قِصَّةُ آسِيَة بِنْتِ مُزَاحِم زَوْجَةُ فِرْعَون

قِصَّةُ آسِيَة بِنْتِ مُزَاحِم
زَوْجَةُ فِرْعَون
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
ليس بالضرورة أن يرتبط المرء بمحيطه ويتأثر بعاداتهم وأفعالهم، وإن كان للمحيط دورٌ كبيرٌ في صناعة شخصية الإنسان إن أراد الإنضمام إلى ما هو حوله، فهو غيرُ مضطّر للإلتزام بما هم عليه ولا هو مُلزَمٌ بهم، ولا يمكن أن يجبره أحد على تغيير قناعاته.
فها هو إبراهيم الخليل(ع) قد نشأ بين الوثنيين وتربى في بيت كبيرهم، ورغم ذلك فقد كان شيخ الأنبياء وثاني أنبياء العزم.
وكذا موسى وكذا عيسى وكذا خاتمهم(ص) وهناك الكثير من الناس لا يتأثرون بما هو حولهم، ويعود السبب في ذلك إلى الإيمان المستقر في قلوبهم كما كان حال صاحبة قصتنا زوجة فرعون آسية رضوان الله عليها، تلك المرأة الطاهرة والفاضلة التي تخلّت عن الوجاهة والمال والوضع الإجتماعي الرفيع التي كانت عليه على اعتبارها السيدة الأولى في مصر، فقد تركت زخارف الحياة في سبيل أن تحافظ على إيمانها بربها، وإليكم القليل مما كانت عليه تلك الصالحة التي نالت مدحاً من خاتم الأنبياء محمد(ص) الذي قال في شأنها: كمُل من النساء أربع، آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد:
ولأجل ما صنعت في سبيل الحق فقد جعلها الله سبحانه مضْرِباً للمثل كما أشارت الآية الكريمة التي من شأنها أن تشد من عزيمة الرجال والنساء، وهذا المثل لم يُضرب للنساء فحسب، بل للرجال أيضاً علّهم يتعلمون شيئاً من تلك المرأة العظيمة التي وهبت نفسها لربها.
فمن لحظة وصول موسى الرضيع إلى قصرها بدأت مرحلة جديدة في حياتها حيث استحوذ عليها نور موسى وما يُخفي في طيات مستقبله التي رأته مُشرقاً قبل أوانه.
لقد شعرت بأمر غريب عندما نظرت إليه للمرة الأولى ومن حينها قررت أن تعامله كولدٍ لها، وقد تعاملت معه كأمه الحقيقية وعانت الكثير في سبيل الحفاظ عليه، ولطالما توتر الوضع بينها وبين زوجها فرعون بسبب موسى ولم تتخلى عنه، ونحن على قناعة بأنّ الذي جذبها نحو موسى ليس مشاعر الأمومة فقط، لأن تعاطيها معه بتلك الطريقة يُنبئ عن كون العلاقة بينها وبينه كان علاقة إيمانية بامتياز.
وهنا نقوم بمقارنة بسيطة بين آسية بنت مُزاحم وزوجة العزيز، فإن زوجة العزيز قد ربّت يوسف ولكنها في النهاية راودته عن نفسها ولم تربطها به لا علاقة أمومة ولا علاقة الإيمان، على عكس الذي قامت به آسية بنت مزاحم، وكلتاهما تشبهان بعضهما من حيث مستوى الوضع الإجتماعي، بل إن مستوى آسية كان أرفع من مستوى زوجة العزيز، فتلك لم يدخل الإيمان إلى قلبها، أما هذه فقد استقر في قلبها منذ اللحظة الأولى التي رأت فيها موسى الرضيع، ولعلها رأته نبياً منذ الصغر وشعرت بأنه هو الطفل المنشود لدى فرعون، ولعلها اهتمت به حتى تنفُذ في فرعون قدرة الله تعالى وكانت جزءاً من سبب هلاكه.
لقد اهتمت بتربيته وكأن الله تعالى ربط على قلبها وألهمها أن تقوم بكل الوظائف تجاه هذا الطفل الذي سوف يكون هلاك الظالم على يديه.
ولا شك بأن الإرادة الإلهية كانت تحيط بها من كل جانب حيث سخّرها الله تعالى لتكون وسيلة لحفظ هذا المولود من الذبح بعد أن كان فرعون مصراً على قتل كل مولود وُلد في ذلك العام، فحاولت معه بكل الطرق المتاحة فطلبت الإسترحام لهذا الطفل البريء وأقنعت زوجها باتخاذه ولداً لهما يملأ عليهما الحياة فوافق على مضض.
ولما أصبح موسى في عمر الشباب خرج من مصر بعد تلك الحادثة المعلومة بينه وبين القبطي متوجهاً تلقاء مَديَن، خرج وكأن روح آسية خرجت مع خروجه من مصر، ثم عاد بعد تلك السنوات التي قضاها في مدين يحمل معه أمر الله تعالى بدعوة فرعون وقومه إلى الإيمان، فوصل إلى مصر وقام بوظيفته، وكانت آسية من أوائل الذين آمنوا برب موسى.
وبعد أن علم فرعون بإيمان زوجته راح يضيّق الخناق عليها ويجبرها على الرجوع عن دين موسى، ولكن رغم كل جبروته وتهديداته أصرت آسية على الإيمان، وعندها قرر أن يتخلص منها فأمر رجاله بدق الأوتاد في يديها ورجليها ووضعِ حجرٍ كبير على صدرها لتموت خنقاً.
أخذوها ونفّذوا أمر فرعون، وبينما هي تُحتَضَر أراها الله مكانها في الجنة فاطمأنت، ولما رأت ذلك دعت ربها بأن يبني لها بيتاً في الجنة، ثم فارقت هذه الدنيا بعد أن أعطت درساً عظيماً لكل البشر حول حقيقة الإيمان وكيفية الثبات عليه والبذل في سبيله مهما كان الثمن غالياً، لقد استغنت عن كل متاع الدنيا في سبيل أن تعيش على الإيمان وتموت عليه، وهذا ما كان بالفعل.
فبعد أن دعت ربها أن يبني لها بيتاً في الجنة دعته بأن ينجيها من فرعون وعمله الشرير.
وقد استجاب لها ربه ونجاها من زوجها عندما قبض روحها إليه حتى يخفف عنها تلك الآلام المادية والمعنوية فإن الموت راحة للمؤمن من هموم الحياة ومصاعبها ومصائبها، ولعلها كانت في قرارة نفسها تطلب الموت لتستريح.
وقد ذمّه الله سبحانه على ظلمه لها ولغيرها فقال(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)



