مؤلفات

قِصةُ صَاحِبِ الجَنتَيْن

قِصةُ صَاحِبِ الجَنتَيْن

(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا)
يأمر الله تعالى خاتم أنبيائه محمد(ص) ببيان العِبر والأمثال النافعة للناس كافة، ومن شأن تلك العِبر التي نجمت عن تجارب الماضين أن يكون فيها فوائد لمن يحملها على مِحمل الجد ويعمل بها.
ومن تلك العِبر ما حدث لشخص في الماضي قد أصابه الغرور بسبب جمال حديقتيه ووفرة ثمارهما، فأخذته العزّة بالإثم وكفر بدل أن يشكر.
ولهذا الشخص أشباهٌ كثيرون في زماننا الحاضر من أصحاب الثروات الطائلة الذين يأخذون ولا يشبعون، ويبخلون ويمنعون الماعون.
وأسأل الله أن تقع هذه القصة بين أيديهم ليستفيدوا منها رحمةً بهم ورأفةً بحالهم كيلا يصيبهم ما أصاب صاحب الجنتين، وعندها لن ينفعهم الندم، ولن يشفع لهم أحد.
فمهما كثرت أموالك، وعلا شأنك، وازداد نفوذك، وارتفع منصبك، تبقى الإنسان الضعيف المحتاج إلى غيره.
فلو ملكتَ كنوز قارون فإنك بحاجة إلى مزارع يأتيك بالثمار والحبوب، وإلى طاهٍ يطهو لك مأكلك، وإلى طبيب يعالجك، وخيّاط يُلبسك، ومهندس يصمم لك قصرك، وعمالٍ يعملون تحت إمرتك، وزوجة تؤنسك، وولدٍ يُقر عينك، ومصدرُ كل هذا هو الله تبارك وتعالى الذي لا يجوز أن يُنسى.
وتدور أحداث هذه القصة بين رجلين جعلهما الله تعالى مثلاً للناس، كان أحدهما مؤمناً والآخر جاحداً، وقد رُزق الجاحد بحديقتين كبيرتين ربما لم يكن لهما مثيل في المنطقة كلها، ولا شك بأنّ الله تعالى يعطي العبد ليختبر قلبه، أيشكر النعمة والمُنعم أم يكفر بهما.
وقد اشتملت تلك الحديقتان على أنواع كثيرة من الثمار والحبوب، وقد فجّر الله له نهراً غزيراً زخّاراً بينهما لإرواء تلك الأرض.
(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا)
لم تترك الحديقتان نوعاً من الثمار والحبوب إلا طرحته بقوة ووفرة لأن عطاء الله سبحانه لا حدود له.
وعندما رأى صاحب الجنتين تلك الوفرة في الحبوب والثمار دخله الغرور والإعتزاز بالنفس وظنّ بأن هذا الخير سوف يدوم، وأنّ الحديقتين لن تتوقف عن طرح المحاصيل.
وفي تلك اللحظات وبينما هو غارق في نشوة الثراء نسي فضل ربه عليه وقد وسوس له الشيطان فجعله يُنكر قيام الساعة.
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا)
لقد حدّثته نفسه بإنكار يوم القيامة، ثم راوده شعور آخر، وهو أنه على فرض كان هناك يوم حساب وجنة ونار فسوف يكون له أجمل من هاتين الحديقتين، وقد ضمن النجاة لنفسه وهو ظالمٌ لها.
ثم راح يبالغ في اعتزازه وثرائه، وكان له صاحبٌ يعظه ويذكّره بالله فلم يقبل النصيحة ولم يرقّ قلبه حيث أعمت الثروة بصيرته(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا)
أنسيتَ الذي خلقك من نطفة بهذه البساطة؟ أهكذا يفعل المال بصاحبه؟ سوف تزول النعم ولن يبقى إلا العمل الصالح، ولكن لم يعبأ بكلام صاحبه ولم يأخذ بنصحه.
وقد زاد في غروره فراح يعيّر صاحبه بفقره، وصاحبه يعظه(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا)
صحيح أنا أقل منك مالاً وجاهاً وولداً ولكنني مؤمن بالله الواحد الأحد، فبدل أن تغتر بنفسك أذكر ربك عند دخول جنتك واشكره على نعمه كيلا تزول النعمة عنك(فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا)
وصحيح أنك أتيت بالبذور وغرستها، ولكن الله سبحانه هو الذي خلقها، وهو الذي أنبتها، وهو الذي فجّر لك الماء من باطن الأرض.
ربما تنقلب الموازين فتحترق جنتك ويصبح عندي أجمل منها، إتق الله يا رجل، ولا تسمح للشيطان بأن يستحوذ على قلبك.
ورغم كل تلك النصائح والمواعظ لم يتعظ ولم يقبل النصيحة إلى أن جاء وعد الله في إعطاء العبرة لكل الناس، وبالخصوص لمن هو مثل هذا الجاحد(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا)
رجع المغرور إلى بيته مطمئناً، وهو لا يعرف بأن الحكم الإلهي قد صدر في حق جنّتيه اللتين امتحنه ربه بخيراتهما، وفي الصباح عاد إلى البستان ليقطف الثمار فرأى منظراً شلّ حركته وقد صُدم لما رأى.
تلك الجنة التي كانت عامرة ومثمرة ونضرة بالأمس ها هي اليوم خالية خاوية لا توجد فيها ثمرة واحدة حيث أحرقتها القدرة الإلهية، فراح يقلّب كفيه حسرةً وندامةً عندما لم يبق له شيء على الإطلاق.
فلو كان شاكراً لربه لزادت تلك النِّعم، ولكنه أدار مسامع قلبه للشيطان الذي أوقعه في حسرة حتى الممات.
(وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا)
عاش بقية حياته فقيراً مُعدَماً ليس له مال ولا جاه، وأصبحت تلك الحادثة عبرة عبر الزمن.

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى