مؤلفات

قِصَّةُ المَنِّ والسَّلْوَى

قِصَّةُ المَنِّ والسَّلْوَى

(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
أقبح أمّتين شهدهما تاريخ البشرية هم اليهود والوثنيون من قريش، ولعل كثرة ذِكر أحداثهما في القرآن نابعةٌ من كثرة ظلمهم وشدة غيِّهم، فلقد رأت كل أمَّة من نبيّها ما لا يعتريه الشك ولا يُنكره الطبع السليم، فلمسوا الحقيقة بأيديهم، ورأوا قدرة الله بأعينهم، ورغم كل تلك الدلائل بقي الشك مسيطراً عليهم، لا لأنّ شكَّهم قويٌّ، بل لأن إيمانهم ضعيف، إن كان الإيمان قد دخل في قلوبهم أصلاً.
ولم يكونوا بحاجة إلى المزيد من الدلائل، فما رأوه وسمعوه كان كافياً، ولكن الله تعالى ألقى عليهم الحجة أكثر من مرة حتى لا يبقى لهم ما يتذرّعون به في يوم الحساب.
ماذا نقول في أمة أتاها نبيُّها بتسع معجزات، ورأوا منه عشرات الكرامات، فلم يؤمنوا إلا بألسنتهم خوفاً من عقاب موسى أو اتخاذه وسيلة لتخليصهم من ظلم فرعون، وليس خوفاً من الله أو طمعاً بثوابه(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) مع أنّ آية واحدة من تلك التسع كفيلة بنقل أمةٍ بكاملها من ظلمات الكفر إلى أنوار الإيمان.
كانوا يظنون بأنّ موسى بحاجة إليهم، مع أنهم هم كانوا بحاجة إليه وإلى معجزاته وتدابيره التي استفادوا منها كثيراً، وأبرزها إغراق فرعون وجنوده وإنزال التوراة من السماء، فيها من كل التعاليم التي يمكن أن يحتاجوا إليها في مسيرة حياتهم.
وكانت طلباتهم لا تنتهي، وأكثرها كانت للتعجيز والمراوغة فقط، والدليل أنهم طلبوا رؤية الله عز وجل بالعين المجردة، ووالله لو لم يُمتهم الله ثم يحييهم في تلك الساعة لأنكروا نبوة موسى الذي لم يُريَهم ربَّهم بالعين لأنهم كانوا يتمنون أن يعجز موسى عن تنفيذ ولو طلبٍ واحد حتى يتهموه بالكذب وينسلخوا مما دعاهم إليه.
والدليل على ما نقول أيضاً هو اتخاذهم العجلَ رباً عندما تركهم موسى لأيام وصعد إلى الجبل لميقات ربه، ولكنه استجاب لكل ما سألوه بقدرة الله عز وجل فاستأمنوا ولم يؤمنوا.
ولم تقف المعجزات لهم عند تلك الحدود، ففي يومٍ حارٍ لم يعد بإمكانهم الإحتماء من أشعة الشمس الحارقة، ولم يكن معهم ما يستظلون به، شكوا الأمر إلى كليم الله(ع) ولجّوا عليه كالعادة، فدعا ربه فأظلهم بغمامة حمتهم من حرارة الشمس، وتابعوا مسيرهم والغمامة تسير معهم لطفاً من الله عليهم ورأفةً منه بحالهم، ولم يَرِدْ أنَّ أحداً منهم شكر الله على تلك النعمة إلا مَن أخلصوا دينهم لربهم.
ثم تتالت عليهم نِعمُ ربهم، فذات مرة وهم يسيرون خلف موسى وسط تلك الصحراء شعروا بجوع شديد، لأنّ عددهم كان كبيراً وطعامهم قليلاً، جاؤوا إلى موسى وطلبوا منه أن يُنزل ربه عليهم طعاماً، وهم يريدون كل شيء جاهزاً بين أيديهم دون أن يُحركوا ساكناً مع أنه كان بإمكانهم أن يصنعوا العجائب، ولكنهم أهل خداع ونفاق.
توجّه موسى إلى ربه بالدعاء فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، وهي عبارة عن طيور مشوية ونوع من الحلوى ففرحوا وراحوا يأكلون حتى التخمة، وقد خزّنوا ما استطاعوا من هذا الطعام الشهي والنادر، ولم يشكروا الله على ما أنعم عليهم وكأنّ لهم فضلاً على ربهم، وبعد مدة من الزمن سئموا من هذا الطعام وأرادوا طعاماً غيره هو أدنى منه في الطعم واللذة والغذاء، وكأنّ همهم كان الإعتراض لمجرد الإعتراض، وجاؤوا إلى موسى وطلبوا منه أن يدعو ربه ليُخرج لهم الزرع من الأرض، واللافت في الأمر هو أنهم يريدون من الأرض أن تُطعمهم دون أن يستصلحوها للزراعة(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)
إنّ طَلَبَهم للأدنى دليل على تلك المراوغة التي كانوا يتعاطون بها مع أنبيائهم، ولو أنهم طلبوا الأفضل لقلنا غير ذلك.
(قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)
وهنا تعجّب موسى لهذا الطلب إذ كيف يؤثرون الأدنى على الأعلى، وما السر وراء هذه المماطلة؟
(اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ)
إذا كنتم تريدون التنوّع في الطعام فارجعوا إلى مصر وكلوا من فتات الفراعنة الذين أذلوكم، أو ادخلوا بيت المقدس وحرروها من الجبابرة وازرعوا أرضها وكلوا ما شئتم.
أما وأنتم تائهون في هذه الصحراء فيجب أن تصبروا على هذا الطعام أو عيشوا بدونه.
ولو أراد موسى أن يستجيب إلى كل ما طلبه بنوا إسرائيل لقضى كل حياته في تحقيق مطالبهم التي لا تنتهي، ولهذا رفض هذه المرة طلبهم وأحرجهم بهذا الكلام لأنه يعرفهم تماماً.
يعرف أنهم جبناء لا يقاتلون، ويعرف أنهم يؤثرون حياة الذل على حياة العزة والشرف، وأنهم أهل دنيا بلا دين، وأنهم يأكلون مما يزرع غيرهم، وأنهم يعيشون في الدنيا من دون هدف شريف وسامٍ.
وما زالوا حتى يومنا الحاضر يسكنون أرضاً ليست لهم، ويأكلون الأموال على حساب تنفيذ رغبات الذين يطعمونهم ويدعمونهم.

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى