
في البحث السابق سلطنا الضوء على موضوع يجب على كل عاقل أن يعرفه ويحذره كيلا تلتقطه أفخاخ شياطين الجن والإنس وهو أخذ المعارف والعلوم من مصدرهما الخاطئ، فالعلم الذي يؤخذ من مصدر خاطئ لا يكون علماً بل جهل كبير، وهو داء خطير فتك بمجتمعنا الإسلامي كان أبطاله مجموعة من المنافقين ارتدوا ثوب أهل العلم لغرض شيطاني فكانت الطامة الكبرى.
نعود إلى الحديث عن الموت علنا نتعظ ونعظ ونعي حقيقة الأمر كي نتهيأ له ونعمل ما يجب أن يقوم به العبد المطيع لربه.
وبعد أن نصحنا الأخوة والأخوات والآباء والأمهات ووجهنا أنظارهم نحو الرجوع إلى أهل الذكر الحقيقيين نعرّج بالكلام على الباب الذي يجب طرقه والدخول منه إلى ساحة العلم والمعرفة، حيث جعل الله تعالى لكل غاية وسيلة ولكل عالَم نظامه الخاص ولكل معرفة طريقها الواضح.
والموت وما يحدث أثناءه وما يكون بعده هو من المعارف الحساسة والمواضيع الخطيرة، والإقدام على البحث في هذا المجال يشبه تقريب الزيت من النار فأية غفلة أو أي تهاون يطرأ يمكن أن يؤدي إلى الإشتعال المميت.
إن حقيقة الموت لا يمكن أن تدرك بالإجتهاد ولا عن طريق الإستحسان، ولا يجوز للمرء أن يبدي رأياً خاصاً فيما يتعلق بالغيب إذ لا رأي صائب لأحد من البشر في مثل تلك الحقائق ما لم يطلعه ربه عليها، فالذين يحدثون الناس بما لم يعرّفنا الله عليه إنما يفترون على الله الكذب، وإن كانوا لا يقصدون الكذب في كلامهم كانوا مصداقاً لقول الله تعالى(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) هناك حدود واضحة يجب الوقوف عندها، وكل من تعداها أياً يكن هدفه كان متجاوزاً لحدود ربه، وقد حدثنا الله تعالى عن عاقبة متجاوزي حدوده حيث قال(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)
إن رجوع الإنسان إلى غير أهل الذكر لا يولّد له حجة ولا يُعتبر التزاماً بقوله تعالى(فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) فعليك أيها المؤمن قبل الرجوع إلى أحد أن تتعرف على هوية أهل الذكر، ليس كل من تصادفه في طريقك يرتدي ثوب أهل العلم كان من أهل الذكر، إن أهل الذكر هم العلماء الحقيقيون الذين لا يقولون إلا بعلم، ويخشون الله تعالى في كل كلمة تصدر من أفواههم لأنه يعلمون أن الله سبحانه سوف يسألهم في يوم الحساب عن كل كلمة قالوها وكل عمل قاموا به، إن أهل الذكر الحقيقيين هم الذين يعرفون معنى قوله تعالى(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)
إن الرجوع إلى أهل الذكر لا يختص بمجال العقيدة فقط بل في جميع أمور الحياة، وهذا ضربٌ من ضروب التنظيم الإسلامي لشؤون الناس، إن الإسلام يفرض عليك الرجوع إلى أهل الإختصاصات في جميع المجالات، فإذا أصابك مرض فإن الإسلام يفرض عليك الذهاب إلى الطبيب، وإذا أردت أن تقوم بأية حرفة أو مهنة فإن الإسلام يدعوك إلى استشارة الخبراء في هذا المجال كيلا تتزلزل أركان الحياة التي أراد الله لها الإستمرار للحكمة التي باتت معلومة.
وبعد أن قدمنا بحثين للحديث عن حقيقة الموت نبدأ الآن بالكلام المطلوب، فقد قيل للإمام الصادق(ع): صف لنا الموت؟ فقال: للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كله عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد:
ما يُفهم من خلال وصف إمامنا الصادق(ع) للموت هو أن كلامه ناظر إلى نفس عملية خروج الروح من الجسد وليس إلى ما بعد الموت لأن عذاب الآخرة لا يمكن أن يوصف لشدته ودوام مدته، وكذا فإن نعيم الآخرة أعظم من الشعور بذهاب التعب والألم.
ونحن نعتقد أنه لو لم يوجد من العذاب لغير المؤمن سوى عملية الموت وما يسبقها من حضور الملائكة وما يشعر به الإنسان في تلك اللحظات المعبّر عنها بسكرات الموت لكفى ذلك عذاباً، وهذا ما نُصّ عليه في الدعاء الوسوم بدعاء الحزين: أيّ الأهوال أتذكرُ وأيّها أنسى ولو لم يكن إلا الموت لكفى ، كيف وما بعد الموت أعظم وأدهى:
إن حقيقة الموت من حيث فراق الروح للجسد واحدة، ولكن ما يطرأ على تلك العملية من ظروف هي التي تفترق بين شخص وآخر، وتلك الظروف تنشأ من خلال سلوك الإنسان قبل موته، فإن كان السلوك حسناً كان الموت راحة وسعادة، وإن كان سيئاً كان الموت أسوأ مما يتصور الإنسان.
لقد صوّر لنا القرآن الكريم بعض تلك الظروف من خلال وصف الطريقة التي يأتي بها ملك الموت وأعوانه، وذلك من باب الترغيب والترهيب، فحدثنا عن مجيئهم للمؤمن كيف يأتون إليه بالبشرى الكبرى، وكيف أنهم يأتون للكافر والعاصي بصورة سلبية فقال تعالى(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)