منوعات تاريخية

خُطْبَةُ الزَهْرَاءِ(ع) قِمةُ المَعَارِفِ الإِلَهِيَة

أَسْرَارُ الخُطْبَة الفَدَكيَة

 

خُطْبَةُ الزَهْرَاءِ(ع) قِمةُ المَعَارِفِ الإِلَهِيَة

 

بعيداً عن المغالاة والتعصب الأعمى الذي نرفضه من أساسه ولا نقبل به فضلاً عن كوننا لا ندعو إليه، فإننا نعتقد بأن خطبة السيدة الزهراء(ع) هي مجمع المعارف والعلوم وكل فضيلة ومكرمة، فهي صحيفة حق اشتملت على جل التعاليم الإسلامية بشكل موجز أو بشكل إشارات سريعة، حيث أرادت(ع) أن تبيّن أكبر عدد ممكن من المفاهيم والتعاليم والمعتقدات في تلك الدقائق التي استغلتها لبيان الحق والدفاع عن الإسلام والمسلمين، وهذا الإعتقاد بتلك الخطبة ناشئ من واقعها فإن بإمكان كل واحد منكم أن يلمس ذلك بنفسه من خلال قراءة الخطبة مع شيء من التأمل والتدبر وفهم ما بين السطور وهذا ما نعتبره أنفع وأوسع مما هو موجود في السطور.

فقد احتوت خطبتها الشريفة على العديد من المسائل الدينية بدءاً من الأصول الأساسية ووصولاً إلى أصغر حكم من أحكام الدين، وقد تحدثنا فيما مضى حول ذكر الزهراء لثلاثة أمور عقائدية، وهي امتناع رؤية الله تعالى، وعجز الألسن عن صفته، والأوهام عن إدراك حقيقته، وقد غاصت(ع) بكلامها في أعماق المعتقد الإسلامي، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على كونها عالمة بأحكام الله كلها من ألفها إلى يائها.

وبعد ذكر تلك الصفات قالت(ع)

(إِبْتَدَعَ الأَشْيَاءَ لا مِنْ شَيْءٍ كَاْنَ قَبْلَهَا، وَأَنْشَأَهَا بِلا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا)

تحاول سيدة النساء(ع) بتلك اللحظات القصيرة والدقائق القليلة أن تترك بين أيدي الناس أثراً خالداً يكشف لهم عن العديد من الأسرار والمسائل التي كانت موضع اهتمام البشرية من مؤمنيها وكافريها، وقد حاولت(ع) في ذلك الوقت الوجيز أن تبيّن لهم الإسلام من جديد بطريقتها الخاصة حيث كان لا بد من ذلك من أجل إخراج الإسلام من الدائرة الضيقة التي وضعه فيها القيمون على المسلمين باسم الإسلام الذي كان بالنسبة لهم مجرد غطاء يسترون به عيوب أنفسهم ويوهمون به الجهلاء من الناس الذين ظنوا في وقت من الأوقات بأن الدين الحق هو ما قاله هؤلاء المجرمون، وقد أعرض منهم كثيرون عن دين الله حيث منعوا التداول بحديث الرسول متذرعين بوجود القرآن وأنه مع وجود القرآن لا يجوز الرجوع إلى مصدر غيره، وهذا أكبر كذبة ابتدعوها لأن القرآن نفسه يأمرنا بأن نأخذ عن رسول الله لأنه لا ينطق عن الهوى، وفيه قال تعالى(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى  إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) وهذا رد على الذين امتنعوا من الأخذ عنه في حياته، ثم وجّه الله تعالى أمراً واضحاً في ضرورة الأخذ عن النبي لأننا قاصرون عن إدراك معاني القرآن إلا بالرجوع إليه حيث قال تعالى(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) وقال سبحانه(فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)

وقد بينت(ع) لهم بأن الله تعالى فضلهم على سائر الأمم بمحمد(ص) الذي أنقذهم من الضلال ونقلهم إلى الهدى، ولكنهم استحبوا العمى على الهدى وفضلوا الإنحراف على الإستقامة حيث  أمرهم الشيطان الرجيم بذلك فلم يرغبوا بمخالفته لأنهم أطاعوه وعبدوه من دون الله تبارك وتعالى.

وبقولها(ع): (إِبْتَدَعَ الأَشْيَاءَ لا مِنْ شَيْءٍ كَاْنَ قَبْلَهَا) تعظهم وتكشف لهم عن قدرة الله التي لا حدود لها والتي أخرجتهم من العدم إلى الوجود من دون أن يكون لهم أمثلة قبل ذلك، فلقد خلقهم الله وصورهم بصورهم المختلفة (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ  الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ  فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) ولعل هذا ما أرادت(ع) أن تخبرهم به وتنقله إليهم من باب التذكرة التي لا تنفع إلا المؤمنين، ولمّا لم ينتفعوا بالذكرى تبين للجميع أنهم ليسوا من أهل الإيمان.

وهذا الكلام العظيم يشبه كلام بعلها أمير المؤمنين(ع) الذي قال: أنشأ الخلق إنشاءاً وابتدأه ابتداءاً بلا رويّة أجالها ولا تجربة استفادها ولا حركة أحدثها:

ثم تابعت(ع) كلامها المبارك فقالت(كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ حَاْجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِيْنِهَا، وَلا فَاْئِدَةٍ لَهُ فِيْ تَصْوِيْرِهَا، إلَّا تَثْبِيْتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبِيْهاً عَلَى طَاْعَتِهِ، وَإِظْهَاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ، وَإِعْزَاْزاً لِدَعْوَتِهِ)

وبهذه الكلمات توسع الزهراء شرحها للمراد لتكون الحجة آكد من خلال هذه البيانات المدعومة بالأدلة والبراهين.

وإن من أهم وظائف المعصوم  أن يخرج الآخرين من الحَيرة والضياع ويلقي النور في قلوبهم وينير عقولهم بأنوار العلم والمعرفة، لأن أسوأ حالة يكون عليها الإنسان هي حالة الجهل بالأمور الأساسية التي تتعلق به وبخالقه وبما حوله من الموجودات على اختلاف أنواعها وأشكالها وأعدادها ووظائفها، فمثلاً قد يطرأ على ذهن الإنسان سؤال حول حقيقة الذات المقدسة أو حول الحكمة من إيجاد المخلوقات أو غير ذلك من الأسئلة الحساسة والدقيقة نوعاً ما، فإذا كان جاهلاً بسبب وجوده ووجود الأشياء حوله فهو في غاية الجهل، ولن يفلح في دنياه أبداً، لأن التعرف على النفس هو المدخل إلى باقي المعارف، فإذا لم يعرف الإنسان نفسه والهدف من وجوده فلا قيمة حينئذ لوجوده ولا لحياته كلها حيث يكون بذلك شبيهاً بالأموات أو بالجمادات أو بالمخلوقات الحية المحرومة من قوة العقل والإدراك.

فقد يؤمن الإنسان بوجود الله تعالى وأنه ليس كمثله شيء وأنه واحد لا شريك له، وهذا من الإيمان، ولكنه لا يكون إيماناً جامعاً لأجزائه كلها، كما ويمكن سلب صفة الإيمان في بعض موارد النقص المخلة به والمستلزمة لترك بعض الواجبات المترتبة عليه.

لقد خلق الله الأشياء، ولكن لماذا خلقها، ثم نسأل مرة أخرى كيف خلقها، وما هي الطرق التي اتبعها في مسألة الإنشاء والتصوير، وهذه الأسئلة ليست أجنبية عنا نحن البشر، فهي تلازمنا وتراود قلوبنا وعقولنا بين الفترة والفترة، فليس من القبيح أن نسأل بهذه الأسئلة بل القبيح هو أن نبقى جاهلين بها، فيجب التعرف على الإجابات الخاصة بها إما نفياً وإما إثباتاً وإما إيجاباً أو سلباً لنستريح وتطمئن قلوبنا.

وقد عملت سيدة نساء العالمين(ع) للإجابة على هذه الأسئلة لعلمها بحاجة الناس إلى معرفتها سواء كانوا مهتمين بالسؤال عنها أو غير مهتمين بذلك، فقالت (كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِهِ) إلى آخر الفقرات المشار إليها، وهذه الفقرات تحمل الكثير من المعارف والمفاهيم الإسلامية العقائدية على وجه الخصوص، وهذا ما يدعونا إلى الوقوف على كل فقرة منها لنخلص بالبحث إلى نتائج واضحة ومرضية، وفي نفس الوقت نبين لكم العمق أو جزءاً من العمق الذي كانت تقصده الزهراء بكلامها.

الفقرة الأولى: وهي قولها(ع) : (كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ)

وهذه العبارة تحمل لنا مفهومين: مفهوم القدرة المطلقة، ومفهوم الوحدانية، فهي تفيد بعد بيان القدرة العظيمة أن الله تعالى واحد في الخالقية كما هو واحد في الربوبية والعبودية، والهاء في (كوَّنها) تعود على الأشياء، أي الموجودات، فلم يكن له شريك في إنشاء الخلق من العدم، وهذا الخالق للأشياء من العدم هو الذي يجب أن يطاع حق الطاعة.

الفقرة الثانية: قولها: (وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِهِ)

ولكي نضع الإصبع على معنى المشيئة لا بد من مقارنتها بمشيئة الإنسان فإن الإنسان يشاء أمراً ولكنه لا يتحقق له إلا عن طريق الحركة، فهو يتحرك نحو الوسائل المطلوبة ويهيئ المقدمات اللازمة ويجيئ ويروح حتى يحقق ما شاء تحقيقه، أما مشيئة رب العالمين سبحانه فهي غير ذلك لأنها تتحقق من دون أية حركة أو سكنة أو كلمة أو إشارة، لأن نفس إرادة الله لشيء يعني أن هذا الشيء قد تحقق، فهو تعالى فعّال لما يريد، وإذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون، ومع التأمل في كلمة (كُنْ) نجد بأن الأمر عند الله تعالى لا يحتاج إلى الكلام أيضاً، وكلمة (كُنْ) لا تعني أنه تعالى يقول هذا اللفظ، وإنما هي حاكية عن الإرادة الإلهية ليس أكثر، ولعل الزهراء(ع) أرادت أن تقول لنا بأن كل هذه المخلوقات أوجدها الله من العدم بمجرد أنه شاء إيجادها.

الفقرة الثالثة: قولها(ع): (مِنْ غَيْرِ حَاْجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِيْنِهَا)

فقد أوجد الله تعالى جميع الخلق وهو غني عنهم وعن طاعاتهم، إذ لم يكن بحاجة إلى عبادتنا له، ولا تضره معصياتنا مهما كانت كبيرة وكثيرة، وقد أشار سيد البلغاء والأولياء علي بن أبي طالب(ع) إلى هذا الأمر بقوله: خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم لأنه لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه:

الفقرة الرابعة: قولها(ع): (وَلا فَاْئِدَةٍ لَهُ فِيْ تَصْوِيْرِهَا)

فقد يظن بعض الملتزمين بطاعة الله عز وجل أنهم بطاعاتهم يقدمون له شيئاً عظيماً ويؤدون له حقه المفروض عليهم، وهم بهذا الإعتقاد متوهمون، فقد قلنا بأنه تعالى لا يستفيد من طاعتنا له لأن الفائدة من ورائها تعود علينا، كما أن آثار المعصية نحن الذين نتضرر منها، ومن ألطاف الله علينا أنه يثيبنا على عمل هو ليس بحاجة إليه.

فإن كل ما نقدمه في هذه الدنيا من أعمال صالحة فإنما نمهد به لحياة كريمة في يوم الحساب، وإذا كُتب لنا أن حصلنا على السعادة في يوم الحساب فهذا لا يعني أننا حصلنا عليها بجهودنا ، وإنما حصلنا عليه بلطف الله ورحمته.

الفقرة الخامسة: قولها: (إلَّا تَثْبِيْتاً لِحِكْمَتِهِ)

وهنا تشير(ع) إلى أحد أبرز الأهداف من إيجاد الخلق وهو أنه تعالى يريد أن يثبت لنا حكمته وأن نتعرف عليه بدليل قوله سبحانه(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقد ذكر المفسرون بأن المقصود بلفظ العبادة هنا هو المعرفة الدافعة بالعبد نحو العبادة والطاعة، وإليه تشير الزهراء بالفقرة القائلة: (وَتَنْبِيْهاً عَلَى طَاْعَتِهِ) أي أنه خلقهم ليمتحنهم في دار الدنيا، وبهذا ينفي اللغو والعبث وعدم الفائدة، فإنه تعالى لم يخلق الخلق سدى، بل خلقهم ليعرِّفهم على نفسه، وهذه المعرفة هي باب الرحمة لهم في الدنيا والآخرة.

الفقرة السادسة: قولها(ع) (وَإِظْهَاراً لِقُدْرَتِهِ)

فقد أحب سبحانه أن يظهر قدرته فخلق الخلق وعرّفهم على ذلك من خلال إيجادهم وإيجاد الأشياء حولهم، وقد أظهر لنا ذلك من أجل أن نؤمن به ونعمل صالحاً.

الفقرة السابعة: قولها(ع): (وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ)

وهي تشبه العبارة السابقة فإنه تعالى يتعبدنا، بل خلقنا من أجل هذه الغاية الكبرى.

الفقرة الثامنة: قولها(ع): (وَإِعْزَاْزاً لِدَعْوَتِهِ)

فقد كان هذا الخلق دليلاً على عظمة الخالق، وقد عزز الله به دعوة الأنبياء للعباد، وكثيراً ما استعمل الأنبياء هذه الموجودات كأدلة على إثبات الصانع ووحدانيته.

الشيخ علي فقيه

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى