التَّفَاوُتُ بَيْنَ قَضِيَّةٍ وَأُخْرَى
لا يمكن الشك بوجود تفاوت وتمايز بين القضايا العامة فيما بينها والقضايا الخاصة فيما بينها أيضاً، فهناك قضية عامة تهم مجموعة من الناس، وقضية عامة أخرى تهم أمة كبيرة وشعباً كثيراً، وقضية عامة لا يتعاطى الناس معها بشكل جدي.
وكذا الحال في القضايا الخاصة أيضاً إلا أن البحث هنا منصب على العامة منها لأنها موضوع بحثنا الأساسي.
ووجود هذا التفاوت جزء من طبيعة البشر، فلو نظرنا إلى التاريخ القديم والتاريخ الحديث وإلى الحاضر أيضاً لأدركنا وجود هذه الحقيقة.
ويعود السبب في هذا التفاوت إلى مجموعة من الأمور التي تشكّل مجتمعةً هذا التمايز بين قضية وأخرى.
الأمر الأول: جوهر القضية:
فإن من أهم العوامل المميزة للقضية والمسببة لإنجاحها هو أن تكون من القضايا العامة والهامة بحيث تصبح الشغل الشاغل للكثيرين، وهذا ما يحتاج إلى جهد كبير من قِبل حامل هذه القضية، فإن بإمكانه أن يرفعها إلى أعلى المستويات أو أن ينزل بها إلى الأسفل، فعندما يُبرز حاملها فحواها ويبين للناس نتائجها الإيجابية ويزرع في نفوسهم أسباباً لعشقها والإيمان بها والتضحية في سبيلها فإنه عند ذلك يكون قد هيّأ المقدمة الأولى من أسباب إنجاحها.
فإذا كان الجوهر عظيماً كانت القضية مميزة في نظر الجمهور، ويتوقف حصول ذلك على قدرة صاحب القضية في عملية إبراز جوهرها.
الأمر الثاني: حجم المنفعة منها:
هناك نوع من القضايا تأخذ شكلاً رائعاً بين الناس وتظهر على أنها من القضايا المصيرية التي تتوقف عليها مصالح أمم كبرى وشعوب كثيرة، وهذا الظهور له سببان:
الأول: تصويرها على هذا الشكل من قبل حامل لوائها الذي إن أراد أوهم الناس بأنه أعظم قضية في الوجود وإن كان واقعها غير ذلك، وهذا متوقف على حجم الدعايات لها.
الثاني: عدم فهم الناس لجوهرها مما يوهمهم بأنها في مستوى راقٍ جداً، وكثيراً ما يقع الناس في مثل هذه الأفخاخ الدعائية، وما أكثرها انتشاراً في أيامنا الحاضرة.
فإذا كانت المنفعة منها كبيرة حقيقةً كانت تلك القضية من القضايا العامة والمميَّزة في التاريخ، وهي بالتالي تستحق من أهلها كل بذل مهما كان حجمه كبيراً حيث لا خسارة مع مثل هذه القضايا مهما تنوّع البذل لها أو كثر في سبيلها.
الأمر الثالث: شخصية حامل لوائها:
تلعب شخصية صاحب القضية وأوضاعه الأخلاقية والدينية والإنسانية دوراً هاماً في إنجاحها وفرضِ الإيمان بها والبذل في سبيلها، حيث أن الناس أول ما ينظرون إليه في القضية هو صاحبها وليس نفس القضية، فإذا كانت سمعته مشينة وتاريخه سيئاً رفضوا قضيته من الأساس وإن كانت بحد ذاتها عظيمة، وهذا سلوك ينبع من طبيعة البشر، وهو أمر عادي جداً لأن من حق الناس أن يحكموا على القضية من خلال الحكم على صاحبها.
الأمر الرابع: الدقة في التخطيط لها:
لا يمكن أن تكون القضية بالمستوى المطلوب إلا إذا وُضع لها خطة محكمة دقيقة تمنع عنها البأس من قبل المحاربين لها، وتصونها من الهجمات الهمجية التي لا بد أن تعترضها كالعادة، حيث تعلّمنا من التاريخ أن نعد العدة أمام أية قضية عادلة نعمل بها لنرد كيد الكائدين من أصحاب المطامع الشخصية.
فدراسة وضع القضية والتأسيس الدقيق لها أمر مطلوب بإلحاح لأنه يشكّل أحد العوامل المساعدة على إنجاحها واستمرارها عبر إيمان الناس بها وبذلهم الكثير في سبيلها.
الأمر الخامس: متى وأين وكيف يبدأ العمل لها:
تارة يؤسس الإنسان لقضية يكون الدافع له إنشاء أمر نافع للأمة، وتارة أخرى يفرض عليه الواقع ذلك، وتكون الحاجة إليها ملحة عندما يكون هناك طرف آخر منازع يعمل على ظلم الناس أو حرمانهم من حقوقهم أو إلقاؤهم في التهلكة أو أنه يريد المس بعقائدهم وكراماتهم وما شاكل ذلك.
وبناءاً على ذلك يجب العمل للقضية من لحظة الشعور بالخطر على الأمة والدين وغيرهما من قيم الإنسان ومبادئه.
الأمر السادس: توفير المقدمات اللازمة:
لا يمكن لأي عمل يسعى فاعله إلى إنجاحه أن ينجح ما لم يهيئ له المقدمات اللازمة التي تُعتبر أدوات تأسيسه وتماشيه مع الواقع، فإذا قصّر الفاعل بالمقدمات فإنه لن يُكتب له النجاح مهما كان قوياً وذكياً وحذقاً.
وهذه المقدمات قد تكون أفكاراً أو خططاً أو رجالاً أو سلاحاً أو مالاً أو غير ذلك مما يقتضيه الحال، وإن كل ما يقتضيح الحال يجب أن يوفّر.
الأمر السابع: الحفاظ على استمرارها بعد إنجاحها:
لعل النظر إلى خلفيات القضية وآثارها أهم بمراتب من النظر إلى حاضرها، فما لم يُكتب لها الإستمرار فلا تكون أهلاً لأن يُعمل بها من الأساس، فكما يخطط لتأسيسها وبوفر لها المقدمات اللازمة فيجب عليه أن يضع في مقدماته ما تستمر به وإلا فلا قيمة لقضيته وإن كان ناجحة ومثمرة.
الأمر الثامن: كيفية إقناع الناس بأهميتها:
مهما كان فحوى القضية عظيماً ومفيداً فما لم يستطع صاحبها أن يُقنع الناس بها فإنها لن تحمل له أية منفعة بل سوف تتجرد من جميع معانيها.
مُقَارَنَةٌ بَيْنَ هَذِهِ الأُمُوْرِ وَقَضِيَّةِ الإِمَامِ الحُسَيْن(ع)
من خلال ما ذكرناه حول الأمور الثمانية المذكورة يظهر لنا أن انعدام واحد منها يُحدث خللاً كبيراً في هيكل القضية مما يطيع الفرصة أمام العوامل الأخرى للإطاحة بها.
ولو أننا قمنا بإجراء مقارنة بين هذه الأمور وثورة الإمام الحسين(ع) لوجدنا أنها اشتملت عليها وزيادة.
أما بالنسبة للأمر الأول: فإن جوهر الثورة الحسينية كان عظيماً جداً لأن جوهرها هو الإسلام وحقوق الإنسان والحياة السعيدة وكل صفة من صفات الخير، فلقد اشتملت هذه الثورة على عناوين كثيرة، كان منها الجهاد والصدق والإخلاص والتضحية والإيثار والإهتمام بأمور المسلمين خاصة وقضايا الناس عامة، وفي الحقيقة إننا لا نستطيع أن نحصي جواهر هذه الثورة بسبب كثرتها.
وإن نفس جوهرها من شأنها أن يجذب الناس نحوها حتى من غير المسلمين، وهذا ما رأيناه عبر التاريخ حيث أن العديد من أهل الفكر والوعي من غير المسلمين اتخذوا من ثورة الإمام الحسين منطلقاً لأنفسهم في هذه الحياة، واللافت في الأمر أن هؤلاء الذين اقتدوا بالحسين من غير المسلمين قد حلّقوا في سماء التاريخ وأضحوا من عظمائه وممن يستشهد الناس بكلامهم وآرائهم.
ومن هؤلاء الذين دوّى صدى كلامهم حول الحسين أرجاء العالَم المهاتما غاندي الزعيم الهندي الكبير الذي أعلن على الناس قوله الشهير: تعلمت من الإمام الحسين بن علي كيف أكون مظلوماً فأنتصر:
لقد أدرك غاندي هذه الحقيقة وهو من غير أهل الكتاب فضلاً عن كونه ليس مسلماً لأنه نظر إلى جوهر الأمر، ولم يحكم على الظاهر ولم يأخذ بالدعايات الكاذبة فوصل إلى هذه النتيجة الرائعة التي أصبحت مضرباً للمثل في عصرنا الحاضر، وهناك الكثير من أهل العقل النيّر قد رأوا ما رآه غاندي في ثورة كربلاء حتى أصبحوا من أهم المدافعين عن هذه القضية، ومن أبرز هؤلاء في عصرنا بولس سلامة صاحب الملحمة الحسينية الكبرى، والأستاذ الفذ جورج جرداق الذي كتب عن الحسين ما لم يكتبه غيره من المسلمين.
ولكي ندرك نحن ما أدركه هؤلاء الكبار وجب علينا أن ننظر إلى كربلاء بعين القلب والروح وأنوار العقول العاصمة من الخطأ.
لقد كانت نظرة الناس إلى ثورة كربلاء متفاوتة بين شخص وآخر، فبعضهم نظر إليها على أنها معركة مؤلَّفة من طرفين يقتتلان وأن أحدهما عدده أكبر وأنها انتهت بهزيمة فرقة قُطّعت أجسادهم وسالت دماؤهم على رمضاء تلك الصحراء، وبعضهم نظر إليها بمنظار آخر، وهو النظر إلى الأهداف، وبعضهم نظر إلى النتائج، ولكل نظرة من هذه النظرات نتيجة، وأصح نتيجة من تلك النتائج هي النتيجة الناتجة عن النظر إلى الأهداف والنتائج، ولا أعني بالنتائج النتائج العسكرية بل النتائج الدينية والإنسانية والأخلاقية، ولم نعهد ثورة أنتجت من ذلك ما أنتجته ثورة كربلاء عبر تاريخ البشر.
وأما بالنسبة للأمر الثاني: وهو حجم المنفعة من الثورة: وإننا من خلال ما ذكرنا قبل قليل اتضح لدينا حجم المنفعة الهائلة التي عادت على الأمة من خلال الثورة الكربلائية، لأن ما عاد منها لم يكن آنياً أو مؤقتاً وإنما كان بمستوى الإسلام كله ماضيه وحاضره ومستقبله، وقد يظن البعض بأننا نغالي بذلك أو نبالغ بعض الشيء، ومن حق أي إنسان أن يوجّه مثل هذا الإتهام، ولكنه إذا نظر إلى تلك الثورة بعين البصيرة فسوف يدرك بأن ما ذكرناه عن حجم منفعتها ليس هو كل شيء، فلقد ذكرنا ما يمكن أن تحتمله العقول فقط، وليس في كلامنا أي نوع من أنواع الغلو المرفوض أو التعصب الأعمى المذمومين من قِبلنا.
آتونا بثورة استغرقت ساعات من نهار وبعدد مقاتلين لم يتجاوز المئة شخص قد حركت ضمائر العالَم بأسره في وقت وجيز للغاية، بل آتونا بثورة نتجت عنها ثورات لا تُعد ولا تُحصى، بل آتونا بثورة حملت عشرات الأهداف الكبرى وانبثق عنها عشرات النتائج العظمى.
وأما بالنسبة للأمر الثالث: وهو شخصية حامل لواء القضية: فلقد نظر الحسينيون إلى شخصية قائدهم من المنظار الصحيح الذي لا كذب فيه ولا مبالغة ولا زيادة أو نقصان، حيث علموا بأنه القائد الكبير الذي أطاع الله ورسوله ولم يشذ لحظة عن الصراط المستقيم، وأنه الإمام المعصوم الذي شملته آية التطهير وغيرها من الآيات الحاكية عن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.
ويعتبر هذا الإمام الكبير من عظماء التاريخ الذين قدموا المصالح العامة على أية مصلحة خاصة ولم يكن للحسين في حياته أية مصلحة ذاتية لأنه وهب حياته كلها في سبيل الله والأمة.
إننا كحسينيين ننظر إلى هذا العظيم من خلال سيرته العطرة وجهاده الكبير وبذله نفسه في سبيل ديننا.
إن الحسين(ع) هو خامس أهل الكساء الذين خلق الله الوجود لأجلهم، وهو حامل لواء الدين وناصره، وهو الذي قام بعمل عظيم أدهش به العقول لكثرة المنافع التي عادت على الناس سببه، وقد حصل ذلك في وقت كان جميع الناس مشغولين بمعيشتهم وكسب المال وإن كان ذلك عن طريق الذل وعلى حساب الدين والكرامات.
إن نظرتنا للإمام الحسين(ع) جليلة وكبيرة لأننا نعتقد كمسلمين بأن الإسلام لم يحفظ إلا بتلك الثورة التي قادها في كربلاء، وأن المنفعة التي عادت علينا لا تقاس بكنوز الأرض لأنه قدّم في سبيلها ما هو أغلى من الكنوز والجواهر، بل وما هو أغلى من الشمس والقمر والنجوم والكواكب وأغلى من هذه الأرض وما فيها.
ونحن كحسينيين نقر بعجزنا عن التعبير حول تلك الشخصية النادرة، ونظن بأن نفس هذا العجز أوضح دليل على عظمة النظرة التي نطل من خلالها إلى هذا الإمام الكبير.
ورغم تعظيمنا للحسين واحتلاله المرتبة العالية في نفوسنا، ورغم كونه شفيعنا في يوم الحساب فإننا لا نرضى بالغلو فيه لأن الغلو يزيد الأمور تعقيداً ويعرقل الطريق أمام الأطراف المختلفة في شأنه(ع) لأن السبيل الأنفع للإقناع هو الحق كما هو من دون زيادة أو نقصان.
إن نظرتنا للإمام أبي عبد الله(ع) مقتبسة من نظرة النبي الأكرم(ص) له، وقد نشأ هذا التعظيم من خلال ما ورد عن النبي(ص) في شأن الحسين.
لقد كان تاريخ الرسول(ص) شاهداً كبيراً على شأن الإمام الحسين(ع) لأن كل ما صدر من النبي في حق سبطه كان دليلاً على عظمة شأنه وسمو مكانته، كما كان كاشفاً عن شخصيته الباهرة.
لقد ورد عن النبي في حق الحسين كثير من المؤشرات الدالة على ذلك، ولم يكن كلامه(ص) صادراً عن عاطفة نسبية وإنما كان الأمر أعمق من ذلك بكثير، لأن الأهمية التي برزت من رسول الله في حق سبطه الحسين كشفت عن سر عميق وخطير في شأن هذا الغلام الذي طالما أعطانا الرسول دروساً حول شخصيته ودوره في المستقبل، وما ورد في حق الحسين كثير، ولكننا اخترنا الوقوف على بعض تلك المحطات الكاشفة عن دور الحسين في تاريخ الإسلام، وسوف نذكر من تلك الإشارات الكبيرة خمسة أمور:
أولاً: الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة
ثانياً:حسين مني وأنا من حسين
ثالثاً:أحب الله من أحب حسيناً:
رابعاً:الحسن والحسين إمامان
خامساً:الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة:
فإذا كان حامل لواء القضية وصاحب الثورة بهذا المستوى من الشأن الرفيع عند الله تعالى وعند رسول الله(ص) فإنه لا شك بأن ثورته يجب أن تكون أعظم ثورة في العالم كله من جميع جهاتها.
وأما بالنسبة للأمر الرابع: وهو الدقة في التخطيط.
ونحن نقول: لو لم تكن الخطة محكمة في ثورة كربلاء لما أثمرت كل تلك الثمار في أقصر وقت ممكن.
وأما بالنسبة للأمر الخامس: متى وأين وكيف يبدأ العمل لها:
إن الكلام حول هذه النقطة بالذات يحتاج إلى تفصيل واسع بسبب تشعّب الموضوع، وهذا ما يحتم علينا تخصيص بحث مستقل له، ولكننا نتكلم هنا باختصار فنقول: إن ثورة كربلاء تميزت بشخصيات العاملين والمخططين لها وبالفترة الزمنية الطويلة التي استغرقها هذا التخطيط، فإن أول من عمل لقضية الإمام الحسين هو النبي الأعظم محمد(ص) وبعده أمير المؤمنين(ع) وبعده الإمام الحسن(ع) ثم جاء دور التنفيذ على عهد خامس أصحاب الكساء، ومن هنا ندرك بأن ثورة كربلاء مميَّزة بجميع تفاصيلها.
وأما بالنسبة للأمر السادس: فلقد وفّر الإمام الحسين وقبله جده وأبوه وأخوه جميع المقدمات اللازمة لإنجاحها وخصوصاً صلح الإمام الحسن(ع) الذي اعتُبر تقديماً مباشراً لها، ولم يكن هناك أي تقصير في المقدمات ولأجل ذلك أعطت تلك الثمار وآتت أُكُلها كل حين.
وأما بالنسبة للأمر السابع: وهو مسألة الحفاظ على استمرارها: والكلام هنا يجب أن يقع في جهتين:
الجهة الأولى: وهي أن مسألة استمرارها كانت ملحوظة يوم التخطيط لها فإن الإمام(ع) قد وضع هذا البند في سجلها من الأساس.
الجهة الثانية: أن عملية استمرارها تمت على يد الإمام زين العابدين والسيدة زينب(ع) ومن تبعهما من المؤمنين، ولا شك بأن هذه الجهة أيضاً كانت ملحوظة يوم التخطيط للثورة والتقديم لها.
وأما بالنسبة للأمر الثامن: فإن الإمام الحسين(ع) عمل جاهداً على إقناع الناس بثورته، وكانوا بينهم وبين أنفسهم موقنين بها وبما سوف ينتج عنها غير أنهم استحبوا العمى على الهدى وباعوا الآخرة بالأولى وجعلوا من نفوسهم جنوداً طائعين للشيطان الرجيم.
وبعد هذا الكلام الطويل عن الثورة الكربلائية ندرك الجواب على السؤال المطروح في أول البحث: لماذا ضحى الإمام الحسين(ع) بنفسه في سبيل الثورة؟

