Site icon الشيخ علي فقيه

قِصَّةُ نَاقَةِ صَالِح

قِصَّةُ نَاقَةِ صَالِح

(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)
أُرسل نبي الله صالح(ع) إلى قومٍ معاندين هم قوم ثمود فدعاهم إلى الإيمان بربهم مبيّناً لهم فضلَ الله عليهم وأنه يغفر لهم ذنوبهم إن هم آمنوا وتابوا وأصلحوا، فلقد أتاهم بخير الدنيا والآخرة فأبوا إلا الضلال وتعاملوا معه بكل عنف فبادلهم بالإحسان، وقد عبّر القرآن عنه بقوله(أخاهم) بياناً لعظمة الإنسانية التي تعمل بها شريعة السماء.
وقد سكنت ثمود في وادي القرى بين المدينة والشام، وقد أنعم الله عليهم بالكثرة في العدد والقوة في الجسم، وكانوا ينحتون الجبال ويتخذون منها بيوتاً جميلة ومُحصَّنة، وكانت أرزاقهم واسعة وأرضهم خصبة وصحتهم قوية، وقد استعمرهم الله في الأرض فهيّأ لهم لوازم الحياة الكريمة.
لقد جاءهم صالحٌ بالبينات وأتاهم بالمعجزات وأظهر لهم العديد من الكرامات، وعلّمهم ما لا يعلمون من تعاليم ربهم، وكان كلامه العذب معهم وأخلاقه العالية شبهَ معجزة في ذلك الزمان الذي خلا من الإنسانية والرحمة، حيث نزل مجتمعهم إلى مستوى البهيمية التي أراد الله سبحانه أن ينزههم عنها، ولكنهم لم يسمعوا له ولم يؤمنوا بما دعاهم إليه، بل اتهموه بما لا يليق بشأنه الرفيع ودعوته الصادقة ورسالته المباركة وتطيّروا منه(أي تشاءموا) ولا يوجد سبب لهذا الشؤم إلا نفوسهم المنحطة التي تعتبر الخير شراً.
وبعد أن بيّن لهم حقيقة أنفسهم وعظمة خالقهم وحرّك بداخلهم قوة الفطرة التي فُطروا عليها وسوس لهم الشيطان فصَمَّ آذانهم عن سماع الحق، وأعمى قلوبهم عن استيعاب الحقيقة، وجعلهم يُصرون على ما هم فيه من الكفر والغيّ.
وقد أَصْدَقَهم نبيُّهم القولَ بأنه لا يريد من وراء دعوتهم إلى الحق أجراً، وأنَّ أجره على الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يطلب الزعامة ولا يكترث للوجاهة فهو وجيهٌ عند الله تعالى(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) وقد كشف لهم عن صدق نيّته وأنه يريد لهم الخير في الدنيا والآخرة، وكان فيهم مصدَّقاً، وكلهم يعرفون صدقه ونزاهته وسمعته الطيبة، ولكنهم استحبوا الكفر على الإيمان، وكذّبوا النبي كما فعل غيرهم من الذين استحقوا العذاب في الدنيا قبل يوم الحساب(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)
لقد كشف لهم عن نوايا كهنتهم الذين يُفسدون لهم عقولهم ويسرقون منهم أموالهم باسم الآلهة المزيّفة.
فعندما يدعوك أحدهم إلى ترك الشر فهذا يعني أنه يريد لك الخير، وأنّ أمرك يهمّه، وأنه يريد الإعتناء بك جسداً وروحاً وعقلاً، وهذا ما كان عليه نبي الله صالح(ع) مع قومه الفاسقين الذين ظلموه كثيراً وهو يتحمّل رأفةً منه بحالهم.
وقد ظهرتْ دعوته واضحةً لهم قبل أن يأتيهم بالمعجزة الخارقة لقوانين الطبيعة، فأنكروا الحق وآثروا ما هم فيه على الخير المُطلق وهم في قرارة أنفسهم يدركون أنهم على الباطل، ولكنهم قومٌ استحبوا الشهوات وآثروها على الطاعات فكان ذلك سببَ هلاكهم في الدنيا قبل عذابهم في الآخرة.
وعندما عجزوا عن مواجهة منطقه السليم الذي لا يُنكره العقل السليم، ولم يقدروا على إسكات حجته بباطلهم لجؤوا إلى اتهامه بالسحر والجنون وما إلى ذلك مما هو معروف في العديد من الأقوام قبلهم وبعدهم على غرار ما صنعته قريش مع خاتم الأنبياء محمد(ص) عندما عجز فصحاء العرب على مواجهة كتاب الله العزيز(قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وهذا ما قاله الكثيرون قبلهم وبعدهم، ومن الطبيعي أن يكون المرسَل إليهم بشراً مثلهم حتى يسهل عليه وعليهم التخاطب والتحاور معهم، وقد ردّ القرآن على هؤلاء وغيرهم تلك المقولة بقوله سبحانه(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً)
فإن كنتَ يا صالح صادقاً فيما تدعونا إليه فأتنا بمعجزة تُثبت أنك على حق وإلا فلن نصدقك، وهنا بدأت المراوغة المعهودة والمناورات التي كان يتسلح بها أهل العناد، وقد حدّد قومه نوع المعجزة ومكان حدوثها، وإلا لو أتاهم بمعجزة على مزاجه(إن صح التعبير) فسوف يكذّبونه بطريقة وبأخرى، ولكنهم بما أنهم هم الذين اختاروا الزمان والمكان والنوع فقد اضطروا لأن يصدّقوه لأنهم إن كذّبوه في حينها فسوف يقوم الناس ضدهم، فاصطحبوه إلى جبلٍ عظيم وطلبوا منه أن يُخرج لهم من هذا الجبل ناقة عظيمة.
فدعا ربه بإجراء تلك المعجزة لأنها الوسيلة الوحيدة لإخراجهم مما هم فيه، فاستجاب له ربُّه وأخرج لهم ناقة كبيرة كان لبنها يكفي لإسقاء أهل تلك المدينة، ولم يكن أحدهم قد رأى مثل هذه الناقة في حياته، سواء في حجمها الخارج عن المألوف أو في طعم حليبها المميز والكثير، ولعلها كانت تعطيهم من الحليب ما لا تعطيه مئة ناقة غيرها(قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) لقد استجاب الله وأعطاكم هذه الآية ولكن بشرط أن تشربوا من عين الماء يوماً وتشرب الناقة يوماً حيث كانت تحتاج إلى الكثير من الماء لكثرة إنتاجها الحليب، فوافق الجميع على هذا الشرط دون استثناء حيث كانوا مأخوذين بالدهشة والذهول لما رأوه من عظيم القدرة.
وبعد مدة من الزمن شعر الكفار بمدى الخطر الذي أصبح يهدد وجودهم بسبب تلك المعجزة التي تتنقّل بينهم فاجتمع تسعة رهطٍ منهم وقرروا أن يذبحوها ويأكلوا لحمها ويقضوا على ما اعتبروه مصدر الفتنة فيهم، فطالما أن الناقة تعيش بينهم فسوف يبقى الناس ذاكرين لتلك المعجزة الإلهية، والطريقة الوحيدة لإلهاء الناس عنها هو قتلُها.
وجاء اليوم المحدد لفعلتهم فأتوا إلى الناقة وذبحوها وفرحوا بهذا الإنتصار الذي كان في الحقيقة سبب هزيمتهم حيث غضب الله عليهم وأنزل عليهم العذاب وأماتهم جميعاً(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ)
لقد استحقوا ما نزل بهم بجدارة حيث رأوا الحق بأعينهم ثم تجرؤوا عليه ونصروا الباطل، وقد أصبح ما نزل بهم عبرة لكل معتبِرٍ عبر الزمن.

Exit mobile version