
هَلْ عَرَضَ يَزِيْدٌ فِكْرَةَ الصُّلْحِ على الإِمَامِ الحُسَيْن(ع)
لم يذكر التاريخ شيئاً كهذا، ولم تنص الكتب التي تبادلت بينهما على إجراء اتفاقية بين الطرفين لأن المسعى الذي كان يعمل له يزيد لا يتلائم مع فكرة الصلح مهما كانت نوعية بنوده لأن نفس إجراء اتفاقية بينهما سوف يمنع يزيداً من تنفيذ خطته القاضية بقتل الإمام(ع).
ولهذا لم يأت يزيد على ذكر الصلح كيلا يجبره أحد عليه لأن همه الأوحد كان إخلاء الساحة من المنازع له، ولم يكن في ذلك الوقت ينازعه على سلطانه أحد سوى الإمام.
ولو كان ثمة خطة لدى يزيد ناجحة بعد إجراء اتفاقية الصلح كما فعل أبوه معاوية مع الإمام الحسن للجأ إليه ولكنه كان يفتقر إلى الخطط الأخرى مما دفع به إلى الإصرار على رأيه وقراره.
وحتى لو أنه اقترح الصلح على الإمام الحسين لرفض الإمام ذلك لأن الظروف في عهد الإمام الحسين ويزيد كانت مختلفة عن الظروف التي كانت حاكمة في زمن الإمام الحسن(ع) ومعاوية بن أبي سفيان، حيث كانت الظروف العسكرية لدى الإمام الحسن مهيَّأة ثم أصبحت بعد ذلك شبه مهيأة وذلك بعد أن ألقى معاوية المال في صفوف جيش الحسن ففكك له جيشه، ومن هنا يظهر لنا الفرق بين العهدين، ثم إن معاوية بن أبي سفيان وإن كان خطره على الأمة أكبر من خطر ولده عليها إلا أنه كان يتمتع بشيء من التماسك من أجل الرأي العام على خلاف ولده يزيد المتهور.
فلم يكن وضع الأمة الإسلامية في زمن معاوية بأفضل مما كانت عليه في زمن يزيد، غير أن بعض العوامل الخارجية هي التي حكمت على الظروف بأن يجري ما جرى في ذلك العهد، وكذا فإن ظروف الإمام الحسين(ع) في زمن يزيد لم تكن لتسمح له بإجراء اتفاقية بينه وبين يزيد حيث أنه كان سيُفهم من تلك الإتفاقية معنى المبايعة، وفي نفس الوقت فإن التعامل سوف يتم مع شخص لا يحترم العهود والمواثيق ولا يقدّر عواقب الأمور.
فلو صالح الإمام الحسين يزيداً في تلك المرحلة لكان كما لو بايعه، وهذا ما منع الإمام أيضاً من الإتيان على ذكر الصلح.
لَمْ يُصَالِحْ وَلَمْ يُبَايِعْ وقَدْ قُتِلَ
لو صالح لقُتل، ولو بايع لقُتل، ولو لم يقم بالثورة لقُتل أيضاً، وإنه لم يصالح ولم يبايع وقد قام بالثورة، وها هو قد قُتل، فما هو تفسير هذا السلوك الذي تحار به بعض العقول؟
لبيان ذلك نقول: قبل أن نطرح أي سؤال أو نأتي بأية حركة أو دهشة أو تعجب يجب أن ننظر إلى الإنسان المعني بكلامنا لنرى هل هو إنسان عادي حتى تحكم عليه بالأنظمة الخاصة بنا أو أنه إنسان فوق العادة، فإذا كان إنساناً عادياً حقَّ لنا تطبيق القوانين الدنيوية على سلوكياته وتصرفاته وحركاته وسكناته وقراراته، ولكن بما أن المعني بكلامنا إنسان عظيم وشخصية مميزة ورجل عصمه الله تعالى عن الخطأ كان لا بد من حمل كل تصرفاته على محمل الصواب وإن كانت في نظرنا غريبة أو مستهجَنة.
إن الإمام الحسين(ع) كان مدركاً لكل خطوة يقوم بها ولكل ما يدور حوله من جميع الأطراف، والفرق بيننا وبين المعصوم هو أن المعصوم ينظر بعين الله تعالى ولا يفعل غير الصواب لأنه يرى العاقبة وكأنها موجودة أمامه فعلاً.
لقد كان(ع) يعلم بأنه لو بايع أو صالح أو لم يقم بالثورة فإنه سوف يُقتل على يد الأجهزة اليزيدية الحاقدة، وفي نفس الوقت كان عنده قضية عالمية عامة طريقها التحرك العسكري حيث انحصرت الثمرة آنذاك بالعمل العسكري ليحرك من خلاله مشاعر الناس الذين لم يعُد يعني لهم الجهاد شيئاً مع أنه باب عظيم فتحه الله عز وجل لعباده حتى يؤسسوا بها لحياة كريمة وعزيزة بدلاً من الذل الناجم عن الخوف.
لقد كان(ع) موقناً بأن الوسيلة الوحيدة لتحقيق أهدافه السامية والتي كان يسعى إلى جعلها دائمة الأثر عبر الحياة هي القيام بالثورة رغم قلة الناصر والمعين، ولقد حاول عبر الكتب التي أرسلها إلى مدن كبرى وأعداد هائلة أن يلقي الحجة عليهم ويحرك بداخلهم نخوة العرب أولاً ونخوة الدين ثانياً غير أنه ووجه بالرفض من قبلهم حيث زرع الجهاز اليزيدي الرعب في قلوبهم رغم أنهم أقوى من يزيد وجيشه، فلقد كان باستطاعتهم أن يلغوا الحكم اليزيدي من الوجود بوقفة جريئة واحدة، ولكنهم آثروا العيش بذلٍ على الحياة العزيزة فوصل بهم الأمر إلى ما وصل إليه، فلقد كان أتباع يزيد بعد قتلهم للحسين يفعلون ما يشاؤون، كانوا يسرقون ويقتلون ويظلمون متى وأين شاؤوا دون أن يردهم أحد، وبقي الأمر كذلك إلى أن أتاهم المختار فهز عروشهم وزلزل حكمهم وقضى عليهم الواحد تلو الآخر.
ونحن نؤمن بأن الإمام(ع) كان يعرف ذلك بالتفصيل، ولأجل هذا ضحى بدمه ودماء أولاده وأصحابه في سبيل تلك الثورة التي كانت ناجحة في نظره وفي الواقع من الأساس، فلم يُعِرْ اهتماماً لما سيحدث من سفك للدماء وإزهاق للأرواح حيث انحصر الأمر آنذاك بالتضحية الغالية التي كانت وما تزال ثمن الإنتصارات في العالَم كله.
ومن هنا نجد بأن الأمم التي لا تبذل الغالي في سبيل قضاياها الكبرى كيف أنها أسيرة للدول العظمى وللجهات القوية، وفي الوقت عينه نجد أمة صغيرة جداً لها شأنها الكبير بين باقي الأمم، ويعود الفضل في ذلك إلى حجم التضحيات التي تقدمها الأمة.
لقد كان الإمام الحسين(ع) على معرفة تامة بما سوف يجري بعد ثورته المجيدة، فهو فتح الباب أمام الناس ليثوروا ضد الظالم مهما كان قوياً، وقد لمس الناس ثمار ذلك بعد فترة وجيزة من معركة كربلاء حيث كان بعض الذين كانوا جبناء عند الثورة كيف وقفوا في وجوه الطغاة من دون فزع أو جزع وكيف كان لتحركاتهم تلك الأثر البالغ في زوال النهج اليزيدي الحاقد.
وهذا جزء صغير مما أنتجته ثورة كربلاء رغم قلة عدد الثائرين العطشى الذين لم يكن لديهم من السلاح سوى ما كان بدائياً في ذلك الوقت.
هَلْ شَعَرَ يَزِيْد بِالنَّدَمِ بَعْدَ ارتِكَابِ مَجْزَرَةِ كَرْبَلاء؟
لا يمكن لمثل هذا المجرم أن يأسف على جريمة ارتكبها في حياته، ولا يمكن لمثل هذا الفاسق أن يندم على شيء قام به مما يستحق الندم فعلاً، فلقد فعل يزيد ما فعل عن سابق إصرار وتصميم، وتفنّن في ظلم آل محمد بداعي التشفي والإنتقام، وقد كان صرّح مراراً بمدى عداوته لآل الرسول(ص) وقد جاء الوقت المناسب ليأخذ بالثأر من رسول الله انتقاماً لجده أبي سفيان وأبيه معاوية بل من أجل جميع أجداده الخبثاء.
وبعد أن انتقم وجزّر بآل الرسول بطريقة بشعة للغاية وسبى النساء والأطفال ونكّل بهن وطاف بهن رجاله على ظهور النياق في الأزقة والساحات حاول أن يتمظهر بمظهر آخر فراح يعامل النساء معاملة حسنة بعد أن أفقدهن الأزواج والأخوة والأولاد.
ولكن هذه السياسة الكاذبة باتت معلومة منذ ذلك الزمان فلم يمر هذا المخطط على كثير من الناس وخصوصاً على الهاشميين.
والنتيجة أنه حاول بتلك المعاملة الحسنة ظاهراً أن يمتص شيئاً من غضب الهاشميين وبعض الموالين ولكن خطته تلك باءت بالفشل حيث ظهرت نواياه الحاقدة جلية لدى القاصي والداني.
ولم تشفع له تلك المعاملة بشيء لأن الجريمة التي ارتكبها لم تكن في حق شخص أو مجموعة من الناس وإنما كانت في حق الرسول ورسالته السماوية بالدرجة الأولى، وبحق الأمة بالدرجة الثانية.
وهذا الكلام كما يُقصد به يزيد بن معاوية فإنه يُقصد به غيره ممن عاونوه على تنفيذ أحقاده، فيزيد إنسان خبيث، وكذا الذين سلكوا نهجه، ونحن عندما نخصص الكلام بيزيد فلأنه المسؤول والحاكم والآمر، ولكن كلامنا يشمل أيضاً عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن والثلاثين ألفاً الذين شاركوا في تلك الجريمة على الأرض، وكذا كل من سمع بذلك ولم ينصر نهج الإسلام.
فيزيد لعين وخبيث، ولكن يوجد من هو ألعن منه وأخبث، وهذه المجموعة الحاقدة شكّلت نهجاً عبر التاريخ في مقابل نهج الحق، وهم مستمرون حتى يومن الحاضر، ومنهم كل الذين شابه سلوكهم سلوك يزيد، ومنهم أيضاً الذين يضعون علامات على أبواب حاراتهم في بعض الدول العربية من باب التباهي بأن أجدادهم هم الذين طحنوا عظام صدر الإمام الحسين(ع).



