محاضرات

التخيير بين الباقي والزائل

بقلم: الشيخ علي فقيه

التخيير بين الباقي والزائل

لو خُيِّر العاقل بين أحجار باقية وماسات زائلة لاختار الباقي وإن كان زهيداً على الزائل مهما كان ثميناً، فلقد خُيّر الإمام الحسين(ع) بين حياة رغيدة زائلة وموت عزيز تعقبه حياة عظيمة خالدة، أو بمعى أوضح: فلقد خُيّر الإمام بين رخيص زائل وثمين باق، فإذا كان الرخيص الباقي أفضل من الثمين الزائل فكيف بالأمر إذا كان الباقي ثميناً والزائل رخيصاً؟
وإذا كان الإنسان العاقل يختار الزهيد الباقي فلا شك بأنه سوف يختار الثمين الباقي بشكل أولى وإلا فلو فعل غير ذلك لما كان من العقلاء.

التخيير بين الحياة والموت

ولو خُيّر الإنسان بين الحياة والموت من دون ملاحظة كون الموت عزيزاً والحياة ذليلة أو العكس فإنه لا شك سوف يختار الحياة كيلا يلقي بنفسه إلى التهلكة، فإذا كان الموت رخيصاً أو لم يكن له معنى كانت الحياة حينئذ أفضل.

التخيير بين الموت العزيز والموت الذليل

عندما وضع يزيد بن معاوية الإمام الحسين(ع) في وضع حرج وخيّره بين أمرين كان أحلاهما مراً، فلم يكن أمام الإمام الحسين المعصوم إلا أن يفعل الصواب كعادته لأنه يدرك عواقب الأمور من دون أي تكلّف أو عناء لأن الأمر حاضر عنده.
والتخيير الذي أعلنه يزيد ابن معاوية ظاهره أنه تخيير بين الحياة والموت، إلا أن معناه الحقيقي في نظر الإمام الحسين(ع) هو تخيير بين موت عزيز تعقبه حياة كريمة له وللأمة والدين، وبين موت رخيص يضع الأمة في مأزق عميق وخطير لن يُكتب لها التخلص منه بعد ذلك.
فلقد أعلن يزيد على الملأ أنه خيّر الحسين بين الموت أو البيعة، والحسين هو الذي اختار الموت لنفسه عندما امتنع عن البيعة.
وقد حكم الناس على الإمام الحسين قبل أن يقرؤوا الخلفيات وينظروا إلى النوايا المبيّتة عند يزيد من خلال وضع الإمام الحسين في تلك الزاوية الضيقة، فبعضهم استنكر على الإمام امتناعه عن البيعة خوفاً على حياته، والبعض الآخر استنكروا ذلك دعماً منهم لموقف يزيد.
لقد أراد يزيد من خلال هذا التخيير اللعين أن يضع الإمام في حالة من الحرج الشديد وهو يعلم ردّه المسبق، ولكنه أراد أن يبرر جريمته عبر هذا التخيير الحاقد الذي كان الجواب عليه معلوماً قبل طرحه.
ولعل الذين تسرعوا في الحكم على الإمام لم يدركوا عواقب الأمر ولم يلحظوا فحوى تلك المؤامرة الشيطانية التي كان لها خلفية سيئة.
ولعل كثيراً من الذين تسرعوا في الحكم على الإمام لم يلحظوا في قرارة أنفسهم أنه الإمام المعصوم والخليفة المنصوب من قبل الله تعالى وأن تصرفاته تختلف كثيراً عن تصرفات الناس العاديين، فمبايعة الأمة كلها ليزيد في كفة، ومبايعة الإمام له في كفة راجحة.
وهؤلاء سألوا الإمام عن امتناعه ذلك، ولكنهم لم يسألوا يزيداً عن سبب طرحه لهذا الطلب، وهذا ظلم منهم للإمام(ع).
والمفروض هو أن نسأل المبادر أولاً ثم نعاود السؤال على الطرف الآخر، لأن المبادر يملك الجواب حيث لا يمكن له أن يبادر بشيء إلا بعد دراسة ذلك الشيء.
وهناك العديد من التساؤلات تُطرح حول هذا الموضوع، ولكن لكي نفهم الجواب الشافي كان لا بد من طرح مجموعة من العناوين الخاصة بهذا الشأن ونصل بعدها إلى الجواب.

مَا مَعْنَى المُبَايَعَة؟

من خلال معرفتنا لمعنى المبايعة ندرك السبب في امتناع الإمام الحسين عنها.
إن معنى المبايعة ليزيد بن معاوية هي الإعتراف بشرعية وجوده كخليفة والموافقة على كل جرائمه وتجاوزاته التي تجاوزت جميع الحدود الشرعية والمنطقية.
ويزداد أمرها سوءاً عندما يكون المبايع للخليفة المزيَّف هو الخليفة الشرعي الذي كان مستعداً لأن يُقتل ألف ألف مرة هو وأولاده وأصحابه والأمة كلها قبل أن يعلن البيعة لهذا الطاغي الذي اشتهر بشرب الخمر واللعب بالقمار وبجميع أنواع الفسق والفجور التي لا تليق بالإنسان العادي الساقط فضلاً عن الذي يدّعي الخلافة على المسلمين.
فمعنى مبايعة الإمام الحسين(ع) ليزيد هو القضاء على الإسلام بما يمثّله من تعاليم ومعتقدات وأحكام وشريحة كبرى من الناس.
ولم يكن يزيد بن معاوية غافلاً عن هذه الحقيقة بل إنه بسبب معرفته لآثارها فقد ألح بالطلب وخيّر الإمام بينها وبين القتل لأنه يدرك النتائج السلبية التي سوف تنعكس من خلال البيعة على الإسلام والمسلمين وخصوصاً على سمعة بيت النبوّة والإمامة.

هل كان يزيد ذكياً؟

عندما نتهم يزيداً بالغباء أو الجهل أو أنه دائماً يكون في حالة من اللاوعي بسبب شرب الخمر فإننا بذلك وبطريق غير مباشر ولا متعَمَّد نبرّر له الكثير من جرائمه الدينية والأخلاقية والإنسانية، فلقد حاول بعضهم أن يصف يزيد بن معاوية بأنه كذلك وذلك من باب تحقيره والحط من شأنه أكثر، وقد غفل هذا الواصف عن الجانب السلبي لهذا الوصف وما يمكن أن يقدّم من خدمات ليزيد.
فيزيد وإن لم يكن إنساناً واعياً أو ذكياً أو حذقاً إلا أنه كان له أذناب يتمتعون بشيء من الذكاء والدعاء ورسم الخطط ودراسة المشاريع الناجحة.
فهناك قرارات كان يتخذها يزيد بنفسه من دون أن يرجع إلى مجلس شورته، وذلك إذا رأى بأن مصلحته تكمن خلف الإسراع باتخاذ القرار من دون عقد جلسة طارئة لمناقشته.
وهناك قرارات كانت أكبر من مستواه وأوسع من دائرة تفكيره والتي لم يكن يدرك مدى المصلحة فيها لحكمه وعرشه، وهي القرارات التي كان يشاور بها مجلسه المؤلَّف من لعناء العرب وطغاة أهل العصر.
وأنا شخصياً أعتقد بأن القرار القاضي بتخيير الإمام الحسين(ع) بين البيعة أو القتل لم يكن من تخطيط يزيد وإنما كان من تخطيط شرار زبانيته الذين أدركوا جوهر الأمر وعلموا بأنه الطريقة الوحيد التي تخلصهم من وجود الإمام الذي كان يشكّل لهم أكبر عقبة في تاريخه حكمهم الظالم.
ولذا فإنني أقول: لم يكن يزيد بن معاوية غبياً أو مجنوناً بل كان أحمقاً ومتسرعاً ومتهوراً في اتخاذ القرار وإدارة شؤون البلاد، وكان يعمل دائماً على إشباع شهواته ونزواته مهما كانت الكلفة كبيرة لدى الأمة.

لِمَاذَا لَمْ يُبَايِعْ يَزِيْداً ويُؤَسّس للثّوْرَة فِيْ وَقْتٍ وَاحِدٍ

هناك العديد من التساؤلات تُطرَحُ عادة أمام أي حدث من الأحداث الهامة في التاريخ، وقد عرف الناس السبب الأبرز في امتناع الإمام الحسين(ع) عن البيعة ليزيد نظراً لأخطارها المصيرية على الدين والأمة.
ولا شك بأنه بعد معركة كربلاء نشأت مجموعة كبيرة من التساؤلات، منها بدافع الشفقة، ومنها بدافع الصدمة والإستهجان، ومنها بدافع التشفّي والتبرير لفعلة يزيد، ولم يبق شيء منها خفياً على ذوي العقول، فقد عمِل أصحاب الضمائر الحية والأقلام الحرة لم يتركوا إشكالاً إلا ووضعوا له الحلول المناسبة ولا سؤالاً إلا وأجابوا عليه.
أما بالنسبة للسؤال المطروح هنا فهو يصلح طرحه في الحالات العادية فيما إذا كان يتعلق بأمر شخص، وفيما إذا كان أحد الطرفين أو كلاهما مخادعاً، ولا شك بأن يزيداً كان يخدع الإمام الحسين بذلك الطرح أو التخيير، والعبرة هنا ليست في موضوع الخداع حيث تعلق الأمر بنفس تفوّه الإمام(ع) بلفظ المبايعة لأن المطلوب من طرف يزيد لم يكن سوى كلمة تصدر عن الحسين فقط.
ولو فرضنا أن الحسين وافق على ذلك وكان يخطط للثورة في نفس الوقت فإن ثورته سوف تفشل لا محال لأن نطقه بلفظ المبايعة سوف يحول بينه وبين قلوب الناس بغض النظر عن خلفيات أهدافه وبغض النظر عن كونه أخبر الناس بالغاية من ذلك أم لم يخبرهم.
هذا بالإضافة إلى أن الظروف التي كانت حاكمة في ذلك الوقت لم تكن لتسمح بمثل هذا التخطيط، ولذا كان لا بد للإمام(ع) في تلك المرحلة أن يتعامل مع الأمر بغاية الشفافية مع المحافظة على السريّة طبعاً.
فلو كان الإمام(ع) حاضراً وسألناه بهذا السؤال لأجاب بما يتلاءم مع أوضاعه كخليفة للمسلمين لا يسمح له موقعه بفعل أي شيء مشابه لفحوى هذا السؤال.
وعلى فرض أن الحسين(ع) نطق بكلمة توحي بالمبايعة لانقض عليه أعوان يزيد بلحظة وقتلوه لأن موضوع التخيير بين المبايعة أو القتل ما هو سوى وسيلة دفاعية ليزيد لأنه كان مصمماً على قتل الإمام سواء بايعه أم لم يبايعه، ولكنه كان يظن بأن الحسين سوف يخشاه ويبايعه ثم يقتله، وبهذه الطريقة يكون يزيد قد قضى على روح الحسين ونهجه القويم بل على كل ما كان يمثّله(ع).

الفَرْقُ بَيْنَ المُبَايَعَةِ والصُّلْح

الصلح عبارة عن إجراء اتفاقية هدنة بين طرفين تقوم على مجموعة من الشروط التي يتفق عليه الطرفان ويوقعانها فيما بينهما، وأما المبايعة فهي الإذعان والإستسلام وإمضاء ما يقوم به الشخص المبايَع، وقد حاول كثير من الناس عبر التاريخ أن يخلطوا بين هذين المفهومين المتباينين نوعاً ما بهدف زعزعة الثقة بالإمام الحسين(ع) وأنه تصرّف على خلاف ما كان يقوم به جده وأبوه وأخوه، وما ذلك سوى خدعة من خدعهم المعهودة.

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى