منوعات

مَفهوْمُ الدُّعَاء في القرآن الكريم

مَفْهُوْمُ الدُّعَاءِ

قال الله تعالى في محكم كتابه (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
قبل البدء بالكلام حول مفهوم الدعاء وآدابه وعوامل الإستجابة وموانعها ينبغي أن نشير إلى عدة جهات تتعلق بمضمون هذه الآية مباشرة.

الجهة الأولى: وهي تشير إلى ثلاثة أمور:

الأمر الأول:قُرْبُ اللهِ تَعَالى مِنَ الإِنْسَان.
هذا الإله العظيم والكبير الذي يحول بين المرء وقلبه، هو موجود فينا وحولنا وفوقنا وفي كل مكان وجهة وفي القلب والروح والنفس والعقل، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، أي أنه أقرب لأنفسنا من قربنا لأنفسنا.
وفي الفقرة الأولى من الآية الشريفة يوجد كشف عن هذه الحقيقة، أعني حقيقة قرب الله تعالى من الإنسان(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)
والسؤال المطروح في هذه الآية له وجهان: وجه عام ووجه خاص.
أما الوجه العام فإنه إذا سألك الناس عن أي شيء يتعلق بالله فأخبرهم بأن الله قريب، وأما الوجه الخاص، فهو سؤال الناس عن الله تجاه الإستجابة.
ولعل هذا السؤال منحصر في موضوع المسألة، والذين يطرحون هذا السؤال على النبي(ص) وربما على غيره أيضاً هم من أهل اليأس الذين يرتكبون ما يمنع عنهم الإجابة، وهم يعترضون عند عدم استجابة دعائهم، لماذا لا يستجيب الله لنا؟ لأننا ندعو شيئاً لا نعرفه أو لا نطيعه، وقد ورد جواب على مثل هذا السؤال في أجوبة بعض المعصومين(ع) حيث قال للسائلين: لأنكم تدعون من لا تعرفون:
إن الله عز وجل قريب أكثر مما نتصور، وهو يريد أن يستجيب لنا بشرط أن نسلك السبيل الصحيح لمسألة الدعاء.
هذا بالنسبة للأمر الأول من الجهة الأولى التي تشير إليها الآية الكريمة.

الأمر الثاني:نَتِيجَةُ السُّؤَالِ وَالدُّعَاء
قال تعالى(أجيب دعوة الداعي) فإلله عز وجل لا يدعونا إلى الدعاء ويمنعنا الإجابة، فهو عز وجل أجلُّ من ذلك وأعلى وأعظم، وقد أشار مولانا زين العابدين(ع) إلى هذه الحقيقة في الدعاء الذي رواه عنه أبو حمزة الثمالي، وذلك في عدة فقرات:
الفقرة الأولى: اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَدْعوُهُ فَيُجيبُني وَاِنْ كُنْتَ بَطيـئاً حينَ يَدْعوُني:
يجب على كل مؤمن أن يشكر ربه ويحمده على تلك الدعوة وعلى الإجابة السريعة، وهذه الفقرة تشير إلى معنى الآية موضع بحثنا والمعنى المشار إليه هو السؤال والإجابة.
الفقرة الثانية: وَاَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَسْأَلُهُ فَيُعْطيني وَاِنْ كُنْتُ بَخيلاً حينَ يَسْتَقْرِضُني:
الفقرة الثالثة: وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي اُناديهِ كُلَّما شِئْتُ لِحاجَتي:
الفقرة الرابعة: اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي لا اَدْعُو غَيْرَهُ وَلَوْ دَعَوْتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لي دُعائي:
الفقرة الخامسة: وهي الأساس في هذا البحث، وهي قوله(ع): وَلَيْسَ مِنْ صِفاتِكَ يا سَيّدي اِنْ تَأمُرَ بِالسُّؤالِ وَتَمْنَعَ الْعَطِيَّةَ، وَاَنْتَ الْمَنّانُ بِالْعَطِيّاتِ عَلى اَهْلِ مَمْلَكَتِكَ:
وجميع هذه العبارات تشير إلى موضوع الإجابة حيث أكد الله سبحانه على هذا الأمر في محكم كتابه(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)

الأمر الثالث:شَرْطُ الإِسْتِجَابَة
وهو أمر دقيق للغاية، ينبغي على كل مشير له أن يكون واضحاً في كلامه ومتنبهاً للشرح كيلا يحمل السامع كلامه على غير الوجه المطلوب، فقد أشارت الآية الكريمة إلى هذا الأمر بالطريقة القرآنية الرائعة التي يحتاج فهمها إلى دراسة وتأمل حيث يقول سبحانه(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)
والمتأمل الواعي عندما يمر على هذه الآية الكريمة يسأل نفسه أو غيره عن سبب ذكر هذا القيد المعبّر عنه بقوله(إِذَا دَعَانِ) فلماذا لم تقتصر الآية على مجرد بيان أن الله تعالى يجب دعوة الداعي، لماذا لم يسكت القرآن عن هذا القيد(إِذَا دَعَانِ)؟
هذا سؤال وجيه، وعلى كل عاقل أن يطرح هذا السؤال حول هذه الآية وما يشبهها من الآيات، وإن لهذا الأمر علاقة وثيقة ومتينة بالأمر الأول الذي ذكرناه في البداية وهو الرد على من يسأل لماذا لم يستجب الله لي؟
والجواب على هذا السؤال هو أن الله تعالى يستجيب لمن دعاه بالطرق الموضوعة للدعاء، ولا يستجيب لمن يدعو غيره، أو يدعو الإسم من دون المعنى، أو لمن يدعو وهو لا يترقب الإجابة ولا ينتظرها ولا يتأمل بحلولها.
وهنا يجب أن نبيِّن الحكمة من وراء القيد المذكور، وهو أن الله تعالى وعد الداعي بالإجابة إذا دعا ربه مخلصاً وصادقاً وكان دعاؤه صادراً عن قلب سليم ونفس زكية وروح طاهرة.
فإذا حمل الدعاء هذه الصفات استحق داعيه الإجابة لأنه هو الطريقة المطلوبة في الدعاء ولأجل ذلك قال تعالى(إِذَا دَعَانِ) أي بهذه الشروط والمقدمات.
أما إذا كان الدعاء نابعاً من اللسان فقط فهو لقلقة وليس دعاءاً حتى يستحق صاحبه الإجابة.
ففي المسألة شرط وجزاء، الشرط هو الصدق والإخلاص في التوجه نحو الله أثناء الدعاء، والجزاء هو الإستجابة الحتمية من قبل الله جل وعلا.
ورد عن النبي(ص) أنه قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السموات والأرض رزقه فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن استغفرني غفرت له.
وقال(ص) إفزعوا إلى الله في حوائجكم والجئوا إليه في ملماتكم وتضرعوا إليه وادعوه فإن الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب له…
ما نفهمه من خلال هذين الحديثين أن الذي يدعو ولا يستجاب له إنما يوجد خلل في دعائه يجب البحث عن هذا الخلل وتسويته وإلا فلن يستجاب له ولو قضى جلّ حياته بالدعاء.

الجهة الثانية:

بعد أن أشار القرآن الكريم إلى موضوع الدعاء وكون الله مستجيباً له إذا صدر بالطرق الصحيحة راح يوجّه لنا أمراً بالتوجه نحو الله والإشتغال بالدعاء الذي هو سلاح الأنبياء والمؤمنين حيث قال(فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي)
والإنسان من دون تواصل مع ربه ومن دون دعاء لا قيمة لوجوده في هذه الحياة(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)
يعني لولا الدعاء لما نظر الله إليكم بعين الرأفة والرحمة، ولكان الإنسان في هذه الحياة مجرد عدد زائد.
(فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي) هنا يوجد أمران مهمان يجب التوقف عندهما لنخرج من هذه الآية بنتيجة واضحة.

الأمرالأول:فَحْوَى الإِسْتِجَابَة
ما هو فحوى قوله(فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي) وبماذا ينبغي أن نستجيب، وكيف تكون تلك الإجابة؟ وما هو الشيئ الذي يجب علينا أن نستجيب له؟ هل هو الدعاء فقط؟ لأن قوله(فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي) ورد ضمن آية تتحدث عن الدعاء؟ أم أن الأمر أشمل من ذلك؟
هذه تساؤلات طبيعية، أي أنه من الطبيعي على كل إنسان أن يسأل عن حقيقة تلك الإستجابة ليعرف تكليفه الموجه إليه من خالقه ويعرف كيف يتصرف تجاه مولاه كيلا يقع في المحظورات.
نحن نقول لا يمكن حصر الآيات في مورد خاص بل ينبغي النظر إليها على أنها عامة وشاملة، وموضوع الدعوة إلى الإستجابة لا يمكن حصره في مسألة الدعاء بل هو الإستجابة إلى كل ما يدعونا ربنا إليه من أوامر ونواه.
ويمكن أن يكون المراد منها هنا هو الدعاء أي الإلتزام بهذا النهج النبوي والإيماني الكبير، والدعاء هو مفتاح الخير للإنسان في الدنيا والآخرة.
وعلى الإنسان أن يستجيب لهذه الدعوة ويدعو ربه بالليل والنهار سراً وعلانية، والله تعالى يحب أن يسمع صوت عبده المؤمن.

الأمر الثاني: الدَّعْوَةُ إِلَى الإِيمَان
وهو الذي أشار إليه قوله تعالى(وَلْيُؤْمِنُواْ بِي) فلماذا دعاهم إلى الإيمان به وهم مؤمنون به؟
نحن نقول إن هذه الدعوة إلى الإيمان إنما هي دعوة خاصة فهي ليست دعوة إلى الإيمان بوجود الله ووحدانيته فإن الداعي لو لم يكن مؤمناً بهاتين لما دعا الله، إن الدعوة إلى الإيمان في الآية ليست دعوة إلى الإيمان بالله بل إلى كون الله تعالى قريب ويجيب دعوة الداعي.
يقول صاحب الميزان: في تفسير هذه الآية: إن الله تعالى قريب من عباده لا يحول بينه وبين دعائهم شيء وهو ذو عناية بهم وبما يسألونه منه فهو يدعوهم إلى دعائه فليستجيبوا له في هذه الدعوة وليؤمنوا به في هذا النعت وليوقنوا بأنه قريب مجيب.

الجهة الثالثة: وهي بيان بعض الثمار الناتجة عن الإلتزام بالدعاء.

قال تعالى(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) لعلهم إذا تواصلوا مع الله تعالى منّ عليهم بالرشد والصواب في هذه الحياة الذي هو مقدمة للنجاة في يوم الحساب.
ولعل أسلوب بيان الآية هنا بشكل إحتمالي غير جازم هو أن كثيراً من الناس لا يسألون الله بالطريق المطلوب. فإذا لم يسألوا ربهم بطريق جدي وخالص لوجهه الكريم فليس لهم من الرشد شيء.

مَفْهُومُ الدُّعَاءِ فِي القُرْآنِ الكَرِيم

من الملاحظ للجميع أن القرآن الكريم كتاب يعنى بالشؤون الدينية والعبادية في الدرجة الأولى، فهو كتاب هداية وإرشاد ووعظ وتوجيه وبيان للحلال والحرام.
وقد لقي الدعاء اهتماماً ملحوظاً في هذا الكتاب المجيد من حيث بيان عظمة الدعاء، أو من حيث الإشارة إلى مفاهيمه ومراتبه، أو من حيث الدعوة إليه وبيان النتائج المتولدة عنه.
ولأجل عناية القرآن بهذه العبادة سوف يدور بحثنا هنا حول مفهوم الدعاء في القرآن الكريم.

لا شَأْنَ لِلْمَرْءِ مِنْ غَيْرِ دُعَاء
قال تعالى في سورة الفرقان(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)
فلو أردنا أن نتأمل قليلاً في مداليل هذه الآية القصيرة من حيث الألفاظ لوجدنا أنها تشير إلى أكثر من أمر.
منها: أنها تتحدث بلسان الوعيد لكل من يتكبر عن الدعاء أو يتهاون بهذه الصلة بين الله وعباده، ونحن ندرك بأن المؤمن يشعر بالخوف وتأخذه الرجفة عندما يمر على آية فيها نوع من التهديد والغضب.
ومنها: أن الآية الكريمة تدعو إلى الإلتزام بهذا النهج العبادي الكبير وذلك عن طريق الترهيب لأن الله عز وجل يبين لنا الأمور إما بطريق الترغيب أو بطريق الترهيب، فمن لم يؤثر به الأسلوب الأول أثّر به الأسلوب الثاني.
ومنها: أنها تبيّن وهن الإنسان ودنو شأنه في هذه الدنيا إذا كان بعيداً عن هذه العبادة إذ لا قيمة للمرء إذا قطع الصلة بينه وبين الله.
وفي سورة غافر قال عز وجل(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)
بالنسبة للشطر الأول من هذه الآية فقد تحدثنا عما يشبهه في البحوث السابقة وقلنا بأن الله تعالى يستجيب دعاء عبده المؤمن إذا صدر الدعاء من القلب المفعم بالإيمان، وقد بينا أن الشرط هو الدعاء الصادق، وأن الجزاء هو الإجابة في قوله تعالى(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) وهذا الشطر في هذه الآية أوضح معنى من غيره من جهة كون الدعاء والإجابة شرطاً وجزاءاً(ادْعُونِي) هذا فعل الشرط(أَسْتَجِبْ لَكُمْ) هذا جواب الشرط.
وبقي في هذه الآية فقرتان لا بد من بيانهما لأن بيانهما يفيد كثيراً في عملية فهم حقيقة الدعاء.
الفقرة الأولى:
الإِسْتِكْبَارُ عَن العِبَادة
قال تعالى(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي)
إن ما نريد معرفته من هذه الفقرة هو معنى الإستكبار ومعنى العبادة لأن هذين المفهومين قد أشير إليهما في هذا الشطر أو هذه الفقرة.
الإستكبار صفة لا تليق إلا بالخالق الكبير الذي وصف نفسه في الكتاب بالمتكبر لأن ذاك حقيقة في الذات الإلهية، أما أن هذا المخلوق الضعيف(الإنسان) يتكبر ويستكبر فإن ذلك أمر قبيح حيث لا يحق للعبد أن يمارس هذين الأمرين، ولأجل ذلك قيل بأن التكبير قبيح في المخلوق حسن في الخالق ووجه الحسن في تكبر الخالق هو منشؤه فإن منشأه في الخالق طبيعي أما في المخلوق فليس بالأمر الطبيعي أو المقبول لأن الإنسان بهذه الممارسة يمارس أمراً لا حق له به.
إذن.. لا يحق للإنسان أن يتكبر على الخلق، ولا يجوز له أن يستكبر على الخالق، وهناك فرق بين التكبر والإستكبار، فإن التكبر يحمل معنى العجب، وقد يعجب المرء بنفسه أمام الآخرين ولكنه لا يعجب بنفسه أمام الخالق سبحانه وتعالى، وأما الإستكبار فهو المخالفة والعناد.
فلا يجوز للإنسان أن يستكبر عن عبادة الله في جميع موارد العبادة ونعني بالإستكبار عدم الإلتزام بأوامر الله ونواهيه.
وأما العبادة فهي الطاعة، وعلى كل إنسان منا أن يطيع الله عز وجل في كل ما أمره به أو نهاه عنه فلا يمكن أن يكون مطيعاً في جنب المخالفات والمعاصي ولا تكون الطاعة مع ذلك تامة.
ولكن السؤال الذي يجدر طرحه هنا، ما هو المقصود بالعبادة في قوله تعالى(عَنْ عِبَادَتِي)؟ هل هو مطلق العبادات من صلاة وصوم وحج وجهاد؟ أم أن العبادة في الآية منحصرة في معنى واحد أو مورد واحد من موارد العبادة وهو الدعاء؟
نحن نقول لا مانع من انطباق لفظ العبادة هنا على جميع المعاني والموارد بدليل استحقاق العذاب للمتخلي عن العبادة(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) وهنا يظهر لنا وجه انطباق الآية على الجميع الموارد حيث أن المؤمن إذا ترك الدعاء المندوب لا يستحق بذلك دخول النار، غاية ما في الأمر أنه فوّت على نفسه مصلحة كبرى وحرمها من الأجر والثواب الموضوع في عبادة الدعاء، وهذا يؤكد لنا أن الآية ناظرة إلى مطلق العبادة من دون تخصيصها في مورد دون آخر.
وأما الذين حصروا معنى العبادة في الآية هنا بالدعاء فإن دليلهم على ذلك هو السياق حيث ورد لفظ العبادة فيها مقترناً بالحديث عن الدعاء حيث ورد بيان العذاب بعد دعوة الله إلى الدعاء(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ثم بعد ذلك مباشرة قال(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) فلقد فسر بعضهم قوله تعالى(عِبَادَتِي) بالدعاء أي إن الذين يستكبرون ولا يدعون ربهم سيدخلون جهنم داخرين.
وعلى كل حال فإن الدعاء عبادة لله تعالى، ولولا وجود الدليل على ما نذكره لقلنا بأن المقصود بالدعاء هنا الدعاء الواجب وأعني بالدعاء الواجب ما ورد من الآيات بلفظ الدعاء مثل:إهدنا الصراط المستقيم: فإن هذا يكون واجباً أثناء الصلاة، كما ويمكن التعبير عن الصلاة بالدعاء لأن المعنى الأولي للصلاة هو الدعاء، فلا يجوز مخالفته لثبوت الحقائق الشرعية التي اقتضت استعمال لفظ الصلاة على الصلاة المخصوصة وليس على الدعاء.

الفقرة الثانية:
دُخُولُ جَهَنَّم
قال سبحانه (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)
لقد امتحن الله عز وجل عباده وخيّرهم بين الطاعة والمعصية وأمرهم بالطاعة فخالفوه فكان من الطبيعي أن ينالوا هذا المصير الأسود.
وفي سورة لقمان قال تعالى(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)
نستخلص من هذه الآية الكريمة عدة عناوين لها صلة بالدعاء.
العنوان الأول: الإمتحان: فإن الله تعالى يمتحن قلب العبد بأشياء كثيرة، من جملتها البلاء والمصيبة ليرى هل يتوجه إليه أم أنه ينساه ولا يعتمد عليه، ينبغي على المؤمن أن يعيش مع ربه دائماً في حالات الرخاء كما في حالات الشدة لا يغيره شيء تجاه ربه فهو لا يذكر الله كثيراً عند نزول البلاء فقط وإنما يذكره في السراء والضراء والسعة والضيق على حد سواء.
الله سبحانه وتعالى امتحن ركاب هذه السفينة ليكون هذا الإمتحان ونتيجته عبرة للبشر على مر السنين.
لقد تعرضت تلك السفينة للغرق حينما هبت رياح عاصفة كادت تغرق السفينة بمن عليها فتوجه ركابها نحو الله تعالى متضرعين يسألونه النجاة فاستجاب الله لهم لأن فيهم من دعاه بصدق وإخلاص.
العنوان الثاني: ضرورة الإخلاص في الدعاء:
لقد مررنا على ذكر هذا الشرط من شرائط الدعاء وقلنا بأن الإجابة متوقفة على إخلاص النية على أن يكون المدعو الأوحد هو الله عز وجل، فبدون إخلاص لا تنتظروا الإجابة لأن دعاءنا من غير إخلاص يفقد الشرط الأول من شروط الإجابة.
العنوان الثالث: نتيجة الإخلاص وثماره:
ومن ثمار إخلاص دعائهم في السفينة أو دعاء بعض ركابها منّ الله عليهم بنعمة النجاة وأوصلهم إلى بر الأمان بلطفه ورأفته ليقول للجميع هكذا هي نتيجة الإخلاص في التوجه نحو الله وأن الله يسمع دعاء الإنسان في جميع الحالات وعلى الإنسان أن لا يغفل عن تلك القدرى العظيمة التي ترجع جميع الأمور إليها.
العنوان الرابع: الثبات على الحق:
لقد أفادنا القرآن الكريم عبرة من أهل تلك السفينة التي أنجاها الله ومن عليها حيث خسر الذين نسوا الله ونجا من بقي ذاكراً لتلك النعمة الإلهية عندما استجاب الله له دعاءه.
فالرسالة التي يريد الله أن يوصلها إلى الناس عبر هذه الآية هي: أنه من أراد أن تتم نعمة الله عليه وينال رحمته الواسعة فليستمر بالصدق والإخلاص.
وفي سورة الإسراء(قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى)
لقد فتح الله لعباده أبواباً عديدة ليدعوه متى شاؤوا فجعل لنفسه أسماءاً كثيرة يسهل بها الدعاء، فلو دعوت الله أو الرحمن أو الرحيم أو السميع أو البصير أو دعوته بأي إسم من أسمائه فإنه يسمع دعاءك ويجيبك وبذلك وسّع عليك مسألة الدعاء.
وفي سورة يونس يكشف لنا القرآن عن مسألة قد وقع فيها كثير من الناس من المسلمين وغير المسلمين حيث قال(وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)
فلو أننا فهمنا معنى هذه الآية وعملنا بها لكفانا ذلك في موضوع الدعاء، أي لكنا ممن يستجيب الله له دعاءه.
ولكي نفهم هذه الآية بشكل صحيح كان لا بد من أن نتعامل معها كما تعاملنا مع الآيات الأخرى، وهذه الآية تحدثنا عن أمر يتكون من خمسة مواضيع:
الموضوع الأول: إمكانية امتحان الإنسان وابتلائه ببعض الأمور:
إن الإنسان في هذه الحياة معرض دائماً للنكبات والمصائب فلا يدري أحدنا أيمتى ينزل عليه البلاء والإختبار، لذلك يجب أن نكون مستعدين لمواجهة هذا الواقع، وأهم عوامل المواجهة الصبر والدعاء، فالصبر يعطينا اندفاعاً نحو المواجهة، والدعاء هو مفتاح الفرج والخلاص من هذه النكبة وتلك المصيبة كما تعرض ركاب تلك السفينة إلى عاصفة مفاجئة بعدما كانوا آمنين مستأنسين بالنسيم العليل والمناظر الخلابة، وعندما نزل بهم البلاء لم يجدوا أمامهم سوى الدعاء كوسيلة للخلاص مما هم فيه.
الموضوع الثاني: توجه الإنسان إلى الدعاء بمجرد نزول المصيبة:
وهذا يعني أن الدعاء أمر فطري في الإنسان وهنا نقسم الإنسان تجاه الدعاء إلى قسمين:
القسم الأول: وهم المؤمنون الذين يتواصلون دائماً مع ربهم في جميع الحالات فهم لا ينتظرون حلول النكبات حتى يدعوا ربهم.
القسم الثاني: وهم الذين لا يذكرون الله تعالى إلا في حالات الشدة كيوم حدوث الزلزال والكسوف والخسوف أي عندما يشعرون بالخطر الذي لا يمكن تجاوزه إلا باللجوء إلى الله عز وجل، ولا شك بأن السفينة التي حدثنا عنها القرآن كانت تحمل هذين النوعين من الناس، أما النوع الأول فقد سألوا الله النجاة ودعوه كما يدعونه في الحالات الطبيعية فلم يفاجئهم الحدث لأنهم يستسلمون للإرادة الإلهية ويعتمدون عليها في جميع الحالات فإن نجوا شكروا الله وإن لم يكتب لهم النجاة فأجرهم على الله، وأما النوع الثاني فهم الذين دعوا الله بالفطرة وكان البلاء هو المحرك لهم نحو الدعاء لأن الإنسان بطبيعته وفطرته يلجأ للأقوى عند نزول المصيبة.
الموضوع الثالث: كشف الضر بعد الدعاء:
وهنا تظهر لنا نتائج الدعاء بل نتائج الإخلاص في الدعاء لأن الآية أشارت إلى هذا القيد بشكل واضح(دعوا الله مخلصين) وهنا يتأكد لنا ما ذكرناه في البحوث الماضية حول هذا الأمر وهو أن الإخلاص باب الإجابة وشرطها.
فكل من يتوجه إلى الله عز وجل بنية صادقة وقلب سليم فسوف يجد الله مجيباً لدعائه.
الموضوع الرابع: نسيان النعمة بعد الشعور بالطمأنينة:
وهذه صفة قبيحة في الإنسان لأنه بهذا السلوك يضحك على نفسه ويغشها ويجلب لها ما لا تحمد عقباه فهو بمجرد أن وصل إلى بر الأمان نسي الله ونسي ما دعاء به وهو في وسط الموج مع أن الله تعالى قادر على أن يوقعه في خطر أشد من خطر السفينة وهو موجود على فراشه داخل بيته.
لقد ذم القرآن هذا السلوك وأهله بلهجة الوعيد والتهديد لأن عاقبة نسيان الله والكفر بالنعمة وخيمة للغاية، وذلك لقوله تعالى(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ) والله تعالى في هذه الآية لا يبين ذلك من باب العتاب بل إنه يبينه من باب بيان قبح هذا السلوك واستحقاق أهله للعذاب.
الموضوع الخامس: نتيجة السلوك السيء:
وقد ظهرت لنا هذه النتيجة من خلال ما مر ذكره وهي العذاب لكل من يعرب عن الله ولا يتصل معه.

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى