الدرس الأول
عِنْدَمَا تَخْرُجُ المَوْعِظَةُ مِنَ القَلْب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد بن عبد الله وآله الطاهرين.
الوعظ: هو الدعوة إلى الخير بطريقة مميزة وأسلوب مؤثّر، وهو ذو طرقٍ كثيرة، فإن لكل واعظ أسلوب خاص في إلقاء الموعظة وبيان المراد.
والموعظة: هي نور للقلوب، وإنعاش للنفوس التي ماتت بغفلتها واستسلمت لهفواتها، ونزلت عند رغبة نزواتها وإشباع شهواتها، وهي الأسلوب الرائع في البيان، والطريق النافع للإخوان، وهي الوسيلة الأنجح لإعادة المرء إلى صوابه، وإرجاعه إلى أصول فطرته.
وهي النافذة الأوسع المؤدية إلى القلوب والعقول، وهي الجاذبية التي تسيطر بطريقة خفية على أصول الآذان ومسامع الأفئدة.
وهي الوتيرة التي طالما عزف عليها الأنبياء، وترنّم بها الأولياء، وهي القوّة التي ضاهت المعجزة في التأثير، والمنبع الذي يصدر منه صدى صوت التذكير، وهي الكهف الحصين والحصن المنيع من سطوات الشياطين سبب كل بليّة، ومصدر كل رزيّة ظاهرة أو خفية.
وهي الأداة التي تحفظ روح الإنسان، وتحافظ على نفسه من مهالك الدهر ومساوئ الغفلة وأخطار الزمان في كل زمان ومكان، وهي باب الخلاص من رواسب الذنوب وتبعات العيوب والنكت السوداء داخل القلوب.
كثير من الوُعّاظ يعظون، وكثير من الناس يسمعون أو يستمعون، ولكن القلة منهم تنتفع، وإلى العمل تندفع، وبسببه ترتفع في هذه الحياة، وما بعد الممات.
وإن أنواع المواعظ كثيرة، وأعدادها أكثر، منها ما له أثر ظاهر، ومنها ما كانت آثارها خفية أو بطيئة أو معدومة، ويعود السبب في ذلك إلى أمرٍ لا علاقة له بجمال الكلام وروعة سبكه وانتقاء ألفاظه، بل إلى المصدر الذي تخرج منه الموعظة، فهناك علاقة قوية قائمة بين المواعظة والواعظ والمتعظ، فإذا خرجت الموعظة من القلب فلا بد أن تدخل إليه، ولا يمكن أن تخرج منه إلا إذا كان الواعظ عاملاً بالموعظة قبل بيانها.
فإذا لم تؤثر الموعظة في الحاضرين، فعليهم وعلى الواعظ أن يفتشوا عن السبب الموجود إما فيهم أو في الواعظ، إذ لا يمكن الإستفادة منها إلا بتوجه الطرفين إليها معاً، فلسان متكلم من دون قلب واع لا فائدة منه، ولسان ضليع في البيان مع إهمال العمل له نفس الأثر السابق، فلا بد من قلب واعظ، وقلب متّعظ حتى تنفع الموعظة وتؤتي أكلها.
فقد قيل لأحد الوعّاظ: حدِّثْنا عن أجر عتق الرقبة؟ فوعدهم دون أن يحدد زمناً لها، فمرت الأيام والشهور حتى يأس الناس من الإستجابة لطلبهم، وفي أحد الأيام وبعد مرور زمن طويل على ذلك الطلب صعد الواعظ المنبر وحدّثهم بثواب عتق الرقبة، فلما نزل سألوه عن سبب تأخره في الكلام؟ فأجابهم قائلاً: عندما طلبتم مني ذلك لم أكن أملك ثمن رقبة حتى أشتريها وأعتقها، أما الآن وبعد أن تمكنت من ذلك اشتريت عبداً وأعتقته ثم دعوتكم إلى هذا العمل لأنني لم أتعود أن أدعو الناس إلى فعل شيء أنا عاجز عن فعله.
بهذه الطريقو يجب على الواعظ أن يتعامل مع الموعظة، وإلا فلن تنفع شكواه من عدم استماع الناس له أو الأخذ عنه.
وهذا ما يجب أن نؤكد عليه في هذا الزمان الخطير الذي انقرض فيه المتعظون بسبب انقراض الواعظين، ولا أعني بانقراض الوعاظين عدم وجودهم أو امتناعهم عن الكلام، وإنما أعني عدم عملهم بما يقولون، فهم يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون عكس ما يقولون، إذ أصبح الكلام عندهم مجرد وظيفة أو مجرد باب للإنتفاع الدنيوي كالشهرة بين الناس وامتلاك جيوبهم دون امتلاك قلوبهم، وهذا هو الفارق الأساسي بين وضعنا في هذه الأيام وأوضاعنا قبل ثلاثين سنة، فلقد كان هم الواعظ آنذاك أن يمتلك القلوب لينيرها بعلوم الإسلام وأنوار الإيمان، أما في هذه الأيام فلم يعد هم الواعظ سوى جمع المال وشراء الشقق الفخمة والسيارات الحديثة وغير ذلك من زخارف الدنيا، وهذا ضربٌ من ضروب النفاق، وما أكثر المنافين في أيامنا.
كثير من هؤلاء فقدوا دينهم وأخلاقهم، وتاجروا بمظاهرهم الخلابة، ونفوذهم بين الناس، والشعارات الفارغة، والمظاهر الغشاشة التي لا تحكي ذرة من الباطن، فلقد ندر وجود واعظ يعمل بالموعظة، وهنا يكمن الخطر الفعلي على العقيدة، ولولا بعض البسطاء من الناس العاديين لصبّ الله علينا العذاب صباً، وهؤلاء العاديون الذين يحتقرهم كثير من الواعظين في زماننا هم أعظم وأشرف وأكرم وأنزه من كل أصحاب المظاهر الغشاشة لأن الإنسان العادي يعبد الله خوفاً أو طمعاً بما عنده، أما أصحاب المظاهر المعنيون بالأمر قبل غيرهم فإنهم يعبدون الشيطان بنفس الأسلوب الذي يُعبد به الرحمن.
كيف أثق بواعظ لا أراه إلا عند الزعماء والأغنياء، وكيف آخذ بكلام إنسان سلوكه أبعد ما يكون عن سلوك النبي وآله(ص)، وكيف أقبل موعظة إنسان لا يسكن إلا في القصور، ولا يأكل إلا طعام الملوك، ولا يعلّم أولاده إلا بالمدارس البعيدة عن قيمنا ومبادئنا.
ولو أنني أريد متابعة الكلام في هذا الشأن لامتلأت صفحات هذا الكتاب بذكر تلك النماذج السيئة، ولكنني أقول دون خيفة سوى من الله تعالى: لقد أصبح الواعظون بحاجة إلى من يعظهم ويدلهم على الحق ويضع لهم لجاماً حافظاً لأنهم أكثر انحرافاً من غيرهم، وأسرع انجرافاً في تيارات الشيطان الرجيم.

