كتُب

سِلْسِلَةُ حَقِيْقَةِ الإِنْسَان

الإِنْسَانُ فِيْ القُرْآنِ الكَرِيْم

تَمْهِيْد

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، ونصلي ونسلم على أشرف الخلق أجمعين المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد بن عبد الله وعلى أهل بيته الأطهار الميامين، وبعد:

في زمنٍ ابتعد فيه الإنسان عن ربه ونسي ونفسه فأصبح هدفاً سهلاً للأهواء نتيجةً لعدم التزامه بتعاليم ربه ووصايا رسله، والإقتداء بالصالحين الذين كانوا وما زالوا القدوة التي بها يُحتذى.
في زمنٍ ازدهر فيه التطور وكثرت فيه وسائل العلم وطرق المعرفة كانت النتيجة معاكسة، فبدل أن نستثمر هذا التطور فيما ينفعنا على مستوى الدنيا والآخرة سرنا في الإتجاه المعاكس مخلّفين وراءنا ما لو تمسكنا به لكنا في حالة يحسدنا عليها الآخرون.
إن لهذا التدهور الأخلاقي والإنحطاط الإنساني سبباً وجيهاً، منا من تنبّه له فحذر، ومنا من لم ينتبه، ومنا من عرف الحقيقة وتجاهلها لأن ما حصل كان متلائماً مع انحرافه.
والسبب في هذا التدهور يعود إلى عاملين أساسيين كوّنا بمجموعهما تلك الحالة المأساوية التي نعيشها في القرن الحادي والعشرين.
العامل الأول: مؤامرات بعض الدول على تدمير الإسلام، وبالتالي تدمير الإنسان حتى يُحكموا السيطرة على الحالة العامة لحركة الزمن، ويصبحوا الأثر الفعّال في تغيير الواقع، وبهذه الطريقة الشيطانية المنحطة تصبح بعض الدول هي المسيطرة على العالَم والمتحكمة في مصير الشعوب.
وهذا العامل لكي يكون فعّالاً وذا أثر مباشر على المجتمعات الشرقية والغربية كان بحاجة إلى عدة موارد حيوية وأساسية.
المورد الأول: الصناعة في مختلف المجالات، كمصانع الأسلحة الفتاكة والمصانع المنتجة للمواد الإستهلاكية بحيث تصبح هذه الدولة هي المصدّر للمواد الخام وغير الخام، ولكي تكون الدولة قوية لا بد أن تكون من الدول الصناعية لأن الإعتماد على الإستيراد دون التصدير هو أحد أهم عوامل الضعف في الدولة، وهو العائق الأكبر في الوصول إلى الهدف.
ومن هنا اعتمدت تلك الدول الكبرى على منطق العولمة الذي فرضوه على العالم بسبب احتياج العالم إلى تلك الموارد الحيوية.
وهذه الدول لكي تقوي اقتصادها افتعلت الحروب في الدول المعتمِدة على الإستيراد خصوصاً من باب تسويق منتجها وتقوية اقتصادها، ولا يمكن تسويق تلك الأسلحة إلا إذا خلقوا شعوراً في قلوب زعماء وشعوب تلك الدول وبهذه الطريقة يصبح الطلب على شراء الأسلحة أمراً ضرورياً لهذه الدول بسبب ظنهم الخاطئ بأن الحفاظ على الوجود إنما يتم عن طريق امتلاك الأسلحة المدمرة، مع العلم بأن نفس امتلاك الأسلحة المدمرة كان العامل الأقوى في تدمير اقتصاد تلك الدول التي أفرغت خزائنها لدفع ثمن تلك الأسلحة.
وهنا يكمن جوهر المؤامرة التي بسببها أصبحت الدول العظمى عظمى.
المورد الثاني: طريقة الترويج للمنتج حتى ولو كانت على حساب ملايين الأرواح وسفك الدماء وارتكاب المجازر، وهذا ما ضلع فيه الغرب لأنهم قومٌ لا يحترمون الإنسان وإن تغنّوا بحقوق الإنسان وحريته ودافعوا عنهما ظاهراً، ولكن الحقيقة هي أنهم ينظرون إلى الإنسان على أنه يد عاملة ومصدر من مصادر الإنتاج ليس أكثر، وبمعنى أوضح فهم ينظرون إلى الإنسان على أنه أداة في أيديهم يستخدمونها كيفما شاؤوا.
العامل الثاني: خلق الجو المناسب للسيطرة على العالم.
فقبل عشرين عاماً كان الإعتماد كله ما زال متمحوراً حول العامل الأول وهو الصناعة والتصدير، أما في مطلع القرن الحادي والعشرين وقبله بقليل اختلفت عملية الصناعة ومبدأ التصدير وماهية المواد المصدَّرة.
ففي ماضي كانوا يرسلون إلينا الأسلحة المادية عبر الطائرات والسفن والشحن البري، أما في هذا الزمن فقد صدرت تلك الدول ما هو أخطر من السلاح المادي الفتاك.
صدّروا إلينا الثقافات الخاطئة عبر وسائل النقل الحديثة(انترنت، فيسبوك، واتساب) وغيرها من وسائل تدمير المجتمع العربي والإسلامي أخلاقياً، وبالفعل فقد نجحت مهمتهم ليس بسبب قوة فهمهم وتطور صناعاتهم، بل بسبب أنهم وجدوا في المجتمع العربي الأرضية المناسبة لتنفيذ خططهم ومؤامراتهم ضد الإسلام والمسلمين، ووجدوا عندنا القابلية القصوى لتلقي تلك الثقافات المدمرة التي تستطيع أن تدمر أمة بكاملها في خلال دقائق.
ولم يفت الأوان بعد، ولم تنته الفرصة عند هذا الحد، إذ بإمكاننا أن نصلح ما فسد من أمور ديننا ودنيانا عبر الرجوع إلى أصالتنا وأصول ديننا وتعاليم أنبيائنا.
أما التفريط حتى الإفراط فقد يذهب بهذه الفرصة الذهبية ونندم حيث لا فائدة من الندم.
وأحببت من خلال هذا الكتاب أن أذكر المراحل التي يمر بها الإنسان وصولاً إلى يوم القيامة حتى يكون على بصيرة من أمره، كما وسوف أركز على النفس والروح والعقل لأنها هي الإنسان بعينه.
وأسأل الله الذي وفقني في السابق أن يوفقني في الحاضر والمستقبل لخدمة هذا الدين وأهله إنه سميع مجيب.

علي فقيه
2017

كَلِمَاتٌ للضَّمائِرِ الحَيَّة

أكتب كلماتي بتأمل، وأنتقي العبارات بدقة، تحاشياً مني كيلا أُحدث خللاً وأصنع فيكم مللاً.
أكتب لكم ما يمليه عليّ الضمير، وما يفرضه عليّ الواجب حتى أكون واحداً من خدمة الدين والإنسان، وممن زرعوا شيئاً مفيداً في المجتمع البشري.
إنني لا أكتب لهذه المرحلة فقط، بل أتمنى أن يصل كلامي إلى أكبر عدد ممكن من ذوي العقول في عصرنا الحالي وفيما يأتي من العصور إن شاء الله حتى يكون هذا الجهد صدقة جارية عني وعن أناس أعمل لهم بعد رحيلهم.
أيها الأحبة.. إن قصة الإنسان من أروع القصص التي يمكن أن نصادفها في عالمنا، لأننا جزء لا يتجزأ عنها، فحديثنا عن الإنسان يعني حديثنا عن أنفسنا، ولا أجد ما هو أروع من حديث المرء عن نفسه.
ولكن حكاية الإنسان لم تبدأ منذ وجوده، وإنما بدأت قبل ذلك بكثير، ولم تبدأ قصتنا نحن البشر الآدميين لحظة تكوين أبينا آدم وهبوطه إلى الأرض لأن آدمنا هو الأب الأخير للأجناس التي مرت على كوكب الأرض.
نحن مجموعة من مجموعات لا يحصي عددها سوى خالقها قد شهدها هذا الوجود، ولكننا نحن الآدميين نجهلها بسبب عدم ذكر الله لها.
لم يرد في القرآن ولا في ألسنة الأنبياء تفصيل حول تلك المراحل المتقدمة، وإنما وردت عبارات مبهمة وإشارات خفية أنبأت عن سكنى هذه الأرض من قِبل مخلوقات سبق وجودها وجودنا بملايين السنين.
وكان لكل مجموعة منهم بداية ونهاية، وامتحان في الأرض مثلنا لأن إيجاد العقلاء على الأرض لا يمكن أن يتم من دون هدف، وأعظم هدف لإيجادهم هو امتحانهم مثلنا تماماً، ولا مانع من أن تكون حياتهم مشابهة لأدق تفاصيل حياتنا، ولا مانع من أن يكونوا أشباهنا أو مع وجود اختلاف في الصورة.
ولكننا نؤمن يقيناً بوجودهم ورحليهم، وأنهم سوف يحاسَبون في يوم القيامة كما سوف يحاسبنا ربنا لأن نفس هدف إيجادهم هو هدف إيجادنا، وهكذا هي ثقتنا برب العالمين سبحانه.
وقد ورد أن العوالم التي سكنت الأرض قبلنا تُعد بالمئات، وقد أشير إلى شيء من ذلك في بعض النصوص حيث ورد عن الصادق(ع) أنه قال: يوجد قبل عالمكم ألف عالَم، وقبل آدمكم ألف آدم:
وفي بعض الروايات: ألف ألف عالم: وليس ذلك على الله بعزيز، بل هو يتلاءم مع ما توصل إليه العلم الحديث من عمر هذه الأرض الذي عُدّ بمليارات السنين، بينما عمر بني آدم ما يقرب من عشرة آلاف سنة.
ويمكن لنا أن نستفيد من هذا فوائد جمة، أهمها جلاء القدرة الإلهية العظيمة التي أنشأت وأبدعت ونظمت.
ولأجل هذا أخبرنا الله سبحانه أنه لم يؤتنا من العلم سوى القليل.
وإذا كان العقل البشري عاجزاً عن إدراك القليل مما هو موجود في عصره، فكيف له أن يدرك ما خفي عنه من أمور لا يعلمها إلا عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى.
وفي البحوث الآتية سوف يتم التركيز على هذه النقطة إن شاء الله تعالى، وما نذكره في هذه البحوث لا يولّد الحقيقة المرجوة، وإنما يكشف لنا عن أمور لا تمكن معرفتها إلا برط شيء بشيء ومقارنة شيء بشيء آخر.

إِسْتِيْرَادُ الثَّقَافَاتِ الخّاطِئَة

يُعتبر هذا البحث من إحدى المقدمات المطلوبة لفهم ما سوف يأتي في هذا الكتاب وإن كان العنوان غريباً بعض الشيء عن مضمون العنوان العام، فإن المطلوب الأول من خلال تقديم هذه المعلومات هو إفهام الآخرين الفكرة المبحوث عنها، فكل ما فيه المنفعة –وإن كانت جزئية- سوف أعمل على بيانه إن شاء الله كمقدمة لفهم باقي الأبحاث.
هناك خطرٌ محدق بمجتمعنا العربي والإسلامي مصدره بعض الجهات الغربية التي تعمل على تدميرنا من خلال نشر الثقافات المنحرفة فينا، ولا شك بأن الغرب قد نجح في تنفيذ هذه الخطة حيث وجد فينا القابلية لتلقّي ما يبثه فينا من سموم فكرية.
فشأن الثقافة شأن أية سلعة يتم تصديرها أو استيرادها ضمن نطاق مفهوم العولمة الذي كان موضع اهتمام البعض دون الآخرين.
ومفاد العولمة هو جعلُ الشيء عالمياً عن طريق التصدير والترويج، وقد اعتاد العرب منذ عقود من الزمن أن يستوردوا المؤن والمواد من دول الخارج، وفي طريق استيراد تلك المؤمن تم تصدير واستيراد الكثير من الثقافات التي كان الغرض من تصديرها تدمير المجتمع الإسلامي الذي تخالف مبادئه الكثير من عادات وتقاليد الغرب.
وتكمن المشكلة الأساسية في الإستيراد الفكري المدمر الذي نال اهتمام الشرق أكثر من اهتمام الغرب(صاحب الفكرة) بينما بقي العرب مكتوفي الأيدي تجاه ثقافاتهم الصحيحة، فلم يستعملوها ولم يصدروها، وبهذا نجح الغرب علينا وقضى وطره فينا.
ولو أننا نحن المسلمين سلكنا نهج نبيّنا الأعظم(ص) في هذا الشأن لكنا نحن المسيطرين عليهم دونهم، فقد عمل النبي على تصدير التعاليم الإسلامي إلأى كل المجتمعات البشرية حتى أصبحت رسالة الإسلام عالمية من الطراز الأول، ولم نحفظ ما بناه الرسول(ص) وإنما شاركنا أعداء الإسلام في تدمير أنفسنا ومعتقداتنا.
وما زلنا حتى اللحظة نستورد كل شيء من دول الخارج، ونستعين بهم على قتل أنفسنا، وهم ينظرون إلينا ويضحكون علينا حتى أصبحنا في نظرهم من شعوب العالم الثالث الذي يشبه الحيوان في نظر الغرب.
جردونا مما عندنا، وفرضوا علينا ما عندهم، وبهذه الطريقة أصبحنا أسرى لأهواء زعماء الغرب، نلجأ إليهم في الشدائد فيعملون على زيادة الشدة فينا بهدف القضاء علينا مادياً ومعنوياً، وما زلنا ننظر إليهم على أنهم الأم العطوف وبلاد التطور والصناعات، مع العلم بأن أكثر موارد التطور في الغرب كان مصدرها أهل الشرق.
الفرق بيننا وبينهم أنهم استثمروا الطاقات البشرية والفكرية والصناعية، وقضينا نحن أعمارنا فيما أغرونا به من زينة وشهوات.

الإِنْسَانُ فِيْ القُرْآنِ الكَرِِيْم

لم يوجد عبر التاريخ دِينٌ يكرّم الإنسان ويحترمه ويرفع شأنه مثل دين الإسلام الحنيف، حيث جعل الله تعالى الإنسان محور هذا الوجود وموضعاً لتنفيذ إرادته.
وقد كثر الخطابات الموجهة إلى الإنسان في القرآن الكريم، مع العلم بأن جميع آيات القرآن موجهة للإنسان، ولكنني أعني الخطابات التي يُذكَر فيها الإنسان بشكل صريح.
فقد ذُكر لفظ (الإنسان) في القرآن ستة وخمسين مرة، ولفظ (الناس) مئة وثمانية وثمانين مرة، ولفظ (البشر) مرتين، ولفظة(بشر) حوالي عشر مرات، ولفظ بني آدم ثمان مرات.
وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على عظمة الإنسان في نظر خالقه، ولكن الإنسان هو الذي رفض تعظيم ربه له عبر عصيانه ومخالفاته واتباع أهوائه.
لقد ذكر القرآن كل ما يتعلق بالإنسان منذ أن كان عدماً إلى أن أصبح روحاً وجسداً، وذكر حال الإنسان في عالم الآخرة، وجميع المراحل التكوينية التي تكوّن منها الجسم الإنساني.
وبيّن لنا أصل خلقة الإنسان، وأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم، وليس قرداً قبل يقول بعض الملحدين، فإن الغرض من هذه النظرية هو الطعن بالقدرة الإلهية الباهرة، ولكنه نظرية باطلة بالعقل والوجدان، ولن أذكر تحت هذا العنوان سوة بضع آيات تتحدث عن أصل خلقة الإنسان تاركاً البحث التفصيلي إلى محله.
قال سبحانه في سورة المؤمنون(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)
وفي صدد الرد على أصحاب تلك النظرية الفاسدة قال سبحانه في سورة فاطر(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)
وفي سورة السجدة(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ)

ضَرُوْرَةُ التَّعَرُّفِ عَلَى النَّفْس

الإنسان محور هذا الوجود، وكل ما هو حولنا من مخلوقات إنما أوجده الله سبحانه لخدمة الإنسان، وهذا يعني أن للإنسان معنى كبيراً في علم الله تعالى، وأنه ليس بالخلوق العادي الذي يُنظر إليه ‘لى أنه مجرد مخلوق كباقي المخلوقات.
وبما أن للإنسان هذه الأهمية المميزة عند خالق الإنسان كان لازماً عليه أن يبحث عن السبب لأن معرفة السبب تُعتبر المدخل الأساسي لفهم كل ما هو حولنا.
وتُعتبر معرفة النفس من أمهات المعارف، فمن كان عالماً بالكثير من المسائل العلمية، وكان جاهلاً لحقيقة نفسه فهو جاهل بالفعل إذ لا فائدة من معرفة البعيد مع جهل القريب.
ولذا نجد القرآن الكريم قد ركز على بيان حقيقة الإنسان وأهمية وجوده من باب التوجيه ولفت الأنظار إلى النفس التي هي أولى بالمعرفة من غيرها، ولأن معرفة النفس تؤدي إلى معرفة الخالق سبحانه، وهذه المعرفة هي المطلوب الأول في الإرادة الإلهية لأنها تنسجم مع مضمون الهدف من إيجاد الخلق.
وقد جاء في الحديث عن النبي الأكرم(ص) أنه قال”من عرف نفسه عرف ربه”
وأمام هذا الواقع ليس للعاقل مفر من البحث عن حقيقة نفسه وروحه وعقله حتى يسير في الإتجاه الصحيح وينفّذ إرادة الله تعالى من وجوده في هذه الحياة التي لم توجد للعب واللغو والعبث، وإنما وُجدت لغايات سامية وأهداف رفيعة، وفي أعلى مراتب تلك الأهداف سلوك طريق الحق المؤدي إلى السعادة الأبدية التي يبحث كثير من العقلاء عنها.
ينبغي أن تضع نصب عينيك قول الله عز وجل(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ){الأنبياء/16}
وفي طيات هذه الكلمات القرآنية رسالة واضحة إلى الإنسان الذي يسعى جاهداً وراء نزواته ورغباته مهملاً البحث عن الحقيقة لخوفه من معرفتها، لأن معرفتها سوف يجبره(مجازاً) على الطاعة، ويعني ذلك أنه لا بد من التخلي عن كل العادات السيئة والأفعال الوضيعة التي أراد الله سبحانه أن ينزه عباده عنها عن طريق المعرفة، وعن طريق الطاعة التامة الصادرة عن المعرفة.
وبناءاً عليه يظهر لنا وبشكل واضع ضرورة التعرف على النفس لما تحمله هذه المعرفة من فوائد جمة لهذا الإنسان الذي لو التزم بأوامر ربه ونواهيه لما رأى إلا جميلاً.

حَقِيْقَةُ الإِنْسَانُ

إنّ حقيقة الإنسان من الحقائق الوجودية الهامة والعامة، ونقصد بالعامة أنها ترتبط بكل من اتصف بالإنسانية وإن أنكر هذا الإنسان كثيراً من الحقائق الوجودية كوجود الله تعالى، فإنه بإمكانه أن يُنكر وجود ربه، ولكن ليس بإمكانه أن يُنكر وجود نفسه لأنه موجود بالفعل.
وبناءاً عليه كانت هذه الحقيقة من أهم الحقائق الثابتة التي لا يشك بها أحد، وكانت منطلَقاً لإثبات الكثير من الحقائق الأخرى.
فالذي يؤمن بوجود نفسه فإن عنده القابلية لتقبّل أية حقيقة أخرى، ولهذا كان باستطاعتنا أن نستثمر إيمان الإنسان بحقيقة وجوده لتكون مساعداً لنا على إثبات الحق.
والمؤمنون بهذه الحقيقة يختلفون بسبب إيمانهم بها ويتفقون في نفس الإيمان بها، فإن الإيمان بهذه الحقيقة نسبته واحدة بين الجميع، ولكن الذي يختلفون فيه هو الطرق التي أوصلتهم إلى الإيمان بها، فمنهم من آمن بها عن طريق الفطرة التكوينية، وآخرون آمنوا بها عن طريق العقل.
ولهذا كان البحث حول هذه الحقيقة من أمهات المسائل العلمية التي نالت اهتمام كل طالبٍ للعلم.
واللافت في الأمر أن الإيمان بهذه الحقيقة(حقيقة الوجود) مشترك بين العقلاء وغيرهم من أصناف المخلوقات الحية المتحركة بالإرادة ولكن الفرق بينهما هو أن العاقل يعبّر عنها بعقله ويعمل على تطويرها، أما غير العاقل فيعبّر عنها بالغريزة المودعة فيه.
فأمامنا حقيقتان يجب البحث عنهما بدقة، حقيقة الوجود، وحقيقة الإنسان.
أما الأولى فتشترك بين كل حي حساس متحرك بالإرادة، وأما الثانية فهي خاصة بالإنسان، فإن الإنسان بفطرته يربط بين حقيقة الوجود وحقيقة نفسه حتى يصل إلى نتيجة واضحة.
أما حقيقة الوجود فهي تشمل كل موجود، سواء كان واجب الوجود أو ممكن الوجود، وسواء كان الموجود حياً أم جامداً، ولذا نجد رب العالمين تبارك وتعالى استعمل بعض الموجودات للدلالة على نفسه وقدرته ولإثبات الحق وتصديق الرسل، فذكر العديد من الحقائق الوجودية كالسماء والأرض والجبال والحيوانات والماء كما في قوله الكريم(أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)
كما وأمرنا بالنظر إلى أنفسنا والتأمل في خلقنا وتسويتنا ليدلنا على الحق بما هو موجود فينا وحولنا.
قال تعالى في سورة الإنفطار(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ)
فإذا نالت هذه الحقيقة عناية الإنسان كان عاقلاً وإلا فهو معاند.
فمهما تبحّر المرء في طلب العلم وكشف أسرار الكون وكان جاهلاً بحقيقة وجوده أو الهدف من إيجاده فهو جاهلٌ لأن معرفة النفس هي أم المعارف الإنسانية، وهي النافذة التي يعبر من خلالها إلى باقي المعارف.
وما أخذتني الدهشة حياله هو أن بعض أصحاب الأدمغة الجبارة، وبعض عمالقة العلم الحديث يسجدون لبقرة يصادفونها أو ينحنون أما صنم صنعته أيديهم، فأية قيمة لتلك المعارف التي يمتلكونها؟
ويدفعنا هذا الشيء إلى التركيز التام على جملة من الحقائق حتى تكون حججاً بليغة لمثل هؤلاء العلماء بالمظهر الجهلاء بالجوهر، ومن أهم الحقائق كما ذكرتُ آنفاً حقيقة الإنسان(أهم مخلوق في الوجود)
فتارةً ننظر إلى الإنسان بما هو هيكل خارجي له حيّز معيّن وصورة محددة، وتارة ننظر إلى ما هو أعمق من ذلك فننظر إلى العقل والروح والنفس والمشاعر وما إلى ذلك من الخصوصيات القلبية، وثالثة ننظر إلى كونه مركّباً من كلا الأمرين، وهو الأصح لأن خروج الروح من الجسد لا تعني نفي الإنسانية عنه.
فالإنسان هو هذا المخلوق المميز بتراكيبه المادية والمعنوية، والذي خُلق كل ما في الوجود لأجله بحيث أصبح محور هذا الوجود.
وهذه العظمة في الخلق والدقة في الصنع لها ثمن كبير عند رب العالمين، وهو حق طاعة المولى، فإذا أدرك الإنسان حقيقة نفسه وجب عليه أن يعبد ربه، ومن دون عبادة الخالق سبحانه لا قيمة لأي شيء في هذا الوجود مهما كان كبيراً.

الإِسْلامُ وَحُبُّ الإِسْتِطْلاع

جُبل العقل على حب الإستطلاع مهما كانت درجة الفائدة من المسألة التي يبحث عنها، وفُطرت روح الإنسان على هذه الحالة التي كانت السبب الأكبر في وصوله إلى ما وصل إليه من خلال بحوثه وإمكانياته والتجارب التي قام بها عبر التاريخ، ولولا وجود هذه الهبة الربانية والشعور الذي اعترى الإنسان منذ وجوده لما استطاع هذا الإنسان أن يترقى ويحلِّق دون باقي المخلوقات، فلولاها لبقي يراوح مكانه من دون أي تطور أو تقدم، ولكن شاءت حكمة الله عز وجل أن يكون عبده الإنسان مفطوراً على الرغبة في التطور وحب الإستطلاع فيما يعنيه وفيما لا يعنيه.
وقبل كل شيء ينبغي أن نتعرف على نظرة الدين إلى مسألة حب الإستطلاع فهل هو يسمح بها من دون قيود وشروط أم أن هناك حدوداً يجب الوقوف عندها؟
ولكي نفهم هذه الحقيقة لا بد من طرح جملة من النظريات الدينية لسلوكيات مختلفة يتعاطاها البشر على اختلاف أصنافهم ودرجاتهم ومعتقداتهم فنصل من خلال بيانها إلى معرفة نظرة الإسلام لحب الإستطلاع.
فالإسلام دين كريم وعظيم وحكيم يضع الأمور في مواضعها ويعالج المسائل بالطرق المناسبة، وكيف لا يكون كذلك وهو دين الله الذي أمر به عباده، وعندما نقول قال الإسلام أو أمر الإسلام فمعناه قال الله وأمر الله، لأن الإسلام هو عبارة عن مجموعة عقائد وأحكام وتعاليم وإرشادات أنزلها الله تعالى عبر رسله من أجل هداية البشر وإصلاح أمور دنياهم وآخرتهم، ولأن الإسلام اهتم بدنيا الناس وآخرتهم فلم يعط اهتماماً لواحدة دون أخرى، بل تعامل معهما على أساس أن الأُولى دار ممر وامتحان والآخرة دار مقر وحساب.
فالإسلام يحترم الإنسان ويعظّم شأنه وكل ما في الإسلام إنما هو من أجل الإنسان، ولقد أشار الكتاب العزيز إلى موضوع تكريم الإنسان حيث قال سبحانه في سورة الإسراء(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)
فلقد حرم الإسلام عملية الإستعباد عندما كان غيره يبيح هذا السلوك الظالم، حيث خُلق الإنسان في هذه الحياة ليكون حراً في سلوكه واختياره من دون أن يُجبر على عمل واعتقاد واختيار، فهو الذي يقرر مصيره في هذه الحياة فإذا سلك طريق الخير كان ما بعد الحياة خيراً مما سلك، وإذا اختار في الدنيا سبيل الشر كان ما بعدها شراً منه، ولقد أعطى الإسلام حرية مدروسة لكل إنسان، وهنا ينبغي الفصل بين الحرية المطلقة والحرية المقيدة، فإن الحرية المطلقة هي الفلتان بعينه، أما الحرية المقيدة فهي المسموح بها من قبل الخالق، وهذا التقييد في النوع الثاني من الحرية لا يتنافى مع كون الإنسان حراً وإلا فإننا إذا اعتبرنا القيود التي فرضها الله تعالى للحرية عدم حرية فقد أخطأنا كثيراً لأنه لو أُعطي الإنسان النوع الأول من الحريات لفتك وقتل وفسد وأفسد من دون رقيب أو حسيب.
ومن هنا تظهر لنا نظرة الإسلام نحو مسألة حب الإستطلاع، ولو أمعنا النظر قليلاً في هذه النظرة لأمكن القول بأن الإسلام أوجب على الناس عملية الإستطلاع التي تنفع ولا تضر، وقد خُلق الإنسان في هذه الدنيا من أجل أن يتطور فكره وينمو عقله ليدبر أمور دنياه وآخرته بما أعطي من قوى مادية ومعنوية، أما إذا كان حب الإستطلاع أو غيره مضراً بالإنسان وبمن حوله من البشر والحيوانات والجمادات فإن الإسلام حينئذ يمنع هذه العملية.

نَظْرَةُ الإِسْلامِ إِلَى تَطَوُّرِ الإِنْسَان

إذا كان هناك دين يدعو إلى الترقي والتقدم والتطور والبناء فهو دين الإسلام، وإذا كانت هناك جهة تكاد توجب العمل من أجل إعمار الحياة مادياً وخُلقياً فهي شريعة الإسلام التي عُنيت ببناء الإنسان وتكامله وحافظت على استمراره عندما دفعت به نحو الإهتمام بعوامل الإستمرار وأسبابه.
ولا شك بأن الحياة في تطور مستمر، والنظرات إلى هذا التطور مختلفة، فمنهم من يؤيده من دون أن يلاحظ المنفعة منه أو المفسدة، لأن المهم عندهم هو التسابق في الإكتشافات والإختراعات من دون دراسة العواقب أو حتى من دون النظر فيها، ومنهم من يفصل بين النافع والمضر من التطور فيعتبر أن النافع منه هو التطور المطلوب وأن المضر منه هو الرجعية العمياء التي لا تقل عن الرجعية الجاهلية وما شاكلها من العادات التي أضرت بالناس أفراداً وجماعات، فدين الإسلام مع التطور، وهو يدعو إليه دائماً ولكن بشرط أن يكون التطور مصحوباً بالمنفعة للبشر، أما إذا اصطحب التطور معه الويلات والأضرار فإنه بئس التطور كهذا التطور الذي أوصل البشرية في زماننا إلى الهاوية وجعل الخطر محيطاً بها من كل ناحية وذلك عندما تنافست الجهات على صناعة الأسلحة المدمرة التي تضر بالشر والحجر والشجر وتنعكس سلباً على النفوس أيضاً، وهذا الطرح لا يشكّل عندنا قاعدة عامة، فهناك فرق في الأهداف من صناعتها، فمنهم من صنعها ليحكم العالَم بالظلم والجور ويجعل من الكرة الأرضية آلة شطرنج يحرك أحجارها كيفما يشاء ومتى يشاء، ومنهم من صنع تلك الأسلحة من أجل أن يدافع به عن نفسه ووجوده وعقائده خصوصاً مع وجود تهديدات له بالحصار وفرض العقوبات وإحداث الشرخ في صفوف أفراده.
فبئس هذا التطور الذي أصبح بسببه كل شيء ملوثاً ومضراً وإن لم يكن كذلك كان عديم الفائدة، فلقد أصبح كل ما على الكرة الأرضية ملوثاً بدءاً من الماء مروراً بالثمار ووصولاً إلى الهواء الذي طالما كان في الماضي دواءاً للعديد من الأمراض فأصبح اليوم بحد ذاته داءاً للبشر بسبب تلك المواد التي تتطاير في الجور من جراء استخدام تلك الأسلحة الشيطانية المدمرة التي تضر بصاحبها أولاً ثم بغيره ثانياً، فالجميع خاسر حيث لا حصانة لأحد من آثار تلك السموم حتى لو سكن مجاهل الغابات وبطون الأودية وقمم الجبال.
وإن أكبر دليل على سوء هذا التطور هو انتشار الأمراض الفتاكة في جميع البلدان مع ازدياد النسبة يوماً بعد يوم وظهور أمراض لم تكن بالحسبان، وإذا ارتكب البشر من المعاصي ما يعلمون ابتلاهم الله تعالى بما لا يعلمون، فلا تصل البشرية إلى اكتشاف أدوية لأمراض ظهرت منذ عشرات السنين حتى ينكشف لهم مرض أخطر لا دواء له.
وإن أكثر من نصف سكان الأرض اليوم يعيشون على جرعات الأدوية المضادة لتلك الأمراض، ونحزن لذلك ونحن البشر سبب حدوث ذلك، نحن الذين أوصلنا أنفسنا إلى هذه الحدود التي كنا بالغنى عنها من الأساس، ولكن الشيطان الرجيم استحوذ على قلوب كثير من الحكام فدعاهم إلى تدمير أنفسهم قبل غيرهم بل إلى تدمير هذه الحياة، وقد لقي من الأكثرين تجاوباً سريعاً لما أمرهم به، وخير وصف لهذه الحالة التي نعيشها في هذا الزمان على وجه الخصوص ما جاء في خطبة لأمير المؤمنين علي(ع) حيث قال:
اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لاَِمْرِهِمْ مِلاَكاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وَفَرَّخَ في صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ في حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَنَطَقَ بِأَلسِنَتِهِمْ، فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الخَطَلَ، فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ في سُلْطَانِهِ، وَنَطَقَ بِالبَاطِلِ عَلى لِسَانِهِ!
فالإسلام مع التطور لأنه دين الحياة المستقيمة والعادلة وهناك نصوص كثيرة تؤكد هذه النظرية الإسلامية، فقد قال تعالى في محكم كتابه(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) وقال(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)
وقال أمير المؤمنين(ع) إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، فإن دلت هذه النصوص على شيء فإنما تدل على كون الإسلام داعياً إلى التطور بشرط وجود المصلحة العامة من خلاله.
وعلى الإنسان أن يعلم بأن الدنيا أمانة في عنقه يجب أن يحافظ عليها بالحدود التي رسمها له ربه فعليه أن يغرس ويزرع ويبني لتستمر الحياة لأن الحياة للجميع.

تَكْرِيْمُ اللهِ سُبْحَانَه لِبَنِيْ آدَم

قال سبحانه(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً){الإسراء/70}

قبل بيان أي شيء يتصل بهذا البحث تجدر الإشارة إلى أن الإسلام هو أول من كرّم الإنسان بما هو إنسان دون النظر إلى الخصوصيات الأخرى، ولكن بعض الجهات المعادية للإسلام احتكرت هذا الموضوع وكأنهم يحترمون الإنسان والإسلام يحقره فأنشأوا الجمعيات التي تُعنى بالإنسان وحقوقه ولكن ذلك مجرد تغطية لجرائمهم الفردية والجماعية.
والآن ندخل إلى صلب الموضوع.
لقد كان إبليس قبل عصيانه وتمرده يسكن الجنة ويتنعم فيها، وربما كان يسكن في مكان لا علاقة له بالجنة، فلا يمكن الإذعان بأي احتمال غير أنه كان في المكان الذي سكنه آدم، فقد يكون في الجنة أو في مكان يشبه الجنة، والله وحده يعلم تلك المدة التي عاشها إبليس هناك، ولكن الإمام علياً سلام الله عليه أشار إلى أنه عبد الله في الجنة ستة آلاف عام من دون الإشارة إلى كونها من سنين الدنيا أو من سنين الآخرة فقال(ع):
“فَاعْتَبِروا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ، لاَ يُدْرَى أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ”
فبقي على هذه الحالة إلى أن خلق الله عز وجل آدم وكرّمه وفضّله على كثير من المخلوقين والمخلوقات، فاشتعلت نار الحسد والتكبر في قلب إبليس حيث اعتبر أن هذا التكريم من حقه وليس من حق آدم لأنه أسبق منه بالطاعة، فقد ورد أن إبليس عبد ربه آلاف السنين، ولكن العبادة لكي تؤتي أكلها يجب أن يتصل آخرها بأولها، بمعنى أنه يجب أن تستمر الطاعة من لحظة التكليف وإلى لحظة الموت.
والمهم هنا هو معرفة حقيقة التكريم الإلهي لبني آدم بشكل مطلق، أي من دون تخصيص فئة منهم، فلقد قال تعالى(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)
لقد عُقِدت بحوث كثيرة حول موضوع هذا التكريم الذي اختلفت فيه الآراء حول منشأه، فمنهم من ادعى أن منشأ التكريم هو الشكل الخارجي للآدميين لأن أجسادهم أكمل الأجساد، فهم قادرون على استخدام الأعضاء بشكل سهل للغاية، فالإنسان يحمل الشيء بيديه ويتصرف به كما يحلو له، وذلك على خلاف بعض المخلوقات التي تعجز عن صنع ما يفعله الإنسان جسدياً، وهو رأي غير دقيق لأن هناك مخلوقات غير الإنسان تشبه الإنسان بهيكلها وشكلها كالكينغارو والقرد، فلا يكون منشأ التكريم الصورة الخارجية وإنما هو شيء آخر.
وبيان ذلك أن المخلوقات نوعان:
النوع الأول : وهو المخلوقات الجامدة وما يلحق بها من الأشجار والنباتات والماء، ولا شك بأن الإنسان أفضل من سائر المخلوقات الجامدة، بل هو أفضل من السموات والأرض إذا كان مؤمناً بالله تبارك وتعالى.
النوع الثاني: وهو المخلوقات الحية الحساسة المتحركة بالإرادة، وهذا النوع ينقسم إلى قسمين: مخلوقات عاقلة كالملائكة والجن، ومخلوقات غير عاقلة كالبقر والغنم والأُسُود وغيرها من الحيوانات البرية والبحرية.
ولا شك بأن الإنسان أفضل من الجمادات والعجماوات، ولكن الكلام وقع في كونه أكرم من بعض المخلوقات العاقلة، وقبل بيان النتيجة لا بد من الحديث عن المخلوقات العاقلة فإن الحديث عنها هو الحلقة المفقودة في المقام.
ويمكن أن نقسم المخلوقات العاقلة إلى قسمين: معلومة وغير معلومة، أما المعلومة فهي ثلاثة: الملائكة والجن والإنسان، وأما غير المعلومة فإننا نعلم بأن هذه الأرض كانت مسكونة من قِبل المخلوقات العاقلة التي لم يطلعنا ربنا على تفاصيل حياتهم، فلربما كان لهذا التكريم علاقة بهذه المخلوقات العاقلة ولا مانع من ذلك.
والله تعالى قال في الآية الكريمة (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)
فكلمة(ممّن) تُستعمل للعاقل، لأنك إذا أردت أن تسأل عن عاقل فتقول: (من هذا) ولا يصح أن تقول (ما هذا) أما غير العاقل فلا تقول فيه (من هذا) وإنما تقول (ما هذا) كما لوسألت عن حجر معين فتقول (ما هذا الحجر)
فالآية الكريمة صريحة بكون التفضيل هو تفضيل بني آدم على بعض العقلاء، وهذا واضح في حالة خاصة ومقيدة، وهي أن يكون المفضَّل مؤمناً، فحينئذ يكون أفضل من الجن ومن بعض الملائكة كما ورد عن أمير المؤمنين(ع)… فالنبي(ص) والأئمة(ع) أفضل من كل الملائكة، والنبي وآله هم من بني آدم، وهذا واضح، فلا نريد البحث فيه، وإنما البحث قد وقع في كون الآية مطلقة، فقد بيَّنَتْ أن الله فضَّل بني آدم على بعض العقلاء بغض النظر عن كونهم مؤمنين أو غير مؤمنين.
لقد فَضَّلَنا الله تعالى على غيرنا لنكون من الشاكرين، فإننا مسؤولون عند الله عن هذا التكريم الخاص.
وهنا لا بد من أن نضبط الفكرة أكثر كيلا يفهمنا البعض على غير الوجه المطلوب، إن الله تعالى كرَّم بني آدم وفضَّلهم ولكن ليس على جميع العقلاء، فإن هناك عقلاء من غير البشر هم أفضل من بعض البشر، وأقول من البعض وليس من الكل لأنني ذكرت لكم أن النبي وآله هم أفضل خلق الله على الإطلاق من الأولين والآخرين.
فالآية تقول (عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا) وليس على جميع من خلقْنا.
ونتيجة البحث أن تكريم بني آدم نوعان: نوع قائم على منشأ الإيمان، لأن المؤمن أفضل من سائر المخلوقات العاقلة، ونوع قائم على الآدمية بما هي آدمية، وحل هذا اللغز هو أن الله فضلنا بخصوصيتنا الآدمية على كثير من مخلوقاته العاقلة التي يمكن أن تكون غير الملائكة وربما غير الجن.

الهَدَفُ مِنْ إِيْجَادِ الخَلْق

قال سبحانه(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ){الذاريات/56}
عندما نريد أن نتحدث عن الهدف من إيجاد الخلق فلا يمكن أن نجمل الجواب أو نقلل من الكلام لأن البحث حول هذه النقطة هو محور الوجود ومحور العلوم.
فتارة نقصد بإيجاد الخلق وجود الإنسان، وأخرى نقصد به ما يفوق التصور فيشمل تصورنا الجن والملائكة والجماد والحيوانات وكل ما هو مخلوق لله عز وجل.
ولو أننا أمعنا النظر قليلاً لوجدنا ارتباطاً وثيقاً بين جميع المخلوقات مما يعني أن الغاية من إيجاد الجميع واحدة حيث لا يمكن أن يُمتحن الإنسان مجرداً عن محيطه، فهو بحاجة إلى شمس وقمر ونجوم وماء وحيوان ونبات وملائكة وما إلى ذلك مما يفوق التصور.
فالحديث عن الهدف من وجود الإنسان يرتبط بالحديث عن الهدف من وجود غيره.
وما حول الإنسان من مخلوقات إنما وُجدت لخدمته حيث سخّرها رب العالمين له حتى يدبر أموره ويدير شؤونه، وفي ذات الوقت حتى تكون حجة عليه لأنها جزء لا يتجزأ من امتحاننا نحن البشر في هذه الدنيا.
فلم يكن الهدف من إيجاد الخلق لعباً ولا لهواً وقد أخبر القرآن بهذه الحقيقة مرات عديدة.
ففي سورة الأنبياء قال تعالى(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)
وفي سورة الدخان(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
وفي بيان كون المخلوقات مسخّرة لبني البشر قال سبحانه في سورة الجاثية(اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
وفي سورة الرعد(اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
وأما مسألة أن الله تعالى خلق الجن والإنس ليعبدوه، فقد قال المفسرون بأن معنى العبادة في الآية هو المعرفة، وإنما عبّر بالعبادة لأن العبادة من لوازم المعرفة.
ولا نعني بالعبادة أن يبقى الإنسان راكعاً وساجداً وصائماً، وإنما نعني بها أن يبقى تاركاً للحرام، فطالما أنه بعيد عن المحرمات فهو في حالة عبادة لله تبارك وتعالى.

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى