مؤلفات

مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ

سِلْسِلَةُ المَوْتِ وَمَا بَعْدَه
الجزء الثالث

مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ

الشيخ علي فقيه

المَلائِكَة

لقد خلق الله السموات والأرض وجعل لهما أنظمة خاصة، فلأهل الأرض أنظمتهم التي يسيرون عليها في الحياة، ولأهل السماء أنظمتهم أيضاً فهم يخضعون لها، فقد خلق الله الخلق بنظام خاص، ووضع لكل شيء نظاماً، فللأجِنَّة ملائكة، وللريح ملائكة، وللماء ملائكة، وللحياة والموت ملائكة، وإن باستطاعة الله وقدرته أن يتخلى ويستغني عن خدمات الملائكة، فهم بحاجة إليه، وهو لا يحتاج إلى خلقه، ولكنه سبحانه يتعامل بالنظام ليرشد الناس إلى التعامل بالأنظمة المجعولة كيلا يتسرع أحد فيهلك ويهلك من حوله.
وقبل بيان أحوال ملك الموت ومجيئه إلى الإنسان لقبض روحه تجدر الإشارة إلى بيان شيء حول الملائكة حتى يتسنى لنا فهم المراد من هذا البحث، ففي نهج البلاغة وصف أمير المؤمنين(ع) هذه المخلوقات بما يلي حيث قال:
” ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمواتِ العُلاَ، فَمَلاََهُنَّ أَطْواراً مِنْ مَلائِكَتِهِ: مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَيَرْكَعُونَ، وَرُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ، وَصَافُّونَ لاَ يَتَزَايَلُونَ، وَمُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ، لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ العُيُونِ، وَلاَ سَهْوُ العُقُولِ، وَلاَ فَتْرَةُ الاَبْدَانِ، ولاَ غَفْلَةُ النِّسْيَانِ. وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ، وأَلسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرهِ. وَمِنْهُمُ الحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ، وَالسَّدَنَةُ لاَِبْوَابِ جِنَانِهِ. وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ في الاَْرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ، وَالمَارِقَةُ مِنَ السَّماءِ العُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ، والخَارجَةُ مِنَ الاَْقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ، وَالمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ العَرْشِ أَكْتَافُهُمْ، نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصارُهُمْ، مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مِنْ دُونَهُمْ حُجُبُ العِزَّةِ، وَأسْتَارُ القُدْرَةِ، لاَ يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بالتَّصْوِيرِ، وَلاَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ المَصْنُوعِينَ، وَلاَ يَحُدُّونَهُ بِالاَْماكِنِ، وَلاَ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ ”
وكذلك حدثنا الإمام السجاد(ع) عن أنواع كثيرة من الملائكة وذكر لنا وظائفها فقال:
” اللَّهُمَّ وَحَمَلَةُ عَرْشِكَ الَّذِينَ لا يَفْتُرُونَ مِنْ تَسْبِيحِكَ، وَلا يَسْـأَمُـونَ مِنْ تَقْـدِيْسِـكَ، وَلا يَسْتَحسِرُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ، وَلاَ يُؤْثِرُونَ التَّقْصِيرَ عَلَى الْجِدِّ فِي أَمْرِكَ، وَلا يَغْفُلُونَ عَنِ الْوَلَهِ إلَيْكَ. وَإسْرافِيْلُ صَاحِبُ الصُّوْرِ، الشَّاخِصُ الَّذِي يَنْتَظِرُ مِنْكَ الاذْنَ وَحُلُولَ الامْرِ، فَيُنَبِّهُ بِالنَّفْخَةِ صَرْعى رَهَائِنِ الْقُبُورِ. وَمِيكَآئِيلُ ذُو الْجَاهِ عِنْدَكَ، وَالْمَكَانِ الرَّفِيعِ مِنْ طَاعَتِكَ. وَجِبْريلُ الامِينُ عَلَى وَحْيِكَ، الْمُطَاعُ فِي أَهْلِ سَمَاوَاتِكَ، الْمَكِينُ لَدَيْكَ، الْمُقَرَّبُ عِنْدَكَ، وَالرُّوحُ الَّذِي هُوَ عَلَى مَلائِكَةِ الْحُجُبِ، وَالرُّوحُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَمْرِكَ. أَللَّهُمَّ فَصَلِّ عليهم وَعَلَى الْمَلاَئِكَـةِ الَّـذِينَ مِنْ دُونِهِمْ مِنْ سُكَّـانِ سَمَاوَاتِكَ وَأَهْلِ الامَانَةِ عَلَى رِسَالاَتِكَ، وَالَّذِينَ لا تَدْخُلُهُمْ سَأْمَةٌ مِنْ دؤُوب، وَلاَ إعْيَاءٌ مِنْ لُغُوب وَلاَ فُتُورٌ، وَلاَ تَشْغَلُهُمْ عَنْ تَسْبِيحِكَ الشَّهَوَاتُ، وَلا يَقْطَعُهُمْ عَنْ تَعْظِيمِكَ سَهْوُ الْغَفَـلاَتِ، الْخُشَّعُ الابْصارِ فلا يَرُومُونَ النَّظَرَ إلَيْكَ، النَّواكِسُ الاذْقانِ الَّذِينَ قَدْ طَالَتْ رَغْبَتُهُمْ فِيمَا لَدَيْكَ الْمُسْتَهْتِرُونَ بِذِكْرِ آلائِكَ وَالْمُتَوَاضِعُونَ دُونَ عَظَمَتِكَ وَجَلاَلِ كِبْرِيآئِكَ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ إذَا نَظَرُوا إلَى جَهَنَّمَ تَزْفِرُ عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِكَ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَـادَتِكَ. فَصَـلِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الـرَّوْحَـانِيِّينَ مِنْ مَلائِكَتِكَ، وَ أهْلِ الزُّلْفَةِ عِنْدَكَ، وَحُمَّالِ الْغَيْبِ إلى رُسُلِكَ، وَالْمُؤْتَمَنِينَ على وَحْيِكَ وَقَبائِلِ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ اخْتَصَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ، وَأَغْنَيْتَهُمْ عَنِ الطَّعَامِ والشَّرَابِ بِتَقْدِيْسِكَ، وَأسْكَنْتَهُمْ بُطُونَ أطْبَـاقِ سَمَاوَاتِكَ، وَالّذينَ عَلَى أرْجَآئِهَا إذَا نَزَلَ الامْرُ بِتَمَامِ وَعْدِكَ، وَخزّانِ الْمَطَرِ وَزَوَاجِرِ السَّحَابِ، وَالّذِي بِصَوْتِ زَجْرِهِ يُسْمَعُ زَجَلُ ألرُّعُوْدِ، وَإذَا سَبَحَتْ بِهِ حَفِيفَةُ السّحَـابِ الْتَمَعَتْ صَوَاعِقُ الْبُرُوقِ. وَمُشَيِّعِيْ الْثَلْجِ وَالْبَرَدِ. وَالْهَابِطِينَ مَعَ قَطْرِ الْمَطَر إَذَا نَزَلَ، وَالْقُوَّامِ عَلَى خَزَائِنِ الرّيَاحِ، وَ المُوَكَّلِينَ بِالجِبَالِ فَلا تَزُولُ. وَالَّذِينَ عَرَّفْتَهُمْ مَثَاقِيلَ الْمِياهِ، وَكَيْلَ مَا تَحْوِيهِ لَوَاعِجُ الامْطَارِ وَعَوَالِجُهَا، وَرُسُلِكَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إلَى أهْلِ الارْضِ بِمَكْرُوهِ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْبَلاءِ، وَمَحْبُوبِ الرَّخَآءِ، والسَّفَرَةِ الْكِرَامِ اَلبَرَرَةِ، وَالْحَفَظَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، وَمَلَكِ الْمَوْتِ وَأعْوَانِهِ، وَمُنْكَر وَنَكِير، وَرُومَانَ فَتَّانِ الْقُبُورِ، وَالطَّائِفِينَ بِالبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَمَالِك، وَالْخَزَنَةِ، وَرُضْوَانَ، وَسَدَنَةِ الْجِنَانِ وَالَّذِيْنَ لاَ يَعْصُوْنَ اللّهَ مَا أمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.

مَلَكُ المَوْتِ وَأَعْوَانُهُ

نستجير بالله تعالى وجميعَ المؤمنين والمؤمنات من تلك اللحظات الصعبة التي نعاين فيها ملك الموت أو الملائكة الموكلين بقبض أرواحنا، ويكفينا هذا الموقف لوحده أن يكون موعظة لنا ورادعاً عن المعصية، حيث يعني لنا مجيئ ملك الموت نهاية الحياة الدنيا وإغلاق باب الفرصة الذي كان مفتوحاً طيلة الحياة، وانسداد باب التوبة الذي فتحه الله برحمته للذين يريدون تصحيح أمرهم والتوبة من ذنوبهم والتخلي عنها مدى الحياة، وعلينا أن نعمل جاهدين لأن يكون مجيؤه هيناً وحاملاً معه البشارة بالنعيم.
وملك الموت هو أحد الملائكة المقربين الذي وكله ربه بقبض أرواح البشر، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذا الملك العظيم فقال سبحانه في سورة السجدة(قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فإذا جاء أجل الإنسان أمر الله تعالى ملك الموت بقبض روحه، فينزل إليه ويقبض روحه من دون تردد أو تباطئ، وقد يسأل البعض عن الطريقة التي يُعلِم الله بها ملك الموت بمجيء أجل فلان أو فلان؟ فقد ورد في الأحاديث عن النبي وآله(ص) ما يكشف لنا عن تلك الحقيقة أو تلك الوظيفة، ولكننا قبل ذكر الطريقة نقول بأنه ليس من المهم أن نعرف كيف يعلم عزرائيل بحلول الأجل، ولكن المهم هو أن نعمل ما يخفف عنا الروع والذعر والخوف حين الموت، وما يُذهب عنا العذاب في يوم الحساب.
لقد ورد أن بين يدي ملك الموت لوحاً، فإذا جاء أجل أحدهم نزلت على ذلك اللوح ورقة فيها إسم فلان أو فلان، فيعلم بأن هذا قد جاء أجله فيقبض روحه، ولعل هناك طرقاً غير الطريق الذي ذكرناه، والأصح في المقام هو أننا بالفعل نجهل حقيقة هذا الأمر، ولا يوجد دليل صريح يُرشدنا إلى الطريقة التي يعلم بها ملك الموت حلول أجل الإنسان، فلنسكت عما سكت الله عنه.
فقد وردعن أسباط بن سالم قال قلت لأبي عبد الله(ع) جُعِلتُ فداك يعلم ملك الموت بقبض من يقبض؟ فقال(ع) لا إنما هي صكاك تنزل من السماء إقبض روح فلان ابن فلان:
والسؤال الذي نطرحه أو يطرحه غيرنا هو أنه كيف يقبض ملك الموت أرواح الآلاف في وقت واحد؟ وقد أجاب النبي وآله على هذا السؤال كيلا يبقى الناس في حيرة من أمرهم.
فقد قال الصادق(ع) قيل لملك الموت كيف تقبض الأرواح وبعضها في المغرب وبعضها في المشرق في ساعة واحدة؟ فقال أدعوها فتجيبني، ثم قال(ع) وقال ملك الموت: إن الدنيا بين يدي كالقصعة بين يدي أحدكم يتناول منها ما يشاء والدنيا عندي كالدرهم في كف أحدكم يقلّبه كيف شاء:
وعن الصادق(ع) قال: قال رسول الله(ص) لما أسري بي إلى السماء رأيت ملكاً من الملائكة بيده لوح من نور لا يلتفت يميناً ولا شمالاً …فقلت من هذا يا جبرائيل؟ فقال هذا ملك الموت مشغول في قبض الأرواح فقلت أدنني منه يا جبرائيل لأكلمه فأدناني منه فقلت له يا ملك الموت أكلّ من مات أو هو ميت فيما بعد تقبض روحه؟ قال نعم قلت وتحضرهم بنفسك قال نعم ما الدنيا عندي فيما سخرها الله لي ومكنني منها إلا كدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء:
وليس ذلك على الله بعزيز لأنه على كل شيء قدير، فهذا الخلق كله بين يديه، يفعل به ما يشاء، وليس لأحد مشيئة غيره، فهو يرزق من يشاء ويحيي من يشاء ويميت من يشاء ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء، فالأمر له وحده.
وقد أعطانا الله عبرة حول الصورة التي يأتي بها ملك الموت لقبض روح الكافر والفاجر والذي استحق سخط الله فقد قال إبراهيم الخليل(ع) لملك الموت هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض فيها روح الفاجر فقال له ملك الموت لا تطيق ذلك فقال إبراهيم: بلى، فقال عزرائيل أعرض عني فأعرض عنه ثم التفت فإذا هو برجل أسود قائم الشعر منتن الريح أسود الثياب يخرج من فيه ومناخره لهيب النار والدخان فغشي على إبراهيم من ذلك المنظر الرهيب ثم أفاق وقال: لو لم يلق الفاجر عند موته إلا صورة وجهك لكان حسبَه:

مَنْ الّذِي يَتَوَفّانَا

وهو سؤال طرحه السابقون على النبي وآله(ص) وهو من الأسئلة الوجيهة التي تكشف للناس عن إحدى الحقائق الكبرى حول مسألة الموت، وقد طرح بعضهم هذا السؤال بهدف ادعاء التناقض في القرآن الكريم الذي ورد فيه ثلاث مجموعات من الآيات التي تتحدث عن حالة الوفاة:
المجموعة الأولى: وهي التي تنسب الوفاة إلى الله عز وجل:
منها قوله تعالى في سورة الأنعام(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)
ومنها قوله عز وجل في سورة يونس(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
ومنها قوله تعالى في سورة النحل(وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)
ونلاحظ في هذه الآيات الكريمة أن الله تعالى ينسب عملية الوفاة لنفسه، مع أننا نعلم بأن الملائكة وعلى رأسهم ملك الموت هم الذين يتوفون الناس، وهذا ما سوف نجيب عليه لاحقاً.
المجموعة الثانية: وهي التي تنسب الوفاة إلى ملك الموت:
منها قوله تعالى في سورة السجدة(قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)
المجموعة الثالثة: وهي التي تنسب الوفاة إلى الملائكة:
منها قوله تعالى في سورة الأنعام(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)
ومنها قوله في سورة النحل(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)
ومنها قوله في نفس السورة(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)
ومنها قوله في سورة محمد(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)
أما نسبة الوفاة لله تعالى فهي صحيحة، لأنه هو الذي يأمر بقبض الأرواح، فيصح أن ننسب ذلك إليه، وهذا من الإستعمالات المتبعة في لسان العرب، كما نقول: لقد هجم أبرهة على الكعبة، وهو في الحقيقة لم يباشر الهجوم بنفسه، وإنما هو الآمر بالهجوم، فصح أن ننسبه له.
وأما نسبة قبض الروح لملك الموت فصحيحة أيضاً لأنه إما أن يباشر عملية قبض الروح بنفسه، ولا إشكال في نسبة الوفاة إليه، وإما أن يأمر أعوانه بذلك.
وأما نسبة الوفاة للملائكة فصحيحة، لأنهم في الغالب هم الذين يباشرون عملية قبض الأرواح، وقد فسر لنا الإمام علي(ع) هذا الأمر عندما ادعى أحد الزنادقة التناقض في القرآن حول قوله تعالى(الله يتوفى الأنفس حين موتها) وقوله(يتوفاكم ملك الموت) وقوله(توفته رسلنا) فلقد كان كثير من الزنادقة يتسللون إلى قلوب الضعفاء من خلال هذه الإستعمالات التي لا محل للشك فيها، فقال(ع): فهو تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يتولى ذلك بنفسه، وفِعل رسله وملائته فعله، لأنهم بأمره يعملون، فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة، ومن كان من أهل المعصية تولى قبض روحه ملائكة النقمة، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة والنقمة يَصدُرون عن أمره وفعلهم فعله، وكل ما يأتونه منسوب إليه، وإذاً كان فعلهم فعل ملك الموت وفعل ملك الموت فعل الله لأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء:
وقد أشار الإمام الصادق(ع) إلى هذه الحقيقة أيضاً فقال قي بيان الآيات المذكورة: إن الله تبارك وتعالى جعل لملك الموت أعواناً من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس يبعثهم في حوائجه، فتتوفاهم الملائكة ويتوفاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو، ويتوفاها الله عز وجل من ملك الموت:

المَوْتُ بِيَدِ اللهِ سُبْحَانَه

قال تعالى في سورة الحديد(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وفي سورة البقرة(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وفي سورة آل عمران(وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وفي سورة الأعراف(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ) وهناك عشرات الآيات التي تتحدث عن هذه العملية الخاصة بالله سبحانه وتعالى، وقد عرفنا في السابق أن الله عز وجل هو الذي يتوفى الأنفس ويأمر ملائكته بقبض الأرواح، وحول هذه الحقيقة يوجد العديد من التساؤلات التي تصدر من الناس بأهداف عديدة، منها بهدف المعرفة، ومنها بهدف الطعن بالقدرة الإلهية المنزهة عن كل طعن وإشكال، إذاً هناك عيب، وهذا العيب ليس في القدرة، بل هو في أفهام الناس المنغلقة والمتحجرة، والتي لا تريد أن تصل إلى الحقيقة كفراً وعناداً.
ومن الذين تدخلوا في شأن القدرة وادعوها لأنفسهم كذباً وافتراءاً نمرود بن كنعان الذي دار بينه وبين خليل الله إبراهيم(ع) نقاش حول موضوع الإحياء والموت حيث قال له إبراهيم إن الله يحيي ويميت فادعى نمرود ضلم لنفسه بدعوى أنه يقتل من يشاء من الناس ويبقي من يشاء وهذا كلام أوهن من بين العنكبوت لأنه وغيره دون الله عاجزون عن ذلك فلو كان نمرود قادراً على الإحياء فلماذا لم يحي نفسه بعد أن أماته الله عز وجل، وقد ذكر القرآن هذه الحادثة في سورة البقرة حيث يقول(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وبهذا الكلام أسكته إبراهيم وأظهر للناس فساد قوله ونظريته وادعائه.
ومن الناس اليوم من يدعون ذلك بطريقة أخرى، فهم لا يدَّعون القدرة على الإحياء لعلمهم بالعجز الواضح عن فعل ذلك، ولكنهم يشككون الناس حول مسألة الموت وأنها ليست بيد الله تعالى، فيقولون كيف يكون الموت بيد الله والإنسان منا قادر على أن يقتل نفسه متى شاء أو لا يقتلها فيبقى على قيد الحياة؟ وهذا وهم واضح وافتراء بيّن لأنه إذا لم يقتل المرء نفسه فما الذي يدرينا أنه سوف يبقى على قيد الحياة، إذاً..هناك أسباب كثيرة للموت قد ينزل بالإنسان أحدها فيفقده الحياة.
وهذه شبهة تجب إزاحتها، فإن القدرة الإلهية أوجدت الكون ووضعت له أنظمته انطلاقاً من قوله تعالى(إنا كل شيء خلقناه بقدر) أي أن النظام الكوني ينسجم من أنظمة الأرض، فلا الشمس تقترب منها فتحرقها، ولا القمر يدنو منها فيبطل مفعول نوره، ولا الشمس تسبقه، ولا الليل يسبق النهار، فمن أراد أن يجلب الرزق لنفسه فإن القدرة جعلت له وسيلة، وهي السعي، فإنه من دون سعي لا يحصل الإنسان على الرزق، ومَنْ طَلَب الولد فلا بد له من الزواج والإتصال الجنسي مع شريكه، وعلى سبيل المثال أيضاً فإن الرياح الشديدة لا تؤثر على المخلوقات الصغيرة كالنملة، حيث خلق الله لها ما تثبت بها أقدامها وأرجلها في الأرض حفاظاً على حياتها ووجودها، والذي يريد البقاء يلزمه أن يأكل ويشرب ويعالج نفسه من الأمراض ويحميها من الأخطار والهلكات، وقد أمرنا الله سبحانه بالحفاظ على أبداننا من أجل أن تستقيم الحياة ونهانا أن نلقيها في التهلكة، فمصدر الحياة هو الله عز وجل فهو الذي يحيي ويميت ولكن بشرط أن يحافظ الإنسان على روحه فمن أراد أن يقتل نفسه فلا يمنعه الله من ذلك وإنما يحرم عليه ذلك بشدة لأن قتل النفس والإنتحار من كبائر المحرمات، فقبض الروح بيد الله عز وجل ولكن كثيراً من أسباب طرد الروح وإخراجها من الجسد ومن دائرة الحياة الدنيا فهي بيد الإنسان، فلو لم يكن ذلك بيد الإنسان لما نهانا الله عن إلقاء أنفسنا في التهلكة، فأنت في الحياة مخير تشريعياً بمعنى أنك تستطيع أن تطيع وتستطيع أن تعصي ومخير تكوينياً بنحو جزئي، وأقيد الكلام هنا لأنك ليست مخيراً تكوينياً بشكل مطلق فإن هناك أموراً لا علاقة لها بالإنسان فأنت لا تستطيع أن تتصرف في الكون وأنظمته لأن ذلك بيد الله تعالى فلا تستطيع أن تؤخر شروق الشمس أو غروبها ولكنك تستطيع أن تتصرف ببعض الأمور التكوينية الخاصة بك وببعض من حولك وما حولك، فتستطيع مثلاً أن تغير بعض المعالم كأن تصلح أرضاً للزراعة أو تبني بناءاً أو تهدم آخر، وتستطيع أن تجري عملية جراحية تحافظ بها على حياة الإنسان لأن الروح في الغالب ترتبط بالجسد فإذا لم يكن الجسد صالحاً لبقاء الروح فيه فلن تيقى، فقد تبقى الروح مع قطع اليد أو الرجل أو استأصال بعض الأمعاء التي لا تخل بنظام الروح من حيث البقاء وعدمه، أما أن يقطع رأس الإنسان فهذا لا يصلح بعد ذلك لأن يكون ظرفاً لتلك الروح، هذه بعض الأسباب لبقاء الروح أو عدم بقائها، ولكن هذا لا يعني أن الإنسان إذا حافظ على روحه من الأخطار أنه سوف يخلد في الحياة لأن هناك شيئاً إسمه الأجل فإذا جاء الأجل توفي الإنسان بألف سبب وسبب وفي الغالب يكون السبب غامضاً، وهذا ما يعبر عنه الناس بموتة ربه، مع أن كل الموتات هي موتات الله تعالى ولكن الناس يعبرون عن الموت الغامض بموتة الرب وعن الموت الناتج عن سبب بيّن وظاهر بالموت المقرون بسبب ظاهر كمن يقع من مرتفع أو تصطدم به سيارة أو يموت بالرصاص وغير ذلك من الأسباب الواضحة، هذه هي الحدود المقدور عليها من قبل الإنسان حول التكوين، فموضوع الحياة والموت الذي ندعي أنه بيد الإنسان هو أن السبب بيده أما مسألة خروج الروح فهي بيد الله وحده، والخلاصة أن الإنسان عاجز عن البقاء على قيد الحياة وعاجز عن إخراج روحه أو روح غيره إذا أراد الله لها البقاء.

مَوْتُ المُؤْمِنِ وَمَوْتُ الكَافِر

إن الإنسان المؤمن ذو شأن عظيم وكرامة عالية عند الله سبحانه وتعالى، ولأجل ذلك كان وضعه خاصاً ومميزاً عند ربه، فلا تُرفع عنه الحصانة الإلهية لا في الدنيا ولا في القبر ولا في البرزخ ولا في يوم المعاد، حيث وعد الله المؤمنين الحسنى في جميع مراحلهم.
والموت كما يصيب الكافر وغيره من ذوي الأرواح فإنه يصيب المؤمن أيضاً، وهو واحد في الجميع، ولكن الذي يختلف في الموت بين المؤمن والكافر هو المقدمات والظروف الخاصة بالموت وما بعده من المراحل.

صُورَةُ المَلائِكَةِ عِنْدَ قَبْضِ رُوحِ المُؤْمِن

إن الصورة التي تأتي بها الملائكة عند قبض روح المؤمن تختلف كلياً عن الصورة التي يأتون بها لقبض روح الكافر، فهم يأتون للمؤمن بصور حسنة حاملين معهم البشارة له بالنجاة والسعادة والفوز بالجنة، فيشعر أثناء الموت براحة لم يشعر بمثلها في الحياة الدنيا، وتغمره السعادة والفرحة، ويتمنى لو يؤذن له بالرجوع ليخبر الناس بما حصل له، وقد ورد في بعض النصوص عن أهل بيت العصمة(ص) أنه يقول للملائكة ردوني حتى أخبر أهلي بالأمر؟ فيأتيه الجواب بالنفي لأن ذلك مستحيل.

صُورَةُ المَلائِكَةِ عِنْدَ قَبْضِ رُوحِ الكَافِر

وأما عندما تأتي الملائكة لقبض روح الكافر فإنها تأتي بصور مخيفة وأشكال مرعبة حاملة معها النبأ السيء له فيعلم من خلال تلك الصور أنه من أهل الهلاك فيقبضون روحه في جو من الذعر والخوف والألم، ولا أحد يعلم مدى ذلك وكيفيته إلا الله عز وجل، ولأجل ذلك ورد في الدعاء: ولو لم يكن إلا الموت لكفى فكيف وما بعد الموت أعظم وأدهى:

إِخْبَارُ القُرْآنِ الكَريمِ عَنْ كِلتا الحَالَتَيْن

وقد أخبرنا كتاب الله المجيد عن كلتا الطريقتين في نزع روح الإنسان وعن البشارة التي تحملها الملائكة لكلٍ منهما، ففي سورة النحل قال سبحانه عن مجيء الملائكة للمؤمنين(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) وفي سورة الفجر(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) وفي سورة يونس يخبرنا سبحانه عن البشارة التي تحملها الملائكة للمؤمنين فيقول(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وعن مجيئهم للكفار والمنافقين والظالمين والعاصين قال تعالى(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)

خُرُوجُ رُوحِ المُؤْمِن

وفي موضوع خروج روح المؤمن من جسده قال رسول الله(ص) :ما شبَّهْت خروج المؤمن من الدنيا إلا مثل خروج الصبي من بطن أمه من ذلك الغم والظلمة إلى روح الدنيا:
وقال(ص) : إن ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى فيقوم هو وأصحابه لا يدنو منه حتى يبدأ بالتسليم ويبشره بالجنة:
ونحن نقول ليس هذا بالأمر البعيد أو الغريب لأن المؤمن عظيم عند الله تعالى فهو عنده أعظم من الملائكة لأنه كان بإمكانه أن يرتكب المعاصي ولكنه لم يرتكبها خوفاً من الله سبحانه وتعالى.
وفي قوله تعالى(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال الصادق(ع) : أما المؤمن فما يحس بخروجها:
وأما خروج الروح من الكافر فيكفي فيها صعوبة أن يقول له ملك الموت: يأيها الفاجر الكافر تركت أولياء الله إلى أعدائه فاليوم لا يغنون عنك شيئاً:

المَوْتُ رَيْحَانَةُ المُؤْمِن

هذا العنوان ليس من اختيارنا وتأليفنا، بل هو حديث وارد عن رسول الله محمد(ص) ذكره صاحب البحار في الجزء الثاني والثمانين من بحاره، والريحانة هي الشيء الجميل الذي يحبه المرء ويرغب به، وهو مصدر الراحة والأنس والسعادة، والسؤال الذي نطرحه في المقام هو: متى يحمل الموت هذه الصفات؟ وبمعنى آخر متى يكون الموت ريحانة الإنسان؟
وهنا لا بد لنا من إثارة الأمر حيث لا يكفي أن نخبر الناس عن مصير المؤمن ومصير الكافر أو مصير العاصي، ولا يكفي أن نرغبهم بأن الموت ريحانة المؤمن، وإنما يجب علينا أن ندلهم على الطرق التي بها يصبح الموت ريحانة للإنسان.
هناك أمران يجب أن يحققهما الإنسان حتى يصبح الموت سعادة له:
الأمر الأول: وهو أن يعرف حقيقة الموت وما يأتي بعده ليستعد للمواجهة أو الإستسلام وهذا يعود إلى اختياره لكونه مخيراً في الدنيا بين الإيمان والكفر والطاعة والعصيان، وهنا نذكّر الجميع بأن القرآن الكريم دعانا مراراً إلى التعلّم والسؤال لأن ذلك هو مفتاح الخير للإنسان وباب السعادة له حيث أنه من دون علم لا يمكن له الوصول إلى السعادة.
الأمر الثاني: وهو العمل الذي به يصبح الموت هيناً وليناً فهناك أمور ذكرها لنا القرآن وحدثنا عنها النبي وآله(ص) هي التي تتكفل بجعل الموت ريحانة له، وأول تلك الأعمال الإيمان، والثاني تطبيق الإيمان، بمعنى أن يلتزم المرء بما يفرضه عليه الإيمان الحقيقي، ولا يمكن أن يكون الإيمان كاملاً إلا بولاية أهل البيت(ع) الذين جعلهم الله قادة للبشر في الدنيا والآخرة، فهم مصدر الخير كله، وهم منبع العلم وخزنته، وهم الأنوار المشرقة في ظلمات الحياة، وهم سفن النجاة التي من تخلى عنها هوى وغرق في متاهات الدنيا وهلك بعمله في يوم القيامة.
أطعِ الله في آل الرسول، فقد أوجب الله عليك طاعتهم عندما قال(أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) واعلم أيها الإنسان بأنك سوف ترى النبي وآله في عند قبض روحك وفي قبرك فإن كنت مطيعاً لله شفعوا لك وخففوا عنك، أما إذا كنت مخالفاً لله ولهم فلن ترى الرحمة أبداً.
وقد ذكر لنا أمير المؤمنين(ع) هذه الحقيقة التي يجب الإيمان بها عندما قال: يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قُبلا: فاستعد أيها المؤمن للقاء هذا الإمام العظيم فهو يحب أن يراك مطيعاً لله عز وجل.
أيها الإنسان..إذا كنت مؤمناً بربك فاعلم بأن الموت تحفة لك لأنها باب الآخرة التي كنت تسعى لها في الحياة، ولن يخلف الله وعده، فلقد وعد الذين يسعون للآخرة بالفوز العظيم، فقال تعالى(مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) وقال تعالى(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) وقال(وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)
وقال علي(ع) : ما أنفع الموت لمن أشعر الإيمان والتقوى قلبه:
وقال(ع): في الموت راحة السعداء:

لا نَعْلَمُ مِنْهُ إلا خَيْراً

قد تنطبق هذه الشهادة على الإنسان وتقع في محلها إذا كان من أهل الخير والتقوى والصلاح وصاحب يد بيضاء لعيال الله، لا يؤذيهم بقول أو فعل، ولا يصدر عنه القبيح، فإذا كان كذلك كان ممن شملتهم هذه الشهادة وأثرها، لأن لهذه الشهادة أثراً على عاقبة الإنسان إن لم يكن بسبب فعله فبسبب هذه الشهادة التي لن يخيبها الله إذا صدرت من المؤمنين، ولذلك ورد في الشريعة حول آداب الدفن أن يُكتب على ورقةٍ هذه الشهادة من أربعين مؤمناً وتوضع معه في القبر، وقد لا تنطبق هذه الشهادة عليه إذا كان ظالماً أو فاجراً أو منافقاً أو عاصياً أو كان ممن يكره الناس وجوده والعيش معه بسبب سلوكه السيء معهم، وهذا النموذج من الناس هو الأكثر انتشاراً في بقاع الأرض، وهؤلاء في المبدأ لا يستحقون الرحمة ولكننا نحن ندعو بالرحمة لكل مسلم ومسلمة لأنهم إذا ماتوا فقد أصبحوا في ذمة الله وبين يديه وقد احتاجوا إلى رحمته وهو تعالى غني عن عذابهم، ولكن هذه الرحمة غير مضمونة لأنها لم تقم على الأسس الأولية التي فرضها الله علينا، وهناك فرق بين أن تموت وأنت تعلم مصيرك وأن تموت وأنت تجهله بسبب سوء فعلك، وصحيح أننا لا نستحق كل ذلك الثواب بأعمالنا الصالحة ولكن العمل وإن كان قليلاً إلا أنه تعبير منك عن حبك لله وخوفك منه وطاعتك له، فإذا كنت ملتزماً بأوامر ربك ونواهيه فعند ذلك تقول كما قال الإمام زين العابدين(ع) في دعائه: لسنا نتكل في النجاة من عقابك على أعمالنا بل بفضلك علينا: أما إذا كنت من أهل المعصية فلا تنتظر الرحمة، لأنه كان باستطاعتك أن تطيع ربك في الحياة فاستسلمت للشيطان الرجيم واتبعت هواك فكنت مشمولاً تحت قوله تعالى(فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)
وعند ذلك لا تنفعك شهادة الشاهدين ولا شفاعة الأحباب والأهل والأصدقاء لأنك لم تمهد الطريق أمام تلك الشفاعة ولم تُبقِ لها مكاناً في ميزان الآخرة.
إعمل بكلام علي(ع) الذي قال: خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ: وكيف سيكون حالك عندما تتبدل تلك الشهادة فيك، فبدل أن يقول الناس فيك لا نعلم منه إلا خيراً فسوف يقولون: لا نعلم منه خيراً:
هناك أشخاص إذا ماتوا بكت الناس عليهم، وربما الملائكة في السماء، لأنهم بموتهم أحدثوا فراغاً هائلاً بين الناس لا يسده شيء، فتبكي الناس عليهم، ويدعون لهم بالرحمة والمغفرة، لأنهم أهلٌ لذلك نتيجةً لأعمالهم الصالحة في دار الدنيا، وهناك أشخاص إذا ماتوا أراحوا الناس من وجودهم وفجورهم وسوء أفعالهم وأخلاقهم، وإنه وإن لم يصرح الناس بذلك لقبح الشماتة إلا أنهم في قرارة أنفسهم يقولون لقد أراحنا الله من وجوده، وهذه الشهادة الباطنية لوحدها تكفي لإلقائك في العذاب، ولذ قال رسول الله(ص) : مستريح ومستراح منه، العبد المؤمن يستريح من نَصَب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب:
وقال(ص) في حديث آخر: الناس اثنان، واحد أراح وآخر استراح، فأما الذي استراح فالمؤمن إذا مات استراح من الدنيا وبلائها، وأما الذي أراح فالكافر إذا مات أراح الشجر والدواب وكثيراً من الناس:
وقد قيل له: يا رسول الله إنه مات فلان فاستراح فقال(ص) إنما استراح من غُفر له:
وقال علي(ع) : موت الأبرار راحة لأنفسهم وموت الفجار راحة للعالَم:

ضَرُورَةُ الإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ المَوْت

من عيبنا نحن المسلمين على وجه الخصوص أننا نسينا الموت وما بعده من منازل الآخرة، حيث شغلتنا هموم الحياة والسياسة والإقتصاد والأحزاب عن واجباتنا الدينية وما ينبغي أن نقوم به تجاه هذا المصير الذي هو رهن عمل الإنسان، فإذا كان عمل المرء صالحاً كانت عاقبته صالحة، وإذا كان عمله سيئاً كانت عاقبته أقبح من عمله، وهذا هو الميزان المعمول به وهو أن مغفرة الله أكبر من عمل المغفور له وعذابه أعظم من معصية العاصي.
ونسأل أنفسنا وغيرنا: لماذا ابتعدنا عن الله تعالى إلى هذا الحد ونسينا أن حياتنا تختم بالموت وأن الموت يغلق علينا باب العمل والتوبة، ولماذا لم نعد ذاكرين للموت مع أن ذكره حسن للإنسان على كل حال فهو موعظة بحد ذاته.
فقد يجيبنا أحدهم فيقول: لقد شغلني الهم والمرض وصعوبة العيش عن ذلك، وهذا خطأ كبير لا ينبغي أن يصدر من الإنسان العاقل فإن العاقل يعي بأنه مهما كثرت المتاعب وازدادات الآلام فإن الخلاص منها هو اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى فهو الذي بيده أن يغير أحوالنا وينقذنا مما نحن فيه، أما اللجوؤ إلى غيره فلن يزيدنا سوى تعباً فوق تعبناً وفقراً فوق فقرنا وذلاً على ما نحن عليه من أنواع الذل وأصنافه.
فلو رجعنا إلى نبينا الأعظم وسادات الورى من آله الطاهرين لكان ذلك خيراً لنا في الدنيا والآخرة فإن الذي يهتدي بهداهم تهون عليه مصائب الدنيا والآخرة، فمهما كانت أوضاعنا متردية وهمومنا كثيرة وظروفنا صعبة فلن تكون أصعب من ظروفهم وأوضاعهم ورغم ذلك كانوا كلما واجههم بلاء لجؤوا إلى اله تعالى ورفعوا إليه أيديهم بالدعاء لعلمهم بأنه خير ملجأ للضعفاء وخير أنيس لأهل البلاء، فإذا كنا في هذه الحياة ندعي حبهم وولايتهم صدقاً وجب علينا أن نعمل بعملهم وإلا فلسنا منهم ولا هم منا لأنهم قالوا لنا مراراً ما شيعتنا إلا من عمل بعملنا.
ولكن بعض الناس يشمئزون من ذكر الموت فإذا كانوا في مجلس يُذكر فيه الموت أو القبر أو الحساب قالوا للحاضرين غيّروا هذا الحديث فإننا لا نطيق سماعه، هم لا يطيقون سماعه لأنهم عالمون بتقصيرهم تجاه الله وخائفون من المصير الذي سوف يواجهونه فلو كانوا من أهل الإيمان لآثروا ذكر الموت على غيره لأنه خير موعظة لنا في هذه الحياة. فمن منافع ذكر الموت أنه يبعدك عن المعصية.
لقد كان أئمتنا(ع) أكثر الناس ذكراً للموت لإدراكهم بأهمية الفائدة التي تعود عليهم من ذلك، ولأجل هذا قال رسول الله(ص): أكثروا من ذكر هادم اللذات، فقيل وما هادم اللذات؟ قال: الموت، فإن أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت وأشدهم له استعداداً:
وقال(ص) : أكثروا ذكر الموت فإنه يمحّص الذنوب ويزهّد في الدنيا فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم:
ومن آثار ذكر الموت أنه يهوّنه في نظر الإنسان، ولذا قال(ص) : أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيى الله فلبه وهوّن عليه الموت:
وقال علي(ع) : أكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات وكفى بالموت واعظاً:
وقال (ع): من أكثر ذكر الموت قلّت في الدنيا رغبته:
وقال(ع): من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا بالكفاف:
وقال الصادق(ع) : أكثروا ذكر الموت فإنه ما أكثر ذكر الموت إنسان إلا زهد في الدنيا:

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى