النظام الكوني أبرز آيات الوجود
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على رسوله الكريم وآله الميامين وأصحابهم المنتجبين
افتتحنا البحث الماضي بقوله سبحانه(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ) وأشرنا إلى أن القرآن الكريم يشتمل على العديد من الإشارات العلمية التي استفاد منها العلماء منذ قرون من الزمن وأن هناك أبواباً كثيرة من العلم الحديث لم تكن بالحسبان لولا أن أشار إليها كتاب الله.
وفي هذا البحث سوف نتابع الكلام في مواضيع لها صلة بالبحث الماضي الذي وصل الكلام فيه إلى منازل القمر المشار إليها بقوله سبحانه(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)
وخلف هذه الفقرة من الآية الكريمة يوجد العديد من النقاط الجديرة بالإهتمام من قبل الخلق لما فيها من معلومات ومواعظ ومفاهيم.
لقد خلق الله عز وجل هذه الشمس وجعل لها فوائد مادية وفوائد معنوية، أما المعنوية فهي الدلالة على قدرة الله تعالى في الإنشاء من العدم والدقة في الصنع، وأما الفوائد المادية فمنها النور ومنها الحرارة التي يحتاج إليها الإنسان والحيوان والنبات والماء، وهي تنفع في عملية الحساب، وإن لها منافع كثيرة ذكرها أهل العلم الحديث.
وأما بالنسبة للقمر فإن الغاية من خلقه مشابهة تماماً للغاية من خلق الشمس على مستوى الهدف المعنوي لأن ما تشير إليه الشمس هو ذاته ما يشير إليه القمر وبالتالي ما يشير إليه كل مخلوق وهو الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته، وبالمناسبة يمكن القول بأن الحديث عن الموجودات وما تشير إليه وما تدل عليه لا ينحصر في المخلوقات الكبرى فقط بل هو يشمل كل موجود بدءاً من الذرة ووصولاً إلى المجرة، فالمقدمات اللازمة إيجاد سموات وأرض ومجرات هي ذاتها مطلوبة لإيجاد حبة تراب واحدة أو جناح بعوضة، وقد أثبت الله تعالى تفرّده في الصنع عندما تحدى جميع الخلق بأن يخلقوا ذبابة واحدة ففشلوا كالعادة أمام إرادة الله وقدرته، وهذا ما بيّنه رب العالمين بقوله(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
فلقد خلق الله القمر وجعل له منازل، وقد استفاد أهل العلم الحديث كثيراً من تلك المنازل في بحوثهم واكتشافاتهم، وقد اهتم العرب كثيراً في الماضي بهذه المعلومات حول القمر التي اعتبروها مقدمة لأبواب كثيرة من العلوم.
لقد قسّم العرب قديماً الدائرة التي يقطعها القمر في حركة دورانه الشهرية حول الأرض إلى ثمانية وعشرين موقعاً وأطلقوا عليها إسم منازل القمر، وقد كان للأنبياء(ع) الدور الأكبر في الكشف عن تلك الحقائق الكونية التي استعملوها في تأدية واجباتهم الرسالية مما فتح أمام الناس مجالات واسعة لخوض مسائل علمية كثيرة.
يبقى القمر في كل منزلة من منازله ليلة كاملة، وهذه المنازل هي عبارة عن تشكيلة نجوم تقع ضمن مجموعة النجوم التي يتألف منها ما يسمى بالبروج الإثني عشر، وقد أطلق العرب عليها إسم نجوم الأخذ لأن القمر يأخذ في كل ليلة منزلة منها، ويظهر من تلك المنازل أربعة عشر ويختفي أربعة عشر، وكلما غربت منزلة في الأفق الغربي ظهرت منزلة في الأفق الشرقي.
تقع نصف تلك المنازل شمال خط الإستواء وتسمى المنازل الشامية، ويقع النصف الآخر منها في جنوب خط الإستواء وتسمى المنازل اليمانية.
وهناك رابط قوي بين منازل القمر ومنازل الشمس أيضاً، فالقمر ينتقل كل ليلة من منزلة إلى أخرى، أما الشمس فإنها تمكث في كل منزلة من منازل القمر ثلاثة عشر يوماً باستثناء منزلة الطرفة فإنها تمكث فيها أربعة عشر يوماً وهي مجموع أيام السنة الشمسية البالغة ثلاثماية وأربعةً وستين يوماً، أما في السنة التي تكون أيام شهر فبراير فيها تسعة وعشرين فإنه يضاف يوم إلى منزلة قلب العقرب لتصبح أيام تلك السنة ثلاثماية وخمسة وستين يوماً.
أقف الآن على معاني بضع آيات وردت في سورة يس وهي ذات صلة ببحثنا هنا، وهي قوله سبحانه(وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)
في الآية الأولى من هذه المجموعة الكريمة يبين الله عز وجل لنا آية من آياته الدالة على قدرته وجميل صنعه وعظيم لطفه وهي هذه الأرض التي أصلحها للعيش بعد أن كانت غير صالحة له إما لعدم وجودها من الأساس فأخرجها من العدم فشابه خروجها من العدم الحياة بعد الموت حيث يمكن التعبير عن العدم بالموت، ولعل هذا ما أشير إليه بقوله تعالى(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) وإما أنه خلق الأرض غير صالحة للسكن ثم أصلحها بقدرته فأجرى فيها الماء وأنبت عليها الزرع قوتاً للأحياء، ولعله المشار إليه بقوله سبحانه(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)
ثم إنه في الآيات المذكورة يخبرنا ربنا تعالى بأنه زيّن أرضنا بجنات ورزقنا من منتوجاتها ذوات ألوان وأشكال وأطعمة وروائح مختلفة، وهذا ما دفع بكثير من العلماء إلى دراسة أنظمة تلك المنتوجات المعقدة بألوانها وأطعمتها وانسجام أشكالها مع لذة طعمها ورائحتها، وبهذا يحتج الله علينا بما أنعم علينا من نعم لا عداد لها فهي تكفي لجميع سكان الأرض مهما استهلكوا منها فما يبقة منها ويُتلف أكثر مما يُستهلك.
ثم بعد ذلك يمجّد الله نفسه ويشير إلى عظمة قدرته التي اتدعت الخلق ابتداعاً ونظّمت له وجوده وتطوره ونماءه حيث يقول تعالى(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) الله تعالى خلق جميع أصناف المخلوقات مما أنبتت الأرض ومن أنفس الناس ومن أمور لم يعرفها الإنسان حتى يومنا الحاضر.
ثم يتحدث الله تعالى عن جريان الشمس إلى مستقرها وعن منازل القمر الذي ينتقل من منزلة إلى أخرى حتى يصبح كالعرجون القديم، والعرجون القديم هو شيء صغير في رأس حبة البلح والتي لا تكاد تُرى بسبب صغر حجمها.
ثم يشير سبحانه إلى نظام دقيق لا يخرج عن مساره بقدرة الله عز وجل وهو عدم إدراك الشمس للقمر وكذا العكس فإن لكلٍ من الشمس والقمر منازل يجريان فيها بنظام ضمن هذا الفضاء فلا يسبق أحدهما الآخر، ولا يسطدم أحدهما بالآخر وكل ذلك بتقدير من الذي خلق كل شيء بقدر، وسيبقى هذا النظام سائراً حتى يأتي اليوم الذي تكوَّر فيه الشمس وينطفئ فيه ضوء القمر وتتساقط فيه النجوم وتتطاير فيه الجبال كالقطن ويتغير كل مخلوق في هذا الوجود من شيء إلى شيء، وهذا المراد بقوله تعالى(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) وقوله(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى)
إن هناك عشرات الآيات الكريمة أشارت إلى مسائل علمية هامة وفتحت أمام العلماء مجالات واسعة للبحث والإكتشاف والدراسة التي اعتبرناها دعماً لمسائل عقائدية تعنينا مباشرة.
منها قوله سبحانه(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)
يقال إن بعض العلماء وقف على المعنى المشار إليه بما فوق البعوضة فاكتشف بأنه يوجد في أعلاها جزء لا يكاد يُرى بالعين ولم يكن أحد من قبل قد اكتشف ذلك.
ومنها قوله تعالى(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ)
وفي هذه الآية الكريمة يوجد مدلول علمي ومدلول عقائدي، أما المدلول العلمي فهو التعبير عن النجوم بالمصابيح، وهذا ما دفع بالعلماء قديماً وحديثاً إلى دراسة أوضاع تلك المخلوقات البعيدة التي كان أصغرها أكبر حجماً من الشمس وهي تبعد عن الأرض بحيث لو قدر الإنسان على اختراع مركبة فضائية تسير بسرعة الضوء وحاول أن يصل إلى أقرب نجم من الأرض لاستغرق سفره إليها آلاف السنين، فهي كالشمس من حيث التكوين ولكن بسبب بعدها المفرط عن الأرض كانت أنظمتها وآثارها مختلفة عن أنظمة الشمس وآثارها.
وأما المدلول العقائدي فإنه مشابه لمدلول أي مخلوق وهو الدلالة على الله سبحانه وتعالى، وهذا المدلول لا يمكن أن يدرك إلا عن طريق النظر إلى مخلوقات السماء والتأمل في نظامها الدقيق الذي عبّر عنه القرآن بقوله(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) يعني مهما تأملت في تلك المخلوقات فإنك لن تجد خللاً لا في أصل تكوينها ولا في مسار أنظمتها حيث خلقها الله بقدرته وحفظها بها وبحكمته، وقد قال سبحانه(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا)
وبالنسبة للمدلول الديني من خلال هذه الآية وما يشبهها في المعنى فإن هناك كلاماً مطوَّلاً يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
وهناك عشرات الآيات الكريمة التي تشير إلى مسائل علمية كبرى وهامة، منها ما توصل العلم الحديث إلى معرفتها وكثير منها ما زال مجهولاً لأن حدود معرفة الإنسان لا تسمح له تكويناً بمعرفة كل شيء فإنه أولاً وأخيراً لم ينل من العلم سوى الشيء اليسير وهذا ما صرّح به القرآن الكريم بقوله(وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)
وغرضي الأساسي من طرح هذه البحوث ليس الإشارة إلى المسائل العلمية التي هي أساساً ليست من اختصاصي لأنني أجهلها جملة وتفصيلاً ولكن غرضي من الإشارة إليها هو توجيه الأنظار إلى عظمة القرآن الكريم والنظر في الخلق الدال على الخالق وأن نكون مصداقاً لقوله سبحانه(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فالنتيجة من وراء ذلك هو العمل المنجي من عذاب النار في يوم القيامة.
الشيخ علي فقيه

