزاعي زعيم ثورة التوابين غضبا من صلح الإمام الحسن مع معاوية وأطلقوا على الإمام إسم مذل المؤمنين ولم يكن ذلك منهم سوى نزوة لأنهم تسرعوا في الحكم على إمامهم الذي فُرضت عليهم طاعته وحرم عليهم الرد عليه، ولكن هذه القساوة التي ظهرت منهم لم تخرجهم عن كونهم موالين لأهل البيت(ع) ومما يؤكد لنا صلابة تشيّع المختار هو أن زياد بن أبيه حينما كتب إلى معاوية بشأن حجر بن عدي وأصحابه الموالين لعلي(ع) كان رفض المختار على التوقيع حاسماً بالرغم من تهديد زياد له ووعيده.

لقد اشتُهر المختار بالتشيع منذ نعومة أظفاره ولكنه انصرف عن السياسة والمعارضة السلبية لمعاوية لأن معاوية استعمل مع الشيعة سياسة البطش والقتل والتنكيل حيث وجد أن المعارضة في حكم معاوية لا تجدي نفعاً لأن الجميع كانوا يخافون من بطشه فهو لا يرحم أحداً ولا يرعوي عن ظلم أحد وقد كان يرتكب كل تلك الجرائم من خلف الستار حيث كان له دهاء ومكر لا مثيل له حيث كان يفعل فعل الكافرين الظالمين ويتمظهر بصورة الخليفة الزاهد.

وعندما أرسل الإمام الحسين(ع) مسلم بن عقيل إلى الكوفة نزل مسلم ضيفاً على المختار الثقفي الذي راح يدعو الناس إلى بيعة الحسين، ومن خلال اختيار مسلم لدار المختار يظهر لنا بأن الإمام الحسين(ع) هو الذي أمره بذلك لعلمه باستقامة المختار ونزاهة ولائه للنبي وآله، هذا مع العلم بأن في الكوفة من هو أمنع لمسلم وأضمن من المختار حيث كانت لهم عشائر قوية تمنعهم من أيدي الأمويين، ومع ذلك كان الهدف هو المختار، وإن استقبال المختار لمسلم في بيته واستقباله للوفود التي أتت لمبايعة الحسين لدليل على جرأته المميزة حيث كانت الكوفة آنذاك خاضعة للحكم الأموي، وأي تحرك ضد هذا الحكم يعتبر معارضة لهم، وقد كان عقاب المعارضين للأمويين شديداً وأليماً ورغم ذلك فقد تحداهم المختار واستقبل مسلم في داره ولم يأبه بما سيصنعه الأمويون به.

ونحن نرى بأن الدافع من نزول مسلم في دار المختار هو ولاؤه الخالص للعلويين وليس كونه صهر حاكم الكوفة كما ادعى بعض الباحثين الذين حاولوا الإنتقاص من شأن المختار بشتى الوسائل، وبقيت الوفود تتهافت إلى دار المختار للقاء رسول الحسين فخاف أنصار الأمويين من هذه الحالة وأرسلوا إلى يزيد يحرضونه على النعمان بن بشير واليه على الكوفة واتهموه بالخيانة لأنه تغاضى عما يجري في بيت صهره المختار، واتهموه بأنه يساعد الشيعة فعزله يزيد وعيّن مكانه عبيد الله بن زياد على كره منه ولكن مستشاريه هم الذين أصروا عليه أن يعين ابن مرجانة على الكوفة فعينه والياً عليها وأمره بأن يضرب بيد من حديد ولا يرحم أحداً من الموالين لعلي والحسين، فترك ابن زياد البصرة وأتى الكوفة متنكراً ليرى حالة الناس فيها فظن الناس بأنه الحسين وتعالت أصواتهم بالهتاف له والترحيب به وهم يقولون مرحباً بك يابن رسول الله قدمت خير مقدم على أهلك وأنصارك وشيعتك، فأخافه هذا المشهد واغتاظ منه وعندما وصل إلى قصر نزع اللثام عن وجهه فتفرق الناس من حوله وقد اجتمع عليه أنصار الأمويين فأخذ يتهدد ويتوعد كل من يناوئ السياسة الأموية وعندما وصل هذا الخبر إلى مسلم ترك دار المختار وتوجه إلى دار هاني بن عروة المرادي وكان من أشراف الكوفة وكان معروفاً بالتشيع والولاء للرسول وآله إلى أن حدثت تلك المأساة لمسلم، أما المختار الثقفي فلقد رأى بأن بقاءه في الكوفة أولى من الذهاب إلى كربلاء لأنه كان يعلم بالمصير المحتوم بل جلس يخطط لكيفية القضاء على النظام الأموي الحاقد وقد نجح فيما خطط له.

ويقول بعض المؤرخين بأن المختار جمع مجموعة من الموالين وخرج بهم نحو كربلاء لنصرة الحسين ولكن ابن زياد اعتقله وعذّبه وضربه ضرباً شديداً وسنجنه مدة طويلة لأنه كان يعرف وزن المختار في الكوفة وغيرها من الأمصار.

فأُدخل المختار السجن وكان فيه الصحابي الجليل للإمام علي ميثم التمار الذي سمع من أمير المؤمنين كثيراً من الغيبيات، وكان في السجن أيضاً عبد الله ابن الحارث وقد تهيأ المختار وابن الحارث للقاء الله لأنهما اعتقدا بأن ابن زياد سوف يقتلهما فقال ميثم لابن الحارث: إنك ستخرج من سجن هذا الطاغية وتحكم البصرة، وقال للمختار: إنك ستخرج وتتولى الثأر من قتلة الحسين وأنصاره وتطأ بقدميك على وجنتيه، بهذا أخبرني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) فارتاحا لكلامه المسند إلى أمير المؤمنين، ثم عملت أخت المختار على إخراجه من السجن فوافق يزيد على طلبها وأخرجه ليكون ما أخبر به علي(ع)

 

المختار وعبد الله بن الزبير

إذا كان المخلوق ينسى فإن الخالق لا ينسى، وإذا كان الناس يتعاملون بالجور فيما بينهم فإنه تعالى لا يعمل إلا بالعدل، فليس من العدل أن ينعم الظالم ويهنأ على حساب المظلوم، وإذا كان الظالم أقوى من المظلوم فإنه تعالى أقوى الأقوياء ومعز الضعفاء ومذل المتكبرين وقاصم الجبارين، ولقد عرفنا في البحث الماضي أن ابن زياد سجن المختار الثقفي عندما أراد الخروج إلى كربلاء لنصرة الإمام الحسين فاعتقله ابن زياد ومن كان معه وأمر بتعذيبهم وسجنهم، ولقد شاءت إرادة الله تعالى أن يخرج المختار من سجن ابن زياد في ظروف خاصة هيأتها القدرة وإلا فلقد كان القرار الحاسم هو قتل المختار لأنه يشكل خطراً كبيراً على الأمويين وأنصارهم ولقد كان كثير منهم يطلبون قتله فلقد أرادوا وأراد الله ولم يكن سوى ما أراد الله عز وجل، فلقد شاءت القدرة أن يخرج المختار من السجن ويترك الكوفة ويذهب إلى الحجاز فلقد خرج من الكوفة وهو يقول: والله لأقطعن أنامل ابن زياد ولأقتُلَن بالحسين بن علي عدد من قُتل بدم يحيى بن زكريا، وفي تلك الأثناء كان عبد الله بن الزبير قد تنفس الصعداء بقتل الإمام الحسين الذي كان يمثل حجر عثرة في طريقه وطرق كل الطامعين بالدنيا، فلقد تحقق حلم ابن الزبير باستشهاد الحسين وعادت إليه كل أمانيه، وقد حمل دم الإمام الحسين بنفس النية التي حمل فيها معاوية قميص عثمان طالباً بثأره، فمعاوية أول مستفيد من قتل عثمان وابن الزبير أول مستفيد من قتل الإمام الحسين، حيث استعمل مجزرة كربلاء سلاحاً ضد الأمويين وقد حدثت انتفاضة المدينة بفضل الإمام السجاد وعمته زينب وكان ابن الزبير مستفيداً من تلك الإنتفاضة التي عززت موقفه بين الموالين لأنه تظاهر بالموالاة وهو يضمر الشر للنهج العلوي، ولم يكن المختار الثقفي جاهلاً نوايا ابن الزبير وأطماعه التي يسعى إلى تحقيقها عبر المطالبة بثأر الحسين، ولم يعمل ابن الزبير على المطالبة بالثأر بل أراد أن تصل إليه الخلافة من دون أن يخسر شيئاً.

أما المختار فلقد كان عميقاً في تفكيره متأنياً في القرارات التي يتخذها لأنه كان يدرس الأمر من جميع جهاته كيلا يقع في أدنى خطأ عند التنفيذ لأن أقل خطأ في تصرفاته مع الجهاز الأموي يكلفه الكثير من الدماء البريئة، وقد فرضت عليه الظروف العامة أن يلتجأ إلى ابن الزبير بهدف إضعاف السلطة الأموية حيث لم يكن بقدرة المختار آنذاك أن يواجه الفئتين في وقت واحد لأن كلتا الفئتين قويتان فلا يستطيع أن يواجههما بالقلة التي كانت تسانده.

فلقد لازم المختار عبد الله بن الزبير وحثه على الخروج في طريق الثورة ضد الأمويين ولكن ابن الزبير بقي متريثاً ومتظاهراً بالزهد والتقوى والتباكي على الحسن ولعن قاتليه حتى يتهيّأ له الظرف تماماً لينقض في وقت واحد على الأمويين والعلويين ويحكم بعد ذلك كما يراه مناسباً لسلطانه ويضرب بيد من حديد غير أن وجود المختار عنده أثّر على مخططاته كثيراً.

وبقيت الأمور تتماشى لمصلحة ابن الزبير وبالخصوص بعد انتفاضة المدينة والإعتداء على أهلها ومقدساتها من قبل الدولة الأموية وعندما رأى بأن الجماهير كلهم يطلبونه للخلافة تصدى لها ووافق على أن يبايعوه وقد ركز على مبايعة المختار له أولاً وقبل الجميع حيث كان يخشاه أكثر من أي شخص آخر في الأمصار رغم قوته الباهرة وجماهيره الكثيرة، لقد كان ابن الزبير يطمح في استجلاب المختار نحوه ليقنع صهره عبد الله بن عمر بالمبايعة له حيث أن امتناع عبد الله بن عمر عن بيعة ابن الزبير يُحدث خللاً كبيراً في نشاطاته وتحركاته لأن أنصار عبد الله بن عمر يشكلون عدداً لا يستهان به في الوسط الإسلامي، فطلب المختار من شقيقته صفية أن تقنع زوجها عبد الله بن عمر بأن يبايع ابن الزبير فرفض ذلك بتاتاً أما المختار فلقد أعلن بيعته لابن الزبير لأنه أراد أن يجاريه حتى يقضي عليه وعلى الأمويين عندما تتاح له الفرصة المطلوبة، ولكنه وافق على البيعة بشروط رفضها ابن الزبير في بادئ الأمر ثم وافق عليها مكرهاً لأنه أراد أن يرضي المختار لمكانته بين الناس وبالخصوص بين العلويين، ومن أبرز وأهم تلك الشروط هو أن لا يتخذ ابن الزبير أي قرار إلا بعد موافقة المختار الذي أصبح وزيراً له في جميع الشؤون.

لقد شارك المختار عبد الله بن الزبير في معاركه ضد الحصين بن نمير وكأنه من أوفى الأوفياء له غير أن ابن الزبير لم يف بوعوده للمختار، وقد تبين لابن الزبير بأن الشيعة في الكوفة على استعداد لقتال من قتل الحسين وأصحابه توجه إلى الكوفة ولم يساعد التوابين في قتالهم للأمويين، وراح الشيعة في الكوفة يبحثون عن زعيم لهم فوجدوا طلبهم في المختار وساروا خلفه، وعندها جاهر المختار في الدعوة إلى العلويين وأخذ البيعة لهم، وعندما اشتد ساعد المختار في الكوفة عزل ابن الزبير عامليه القدامى عليها وعيّن مكانهم عبد الله بن مطيع الذي أفسد الأمر بسبب أحقاده وظلمه فنفر الناس منه وثاروا عليه وعلى ابن الزبير والتفوا حول المختار، فطرد منها عبد الله بن مطيع وخضعت العراق وسائر الأمصار للمختار ما عدا الحجاز والجزيرة وبلاد الشام، ودخل المختار قصر الإمارة وطلب البيعة من الناس على كتاب الله والطلب بثأر أهل البيت الذين كان يتودد لهم المختار، وقد أثارت سياسته الإقتصادية غضب الأشراف في الكوفة حيث سوّى بينهم وبين الفقراء فاعتبروا ذاك اغتصاباً لحقوقهم وكان قد أرسل جيشه بقيادة ابراهيم ابن الأشتر فأتوا إليه وطلبوا منه التراجع عن هذا القرار الذي يسويهم بغيرهم فوافق على طلبهم شرط أن يقاتلوا الأمويين والزبيريين ويناصروا أهل البيت فرفضوا اقتراحه فاستغلوا غياب الجيش فحاصروا المختار في قصر الإمارة واحتلوا المراكز الرئيسية في الكوفة، فأرسل المختار إلى قائد جيشه وكان لا يزال قريباً من الكوفة فرجع ابراهيم ابن الأشتر مع الجيش إلى الكوفة ودارت بينهم وبين أشرافها معركة انتهت لصالح المختار حيث قُتل منهم خمسمئة رجل وأسر منهم مائتان وفر الباقون من الكوفة، وقد تحدث المؤرخون عن أن شمر بن ذي الجوشن وعمر بن سعد ومحمد ابن الأشعث وقيس بن الأشعث عندما علموا بخروج جيش المختار إلى قتال أهل الشام رجعوا إلى الكوفة وأعانوا الأشراف على المختار بعد أن فروا منها عندما دعا المختار الشيعة إلى الإنتقام من قتلة الإمام الحسين(ع) ولعلهم بعد فشل معركتهم وانهزامهم أمام المختار فروا منها مجدداً.

 

المختار وقتلة الإمام الحسين

لقد هيأت القدرة الإلهية أدوات بشرية تحمل في قلوبها حب الله ورسوله وأهل البيت ليكونوا الوسيلة في عقاب الظالمين وأخذ الثأر منهم وتطهير الأرض من دنسهم فلم يترك الله جريمة كربلاء تذهب سدى من دون أن ينتقم من مفتعليها والمشاركين فيها، ولم يكن الإنتقام من قتلة الإمام الحسين أمراً سهلاً بل استغرق من الوقت الكثير كيلا يُظلم أحد ليس له دخل في ارتكاب تلك الجريمة، وقد قاد هذه الثورة رجل كريم محب لآل الرسول وباذل في سبيلهم كل غال ونفيس وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي تم عقاب الظالمين على يديه، فالمختار لم يقاتل قتلة الحسين فقط وإنما قاتل الذين استغلوا دم الإمام لمصالحهم الخاصة كما صنع عبد الله بن الزبير الذي كان من ألد الأعداء للحسين ولمن سلك نهجه، والذي فعل مع الحسين ما فعله معاوية مع عثمان عندما تاجر بدمه واستعمله وسيلة لاغتصاب الخلافة.

لقد لقّن المختار قتلة الحسين درساً كبيراً حيث لاحقهم في كل مكان وانتقم منهم لأنهم مفسدون في الأرض ولأن الذي لا يتورع عن قتل إمامه الحق فإنه لن يتورع عن فعل أي شيء من قتل وسلب وانتهاك للحرمات وطعن في الكرامات فكان بطن الأرض خيراً لهم من ظاهرها ولأنهم لو بقوا على قيد الحياة لفعلوا بشيعة الحسين ما فعلوه بالحسين وأولاده وأصحابه يوم عاشوراء، وعندما علم المختار بأن المعركة التي جرت في الكوفة بينه وبين أشرافها كان وراءها الأمويون رأى بأن يُسرع في القضاء عليهم حيث أدرك حجم الخطر الذي بات يتهدد الأمة الإسلامية بسببهم فأعلن الحرب عليهم وخرج برفقة مجموعة من جيشه في جهة وإبراهيم بن الأشتر ومعه مجموعة أخرى من جهة ثانية ونادى مناديه في الكوفة: من أغلق بابه فهو آمن إلا من اشترك في قتل الحسين: وقد أذن لأفراد جيشه بأن يطلقوا العنان في الإنتقام لآل الرسول والأخذ بثأرهم فقال لهم: أطلبوا لي قتلة آل بيت الرسول فإنه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض والمصر منهم: وبعد ذلك تعالى الصياح من قبل أنصاره يا لثارات الحسين، وصاح أنصار الأمويين يا لثارات عثمان، فنلاحظ بأن الحقد في قلوب الأمويين كان مبيّتاً من عهد الإمام علي(ع) فنداؤهم بثارات عثمان أحدث انقساماً بينهم، وفي مقدمة من انسحب من المعركة رفاعة بن شداد الذي راح يقول: ما لنا ولعثمان والله لا أقاتل مع قوم يطالبون بدم عثمان: وسبب انسحابه هو علمه بالهدف الذي حملته المطالبة بدم عثمان وأن الذي ابتدع هذه البدعة هو معاوية بن أبي سفيان من أجل الحصول على الخلافة.

وقد استطاع المختار أن يأسر منهم في اليوم الأول خمسمائة رجل، وعندما عُرضوا عليه إختار منهم من اشترك في قتال الحسين وكان عددهم مئتين وثمانية وأربعين، فقتلهم وأطلق سراح الباقين الذين لم يكن لهم علاقة بقتال الإمام(ع) وذهب رجال المختار يميناً وشمالاً يبحثون عن بقية القتلة الذين اختبأوا فأخرجوهم من مخابئهم وقتلوهم، حتى أن بعض النسوة كُنّ يُخبرن عن أزواجهن، ومنهن زوجة خولى بن يزيد الأصبحي الذي كان أول من حمل الرأس إلى ابن زياد ليربح الجائزة، هذا على رواية من قال بأن ابن زياد طرده ولم يقتله، ثم قبض جيش المختار على عمر بن سعد وقتلوه وقطعوا رأسه وأتوا بالرأس إلى المختار فوضعه بين يديه وأمر بإحضار إبن عمر ابن سعد ولعله كان من المشاركين في قتل الإمام فوضع المختار رأس بن سعد بين يدي ولده حفص وقال أتعرف صاحب هذا الرأس فقال حفص نعم ولا خير في العيش بعده فقال له المختار ومن أنبأك أنك تعيش من بعده فأمر بقتله ووُضع الرأسان بين يدي المختار فراح يبكي ويقول هذا برأس الحسين وهذا برأس علي الأكبر واللهِ لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفَوا أنملة من أنامله، وجاء في الأخبار الطوال أن المختار أمر أبا عمرة بأن يجمع له ألف عامل ويتتبع دور من خرج لقتال الحسين وكان أبو عمرة عالماً بهم فلاحقهم في أحياء الكوفة وقتلهم، ومضى المختار يلاحق قتلة الحسين حتى لم يبق منهم أحد إلا قُتل أو فرّ من الكوفة، ثم استأجر المختار نساءاً من الكوفة يندبن الحسين ومن قُتل معه في كربلاء على باب عمر بن سعد ليحرك عواطف الشيعة ضد الأمويين، ثم بعث المختار في طلب حكيم السنبسي الذي سلب العباس بعد قتله فأتوا به وقتلوه قبل أن يصلوا إلى المختار كيلا يشفع له أحد، ثم أرسل المختار في طلب زيد بن ورقاء قاتل عبد الله بن مسلم فأتوا به وقتلوه، ثم لاحقوا شمر بن ذي الجوشن فحاول أن يقاومهم فأردوه قتيلاً، وكذلك قبضوا على ابن أنس الذي سلب برنس الحسين فأمر المختار بقطع يديه ورجليه وبقي كذلك حتى مات، وبقي في الميدان عبيد الله ابن زياد رأس الأفعى الذي اتجه نحو العراق لتحريرها من الزبيريين والشيعة عن طريق الموصل فعلم المختار بالأمر فجهز جيشاً كبيراً وقد أرجعهم ووأد الفتنة ثم رجع لملاحقة ابن زياد الذي احتل الموصل فخرج المختار إلى المدائن ليترقب أخبار المعركة وقد انضم إلى جيش المختار أحد قادة جيش ابن زياد حيث كان حاقداً على الأمويين وقد دارت بين الجيشين معركة طاحنة حتى امتلأت ساحة المعركة بالقتلى وقد استطاع جيش المختار أن يهزم جيش الشام الذي كان عدد أفراده عشرة أضعاف عدد جيش المختار الذين كانوا يستميتون في القتال، وقد استطاع جيش المختار في تلك المعركة أن يقتل رأس الأفعى عبيد الله بن زياد وكثيراً من قادة جيش الشام وهذا ما أحدث فيه التفكك والإضطراب، ثم طلب ابراهيم بن الأشتر جثة ابن زياد فقطع رأسه ثم أمر جنوده بملاحقة الأمويين في الموصل وضواحيها وذهب إلى المدينة ودخلها دخول الفاتح وأرسل إلى المختار يبشره بالإنتصار العظيم الذي تحقق على يديه بعون الله تعالى، وقد أرسل المختار رأس بن زياد ورأس عمر بن سعد إلى الإمام السجاد في المدينة فقال(ع) أبعدهما الله إلى النار وانتشر الخبر فيها بسرعة وعمت الفرحة جميع الأوساط، فلقد أدخل المختار السرور إلى قلوب أهل البيت وكل مؤمن في هذا الوجود وقد ترحم عليه الإمامان الباقر والصادق(ع) وقد نزّهه الإمام الصادق عن كل ما نُسب إليه من الأباطيل والأكاذيب.

 

 

شهادة المختار وموقفه من الزبيريين

لم يكن الأمويون هم العائق في طريق الحق فقط وإنما كان هناك قوة أخرى لا تختلف بقبحها عن قبح الأمويين وهي قوة عبد الله ابن الزبير وأنصاره فلقد كانوا موهومين تجاه هذا الرجل الذي أظهر لهم الزهد والتقوى وهو في الحقيقة شيطان بصورة إنسان صالح، ولقد كان هذا التمظهر أحد أكبر خططه للوصول إلى منصب الخلافة، وخطة المختار بن أبي عبيدة الثقفي لم تقف عن حدود الأمويين، فلقد هزم الأمويين وبقي في الميدان الزبيريون، وقد شاع خبر المختار في جميع الأمصار وعلا شأنه بينهم، فأصبح بذلك هدفاً للأمويين والزبيريين والجميع يريدون الإنتقام منه لتخلو الساحة أمام أطماعهم، وقد كان ابن الزبير يرى بأن المختار أخطر على مطامعهم من الأمويين حيث عمل المختار على إرجاع الخلافة إلى العلويين، فإذا التف جميع الشيعة حول المختار فهذا يعني نهاية ابن الزبير لأن أكثر اتباعه ومؤيديه هم من الشيعة ولأجل ذلك حاول ابن الزبير أن يشوه بصورة المختار عند الشيعة ليضمن موقعه.

والمعركة الشرسة التي دارت بين المختار والأمويين في الموصل قد أحدثت ضعفاً في صفوف الطرفين وكان المختار في تلك الفترة بأمس الحاجة إلى اكتساب الوقت حتى يستعيد قوته ويرتاح جيشه من تعب تلك المعركة مما اضطره إلى مهادنة الزبيريين الذين لم يكن أمرهم بالشيء اليسير، وكاتب المختار ابن الزبير يهادنه فأرسل ابن الزبير عمر بن عبد الرحمن ليتأكد من صدق نوايا المختار وأعطاه أربعين ألف درهم، ووصل إلى الكوفة ودخلها فاستقر رأي المختار أن يصرفه عن الكوفة بالحسنى وقد عرض عليه المختار سبعين ألف درهم على أن يترك الكوفة فتركها، ثم أرسل المختار إلى ابن الزبير كتاباً يخبره فيه بأنه مهد له الطريق في العراق واقترح عليه بأن يمده بمليون درهم ليستعين بها على الزحف نحو الشام ومقاتلة الأمويين، فرفض ابن الزبير طلب المختار وبقي المختار يترقب جميع تحركاته وصادف أن أرسل عبد الملك جيشاً إلى وادي القرى لمقاتلة الزبيريين فاستغل المختار هذه الفرصة وعاود المحاولة مع ابن الزبير فيما طلب منه قبل فترة مستغلاً بذلك حساسية الموقف فاضطر ابن الزبير للموافقة على طلب المختار خوفاً من عبد الملك، وفي نفس الوقت كان ابن الزبير خائفاً من المختار فاتخذ جميع الإحتياطات اللازمة فاستدعى  قائده شرحبيل بن ورس الحمداني وأمده بثلاثة آلاف جندي وأمره بالزحف إلى المدينة لانتزاعها من ابن الزبير، وأعد ابن الزبير جيشاً من ألفي مقاتل بقيادة العباس بن سهل للدفاع عن المدينة وأن ينضم إلى جيش المختار إذا اطمأن من صدقه، ولما وصل جيش الزبير إلى جيش المختار أرادوا الإلتحاق بهم فرفض قائد جيش المختار ذلك حتى يكتب إليه، فمكث جيش المختار فترة في المدينة حتى نفد منهم الزاد فاضطروا إلى طلب المساعدة من الزبيريين فأمدوهم بالزاد، وقد غدر بهم قائد الزبيريين فهجم عليهم على حين غفلة وقتل منهم مجموعة كبيرة وبعد ذلك اضطهد ابن الزبير العلويين انتقاماً للمختار وحاصرهم في شُعب رضوى فاتجه لمختار لنجدتهم فخلصهم من الحصار وحاولوا الإقتصاص من الزبيريين فمنعهم محمد بن الحنفية خوفاً من إراقة الدماء، وتأزمت الأمور بين الفريقين وسارت من سيء إلى أسوأ فأرسل ابن الزبير أخاه مصعباً إلى البصرة فاتجه إليها وعندما وصل هاجم المختار هجوماً عنيفاً ولقبه بألقاب لا تليق بشأنه والتفت إلى أهل البصرة وقال لهم: بلغني أنكم تلقبون أمراءكم وقبل أن تلقبوني فإني قد لقبت نفسي بالجزار، ثم رجع الهابون مستغلين قسوة مصعب والتفوا حوله يستغيثون به ويطلبون منه الخروج لقتال المختار، فجمع جيشاً كبيراً من الخوارج والخبثاء والذين فروا من المختار وأرسلهم إلى الكوفة والتقى الجيشان على مشارف الكوفة، وهجم الزبيريون على جيش المختار وكادوا أن يلحقوا بهم الهزيمة فاستعاد الشيعة نشاطهم وقاوموهم وعاد الأمر لصالح المختار، ثم استعاد جيش الزبير نشاطهم وعادوا القتال بشكل عنيف وناصرهم أعوانهم من سكان الكوفة حتى جبلت الأرض بالدماء لكثرة ما سقط من الفريقين حتى ازدادت حالة المختار سوءاً وقد استمرت حرب الشوارع في الكوفة مدة أربعة أشهر وكان ذلك سنة سبعة وستين للهجرة وكان كلما خرج المختار من قصره مع جماعة من أعوانه كان يستطدم بجيش الزبير ويرجع إلى القصر حتى ضاق به الخناق بسبب تخاذل كثير من أهل الدنيا الذين اختاروا الذل على العزة، فقال المختار لأصحابه إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفاً فانزلوا بنا حتى نموت كراماً فامتنعوا عن الخروج معه فخرج برفقة سبعة عشر رجلاً ومضي يضرب بسيفه حتى قُتل وكان مصرعه في الرابع عشر من شهر رمضان سنة سبعة وستين للهجرة.
ثم بعد استشهاد المختار انقض ابن الزبير على العلويين وقتل منهم عدداً هائلاً وجمع النساء وهددهن وطلب منهن البراءة من المختار، فتبرأت منه واحدة، وبقيت اثنتين صامدتين فقالتا كيف نتبرأ من رجل يقول ربي الله كان صائماً نهاره وقائماً ليله قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله وأصرتا على موقفهما فسجنهما.

فكتب مصعب إلى أخيه في شأن هاتين المرأتين فقال له إن رجعتا عما هما عليه فخل سبيلهما وإلا فاقتلهما فتراجعت واحدة منهما وبقيت الأخرى على موقفها وقالت: شهادة أُرزَقُها في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها إنها موتة ومن ورائها الجنة واللهِ لا أفضّل على ولايتي لعلي بن أبي طالب شيئاً اللهم اشهد أني متبعة لنبيك وابن بنته وأهل بيته وشيعته ثم ترحمت على زوجها ولم تتبرأ منه فقتلها مصعب بن الزبير.

 

 

ثورة زيد بن علي بن الحسين

إن زيد ابن علي هو حفيد الإمام الحسين(ع) ولقد كان من الدعاة إلى الحق والعدل ومحاربة الظلم ولقد قام بثورة ضد الظلم وكانت تلك الثورة المباركة قبساً من ثورة جده الحسين.

وعندما خرج إلى الجهاد في سبيل ربه ومقاومة الطغاة والجبابرة قال للناس: إني أدعوكم إلى كتاب الله وإحياء السنن وإماتة البدع فإن تسمعوا يكن خيراً لي ولكم وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل، وفي موضع آخر قال زيد بن علي لجماعة من المسلمين: أما ترون إلى هذه الثريا، أترون أن أحداً ينالها، فقالوا له لا يا ابن رسول الله فقال: وددت أن يدي ملصقة بها فأقع إلى الأرض أو حيث أقع وأتقطع قطعة قطعة وأن يجمع الله بين أمة محمد على الحق والهدى:

ومن خلال هذه الكلمات يظهر لنا بكل وضح سمو أهداف زيد من تلك الثورة التي أراد من ورائها ما أراده جده الحسين من ثورته في كربلاء، فلقد كان هم زيد أن يجمع أمة رسول الله على الهدى والصلاح وأن يقضي على البدع ويئدَ الفتن التي قضى عليها الإسلام عند ظهوره على يد خير البرية ثم أحييت تلك البدع على أيدي الأمويين وأعيدت في عهدهم بأسوأ مما كانت عليه في الجاهلية التي أولدت أباسفيان وأبا جهل وغيرهما من عتاة البشر، ولأجل هذا تحرك حفيد الحسين نحو إصلاح الأمور العامة والخاصة وعمل على جمع شمل الأمة بعد أن تفكك في عهد الطغاة، لقد كانت روحه سخية بالبذل في سبيل الأمة وتتويجها بالهدى والرشد والصلاح كما كان هم جده الأكبر علي بن أبي طالب الذي كان يقول: والله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عَليَّ خاصة: فلقد حمل زيد بن علي عبأ عملية الإصلاح وقد استجاب لأهل الكوفة حينما طلبوا منه أن يقاتل بهم فاستجاب لهم فخذلوه وقُتل بسبب خذلانهم كالعادة وانضم إلى قافلة الشهداء شهيد جديد من سلالة العترة الطاهرة.

لقد وُلد زيد بن علي بن الحسين سنة ثمانين للهجرة واستشهد سنة مئة واثنتين وعشرين في عهد هشام بن عبد الملك، ويذكر المؤرخون أنه عند ولادة زيد جاء البشير ليبشر الإمام السجاد بوليده الجديد فتفاءل الإمام(ع) بالمصحف الشريف، فكانت الآية: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وفتحه مرة ثانية فكانت الآية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون: وفتحه مرة ثالثة فكانت الآية: وفضل الله المجاهدين على القاعدين: فطوى الإمام المصحف وقال: عزائي عن هذا المولود الجديد أنه من الشهداء في سبيل الله: ولقد ترعرع زيد في ذلك البيت العظيم الذي منه خرج العلم إلى الناس فلقد نشأ وورث العلم عن أبيه وجده وقد انصرف إلى تحصيل العلوم حتى أصبح في عهده من أكبر المراجع في شتى المواضيع والميادين لقد كان عهده بداية انطلاقة جديدة في التفسير والمعتقدات والآراء الغريبة التي اكتسبها المسلمون من غيرهم بسبب اختلاطهم بمن كان يغزوهم بين الحين والآخر، وقد لازم أخاه الباقر مؤسس جامعة أهل البيت فترة من الزمن وقد أجمع الذين عاصروا زيد بن علي أنه كان عالماً غزير العلم محيطاً بشتى العلوم الإسلامية وكان راوياً لحديث أهل البيت وقد تتلمذ على يديه في الكوفة أكثر العلماء.

وقد روى المؤرخون بأن عبد الله بنَ الحسن بن الحسن السبط قال للحسين بن زيد وهو يعظه وينصحه: وأنه قد توالى لك آباء وأن أدنى آبائك زيد بن علي الذي لم أر فينا ولا في غيرنا مثله: وجاء عن الإمام الرضا(ع) أن زيد بن علي كان من علماء آل محمد: وكان سفيان الثوري محدث الكوفة وواعظها إذا ذكر زيداً  بكى على ما فقده العلمُ بفقده وعلى ما فقده التقى والفضل بإصابته، وكان زيد بن علي على صلة بواصل بن عطاء شيخ المعتزلة حيث كان يناظره في بعض أفكارهم وكان ابن عطاء يجله ويحترمه لمكانته الفكرية والعلمية والدينية، وقد اتهمه بعضهم بأنه كان معتزلياً لأنه كان يجلس معهم ويحاورهم فلقد كانت نيته من الجلوس معهم إقناعهم بالحق وإرجاعهم إلى الصواب ليس أكثر وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولكن الحق هو أن زيداً أخذ العقائد عن آبائه وأجداده الذين كانوا منبع الأصول والعلم.

لقد كانت الدعوة إلى العلويين في عصر زيد بن علي تنمو في جو من التكتم بعد فشلِ الإنتفاضات التي حصلت في عهد عبد الملك بن مروان ويزيد بن عبد الملك، وقد اتسعت هذه الدعوة في عهد هشام ابن عبد الملك وقد كانت الكوفة المقر الرئيسي للدعوة، ومنها انتقلت إلى خراسان التي ذهب إليها الدعاة بدعوى التجارة، ويقول ابن الأثير في الكامل أن ميسرة داعي الهاشميين قد أرسل رسله إلى خراسان سنة مئة وإثنين للهجرة فقبض عليهم واليها حين تسربت أخبارهم فأنكروا تلك التهمة وقد أطلق سراحهم بعد فترة حينما تعهدت جماعة من ربيعة بكل ما يصدر منهم، وقد أمر هشام ابن الحكم عامله على العراق أن يبقى متيقظاً من تلك الوفود العلوية لأنه يعرف مدى حب الناس للعلويين ولم يكن لينسى المنظر الذي رآه حول الكعبة عندما تهافتت الناس لتتبرك من الإمام زين العابدين فلقد صغّر هذا النظر نفسه عند نفسه وعلم بأنه لم يستطع أن يملك قلباً واحداً من قلوب الناس، وكيف أن الناس رغم الإزدحام الشديد كيف انفرجت عن الحجر الأسود ومهدت له الطريق ليصل إليه من دون أن يزعجه أحد بينما لم يستطع هشام أن يصل إليه حيث لم يعره أحد أي اهتمام وهو حاكم وابن حاكم.

وقد كان هشام ابن الحكم مطمئناً للأوضاع في العراق بسبب الرقابة الشديدة التي فرضها وُلاته في البصرة والكوفة ولكن هذا الإطمئنان قد تبدد عندما علم هشام بأن زيد بن علي يتردد على الكوفة ويجتمع الناس حوله يشكون له ممارسات الأمويين، فلقد أصبح هم هشام أن يراقب تحركات زيد حيث شعر بالخطر الذي بات يهدد كيانه بسبب تحركات زيد الذي كان مرموقاً في الأوساط الإسلامية، فبحث هشام عن سبيل يُلقي به زيداً في السجن ويتخلص من القلق الذي أصبح مسيطراً عليه فلم يجد لذلك سبيلاً، ولكنه اتجه إلى التشنيع بالعلويين، وقد اتهم هشام زيد بن علي تهمة باطلة بهدف التشنيع به وعندما ثبتت للناس براءته من تلك التهمة قرر أن يترك الكوفة ويذهب إلى المدينة فرجع وبينما هو بالقادسية لحق به جماعة من أهل الكوفة واستجاروا به من جور الأمويين وأكدوا له بأن هناك أربعين ألف مقاتل سيضربون بسيوفهم بين يديه إن هو سمع منهم وعاد إلى الكوفة وقد أعطوه العهود على ذلك فقال لهم: إني أخاف أن تفعلوا معي كما فعلتم مع آبائي ثم استمهلهم وتابع السير نحو المدينة.

فدخل المدينة وراح خالد بن عبد الملك يبالغ في إيذائه وكان زيد بن علي يكتب إلى هشام ابن عبد الملك في هذا الشأن فكان هشام يُرجع إليه الكتاب وقد كتب له عليه في الأسفل إرجع إلى خالد بن عبد الملك في المدينة، فذهب زيد إلى الشام لمقابلة هشام وبقي فيها أياماً يستأذن بالدخول على هشام فلم يأذن له بقصد الإذلال ولكن بعد الإلحاح أذن له هشام بالدخول بعد أن أوصى جميع جلسائه بأن لا يفسحوا له في المجلس بهدف الإذلال فدخل زيد فبادره هشام ابن عبد الملك فقال: ما فعل أخوك البقرة، يقصد بذلك الإمام الباقر(ع) فرد عليه زيد بقوله: أنت تسميه البقرة ورسول الله لقد سماه الباقر…لتُخَالِفنّه في الآخرة كما خالفته في الدنيا وستردُ النار ويرد الجنة: ثم قال له هشام بَلَغني أنك تذكر الخلافة وأنت ابن أمة؟ فرد عليه زيد قائلاً إن الأمهات لا يَقعُدن بالرجال عن الغايات لقد كانت أم إسماعيل أَمة لأم إسحق فلم يمنع ذلك أن بعث الله منها نبياً وجعله أباً للعرب وأخرج من صلبه خير الأنبياء، فغضب هشام وأمر بضربه ثمانين سوطاً فخرج من مجلسه وهو يقول: ما أحبَّ امرؤٌ الحياة إلا ذل:

ويروي ابن الأثير أنه عندما أمره بالخروج من مجلسه وشتم أمه قال له زيد بن علي: سأخرج ولا أكون إلا حيث تكره:

لقد خرج زيد من مجلس هشام وهو يدرك بأن جلادي هشام سوف يلاحقونه من مكان إلى مكان فذهب إلى العراق وكان جماعة من الناس قد نصحوه بعدم الإطمئنان لأهل الكوفة، وقد قال له داود بن عبد الله بن العباس: يابن العم إن هؤلاء يُغرونك من نفسك أليس قد خذلوا من كان أعزَّ عليهم منك جدَّك علياً والحسن من بعده بعد أن بايعوه ثم وثبوا عليه وانتزعوا رداءه وطعنوه في فخذه أوليس قد ضربوا جدك الحسين ثم خذلوه وأسلموه ولم يكتفوا بذلك حتى قتلوه فلا تأت الكوفة إني أخاف عليك إن ذهبتَ إليهم أن لا يكون أحد أشدَّ عليك منهم:

ثم راح زيد يجمع الناس ويعبؤهم للقتال بضعة أشهر، ثم اتفق مع زعماء أصحابه على الخروج في صفر سنة مئة واثنين وعشرين للهجرة، فعلم هشام بهذا التحرك فأمر واليه أن يطلب زيداً ومن عاهده على القتال، وعندما رأوا تحرك الوالي تراجعوا عن قرارهم وخذلوا زيداً كما خذلوا آباءه من قبل، وعندما رأى زيد هذا الخذلان ألقى الحجة عليهم وقال لهم: وإني أدعوكم إلى العمل بالكتاب وإحياء السنة وإماتة البدع فإن تسمعوا يك خيراً لي ولكم وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل: فرفضوه ونقضوا بيعته:

فلقد رفضوا نصرته في ذلك الوضع الحرج وكانوا أربعين ألفاً ولم يبق معه سوى مئتين وثمانية عشر رجلاً فراح من بقي معه ينادون في أهل الكوفة: يا أهل الكوفة أخرجوا من الذل إلى العز وإلى الدين والدنيا فإنكم لستم في دين ولا دنيا فلم يبق في ساحة المعركة سوى زيد ومن بقي معه فقال: واللهِ لأقاتلن حتى الموت: وبدأ القتال العنيف بين الفئتين مع غياب التكافؤ العسكري فتقد أحد أنصار هشام واقترب من زيد وشتم علياً والزهراء، فبكى زيد وقال أما فيكم أحد يغضب لفاطمة بنت محمد؟ فتقدم أحدهم يستر سيفه من ذلك الشخص الذي شتم الزهراء فضربه على عنقه فسقط رأسه إلى الأرض، وعندما رأى أنصار زيد ذلك ذهبوا إلى الرجل وأنقذوه من أيدي الأمويين وأتوا به إلى زيد فقبّله ودعا له بالجزاء الحسن، وفيما كان زيد يقاتل مع أصحابه أتاه سهم من الأعداء فأصاب جبهته فأرجعه أصحابه إلى أحد البيوت واستدعوا له طبيباً فقال له الطبيب إني أخاف إن أخرجت السهم من جبهتك أن تموت فقال له زيد الموت أعهون عليّ مما أقاسيه من الآلام فلما انتزع السهم من جبهته فاضت روحه الشريفة.

 

إنتفاضة يحيى بن زيد

لقد استشهد زيد بن علي وقد خلّف وراءه أربعة أولاد من زوجات عدة، وهم يحيى وعيسى والحسين ومحمد، ويذكر المؤرخون بأن يحيى عند موت أبيه كان شاباً لم يبلغ العشرين من العمر وقد كان أكبر أخوته سناً وعندما انتهت ثورة أبيه زيد باستشهاده قرر أن يخرج من الكوفة خوفاً من طلب الأمويين له فخرج منها وخرج معه عشرة أشخاص، وقد علم يوسف بن عمر بخروجهم فأرسل في طلبهم جيشاً وقد اتجه يحيى بمن معه نحو الري فنزل ضيفاً على يزيد بن عمرو التميمي وأقام عنده ما يقرب من ستة أشهر، وقد علم الخوارج بقدوم يحيى إلى الري فأتوا إليه وطلبوا منه أن يخرج بهم لقتال الأمويين وقد وجد يحيى من تصميمهم ما يشجعهم على موافقتهم ولكن يزيد بن عمرو التميمي نهاه عن الإستجابة لطلبهم لأنه يعرف ما يضمرون من السوء للعلويين وقال ليحيى: كيف تقاتل بقوم تريد أن تستظهر بهم على بني أمية وهم يبرأون من جدك علي وأهل بيته: فرفض يحيى طلبهم وردهم رداً جميلاً، ثم خرج من تلك القرية وذهب إلى بلخ ونزل فيها على الخريش بن عبد الرحمن الشيباني وقد بقي عنده إلى أن هلك هشام ابن عبد الملك وتولى السلطة بعده الوليد بن يزيد، وعندما علم يوسف بن عمر بتحركات يحيى بن زيد كتب إلى عامله على خراسان وطلب منه أن يرسل إلى الخريش لاعتقال يحيى وقتلِه، فأرسل نصرُ بن سيار عامل خراسان إلى عقيل الليثي وهو عامله على بلخ أن يأخذ الخريش ولا يفارقه حتى تزهق نفسه أو يأتيه بيحيى، فاستدعاه عقيل بن مَعقِل الليثي وضربه ستمئة سوط وقال له: والله لأزهقن نفسك أو تأتيني بيحيى بن زيد، فرد عليه بقوله: والله لو كان تحت قدمي هاتين ما رفعتهما عنه فاصنع ما أنت صانع، فتقدم ولده وقال لابن معقِل لا تقتل أبي وأنا آتيك بيحيى، فأرسل معه جماعة فدلهم على مكانه وكان في مكان يصعب العثور عليه فوجدوه واعتقلوه واعتقلوا معه يزيد بن عمرو وأرسلهم عقيل بن معقل إلى نصر بن سيار فقيده بسلاسل الحديد وأمر بسجنه، وبعد فترة من الزمن أُطلق سراح يحيى فتقدم جماعة من الموالين إلى الحدّاد الذي يريد أن يفك القيود من رجلي يحيى وتنافسوا على شرائه ليتبركوا به ففك الحدّاد السلاسل قطعة قطعة ووزعها على الجميع وقد وصل ثمن تلك السلاسل إلى عشرين ألف درهم وقد كان هؤلاء المؤمنون مستعيدين أن يدفعوا أكثر من ذلك ليتبركوا بجسم لامس أحد أبناء المعصومين(ع)  وبعد إطلاق سراحه استدعاه نصر بن سيار وأوصاه بتقوى الله وحذره من الفتنة فأجابه يحيى بن زيد بقوله: وهل في أمة محمد فتنة أعظم مما أنتم عليه من سفك الدماء وأخذ ما لستم له بأهل، فعندما سمع نصرٌ هذا الكلام سكت ولم يتفوه بأية كلمة لأن يحيى لم يقل سوى الحق ثم أمر له بألفي درهم وطلب منه أن يذهب إلى الشام ويلتحق بالوليد بن يزيد.

فخرج يحيى من خراسان إلى إحدى المناطق المجاورة ثم إلى بيهق ثم رجع إلى المنطقة المجاورة لسرخس ومعه سبعون رجلاً من أصحابه وهناك دارت معركة كبيرة بينه وبين جيش الأمويين الذي كان عدده هائلاً وقد استطاع يحيى بهذا الجيش اليسير أن يهزم الجيش الأموي في تلك المنطقة بعد أن استطاع يحيى أن يقتل قائد الجيش عمرو بن زرارة فعلم نصر بن سيار بهذا الأمر فأرسل ثمانية آلاف مقاتل بقيادة ابن أحوز من جيش الشام وقد دارت معارك شرسة بين الطرفين بعد أن التحق بيحيى جماعة من المؤمنين وقد استمرت المعركة ثلاثة أيام بلياليها وقد قُتل جميع أصحاب يحيى ثم أصيب يحيى في جبهته فاستشهد على الفور فجاءه أحد قادة الجيش الأموي ويُدعى سَورة بن محمد فاحتز رأس يحيى وصلب جسده على باب المدينة وبقي مصلوباً إلى أن خرج إليهم أبو مسلم الخراساني الذي تولى دفن يحيى وتتبع قتلته فقتل كل من قدر عليه، أما رأس يحيى فقد أُرسل إلى نصر بن سيار وقد أرسله ابن سيار إلى الوليد بن يزيد الذي أرسله بدوره إلى أمه التي صاحت قائلة عندما رأت رأس ولدها: شرّدتموه عني طويلاً وأهديتموه إليّ قتيلاً، وقد كان مصرعه الشريف سنة مئة وخمسة وعشرين للهجرة أي بعد استشهاد أبيه بخمس سنوات.

ولم يولد مولود في تلك السنة إلا وأسموه يحيى تبركاً بيحيى بن زيد بن علي بن الحسين.

 

ثورة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار

لقد فتحت ثورة كربلاء أفقاً واسعاً ومجالات عديدة للثائرين ضد الباطل عبر الزمن وقد كانت ثورة الإمام الحسين في كربلاء مفتاح الخير والسعادة للبشرية التي استمدت القوة وتحلت بالجرأة بسبب ما حدث في العاشر من شهر محرم سنة إحدى وستين للهجرة.

فعندما قُتل زيد بن علي في الكوفة انتشر أمره في أكثر بقاع الأرض مما جعل كثيراً من الناس يميلون إلى الشيعة بعد أن نشروا أخبار ظلم بني أمية لآل الرسول، وقد استد الغضب على الأمويين أيضاً عندما قتلوا يحيى بن زيد بن علي، وقد ظهر الدعاة للحق في كل مكان، وظهر على المسرح السياسي أحد أحفاد أبي طالب وهو عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الذي قاد الشيعة ضد الأمويين.

فلقد دخل عبد الله حفيد جعفر الطيار مع أخوته إلى الكوفة سنة مئة وستة وعشرين للهجرة ليطلب العطاء من واليها يوسف بن عمر، وقد أقام في الكوفة مدة من الزمن وقد تزوج بإبنة حفيد شبث بن ربعي التميمي وقد انتهز شيعة الكوفة اضطراب شؤون الأمويين تجاه الخلافة في الشام بعد وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك فاجتمعوا على عبد الله بن معاوية وبايعوه وبعد ذلك خرجوا معه لقتال أهل الشام الذين كانوا مع يوسف بن عمر في الحِيرة عام مئة وسبعة وعشرين في شهر محرم، وعلى عادة أهل الكوفة فإنه عندما اشتد القتال بين الطرفين تخلى عنه أكثر الذين خرجوا معه كما تخلوا عن آبائه وأجداده من قبل ولم يبق معه سوى ربيعة وجماعة من الذين قاتلوا مع زيد بن علي فلقد قاتلوا بكل بسالة وشجاعة عدة أيام في شوارع الكوفة إلى أن جاءهم الأمان من يوسف بن عمر وأُذن لعبد الله بن معاوية بالإنسحاب من الكوفة فارتحل عنها ماراً بالمدائن إلى بلاد فارس وقد انضم إليه جماعة من الموالي والعبيد في الكوفة وقد استقر في أصفهان ثم تركها عام مئة وثمانية وعشرين إلى إحدى المناطق في إقليم فارس حيث سيطر هناك على منطقة واسعة هناك وقد تجمّع عنده جماعات كثيرة من مختلف الإتجاهات كالشيعة والخوارج والعباسيين وحتى بعض الأمويين الذين كانوا طامعين بعطائه، ولكن هذه الدولة التي قامت على جنسيات مختلفة لم تصمد أمام جيش مروان الثاني آخر حكام بني أمية فانهزم جيشه وترك تلك المنطقة سنة مئة وثلاثين للهجرة وهو يأمل أن يجد ترحيباً من أبي مسلم الخراساني، فلم يجد ذلك عنده بل إن أبا مسلم هجم عليه وقتل جماعته، وبعد ذلك استغل العباسيون تلك الثورات ليصلوا إلى أهدافهم وأطماعهم.

وقد استغل أبو مسلم تلك الثورات من أجل أن يحق أهدافه بدعوى طلب الثأر للحسين كما فعل غيره.

وقد انتهت جميع تلك الثورات لمصلحة العباسيين الذين كان عدلهم أمر من ظلم الأمويين حيث حكموا الساحة الإسلامية أكثر من خمسمئة عام.

وفي النهاية نسأل الله تعالى أن يثبتنا على حب الحسين(ع) وأن يلهمنا متابعة مسيرته حتى تحقيق جميع الأهداف المرجوة، والحمد لله رب العالمين.

 

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى