العمل في أيام الأمل
قال أمير المؤمنين علي(ع)
” أَفَلاَ تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ أَلاَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ أَلاَ وَإِنَّكُمْ في أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ، فَمَنْ عَمِلَ في أَيَّامِ أَمَلهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ; وَمَنْ قَصَّرَ في أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَقَدْ خَسِرَ عَمَلَهُ، وَضَرَّهُ أَجَلُهُ”
تشتمل هذه الموعظة على مفاهيم جليلة من مفاهيم الإسلام ودروس قيمة يجب فهمها والعمل على طبقها لأنها ذات منفعة لا حدود لها، ونحن بدورنا ينبغي أن نحصر تلك المفاهيم حتى يتسنى لنا الإستفادة منها.
المفهوم الأول: وهو مفهوم التوبة، والتوبة هي إحدى عوامل الرحمة الإلهية الواسعة لأنها فرصة منّ الله بها على عباده المقصرين كيلا تُبرم عليهم تبعات معصياتهم فيعاقبون عليها في يوم القيامة، والتوبة تغسل الذنوب فتجعل التائب نقياً فلا ذنوب ولا تبعات بشرط أن يكون مخلصاً في توبته وعازماً على عدم العودة لفعل الذنب وهي التوبة النصوح التي طلبها الله منا حيث يقول في محكم كتابه(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) والتوبة النافعة والمقبولة هي التي تصدر عن الإنسان الذي ما زال قادراً على فعل الحرام وقد تاب منه خوفاً من عقاب الله أما الذي يتوب عندما يفقد القدرة على فعل الذنب بحيث لو رجعت القدرة له لعاد إلى فعل الذنوب فهذا لا يقبل الله منه التوبة ولا من الذين يتوبون عندما يعينون الموت، وفيه قال سبحانه(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) والإمام(ع) يناشدنا من أجلنا من أجل أن نرحم أنفسنا وننقذها من العذاب وأن نسرع بالتوبة قبل فوات الأوان حيث لا يعلم الإنسان متى يأتيه الموت.
المفهوم الثاني: الإسراع بالعمل لأن الدنيا مرحلة سباق فالسابق لاكتساب الخير هو الرابح، ومسألة الإسراع واستغلال الوقت والفرصة أمر ملح لأن الموت لا يعطي إنذاراً ولا يخبر أحداً بقدومه، ومن هنا وجّه القرآن أمراً بالإسراع حيث يقول سبحانه(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وقال(وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
المفهوم الثالث: من المفاهيم التي أشار لها الإمام(ع) في موعظته مفهوم الأمل، وهناك معيار للأمل فلا قطع نهائي له ولا إطالة فعلى الإنسان أن يتأمل بالعيش ويبني ويعمل ويؤسس على قاعدة إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وفي نفس الوقت عليه أن لا يطيل الأمل في الحياة كيلا يُقعده طول أمله عن العمل حيث ورد أن طول الأمل يبطل العمل، وحدود الأمل هو أن لا تظن بأنك سوف تبقى على قيد الحياة لأنه ليس لأحد أن يبقى وفي نفس الوقت لا ينبغي أن تقطع الأمل كيلا تيأس فلا تستطيع أن تعمل مع اليأس، وبمعنى آخر عليك أن تتذكر الآخرة دائماً، واعمل بما قاله علي(ع) إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
ويقول سيد الحكماء وأمير المؤمنين والبلغاء علي(ع)
” أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ، أَلاَ وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلاَ وَإنَّهُ مَنْ لاَيَنْفَعُهُ الْحَقُّ يَضُرُّهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لايَسْتَقِيمُ بِهِ الْهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلاَلُ إِلَى الرَّدَىْ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَد أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ، وَدُلِلْتُمْ عَلى الزَّادَ. وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ، تَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً”
من الطبائع الغريبة والأساليب الفاسدة التي نشأ عليها الإنسان أنه يلجأ إلى ربه في حالات الشدة ويستغني عن هذا اللجوؤ في حالات الرخاء فلا يذكر ربه إلا عند حدوث الخوف والشعور بالخطر، ولا يعمل الصالحات إلا عند الرهبة، وهذا ليس من الإيمان لأن الإيمان الصحيح يفرض على صاحبه أن يعيش مع الله تعالى في جميع الحالات والظروف على حد سواء في الشدة والرخاء وعند نزول النعمة ونزول البلاء، فالذي لا يعمل إلا عند الشعور بالخطر لا يُكتب من العاملين حيث يجب العمل على وجه الدوام وتجب الطاعة في جميع الحالات، وهؤلاء نالوا في كتاب الله توبيخاً ووعيداً إذا لم يصححوا مسلكهم في هذه الحياة، ففي سورة الزمر قال تعالى(وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) وفي سورة يونس(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)
هذا التعاطي مع الله عز وجل غير لائق ولا أظن بأن المؤمن المخلص يمارس هذا السلوك السيء مع ربه وإنما يختار من الأعمال أجودها ومن المسالك أحسنها حتى يتقرب إلى الله بما يحب الله أن يُتقرب به إليه، أما أصحاب الإيمان الضعيف أو المتزلزل فإنهم لا يذكرون الله إلا عندما يشعرون بالحاجة إليه كما في حالة المرض أو الخوف الشديد أو الحزن الكبير، ولذلك يدعونا إمامنا(ع) بأن يكون ذكرنا لله وعملنا له في حالة الرغبة كذكرنا وعملنا له في حالة الرهبة وذلك من أجل أن يترتب الأجر والثواب على العمل ويضاعَف عند الله عز وجل، وهو معنى قوله(ع):أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ:
والذي لا ينتفع من الحق يضرره الباطل لأنه حينئذ يكون من أهل الباطل، والذي لا يستقيم على الهداية يجره ضلاله نحو الهلاك، وهذه عبر وتعاليم قيمة يجب استغلالها والإستفادة منها لأن الإمام(ع) يدخل بهذا الكلام إلى الأعماق ويحدثنا عما هو فينا وعما قد نكون جاهلين به فهو(ع) يجعلنا منتبهين لكل سلوك يصدر عنا كيلا يكون خطئاً نستحق عليه العقاب، ويجب أن نتقبل هذا الخطاب أو بالأحرى هذه الموعظة النافعة.

