قِصَّةُ أَهْلِ الكَهْف

قِصَّةُ أَهْلِ الكَهْف
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا)
اجتمع سادة قريش ذات مرة للبحث في أمر رسول الله محمد(ص) ودعوته لهم إلى التوحيد، وقرروا أن يرسلوا رجلين منهم إلى أحبار اليهود حتى يستعينوا بهم على هزم محمد عن طريق إحراجه ببعض الأسئلة التي لا يجيب عليها إلا نبيٌ مرسَل.
ذهب النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيَط واجتمعوا بأحبار اليهود لكونهم يعلمون بالكتب السماوية وبصفات الأنبياء، ونقلا إليهم رسالة سادة قريش، فقال أحبار اليهود لهما، إسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبيٌ مرسَل، وإن لم يفعل فهو رجلٌ مُتقوِّل.
سلوه عن فتيةٍ ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرِهم، فإنه قد كان لهم حديثٌ عجيب، وسلوه عن رجلٍ طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وسلوه عن الروح ما هو.
رجع رسولا قريش وقصّا على سادتهم أسئلة أحبار اليهود ففرحوا وظنوا بأنّ الغَلَبَة لهم هذه المرة، فذهبوا إلى رسول الله(ص) وطرحوا عليه أسئلتهم فاستمهلهم حتى ينزل الوحي عليه لأنه لا ينطق إلا بوحي من الله سبحانه.
وفي تلك الحادثة تأخَّر نزول الوحي على النبي مما زاد في ثقة سادة قريش وراحوا ينشرون الدعايات الكاذبة وسط الناس حول رسول الله بأنه لو كان نبياً كما يزعُم لأجابهم على أسئلتهم.
ثم نزل جبرائيل الأمين على قلب الصادق الأمين وتلا عليه سورة الكهف التي تضمّنت الإجابات المطلوبة والتي لا يمكن لأيٍ كان أن يُنكرها.
فأرسل إليهم وأخبرهم بما نزل عليه فكان ما سمعوه منه بمثابة صاعقة نزلت على رؤوسهم، وبدَلَ أن يؤمنوا به وبرسالته صعّدوا المواجهة بينهم وبينه.
نرجع إلى الآية الكريمة التي وصفت أهل الكهف بوصفين(الكهف، والرقيم) وكلاهما مجموعة واحدة.
أما إطلاق إسم أهل الكهف عليهم فيرجع إلى كونهم لجؤوا إلى ذلك الكهف واختبؤوا فيه، وأما الرقيم فهو اسم الجبل الموجود فيه ذلك الكهف، وقيل هو اسم تلك المنطقة، وقيل هو اسم المنطقة التي خرجوا منها، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنّ أهل الرقيم غير أهل الكهف، وهو قولٌ ضعيفٌ حسب أكثر المفسرين من الخاصّة.
وتخبرنا الآية الكريمة بأنّ هناك أموراً أكثر عجباً من نوم أهل الكهف، وهي كثيرة لا تُعد كخلق السموات والأرض، وخلق الإنسان والحيوان وباقي الموجودات من العدم.
ثم بدأ القرآن الكريم ببيان شيء عن تلك القصة مع تحفّظه على التصريح ببعض الأمور التي ليست من شأن البشر، وليس لهم أن يعرفوها لحكمة من الله سبحانه وتعالى.
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)
في زمنٍ سبق عهد عيسى(ع) بمدة، وفي بعض القرى المشركة بالله كان يعيش مجموعة من الشباب العقلاء، وكان حاكم تلك البلدة وثنياً يأمر شعبه بالسجود للأصنام، ومن يمتنع منهم عن السجود لها يُعدم.
وهؤلاء الفتية من علية القوم، لم ينقصهم من متاع الدنيا شيء، ولكنهم تفكّروا في الخلق فعرفوا الخالق وأدركوا بأنّ الأصنام ضلال في ضلال، وأنّ الكهنة يكذبون على الناس حتى يستفيدوا من القرابين التي كانت تُقدَّم للتماثيل.
ولم يكن بإمكانهم التصريح بالإيمان خوفاً من ظلم ملكهم، فتشاوروا فيما بينهم وخلصوا إلى نتيجة واضحة وحكيمة، وهي ترك تلك البلدة واختيار مكان بعيد يعبدون فيه ربهم الحق بأمان.
وبالفعل فقد خرجوا دون أن يشعر بهم أحد وساروا مسافة طويلة حتى شعروا بالتعب والخوف من أن يلحق بهم جنود الملك، فلاحظوا وجود كهفٍ في أعلى الجبل فاستقرّ رأيهم على الدخول إليه والإحتماء فيه حتى يقطع جنود الملك الأمل من وجودهم، وقد شعروا بأنه مأوى لهم من المخاطر، ولهذا قال تعالى(إذْ أَوَى)
صعدوا إلى الجبل فوجدوا كهفاً يتسع لهم، ولم يصرّح القرآن الكريم بعددهم لحكمة عند الله تعالى، وكان برفقتهم كلبٌ يحرسهم كما جرت العادة.
وفي الكهف دعوا الله تعالى أن يرشدهم إلى الخير ويدلهم على الطريق الصحيح، فاستجاب الله لهم وحماهم من شر الملك وأجرى فيهم معجزة ما زالت تُذكر حتى يومنا الحاضر.
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا)
وهذا كناية عن النوم، وكأن الله سبحانه وضع على آذانهم ستاراً فلم يسمعوا أي شيء، ولكن نومهم لم يكن عادياً، بل أنامهم الله بقدرته أكثر من ثلاثماية سنة، وهو أمرٌ خارقٌ لقوانين الطبيعة، ولهذا فإننا ندرجه تحت خانة الإعجاز.
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)
أنامهم الله تعالى لأكثر من ثلاثماية سنة ثم أيقظهم من نومهم لا ليعلم هو أي الحزبين يعرف مدة النوم، لأنه يعلم كل شيء، بل المراد منها ليتحقق الوعد الإلهي وتكون العبرة المَرجوّة من وراء هذا الإعجاز الذي آمن بسببه الكثيرون، وقد أثبت الله قدرته في خلقه وأعطى للبشرية درساً بهؤلاء الفتية لا ينبغي نسيانه مدى الحياة.
والمراد بالحزبين هم أهل الكهف أنفسهم حيث انقسموا إلى فئتين بعد أن استيقظوا من نومهم الطويل، فمنهم من قال بأنهم ناموا يوماً كاملاً، ومنهم من قال نصف يوم كما حصل للعزير الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، والفرق بينه وبينهم أنه مات، أما هم فقد ناموا ولم يموتوا، والنتيجة واحدة في كلتا القصتين، وهي بيان القدرة وإعطاء العِبرة.
فالعزير ظنّ بأنه نام يوماً أو بعض يوم، وأهل الكهف ظنوا مثله، وهذا يعني لو أمات الله الإنسان أو أنامه لملايين السنين فسوف يظن كما ظنّ أهل الكهف والعزير.
استيقظوا في ذلك الكهف وهم حائرون في أمرهم خصوصاً بعد أن رأوا كيف تغيّرت أشكالهم وطالت شعور رؤوسهم ولحاهم كما أورد بعض المفسرين، وربما لم يتغيّر فيهم أي شيء والله أعلم، ولم يخطُر ببال أحدهم أنهم ناموا طيلة تلك المدة التي تغيّر فيها كل شيء كان في زمانهم.
لم يظن واحدٌ منهم بأن القدرة الإلهية انصبّت عليهم وصنعت فيهم هذا الإعجاز الذي أصبح مضرِباً للمثل عبر الزمن.
وقبل أن يُكمل القرآن الكريم ما حدث للفتية بعد الإستيقاظ بيّن للناس قَدْرَهم ومكانتهم بسبب إيمانهم الصادق والذي آثروه على متاع الدنيا وعلى الوجاهة التي كانوا عليها والمناصب العليا التي كانوا فيها(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)
لقد آمنوا بربهم حق الإيمان في مجتمع فاسد وثني ليس فيه شيء من ريح الإيمان، ففكروا بعقولهم كما يجب ووصلوا إلى النتيجة التي يقدر عليها كل عاقل إذا استعمل قوّته العقلية في مواردها الصحيحة، وقد خلّدت تلك الحادثة أسماءهم وأفعالهم لأنهم آثروا الآخرة على الدنيا وتخلَّوا عما كانوا فيه من حياة الرخاء، والتزموا دين الحق الذي أدركوه بعقولهم النيّرة، ولم يُنقل بأنّ أحداً هداهم إلى الحق، بل نبع الهدى من ذواتهم، وراحوا يتذاكرون الأمر فيما بينهم ويتساءلون في هذا الخلق العجيب الذي لا بدّ أن يكون له صانع بديع غير تلك الأصنام الحقيرة التي لا تضر ولا تنفع ولا ترى ولا تسمع، وهو السر في تلك المكانة العالية التي جعلهم الله بها.
وبما أنهم اختاروا طريق الهدى فقد زادهم الله هدايةً من عنده وسدّدهم للثبات على الإيمان.
(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا)
رغم كون ما حصل لأهل الكهف كان نوعاً من الإعجاز إلا أنه ارتبط بأسباب طبيعية ساعدت على بقائهم سالمين طيلة تلك المدة، والقرآن الكريم في هذه الآية يشير إلى بعض تلك الأسباب.
كانت فتحة الغار الذي لجؤوا إليه باتجاه الشمال، ولم تكن أشعة الشمس تدخل إليه مباشرة، بل كانت تعطي تلك الأجساد الطاقة الازمة لها دون الإضرار بها، فكانت الشمس تطلع من جهة يمين الغار وتغرب من جهة شماله، وكانت الشمس مأمورة بقدرة الله أن لا تؤذي أجسادهم.
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)
لو نظر إليهم أحد لظنّ بأنهم أيقاظ لأن عيونهم كانت مفتوحة، ولعل ذلك كان من أجل أن لا تقترب السباع منهم، وكانوا بقدرة الله يتقلبون يميناً وشمالاً حفاظاً على أجسامهم.
وكان معهم كلبهم يحرسهم وقد كان موجوداً على فتحة الغار باسط ذراعيه على بابه، ولعل الإعجاز طال كلبهم أيضاً، ولا شك بوجود حكمة من الله في ذلك.
ولا أحد يعرف سبب الرعب منهم، هل هو نابع من أشكالهم التي أصبحت مخيفة عبر تلك السنوات؟ أم ان الخوف ينبع من أمرٍ معنوي حتى لا يقترب منهم لا إنسان ولا حيوان، والله أعلم.
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)
كل الأمور مَردُّها إلى الله سبحانه، ولا يحق للمخلوق أن يعترض على أفعال خالقه، لأنه تعالى أعرفُ بالمصالح والمفاسد من خلقه، فهو يفعل ما يشاء، ولا يفعل ما يشاء غيره.
ولا أحد يعرف السبب في تنويم الفتية طيلة تلك المدة(ثلاثماية وتسع سنين)
وقد جاء يومُ الكشف عن العبرة وبيان مدى القدرة فأيقظهم من نومهم وهم لا يعرفون شيئاً عما حدث لهم.
سأل سائلٌ منهم كم لبثتم؟ فقال أحدهم لبثنا يوماً كاملاً، ولكنهم عندما رأوا بأنّ الشمس لم تغرب بعد، وقد صادف أنهم دخلوا الغار مع بداية النهار، قال آخر لبثنا جزءاً من اليوم، ولما لم يستطيعوا التحديد قال آخرون(قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)
لقد استيقظوا وهم يشعرون بالجوع( فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا)
كان معهم مسكوكات فضية حملوها للحاجة في مثل تلك الظروف، ولما أخذ الجوع منهم مأخذَه لم يكن لهم خَيار سوى أن يُرسلوا واحداً منهم إلى السوق ليشترى طعاماً زكياً، أي حلالاً لأنهم تركوا تلك المدينة وأهلها يأكلون الميتة.
وقد طلبوا ممن أرسلوه أن يتلطّف في التعاطي مع البائع كيلا يحدث بينهما نزاع فينكشف أمرهم بين الناس وهذا ما يريدون حدوثه لأنه إن حصل النزاع فسوف يعثرون عليهم ويجبرونهم على الرجوع في دينهم الباطل أو يقتلوهم(إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) فإن حصل ذلك فلن تنجحوا في مهمتكم ولن يتركوكم وشأنكم.
(وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)
عندما انكشف أمر إيمانهم في المدينة التي خرجوا منها شعر ملِكهم بالخطر، لأنهم إذا وصلوا إلى أماكن أخرى ونشروا التوحيد فهذا يشكّل خطراً على الديانة التي كانت ترضي الملوك والكهنة، فأمر بالبحث عنهم في كل مكان ولم يعثَر عليهم أحد مما أحدثَ ضجة كبرى وتساؤلاً محيراً حول أمرهم إلى أن كان ما كان وهلك الملك وانقضت القرون واستيقظوا من نومهم الطويل وأرسلوا واحداً منهم ليبتاع لهم طعاماً.
خرج من الكهف وتوجّه نحو المدينة وقد اندهش لِما رأى، لقد تغيّرتْ جميع المعالِم من أشخاص وأشكالِ ولباس وعادات وبناء، فخرائب الأمس أصبحت قصوراً جميلة، وقصور الأمس أصبحت خرائب مهجورة، وهو ينظر بدهشة ولا يدري ما الأمر، أيمكن أن يحصل كل هذا التغيير في يوم واحد؟ أم أنّ أمراً عجباً قد حصل؟ فلقد راودته العديد من التساؤلات والتجاذبات الفكرية.
لقد ظنّ للحظة أنه ما زال نائماً وأنه يحلُم، ولكنه تأكد أنّ ما يراه ويسمعه هو الحقيقة بعينها.
وفي نفس الوقت كان ملفتاً للنظر لأن ملابسه كانت غريبة وشكله أيضاً وكذا جميع تصرفاته.
وجاءت اللحظة الحاسمة التي كشفت له وللناس الحقيقة وذلك عندما دخل إلى دكانٍ واشترى طعاماً فأعطى البائع قطعة نقدية يعود تاريخ صنعها إلى أكثر من ثلاثمئة سنة وكان مكتوباً عليها اسم دقيانوس الملِك، فسأله البائع من أين حصلت على هذه القطعة النقدية فأجابه حصلت عليها بالأمس، وهناك بدأ التساؤل من الناس، وبعد أن أجروا عدةً من التحقيقات والقرائن علموا بأنّ هذا الشخص هو واحد من الذين فروا من الملك قبل ثلاثمئة سنة لأن الحديث عنهم بقي لقرون من الزمن ولهذا لم ينس الناس أمرهم.
وهنا أدرك هذا الشخص بأنه كان ورفاقه في سباتٍ عميق وطويل، وأن يد القدرة هي التي صنعت فيهم تلك المعجزة، وقد ضج الخبر وانتشر بسرعة، وكان حاكم المدينة حينها رجلاً صالحاً.
ولكنّ قسماً كبيراً من أهل تلك المدينة لم يكونوا يعتقدون بالعودة بعد الموت أو بعد النوم الشبيه بالموت، ولكن الله سبحانه أثبت لهم ذلك عن طريق هؤلاء الرجال الذين ناموا طيلة تلك المدة، وهذا ما يدل عليه صريح القرآن الكريم(وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا)
فكما نام هؤلاء كل هذه المدة ثم عادوا إلى الحياة فكذلك سوف يموت جميع الخلق ثم يحصل لهم المعاد الجسماني الذي بات واضحاً من جراء ما حصل لأهل الكهف، ولم يكن بإمكان أحد أن يُنكر هذه الحقيقة.
رجع الشاب إلى رفقائه في الكهف وقصّ عليهم الخبر فاندهشوا مثله، وكان قد أخبر الملك عن مكان كهفهم، ولكنهم حزنوا حيث مات أهلهم وأصحابهم وكل من كانوا على صلة بهم قبل نومهم، ولم يبق للحياة في نظرهم أي معنى فدعوا الله تعالى أن يميتهم فاستجاب لهم وأماتهم على الفور.
وما هي إلا لحظات حتى وصل الناس إلى الكهف فدخلوا عليهم فوجدوهم أمواتاً وأدركوا بأنّ هذه قدرة الله تعالى الذي أوصل الرسالة إلى الناس وقد أدى أهل الكهف دورهم في الحياة.
وفي ذلك المكان والزمان وقع نزاعٌ كبير بين الناس، بين من آمنوا بالمعاد الجسماني ومن لم يؤمنوا به، أما الذين لم يؤمنوا به فأرادوا أن تُنسى هذه القضية ليدعموا كفرهم وإنكارهم فطلبوا أن يُبنى عليهم بنيان بمعنى أن يُقفل باب الغار ليسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع.
وأما المؤمنون به فطلبوا أن يُبنى عليهم مسجد حتى يبقى الناس ذاكرين لتلك المعجزة.
ثم وقع الخلاف في عددهم فأرجع الله أمر عددهم إليه وقد أبقى الأمر سراً لحكمة منه سبحانه وتعالى(سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)



