رَأْسُ الإِمَامِ الحُسَيْن(ع) بَيْنَ الإِنْفِصَالِ وَالوِصَالِ

رَأْسُ الإِمَامِ الحُسَيْن(ع)
بَيْنَ الإِنْفِصَالِ وَالوِصَالِ
ما أحوجنا إلى معرفة الأحداث التي جرت للرأس الشريف بعد أن قطعه الشمر اللعين في العاشر من شهر محرم سنة إحدى وستين للهجرة، وما أحوجنا إلى معرفة ما جرى قبل ذلك وبعده.
والخطأ الكبير الذي نرتكبه دائماً هو التقصير تجاه تلك الأمور التي تعنينا مباشرة، فلا يليق بنا نحن الموالين المحبين أن نقطع الرأس الشريف مرة أخرى، بل ينبغي أن نوصله بالجسد عبر المعرفة المعمقة لأحداث الثورة من أولها إلى النقطة التي وصلت إليها.
إذاً.. هناك تقصير واضح حول أحداث الثورة الحسينية بشكل عام، وأحداث الرأس المبارك بشكل خاص، والجميع يتحملون هذه المسؤولية من دون استثناء، فإذا كان الخطيب مقصِّراً فلا ينبغي أن نشاطره التقصير، بل يجب البحث عن الوسائل التي نقضي بها على التواني في معرفة ما تجب معرفته.
وما حدث للرأس الشريف خلال أربعين يوماً قبل دفنه لم يكن بالأمر العابر، بل كان هناك محطات رئيسية وأساسية ترتبط بفكر الثورة وأهدافها.
كثير من الناس تنتهي ذكرى عاشوراء في نظرهم يوم العاشر من المحرم عند انتهاء الخطيب من تلاوة المصرع، ولكن الحقيقة هي أن البداية بدأت في العاشر واستمرت ولم تنته حتى يومنا الحاضر، فلا ينبغي أن نكتفي من تاريخ الحسين بيوم من أيام عمره الشريف ونهمل سبعة وخمسين عاماً كانت مليئة بالمواقف المشابهة لمواقفه في يوم عاشوراء.
قَطْعُ الرَّأْسِ الشَّرِيْف
بعد أن انهمكت قوى الإمام الحسين(ع) على أرض القتال بسبب كثرة الجراحات التي أصابت جسده الشريف سقط على الأرض من شدة الألم، ولم يستطع القيام بعد ذلك، وبالأخص عندما أصيب بالسهم المثلث المسموم الذي اخترق جسده وأصاب كبده.
في تلك الأثناء طلب عمر ابن سعد عليه ألف لعنة أن يُؤتى برأس الإمام ليحسم المعركة ويحقق الإنتصار الموهوم، فانتُخب لذلك أكثر من فارس، ولكن الجميع لم يجرؤوا على الإقتراب من الإمام الحسين(ع) الذي كان يرمقهم بطرفه فيرموت سيوفهم ويهربون.
لقد تكررت المحاولة أكثر من مرة، وكانت النتيجة واحدة، وهي الفرار من أمام هيبة الحسين(ع) حتى أتى مَن لا دين له ولا أخلاق ولا إنسانية ولا رحمة ولا شفقة(شمر بن ذي الجوشن) فوضع ركبته على جسد الإمام وحزَّ الرأس باثنتي عشرة ضربة ورفعه متبخبتراً بهذا الإنجاز الذي قام به، ثم هتف القوم فرحين بهذا الإنتصار المزعوم الذي كان بداية هزيمتهم، وهنا بدأت القصة.
لقد حُمل الرأس الشريف من كربلاء على رأس رمح طويل، ووُضع في مقدمة القافلة كعلامة على الإنتصار، فلم يراعوا حرمة لا للرأس ولا لمشاعر النساء والأطفال لأن همهم الوحيد انحصر في جائزة الأمير التي كانت عادلة في بعض نواحيه حيث كافأهم بقطع رؤوسهم كما صنع ابن زياد مع خولى بن يزيد الذي حمل الرأس إلى قصر الإمارة مسرعاً لينال الجائزة فكانت جائزته أن أمر ابن زياد بضرب عنقه.
بِدَايَةُ رِحْلَةِ الرَّأْسِ الشَّرِيْف
مع غروب اليوم العاشر من شهر محرم عام إحدى وستين للهجرة بدأ تجهيز موكب السبايا والرؤوس الطاهرة، وبعد ارتكاب تلك المجزرة البشعة في حق الدين وأهل البيت والإنسانية برمتها، حُمل الرأس الشريف في موكب السبايا الذي أُخرج من كربلاء قسراً في صبيحة اليوم الحادي عشر.
ويذكر المؤرخون بأن عمر ابن سعد لمّا سيّر الرؤوس إلى الكوفة ، أقام مع الجيش إلى الزوال من اليوم الحادي عشر ، فجمع قتلاه وصلّى عليهم ودفنهم ، وترك سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة الرسول الأكرم ومَن معه من أهل بيته وصحبه بلا غسل ولا كفن ولا دفن، تسفي عليه الصبا ، ويزورهم وحش الفلا .
وبعد الزوال ارتحل إلى الكوفة ومعه نساء الحسين (ع) وصبيته وجواريه وعيالات الأصحاب وكنَّ عشرين امرأة وسيروهنَّ على أقتاب الجمال بغير وطاء كما يساق سبي الترك والروم و هنّ ودائع خير الأنبياء ومعهنّ السّجاد علي بن الحسين (ع) وعمره ثلاث وعشرون سنة ، وهو على بعير ظالع بغير وطاء وقد أنهكته العلّة ومعه ولده الباقر وله سنتان وشهور، ومن أولاد الإمام الحسن المجتبى (ع) زيد وعمرو والحسن المثنّى ، فإنّه أُخذ أسيراً بعد أنْ قَتل سبعة عشر رجلاً ، وأصابته ثمان عشرة جراحة وقُطعت يده اليمنى.
ففي يوم عاشوراء وعلى يد اللعين المجرم شمر بن ذي الجوشن قُطع الرأس الشريف بسيفه الحاد الممزوج بالخبث والإجرام والحقد بعد تلك الجراحات الكثيرة، وبعد الألم والعطش والحزن والتعب، وهناك علت الأصوات مبتهجةً بقتل الخير والبركة والإنسانية المتمثلة بالإمام أبي عبد الله(ع) فلقد قُطع الرأس الشريف وتكالب الطامعون على أخذه، فلم يسمح لهم عمر بن سعد بذلك لأن ثمن هذا الرأس عنده كان غالياً جداً، إذ كان ثمنه كما ظنَّ ملكَ الري الذي لم يهنأ به بعد أن نفّذ لأمرائه تلك الجريمة في حق الحسين.
وعلى كل حال فقد أمر عمر بن سعد خولى بن يزيد الأصبحي وحُميد بن مسلم الأزدي أن يأخذا الرأس الشريف ويسلّماه للأمير عبيد الله بن زياد، فحمل خولى بن يزيد الأصبحي الرأس الشريف على الفور وسار نحو الكوفة ليبشر ابن زياد بمقتل الحسين ويأخذ الجائزة التي وعدهم بها، فسار مسرعاً حتى وصل إلى الكوفة ودخل على ابن زياد وهو يقول له: إملأ ركابي فضة وذهباً إني قتلت الملك المحجبا، وفي بعض الروايات إني قتلت السيد المحجبا قتلت خير الناس أماً وأبا وخيرَهم إن يُنسبون النسبا، فقال له ابن زياد ويحك، إذا علمتَ أنه خير الناس أماً وأباً فلِمَ قتلتَه إذاً؟ وعندها أمر ابن زياد بقتل خولى فقُتل، وفي بيان هوية الشخص الذي حمل الرأس الشريف إلى ابن زياد اختلاف بين المؤرخين فمنهم من قال بأنه سنان بن أنس الذي قتله المختار عقاباً لمشاركته في هدر الدماء الزكية، ومنهم من قال بأن حامل الرأس كان بشر بن مالك، وأياً تكن هويته فإن الثابت في التاريخ أن هذا الأمر قد حدث، وأن ابن زياد لم يعطِ حامل الرأس الجائزة، بل قتله خوفاً منه لأن الذي يتجرأ على قتل الإمام الحسين لا يتورع عن قتل يزيد وابن زياد.
ولكن المشهور هو أن الذي حمله إلى ابن زياد هو خولى بن يزيد الأصبحي وليس سنان بن أنس الذي قُتل على يد المختار، وقيل بأن خولى وصل إلى الكوفة في الليل فلم يُرد أن يزعج الأمير فأخذ الرأس الشريف ووضعه في منزله فعلمت زوجته بذلك فوبخته أشد توبيخ وأقسمت أن لا يجمعها وإياه سقف واحد أو ستر واحد لإقدامه على تلك الجريمة في حق الرسول(ص).
وقد ذكر أعلام المؤرخين هذه الحادثة كما في كتاب البداية والنهاية لابن كثير، وكتاب روضة الشهداء، وكتاب مرآة الجنان لليافعي، حيث قالوا: وسرّح ابن سعد في اليوم العاشر رأس الحسين (ع) مع خولى بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي ، وسرّح رؤوس أهل بيته وصحبه مع الشمر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحَجّاج، وكان منزل خولي على فرسخ من الكوفة ، فأخفى الرأس عن زوجته الأنصاريّة ؛ لِما يعهده من موالاتها لأهل البيت (عليهم السّلام) إلاّ أنّها لمّا رأت من التنّور نوراً راعها ذلك ؛ إذ لم تعهد فيه شيئاً ، فلمّا قربت منه سمعت أصوات نساء يندبن الحسين (ع) بأشجى ندبة ، فحدّثت زوجها وخرجت باكية ولَم تكتحل ولم تتطيّب حزناً على الحسين (ع) وكان اسمها العيوف، وعند الصباح غدا بالرأس إلى قصر الإمارة ، وقد رجع ابن زياد في ليلته من معسكره بالنّخيلة فوضع الرأس بين يدَيه وهو يقول :
إمـلأ ركابي فضّة أو ذهبا إنّـي قتلت السيّد المحجّبا
وخيرهم من يذكرون النسبا قـتلت خير الناس اُمّاً وأبا
فساء ابن زياد قوله أمام الجمع فقال له : إذا علمت إنّه كذلك فلِمَ قتلته ؟ والله لا نلت منّي شيئاً.
تَوْزِيْعُ رُؤوسِ الشُّهَدَاء
ذكر المؤرخون أن عمر ابن سعد أمر بالرؤوس، فقطعت واقتسمتها القبائل لتتقرّب إلى ابن زياد، فجائت كندة بثلاثة عشر وصاحبهم قيس بن الأشعث ، وجاءت هوازن باثني عشر وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن ، وجاءت تميم بسبعة عشر ، وبنو أسد بستة عشر ، ومذحج بسبعة ، وجاء آخرون بباقي الرؤوس، ومنعت عشيرة الحر الرياحي من قطع رأسه ورضّ جسده.
ويقول صاحب التذكرة: ثم بعث ابن سعد إلى ابن زياد برأس الحسين ورؤوس أصحابه وحُمل مع رأس الحسين اثنان وتسعون رأساً.
ويقول إبن كثير لما سرّح عمر برأس الحسين من يومه إلى ابن زياد كان معه رؤوس أصحابه، ولكن الأصح هو أن الرأس الشريف أُرسل إلى ابن زياد قبل رؤوس الأصحاب لأنه الأساس فلو بعثوا إليه جميع الرؤوس من دون رأس الحسين لما أجزأهم ذلك عنده.
ويؤيد ذلك السرعة التي أُرسل فيها رأس الحسين لم تكن لتسمح بانتظار رؤوس الأصحاب، ثم إنه من المستحيل لشخص أو شخصين أن يحملا معهما عشرات الرؤوس.
وعليه تكون الرؤوس الكريمة قد حُملت مع السبايا في الحادي عشر من محرم، وأما كلام صاحب التذكرة الذي ادعى بأنه حُمل مع رأس الحسين إثنان وتسعون رأساً فهو غير دقيق، لأن أصحاب الحسين وأهل بيته الذين استشهدوا معه لم يتجاوز عددهم التسعين، فلقد كان معه من أهل بيته سبعة عشر رجلاً ومن أصحابه اثنان وسبعون، ومجموع الجميع مع الإمام تسعون رجلاً، ثم إن بعض القبائل التي شاركت في تلك المجزرة لم تسمع بإرسال رؤوس من ينتمي إليها إلى ابن زياد وغيره، وهناك أصحاب لم تُقطع رؤوسهم من الأساس كالحر بن يزيد الرياحي الذي استنكرت قبيلته قطع رأسه وهددت ابن سعد إن أقدم على ذلك، وبناءاً على هذا التحقيق البسيط الذي ذكرته لكم يتبين لنا عدم صحة ما قاله صاحب التذكرة وغيره ممن اعتمدوا مضمون كلامه، وفي كتاب الأخبار الطوال أن عمر بن سعد عندما آذن بالرحيل من كربلاء، حُملت الرؤوس على أطراف الرماح وكانت اثنين وسبعين رأساً، جاءت هَوَازِنُ منها باثنين وعشرين رأساً وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً مع الحصين بن نمير، وجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً مع قيس بن الأشعث، وجاءت بنوا أسد بستة رؤوس مع هلال الأعور، وجاءت الأَزد بخمسة رؤوس مع عَيهمة بن زهير، وجاءت ثقيف باثني عشر رأساً مع الوليد بن عمر، ويقول الطبري بأن رؤوس الأصحاب رضوان الله عليهم قد جاء بها إلى ابن زياد شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس.
وورد في اللهوف أن القبائل تقاسمت الرؤوس لتتقرب بها إلى يزيد بن معاوية وقد ذكر التفصيل الذي بيناه قبل قليل.
ويذكر بعض المؤرخين بأن رؤوس أولاد الحسين وأخوته وأبناء عمه قد أُتيَ بها إلى الكوفة محمولة على رؤوس الرماح.
وقيل بأن ابن زياد أمر أن تنصب الرؤوس على الرماح ليستقبل بها السبايا، وقيل بأن عمر بن سعد أمر بوضعها على الرماح وأن يسار بها أمام السبايا، وفي كتاب كشف الغمة: أول رأس حُمل على رمح في الإسلام رأس الحسين بن علي(ع) ويقول الراوي فلم أر باكياً أو باكية أكثر من ذلك اليوم.
الرأسُ الشَّريْفُ فِي مَجْلِسِ ابنِ زِيَاد
بعد فترة من مغادرة أرض كربلاء وصل الموكب إلى الكوفة حيث كان الناس يحتفلون بانتصار أميرهم ابن زياد وذلك بعد أن أرسلوا آلاف الكتب إلى الإمام الحسين(ع) يدعونه إلى المجيء إليهم لأن عندهم العدد والعدة، ولكنهم كانوا خائنين حيث خذلوا إمامهم بسبب تهديدات ابن زياد لبعضهم وإغرائه للبعض الآخر، وعلى قاعدة أن الشيء بالشيء يُذكر تجدر الإشارة إلى ذِكر ما جرى على مسلم ابن عقيل في الكوفة كإشارة سريعة قبل أن نتحدث عن أحوال الرأس الشريف عندما أُدخل على قصر ابن زياد وما حدث هناك.
فعندما وصل الإمام الحسين(ع) إلى مكة المكرمة راحت كتب أهل الكوفة تتوافد إليه بشكل مكثف، وهم يدعونه إليهم، وقد عُدّت كتبهم بالآلاف، وآخر كتاب ورد عليه من شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث، وعزرة بن قيس ، وعمرو بن الحجّاج ، ومحمد بن عُمَير ابن عطارد وفيه : إنّ النّاس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل يابن رسول الله فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار . فأقدم إذا شئت ، فإنّما تقدم على جند لك مجنّدة.
فكتب إليهم كتاباً ودفعه إلى مسلم بن عقيل وقال له: إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة ، وسيقضي الله من أمرك ما يُحبّ ويرضى ، وأنا أرجو أنْ أكون أنا وأنت في درجة الشهداء فامضِ ببركة الله وعونه ، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها:
وبعث مع مسلم بن عقيل (ع) قيس بن مسهّر الصيداوي ، وعمارة بن عبد الله السلولي ، وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي وأمره بتقوى الله والنظر فيما اجتمع عليه أهل الكوفة ، فإن رأى النّاس مجتمعين مستوثقين عجّل إليه بكتاب.
فخرج مسلم من مكّة للنصف من شهر رمضان على طريق المدينة ، ولخمس خلون من شوّال دخل الكوفة، فنزل دار المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان شريفاً في قومه، ووافت الشيعة مسلماً في دار المختار بالترحيب وأظهروا له من الطاعة والانقياد ما زاد في سروره وابتهاجه ، فعندما قرأ عليهم كتاب الحسين ، قام عابس ابن شبيب الشاكري وقال : إنّي لا أخبرك عن النّاس ، ولا أعلم ما في نفوسهم ، ولا أغرّك بهم ، والله إنّي اُحدّثك عمّا أنا موطّن عليه نفسي ، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم ، ولاُقاتلنَّ معكم عدوّكم ، ولأضربنَّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله لا اُريد بذلك إلاّ ما عند الله .
وقال حبيب بن مظاهر : قد قضيتَ ما في نفسك بواجز من قولك ، وأنا والله الذي لا إله إلاّ هو ، على مثل ما أنت عليه ، وقال سعيد بن عبد الله الحنفي مثل قولهما، وقد بايعه أكثر من ثمانية عشر ألف مسلم، وفي تلك الأثناء توجه ابن زياد متنكراً ومدعياً بأنه الحسين فاستقبله الناس استقبالاً حاراً، ولكن بعض أهل الكوفة علم بهذه الخدعة فأخبر الناس بالحقيقة فتفرّقوا إلى منازلهم ، وعند الصباح جمع ابن زياد النّاس في الجامع الأعظم ، وخطبهم وحذّرهم ومنّاهم العطيّة وقال : أيّما عريف وُجَد عنده أحد من بغية أمير المؤمنين ولَم يرفعه إلينا ، صُلِب على باب داره:
ولمّا بلغ مسلم بن عقيل خطبة ابن زياد ووعيده وظهر له حال النّاس ، خاف أنْ يؤخذ غيلةً ، فخرج من دار المختار بعد العتمة إلى دار هاني بن عروة المذحجي ، وكان من خواصّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأخذت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل في دار هاني على تستّر واستخفاء، وبعد أحداث كثيرة تخلى الناس عن مسلم وبقي وحيداً فريداً حتى اعتقلوه ورموه من أعلى القصر فسقط شهيداً، وفي تلك الأثناء سُجن المختار خوفاً منه لأنه كان من أشد الموالين للحسين(ع).
وعندما بلغ الإمام الحسين(ع) خبر استشهاد مسلم قرر الذهاب إلى العراق، وكلكم تعرفون كثيراً مما جرى هناك.
ويمكن القول بأن وجود رأس الإمام الحسين في مجلس عبيد الله بن زياد قد أحدث ضجة كبرى وثورة لا مثيل لها، لأن هذا الرأس ليس رأس إنسان عادي، ولا رأس خارج عن الدين، أو رأس شخص يستحق ما نزل به، بل كان رأس الإمام الحق الحسين بن علي وفاطمة إبنة خاتم الأنبياء والرسل، فلقد فرح الناس باتصار بن زياد واحتشدوا من أجل الإحتفال باستقبال رؤوس الظلمة فتبيّن لهم بعد وقت قصير بأن تلك الرؤوس لم يكن أهلها كفاراً وظالمين ومجرمين بل كانوا مؤمنين مجاهدين نصروا الله تعالى وبذلوا أرواحهم في سبيل الأمة، فعندما فهم الناس الحقيقة التي أخفاها الجيش الأموي عليهم ثاروا ضد الظلم وأهله وغيروا كثيراً من الموازين والمعادلات حيث قلبوا الدفة على الحكم الأموي لتجرئه على الله ورسوله بانتهاك حرمة آل الرسول وقتلهم والتمثيل بهم، فعن حميد بن مسلم قال: دعاني عمر بن سعد فسرّحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وبعافيته، فأقبلت حتى أتيت أهله فأعلمتهم بذلك ثم أقبلت حتى أدخل فأجد بن زياد قد جلس للناس وأجد الوفدَ قد قدموا عليه فأدخلهم وأذن للناس فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه وإذا هو ينكتُ بقضيبٍ بين ثناياه ساعة فلما رآه زيد بن أرقم لا يُنجم عن نكته بالقضيب قال له: أعلُ بهذا القضيب عن هاتين الشفتين فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله(ص) على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم انفضح الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد أبكى الله عينيك فوالله لولا أنك شيخ قد خرِفتَ وذهب عقلك لضربت عنقك، فخرج زيد وقال الناس والله لقد قال زيد قولاً لو سمعه ابن زياد لقتله، فقال حميد ما قال؟ قالوا مرّ بنا وهو يقول: ملّكَ عبدٌ عبداَ فاتخذهم تُلَداً أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبُعداً لمن رضي بالذل.
وجاء في كتاب مثير الأحزان وكتاب التذكرة أن زيد بن أرقم قال لابن زياد أيضاً يابن زياد لأحدثنك حديثاً هو أغلظ عليك من هذا، رأيت رسول الله(ص) أقعد حسناً على فخذه اليمنى وحسيناً على فخذه اليسرى ثم وضع يده على يافوخَيهما ثم قال:اللهم إني أستودعك إياهما وصالحَ المؤمنين، فكيف كانت وديعة رسول عندك يابن زياد؟
وعن هشام بن محمد قال: لما وُضع الرأس بين يدي بن زياد قال له كاهنه: قم فضع قدمك على فم عدوك، ففعل ذلك ثم قال لزيد بن أرقم كيف ترى؟ فقال زيد والله رأيت رسول الله واضعاً فِيه حيث وضعتَ قدمَك:
ويذكر بعضهم بأنه وضع الرأس الشريف في وعاء وراح بن زياد يضرب ثناياه ويقول: لقد أسرع إليك السيب يا أبا عبد الله، ثم قال يوم بيوم بدر، وكان عنده أنس بن مالك فبكى وقال كان أشبههم برسول الله، وعن سعد بن معاذ وعمر بن سهل أنهما حضرا مجلس عبيد الله فرأياه يضرب بالقضيب الذي كان يحمله أنف الحسين وعينيه ويطعن في فمه:
وفي الإرشاد للشيخ المفيد أن عمر بن سعد أمر بإحضار الرأس فجعل ينظر إليه ويتبسم وبيده قضيب يضرب به ثناياه.
وقد حدثت عدة كرامات للرأس الشريف ولكن بعضهم لم يعبر بها لعناده وحقده على فضل النبي وآله(ص) فلقد جاء في ترجمة تاريخ الأعثم الكوفي أنه قال: لما وُضع رأس الحسين عند ابن زياد أخذه بيده وجعل ينظر إلى وجهه وشعره وإذا باللعين يرتعش ارتعاشاً شديداً فوضع الرأس على فخذه فسال من حلقه قطرة دم على ثيابه فجاوز الدم عن ثيابه وفخذه فصار في موضعه جرحاً متعفناً كلما عالجوه لم ينفع إلى أن قُتل لعنه الله.
وجاء في التذكرة أن ابن زياد نصب الرؤوس كلها بالكوفة على الخشب وكانت زيادة على سبعين رأساً وهي أول رؤوس نصبت في الإسلام بعد رأس مسلم بن عقيل بالكوفة.
ويقول الطبري في تاريخه بأن ابن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة فجعل يدار به في الكوفة.
وفي إرشاد المفيد لما أصبح عبيد الله بن زياد بعث برأس الحسين(ع) فدِير به في سكك الكوفة كلها وقبائلها، وورد أن الذي دار بالرأس هو عمر بن جابر المخزومي.
أحداث الرأس الشريف أثناء نقله من الكوفة إلى الشام
الكلام عن أحوال الرأس الشريف وما جرى عليه منذ قطعه وإلى حين دفنه حديثٌ يُدمي القلوب ويُقَرّح الأفئدة ويُشعل نيران الأسى في قلوب الأحرار ويستوقف أصحاب الفكر والقلم فيترددون في ذكر بعض ما يتعلق بأحواله ولكنهم من أجل أمانة النقل يكتبون كل ما حدث كيلا يؤدي خجلهم من بيان بعض الحقائق إلى إحداث خلل في تأريخ بعض الأحداث ونحن وإن كنا نرى ما يرون ونشعر بما يشعرون فإنه لا بد من أن نبيّن الحدث بجميع تفاصيله حيث قد تتوقف إحدى المصالح العامة على معرفة جانب واحد من تلك الجوانب، فلا ينبغي أن يجرنا حزننا تارة وخجلنا تارة أخرى إلى الوقوع في خطأ قد نتحمل نحن تبعاته في يوم الحساب، ولأجل هذا يجب علينا أن نبيّن كل شيء وبكل حريةِ ضميرٍ وتَجَرُّدِ نفس واستقلالية قلم، فبعد أن نكّل عبيد الله بن زياد برأس الإمام الحسين في مجلسه أشد تنكيل وأبشع أنواع الإستهزاء عندما راح يخاطب الرأس بكل شماتة وحقد، إنتهت مهمته وأرسل الرأس المبارك والسبايا إلى أميره الأطغى وشيطانه الأكبر يزيد بن معاوية الذي كان رأس الأفعى في كل ما حدث لأهل البيت.
لقد بعث ابن زياد برأس الحسين إلى الشام وكان رسله كلما وصلوا إلى منطقة أخرجوا رأس الحسين من صندوق ورفعوه على رأس رمح ليراه الناس وليكون درساً لكل من يجرؤ على الوقوف في وجه الخليفة الطاغي يزيد، والمستفاد من التواريخ أن ابن زياد أرسل الرؤوس إلى يزيد قبل أن يبعث إليه بالأسرى حيث وكّل بهم شمر بن ذي الجوشن، ثم بعد يوم أو يومين أتبع جنوده بجنود آخرين على رأسهم عمر بن سعد أرسلهم سنداً لحاملي الرؤوس والموكلين بالأسرى كيلا تحدث انتفاضة من الناس إذا استطاع الأسرى أن يكشفوا الحقيقة لهم.
وقد حدثت أمور وكرامات للرأس الشريف أثناء نقله من الكوفة إلى الشام فلقد ذكر بن حجر في الصواعق بأن الذين ساروا برأس الحسين أرادوا أن ينتهكوا حرمة الرأس الشريف فراحوا يشربون الخمر به فحدث أمر رهيب أرعبهم فهربوا من مكانهم، وقريب من هذا ما ذكره القاضي حسين بن محمد المالكي في كتابه الخميس في أحوال أنفس النفيس حيث قال: فساروا إلى أن وصلوا إلى دير في الطريق فنزلوا به، فوجدوا مكتوباً على بعض جدرانه: أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحسابِ، فسألوا الراهب عن هذا السطر ومن كَتَبه فقال لهم الراهب إنه مكتوب فيها من قبل أن يُبعث نبيكم خمس مئة عام.
وفي كتاب مثير الأحزان عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف أيام الموسم إذا رجل يقول: اللهم اغفر لي وأنا أعلم أنك لا تغفر، فسألته عن السبب فقال كنت أحد الأربعين الذين حملوا رأس الحسين إلى يزيد على طريق الشام فنزلنا على دير للنصارى والرأس مركوز على رمح، فوضعنا الطعام ونحن ونأكل فإذا بكف على حائط الدير فكتوب عليها بالدم: أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحسابِ، فجزعنا جزعاً شديداً وأهوى بعضنا إلى الكف ليأخذها فغابت.
وفي كتاب روضة الأحباب لما اقترب القوم من الموصل كتب الشمر إلى عاملها أن يهيأ لهم الزاد والعلف وأن يزين المدينة حيث كتب له: إن معنا رأس الخارجي الحسين بن علي بن أبي طالب فأخبر العامل أهل الموصل بكتاب الشمر فاستنكروا الأمر واجتمع حوالي أربعة آلاف شخص وقد استعدوا لقتال الشمر ومن معه فبعث العامل إلى الشمر بأن لا يأتي وأخبره بأن أكثر أهل الموصل من شيعة الإمام الحسين فخاف الشمر أن يدخلها بل تمركز بعيداً عنها.
وفي ذلك المكان وضعوا الرأس الشريف على صخرة فسالت عليها نقطة دم من الرأس الشريف فأصبحت تلك الصخرة مكاناً للزيارة حيث كان الناس يتهافتون إليها لأنها موضع الرأس الشريف، وبقي هذا الحال قائماً إلى أيام عبد الملك بن مروان الذي أخفى الصخرة ولم يبق لها أثر فبنى الناس في ذلك المكان قبة وأطلقوا عليها إسم مشهد النقطة.
ومن أحداث الرأس الشريف أثناء إرساله إلى الشام قضية الراهب الذي أسلم بعد أن أبدى الحب الكامل للإمام وأبيه وجده، فقد ورد في التذكرة أن حملة الرأس نزلوا في إحدى المنازل وفي ذلك المنزل دير فيه راهب فأخرجوا الرأس الشريف من الصندوق ووضوه على رأس الرمح وأسندوا الرمح إلى الدير وفي منتصف الليل لفت نظرَ الراهب نورٌ يصعد من الخارج أي من المكان الذي فيه الرأس الشريف فجاء إليهم وسألهم وقال لهم من أنتم قالوا نحن أصحاب بن زياد، قال وهذا رأس من؟ قالوا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت محمد، قال نبيكم؟ قالوا نعم قال بئس القوم أنتم لو كان للمسيح ولد لأسكناه أحداقَنا، ثم طلب منهم أن يأخذ الرأس منهم لما تبقّى من الليل فقط على أن يعطيهم في المقابل عشرة آلاف دينار… فوافق أصحاب بن زياد على عرض الراهب فأعطوه الرأس لليلة وأخذوا منه الدنانير، فأخذ الراهب الرأس المبارك ووضعه في حجره وقعد تلك الليلة يبكي على مظلومية صاحب هذا الرأس وعندما أسفر الصبح قال الراهب يا رأس لا أملك إلا نفسي وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن جدك رسول الله وأُشهِد الله أني مولاك وعبدك، وقد أصبح هذا الراهب من خدمة أهل البيت(ع).
أحداث الرأس الشريف في الشام ومجلس يزيد
لقد نُقل رأس الإمام الحسين(ع) من بلد إلى بلد ومن منطقة إلى أخرى بهدف الشماتة وإرسال رسالة تحذير لكل من يفكر بالخروج على حكم يزيد، فلقد نُقل الرأس الشريف من كربلاء إلى الكوفة ثم من الكوفة إلى الشام، ولم تَخلُ عملية نقله من أحداث قبل الوصول إلى الشام وفيها.
لقد نقل جملة من المؤرخين حديث سهلِ الساعدي الذي نُقل في العديد من الكتب المعتبرة فقال سهل: خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطتُ الشام في يوم ورود الأسارى…إلى قوله قلت ولما ذلك؟ قالوا هذا رأس الحسين عترة محمد يُهدى من أرض العراق قلتُ واعجباً يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون.. قلت من أي باب يدخل؟ فأشاروا من باب الساعات قال فبينما أنا كذلك حتى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً فإذا نحن بفارس بيده لواء عليه رأس من أشبه الناس برسول الله(ص) ورأيت نسوة على جمال بغير وطاء فدنوت من أولاهن فقلت يا جارية من أنت؟ فقالت أنا سكينة بنت الحسين، فقلت لها ألكِ حاجة إليَّ؟ فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك وسمع حديثه قالت يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا حتى يتشغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله، فلبى سهل سؤالها وأتى إلى حامل الرأس الشريف وطلب منه أن يتقدم بالرأس مقابل مبلغ من المال ففعل ذلك.
وهذا مما يبين لنا مأساة أهل البيت وبالخصوص النساء والأطفال الذين أحيطوا برؤوس الآباء والأخوة والأحباب فيا لها من مصيبة ما أعظمها وما أشدها على الرسول وآله.
وقد ذُكر في بعض المقاتل أنه بينما هم يطوفون بالرأس الشريف في بعض شوارع الشام فإذا بغرفة وروشن فيها خمس نسوة وبينهن عجوز محدودبة الظهر فلما حاذى الرأس الروشن أخذت العجوز حجراً رضربت به الرأس الشريف فأصابته ولكن مشيئة الله تعالى تدخلت فأحدثت كرامة لهذا الرأس المبارك حيث وقع الروشن من الأعلى فماتت النسوة اللواتي كن فيه على الفور، وأنا هنا أتساءل عن مدى الحقد الذي كان مركوزاً في قلوب بعض الناس، والذي يظهر من خلال هذه الكرامة أن هذه العجوز كانت تعرف صاحب الرأس ولحقدها على أبيه فعلت ما فعلت إذ لو كانت جاهلة بالأمر لما عاقبها الله تعالى، وليس ببعيد أن يكون هناك حقد بهذا الحجم لأن كثيراً من الناس لم يكونوا راضين عن آل الرسول بسبب الأحقاد التي زرعها الأمويون في قلوبهم والضغائن التي زرعوعا في نفوسهم، وعلى فرض أن هذه العجوز كانت جاهلة بهوية صاحب الرأس فلقد كان الأجدر بها أن تسأل عن صاحبه قبل أن ترميه بحجر ولكنها أحبت أن تتقرب من أمراء الجور وتشارك بالإحتفال الملعون مهما كان الأمر.
وفي بعض الروايات أن الإمام السجاد(ع) رأى تلك العجوز تضرب رأس أبيه بالحجر فدعا عليها فسقط الروشن على الفور وماتت هي ومن كان معها.
هذا الحقد لم ينته بعد بل هو آخذٌ بالزيادة في تلك المناطق التي كانت مركزاً للحكم الأموي، وما زال أولاد قتلة الإمام الحسين موجودين في الشام وهم يتباهون بهذا الذي يظنونه شرفاً لهم بل هو خزي لهم في الدنيا وفي الآخرة.
فبنو السراويل: وهم الذين سلب جدهم سراويل الإمام الحسين، وبنو السراج: وهم أحفاد الذين أسرجوا خيولهم وداسوا صدر الإمام الحسين، وبنو السنان: وهم أحفاد الذين نصبوا الرأس الشريف على السنان، وبنو الملح: وهم الذين ألقوا الملح على الرأس المبارك، وبنو الطست: وهم أولاد من وضع رأس الحسين على الطست وأتى به إلى يزيد، وبنو القضيب: وهم أولاد من أعطى يزيد بن معاوية القضيب الذي ضرب به رأس الحسين، وبنو الفروجي وهم أولاد من داروا برأس الحسين في فروج جيرون الشام، وهكذا ما زال بعضهم يتباهى بما فعله أجداده بآل رسول الله(ص).
ووصل الموكب إلى باب قصر يزيد وانتظر حملة الرأس ساعة أمام باب داره، فأذن لهم بالدخول فوضعوا الرأس على طست من ذهب ووضعوا الطست بين يدي يزيد، ثم جاء المعرّف وعرّف عن أصحاب الرؤوس واحداً واحداً، وكان رأس الإمام مغطىً بمنديل فرفع يزيد المنديل بالقضيب الذي كان يحمله فجعل ينكث ثنايا الرأس الشريف ويقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القَرمَ من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل
….لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
ويذكر المسعودي أنه جعل ينكث ثنايا الحسين ويقول: نُفَلَِق هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما، وقد كان أبو برزة الأسلمي حينها موجوداً عند يزيد فقال له إرفع قضيبك فطال والله ما رأيت رسول الله يضع فمه على فمه يلثمه.
وفي رواية أخرى أنه عندما نكث يزيد ثنايا الحسين بقضيب الخيزران قام إليه أبو برزة الأسلمي وقال ويحك يا يزيد تنكث بقضيبك ثنايا الحسين وقد كان جده يرشف ثناياه وثنايا أخيه ويقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنة قاتل الله قاتلَكما: فغضب يزيد لهذا الكلام وأمر بإخراجه من مجلسه سحباً، لقد غضب يزيد لأن هذا الشخص نطق بالحق، ويزيد عدو للحق بجميع أشكاله.
وفي رواية أنه لما ضرب يزيد بقضيبه على ثنايا الحسين(ع) قال سَمُرة بن جُندَب وكان حاضراً عند يزيد قطع الله يديك يا يزيد أتنكث موضعاً رأيتُ رسولَ الله يقبله، قال له يزيد لولا صحبتك لرسول الله لقتلتك، قال سمرة أتراعي فيَّ صحبة رسول الله ولم تراع فيهم قرابته وهم أولاده وأهل بيته، فعند ذلك بكى الناس وخاف يزيد من وقوع الفتنة.
دفن الرأس الشريف
لقد دُفنت الأجساد الطاهرة التي سقطت في سبيل الحق على أرض الطف في الثالث عشر من شهر محرم سنة إحدى وستين للهجرة على يد الإمام الرابع من أئمة الهدى علي بن الحسين زين العابدين(ع) وقد أعانه على دفن الجثث مجموعة من بني أسد الذين صادف مرورهم في ذلك اليوم بأرض كربلاء، فلقد أجرى الله تعالى كرامة للإمام السجاد حيث منّ عليه بالشفاء السريع وأوصله إلى أرض كربلاء بشكل سريع خارج عن حدود الطبيعة، فلقد دفن الإمام السجاد جسد أبيه وأجساد الأهل والأحباب والأصحاب، وقد اقتضت حكمة الله أن يتحير بنوا أسد في دفن الجثث حتى يأتي الإمام لأنه الوحيد الذي يعرف أصحاب الأجساد والأشلاء لأنها كان جثثاً من دون رؤوس، فهو(ع) الذي كتب على كل قبر إسم صاحبه، ولولا ذلك لما عرفنا شيئاً حول تلك المقامات الشريفة.
لقد دُفن جسد الإمام الحسين في تلك الفترة وبقي رأسه الشريف مرفوعاً على رؤوس الأسنة والرماح يدار به من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة بهدف الشماتة وتخويف كل من يفكر بالخروج على أمر الأمير وأعوانه الظلمة، لقد حُمل هذا الرأس المبارك من كربلاء إلى الكوفة، وهناك حدث ما حدث ثم نُقل إلى الشام وقد أشرنا إلى أحداث الرأس الشريف في الشام وفي قصر يزيد، ثم انتقل الرأس من الشام إلى كربلاء، ولا شك بأن هناك اختلافاً بين المؤرخين في تحديد الموضع الذي دُفن فيه رأس الإمام، ولكن المشهور والأصح والمتفق عليه بين الفريقين من الخاصة والعامة هو أن الرأس دفن مع الجسد في العشرين من صفر بعد أن بقي فوق الأرض أربعين يوماً.
وقبل أن نذكر النصوص المثبتة لهذا الأمر نجيب على سؤال يتردد في أذهان الناس حول كيفية تحمّل الرأس تلك المدة فوق الأرض من دون أن يتأثر بالعوامل الطبيعية وبالخصوص في المناطق الحارة كالصحاري التي مر فيها الرأس؟
والجواب عليه بسيط فإن الثابت أن الأمر فيه كرامة من الله تعالى لأن أجساد المعصومين لا تأكلها هوام الأرض بعد موتها ولا تتأثر بما تتأثر به الأجساد الأخرى، وليس ذلك ببعيد، فلقد أراد بعض الملوك المعجبين بالحر الرياحي أن ينقل رفات الحر من موضع إلى موضع فلما نبشوا قبره بعد سبعمئة سنة أو أكثر من دفنه وجدوا جثته على حالها لم تتغير ولم تتأثر ولم يخرج منها رائحة كريهة وقد اكتشفوا السبب بعد أن حاولوا أن يأخذوا من رأسه العَصبة الخضراء التي وضعها الإمام الحسين على رأسه قبل استشهاده ففكوا تلك الخرقة فسالت الدماء من رأس الحر ثم ربطوها فتوقف الدم عن السيلان فأدركوا أن في الأمر سراً فتركوا الجسد في مكانه والخرقة على رأسه، فإذا كان هذا حال الأصحاب فإن حال الحسين أصعب على العقول، وأما الأدلة على كون الرأس الشريف قد دفن مع الجسد فهي كثيرة ومستفيضة.
قال صاحب اللهوف: فأما رأس الحسين فروي أنه أعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف.
وجاء في كتاب مثير الأحزان: والذي عليه المُعوّل من الأقوال أنه أعيد إلى الجسد بعد أن طيف به في البلاد ودفن معه.
ويقول صاحب روضة الواعظين: وخرج علي بن الحسين عليهما السلام بالنسوة من الشام ورُد رأس الحسين إلى كربلاء.
ويقول صاحب البحار: المشهور بين علمائنا الإمامية أنه دفن رأسه مع جسده رده علي بن الحسين(ع).
ويقول صاحب التذكرة: ثم رُد إلى الجسد بكربلاء فدفن معه.
ويقول المرتضى: بأن الرأس رد إلى البدن من الشام إلى كربلاء، ويقول الطوسي: ومنه زيارة الأربعين، وفي ترجمة تاريخ الأعثم: ثم جهز يزيدُ عليَ بن الحسين ومن معه إلى المدينة وسلّم إليهم رؤوس الشهداء فتوجهوا إلى المدينة ووصلوا إلى كربلاء في يوم العشرين من صفر فدُفن الرأس مع الجسد الشريف ودفنوا رؤوس سائر الشهداء هناك.
وقد اختلف في موضع دفن الرأس فادعى البعض بأنه دُفن في غير كربلاء، ولا حاجة إلى ذكر تلك الروايات الضعيفة فإن الأصح هو أنه دُفن في كربلاء بجانب الجسد.
ثمّة اختلافات بين المحققين بشأن الموضع الذي دفن فيه الرأس . فالبعض منهم يرى بأن الرأس نقل من الشام الى كربلاء والحق بالبدن وهذا هو رأي السيد المرتضى، ويعتقد البعض الآخر انه دفن في الكوفة قرب قبر أمير المؤمنين عليه السلام، فيما أشار آخرون الى غير هذا، وهناك موضع في الشام يسمى بموضع الرأس الشريف ، وفيه مقام ومكان للعبادة، ويذهب جماعة آخرون الى القول بأنّ الرأس مدفون في مصر في المكان المسمى بمسجد رأس الحسين ، ويذكرون قصة لكيفية انتقاله هناك، أما المشهور من بين هذه الأقوال فهو أنّ الرأس الشريف قد جئ به الى كربلاء ودفن الى جانب الجسد ، وهذا ما ذكره جماعة من العلماء
ففي أمالي الشيخ الصدوق: حدثني بذلك محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله ، عن عمه محمد بن أبي القاسم ، عن محمد بن علي الكوفي ، عن نصر بن مزاحم ، عن لوط بن يحيى ، عن الحارث بن كعب ، عن فاطمة بنت علي صلوات الله عليهما : ثم إن يزيد أمر بنساء الحسين عليه السلام فحبسن مع علي بن الحسين عليهما السلام في محبس لا يكنهم من حر ولا قر حتى تقشرت وجوههم ، ولم يرفع ببيت المقدس حجر عن وجه الارض إلا وجد تحته دم عبيط ، وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنها الملاحف المعصفرة ، إلى أن خرج علي بن الحسين عليه السلام بالنسوة ، ورد رأس الحسين عليه السلام إلى كربلاء:
ويدل على وجود الرأس الشريف مع الجسد أيضاً ، مجموعة أحاديث وفتاوى عن استحباب أخذ التراب من عند رأس الإمام الحسين عليه السلام ، ففي الكافي: أحمد بن محمد ، عن الحسين بن علي ، عن يونس بن الربيع ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : إن عند رأس الحسين ( عليه السلام ) لتربة حمراء فيها شفاء من كل داء إلا السام ، قال : فأتينا القبر بعد ما سمعنا هذا الحديث فاحتفرنا عند رأس القبر فلما حفرنا قدر ذراع ابتدرت علينا من رأس القبر مثل السلهة حمراء قدر الدرهم فحملناها إلى الكوفة فمزجناه وأقبلنا نعطي الناس يتداوون بها: