
الإِحْتِضَارُ
ما أشد تلك اللحظات، وما أصعب ذلك الموقف الرهيب، عندما يكون المرء ملقى على فراشه بين أهله وهو يتأهب للفراق بين لحظة ولحظة، فيرى عندها ما لم يره من قبل، ولكنه لا يستطيع أن يعبّر عما يراه حيث حُجب ما يراه عن غيره، وما يراه المحتضر سوف يراه كل إنسان عندما ينزل به حكم الموت.
جميعنا رأينا محتضراً أو سمعنا عن الإحتضار من الذين يشاهدون الإنسان وهو في تلك الحالة كيف ينظر حوله بدهشة وتعجب، فينظر إلى أولاده واقاربه فيعرفهم، ويرى وجوهاً لم يعهدها من قبلُ، تلك صور الملائكة الموكَّلة بقبض روحه.
ففي تلك اللحظات لا يكون للمرء حولٌ ولا قوة، ولا تنفع الندامة إذا كان قبل ذلك مقصراً بواجباته تجاه ربه سبحانه، وليس له في تلك المرحلة سوى الله عز وجل الذي بيده جميع الأمور، ولن ينظر الله إليه بعين الرحمة إذا كان من الكافرين أو العاصين أو المستهترين بأوامر الله تعالى ونواهيه، فهناك يأخذه الندم الشديد حيث لا أثر إيجابي لهذا الندم، ويتمنى لو تُفتح له الفرصة مرة أخرى ليستغلها في طاعة الله عز وجل، ولكن(وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ) ولا رادّ لأمره وحكمه، وهناك يسيطر النظام الإهي القائل(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وفي نفس المعنى قال سبحانه(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ)
ففي حالة الإحتضار يكون كلٌّ من الميت وأهله في حيرة من الأمر، فلا حول للمحتضَر في تلك المرحلة سوى الإستسلام لحكم الله تبارك وتعالى، وكذلك لا حول لأهله الذين يسعون إلى إسعافه وإنقاذه فلا يقدرون على ذلك إذ لا علاج من مرض الموت، وفي تلك الحالة النفسية التي يكون عليها حال أهل الميت أعطانا القرآن الكريم موعظة كبرى حوله إذ يقول(كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)
فإذا بلغت الروح الترقوة، وهي مجمع عظام الصدر، وهذا كناية عن قرب الرحيل، وهذه الآية الكريمة تحدثنا عن حالة الإحتضار، فإذا نظر أهل المحتضر إليه حاروا في أمرهم فيسألون عن راقٍ يرقيه ليعالجه من سكرات الموت، أو يسألون عن طبيب يداويه، فلا راق ينفع، ولا طبيب يدفع الحكم الإلهي الذي قهر به عباده، قال تعالى(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)
فلا تنفع مساعي كل البشر، ولا علاجات جميع أطباء العالم بالغاً ما بلغوا من العلم في اختصاصهم، وعندما يضعف الأهل أمام ما نزل بمحتضرهم يعلمون يقيناً بأن هذا هو الفراق الذي قهر الله به عباده، وأما التفاف الساق بالساق فهو كناية عن لف الميت بالكفن ووضعه في اللحد، وبعد ذلك يكون السوق إلى الله تعالى لا إلى غيره.
ومثل ذلك في المعنى ما جاء في قوله سبحانه(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ)
لا يوجد أعظم من هذه المواعظ القرآنية، فمن أخذ بها نجح وربح وكان ممن لا خوف عليهم، وأما إذا أهمل كلام ربه فإنه لن ينجو من العذاب.
وأذكر هنا كلاماً للإمام السجاد(ع) قد مر ذكره، ولكن في تكراره منفعة حيث قال: وَقَدْ خَفَقَتْ عِنْدَ رَأسي اَجْنِحَةُ الْمَوْتِ، فَمالي لا اَبْكي اَبْكي، لِخُُروجِ نَفْسي، اَبْكي لِظُلْمَةِ قَبْري، اَبْكي لِضيقِ لَحَدي، اَبْكي لِسُؤالِ مُنْكَر وَنَكير اِيّايَ:
وها هو أمير المؤمنين(ع) يصف لنا حالة الإنسان عند الإحتضار الذي نسأل الله تعالى أن يخفف عنّا شدته حيث يقول: لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اللهِ بِزَاجِرٍ، وَلاَيَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ، وَهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ، حَيْثُ لاَ إِقَالَةَ وَلاَ رَجْعَةَ، كَيْفَ نَزَلَ بِهمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَقَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهمْ: اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ. ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّةًٍ مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، وَالْعِبءُ عَلَى ظَهْرِهِ. وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَزْهَدُ فِيَما كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ! فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ في وجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ. ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ. لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً، وَلاَ يُجِيبُ دَاعِياً. ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ:
ولا شك بأن للمؤمن كرامة عند الله عز وجل، وهذه الكرامة لها آثارها في جميع المواضع وعند الموت عندما يأتي ملك الموت إليه ليقبض روحه المطمئنة فيجزع المؤمن من ملك الموت لأن نفس قدومه لقبض روح الإنسان فيه من الخوف ما لا يُحتمل، إلا إذا أراد الله سبحانه أن يخفف عن عبده، فحينئذ يأمر ملك الموت بأن يكون مؤنساً له، وكذا فإنه عند الموت يتمثل النبي وآله للمؤمن ليعشق خروج روحه من هذه الدنيا واللحاق بهم، فقد سئل الإمام الصادق(ع) فقيل له: هل يُكرَه المؤمن على قبض روحه؟ فقال: لا والله، إنه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جَزِع عند ذلك فيقول له ملك الموت يا ولي الله لا تجزع فوالذي بعث محمداً لَأَنا أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضَرَك، إفتح عينيك فانظر، قال: ويُمثَّل له رسول الله(ص) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم (ع)…
فالإنسان المؤمن عندما يتيقن بأنه سوف يرى الرسول وآله(ص) فهذه هي البشارة بالنعيم، وهذا ما يحبب إليه الموت ويهوّن عليه المخاوف والمخاطر.
قال الحارث الهمداني: أتيت أمير المؤمنين(ع) ذاتَ يوم نصفَ النهار فقال ما جاء بك؟ قلت حبُّك والله، قال(ع) إن كنت صادقاً لَتراني في ثلاثة مواطن: حيث تبلغ نفْسُك هذه، وأومأ بيده إلى حنجرته، وعند الصراط وعند الحوض:
وفي ذلك قال أمير المؤمنين(ع) لحارث الهمداني: يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قُبُلا:
وقال الصادق(ع): ما من مؤمن يحضُره الموت إلا رأى محمداً وعلياً حيث تَقَرُّ عينُه ولا مشركٌ يموت إلا رآهما حيث يسوؤه:
وقد يشتد النزع انتقاماً من الله تعالى ليكون هذا العذاب بداية العذاب الأبدي، وقد يكون اشتداد النزع تكفيراً للذنب قبل يوم الحساب لأن المؤمنين يتمنون ذلك، قال سبحانه(وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ)