
القرآن الكريم معجزة الوجود الكبرى
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على رسوله الكريم وآله الميامين وأصحابهم المنتجبين
في البحث الماضي بدأنا الكلام حول كون القرآن الكريم هو معجزة الوجود الكبرى، وقد جعلنا البحث عبارة عن مجموعة من العناوين حول هذا الكتاب المنير ليسهل علينا فهم حقيقته وإدراك مكانته وحقيقة كونه المعجزة الخالدة، وقد تكلمنا في الماضي حول عنوانين هما: القرآن منبع المعارف والغاية من إنزاله.
نأتي الآن إلى الحديث عن العنوان الثالث، وهو: أن القرآن معجزة من جميع نواحيه:
فعندما نقول إن القرآن معجزة من معجزات الله تعالى وقد أجراها على يد خاتم أنبيائه وسيد رسله(ص) فإننا نقصد كل ما يتعلق به من قريب أو بعيد، بدءاً من معانيه ومروراً بألفاظه وانتهاءاً بتراكيبه الخاصة وبجمعه واختيار أسماء سوره، والكلام حول هذا العنوان ينبغي أن يوزع على عدة نقاط:
النقطة الأولى: إيجاز الكلام فيه:
رغم كونه منبع العلوم ومصدر المعارف غير أنه يعبّر عن القضايا العامة والخاصة بأسلوب مقتضب لا يخل ببيان المعاني ولا يضر بإظهار المفاهيم، فلو استعمل القرآن الكريم أسلوبنا المعتاد في بيان المسائل لأشبهت طريقته طريقة استعمال البشر في الكشف عن مقاصدهم، وهذا ما يُخرجه عن إعجازه وما يلغي مبدأ كونه كلاماً فوق كلام المخلوقين.
ومن هنا قيل إن إعجاز كتاب الله يكمن خلف إيجازه، فهو موجز ولكنه يختلف عن غيره من الكلام الموجز، وإننا وإن قلنا بأن إعجازه يكمن خلف إيجازه إلا أن الإيجاز محور واحد من مجموعة محاور تكوّن بمجموعها هذا الإعجاز الإلهي العظيم، فكثير من المتكلمين يوجزون في بيان مقاصدهم ويبقى كلامهم كلاماً عادياً لأنه من الطبيعي أن يكون كلام البشر بنسب متفاوتة من الإيجاز والإسهاب فلكلٍ طريقته الخاصة في التعبير.
ومن المستحيل على أعظم نابغة في الفصاحة والبلاغة وصاحب أكبر قدرة على صياغة العبارات أن يبقى كلامه على وتيرة واحدة لأن الإنسان في حالة ترقٍ مستمرة ونمو في الذهن لا يتوقف، ولهذا فإن أسلوبه في البيان يتغير بين فترة وفترة، ولا شك بأن للظروف مدخلية أساسية في طريقة التعبير، ولهذا تجده عند الحزن يعبّر بطريقة، وعند الفرح بطريقة أخرى، وعند المرض أو أية شدة تتغير طريقته ويتبدل أسلوبه، وفي بعض المراحل يستبدل عبارة مكان أخرى حيث يبدو له الصواب في الثانية دون الأولى، وهكذا، وقد كان لاتحاد أسلوب القرآن رغم الظروف المريرة التي مر بها النبي(ص) ورغم المحن التي واجهها أثر كبير على النفوس في كون الكلام الذي أتى به لم يكن من صنع البشر لأنه لو كان من عنده لحصل اختلاف ولو بمقدار ذرة في أسلوبه، فعندما لاحظ أهل المعرفة هذا الأمر فقد ثبت بشكل قطعي أنه كلام جهة لا تشبه البشر بشكل من الأشكال، ولأجل هذا احتج عليهم الله تعالى بقوله عن القرآن الكريم(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)
لقد استمر النبي في إظهار القرآن الكريم مدة ثلاثة وعشرين عاماً، بعضها صدر منه في المعارك، وبعضها في الحصار، وبعضها في السفر، وبعضها وهو في حالة المرض، وبعضها وهو في ظروف مختلفة لو كان فيها كلامه من عند نفسه لحصل فيه اختلاف ولو بسيط، ثم إن أول آيات القرآن مشابهة لآواخر آياته في الإيجاز والأسلوب البياني.
النقطة الثانية: تراكيبه الخاصة:
يمتاز القرآن الكريم بتلك الطريقة الرائعة التي تتركب بها كلماته، فهناك تراكيب لو كانت من غير القرآن لحصل منها اشمئزاز بلاغي كتلك الآية التي لم تتجاوز السطر الواحد والتي اشتملت على أربعة عشر حرف ميم وهي قوله تعالى(قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فلو أن أحداً من البلغاء وضع في سطر كلام هذا القدر من ذات الحرف لأُشكل عليه، ولكن روعة تراكيب القرآن تمنع من ظهور الغرابة في الإستعمال.
هذا على مستوى تكرار حرف واحد بشكل كثيف أما على مستوى تكرار العبارات كقوله تعالى(الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) وقوله(الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) فإن قواعد البلاغة في بعض المراحل تمنع من مثل هذا التكرار في البيان، ولكنهم لم يشكلوا على هذه الآيات لأن تركيبها مع هذا التكرار قد أعطاها روعة فوق روعتها، وهذا سر من أسرار هذا الكتاب المعجزة.
وكذلك هناك استعمالات لفظية لو وردت في غير القرآن لكانت منافية للبلاغة بوجه من الوجوه كقوله سبحانه(قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا) وقوله(تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)
ومن جملة روعة تراكيب القرآن تعبيره عن قضايا كبرى بكلمة أو كلمتين مثل قوله(مدهامتان) وقوله(فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا) وقوله(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) وفي ذلك اختصار لحادثة لو أراد غير القرآن أن يوجز في بيانها لاستهلك من الألفاظ أضعاف ما استهلكته هذه الآية.
حتى أن بعض الكلمات التي لو لم ترد في القرآن لكان استعمالها مستغرباً، ولكن بما أنها أتت بهذا التركيب الإلهي الخاص فقد تقبّلها الناس برحابة صدر وبدهشة كبيرة كقوله تعالى(هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) وقوله(وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) وقوله(أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) وهناك العشرات من مثل هذه التراكيب التي أظهرت المعنى بأروع شكل وكان له جاذبية كبرى للقلوب قبل الآذان.
النقطة الثالثة: الأسلوب الخاص في لفت الإنتباه:
هناك طرق خاصة وأساليب معينة تفرّد القرآن الكريم باستعمالها وهي تدخل في إطار الإعجاز القرآني، ومن تلك الطرق لفت انتباه الناس إلى أمهات القضايا عن طريق وضعها في مكان تظهر فيه واضحة حيث يميّزها الله تعالى بسياق خاص لأن القارئ قد يستمر بقراءته بشكل سردي دون أن يلتفت إلى المعاني في بعض الأحيان، والله تعالى يريد أن يثبت شيئاً أو ينفي شيئاً آخر وفي ذات الوقت يريد أن يلفت عناية القارئ أو السامع لهذا الشيء أو ذاك، وسوف أذكر هنا أكثر من نموذج لإيضاح هذه النقطة الهامة:
النموذج الأول: آية التطهير: وهي قوله تعالى في سورة الأحزاب(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) إن كثيراً من المسلمين يدركون المعنى الأساسي لهذه الفقرة من الآية 33 من سورة الأحزاب، ولكنها أين أتت وما هو الأسلوب الذي بيّن الله به هذا المعنى، وكيف لفت انتباه الناس إلى معنى مغاير لمعنى الآيات قبلها وبعدها، فقد وردت هذه الآية الكريمة ضمن مجموعة من الآيات تتحدث عن نساء النبي(ص)، ولا أريد أن أقول كما قال البعض من أن وضع هذه الآية في هذا المكان إنما حصل بفعل الناس، ونحن نؤمن بأن أحداً من الخلق لا يستطيع أن يبدّل حرفاً مكان حرف في القرآن لأنه محفوظ من قبل الله تعالى حيث أولى كتابه عناية خاصة من جميع النواحي، نذكر لكم ما ورد من الآيات قبلها وبعدها ثم نبيّن أسلوب القرآن الرائع في لفت أنظار الناس إلى المسائل.
قال تعالى لدى حديثه عن نساء النبي(يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)
فقد يتوهم البعض بأن المراد بآية التطهير نساء النبي، نحن لا نشك بأن من نسائه من كن صالحات قانتات صابرات صالحات، ولكن الآية لم تشر إليهن لا من قريب ولا من بعيد، وقد عرفنا أن القرآن امتاز ببلاغته الإعجازية عن سائر الكلام فإذا وافقنا بأن الآية تعني نساء النبي فقد أطحنا بجزء كبير من إعجاز القرآن.
وقد جرى من الكلام حول هذه الآية ما لا يعد منذ أكثر من عشرة قرون، وقد ثبت للقاصي والداني أنها نزلت في علي وفاطمة وابنيهما، وحديث الكساء الصحيح أبرز شاهد وخير دليل على ذلك، وقد وصل وضوح الأمر إلى مستوى أصبح منكر هذه الحقيقة مفترٍ على الله والرسول والحقيقة.
وأبسط ما يمكن قوله في المقام هو الرجوع إلى قواعد اللغة العربية التي لو اعتمدنا عليها في إثبات هذه النظرية أو هذه الحقيقة من دون الرجوع إلى الأدلة الأخرى لكفى ذلك في المقام، وما يزيد استغرابنا في هذا الموضوع هو أن كثيراً من أرباب اللغة حاولوا تغيير بعض القواعد وإبداء العديد من المبررات المرفوضة وذلك بداعي العصبية العمياء ولكن لم ينفعهم تلك المخارج التي ووجهت من قبل علماء نحو يشعرون بالمسؤولية.
ولعل هذا الأسلوب القرآني هو ضرب من ضروب الإمتحان الإلهي الذي أجراه على الأنبياء وغيرهم عبر الزمن، فقد امتحن الله قلوب أنبيائه بأمور لا تحتملها قلوب الناس العاديين، وأبرز تلك الإمتحانات هو أمر الله عز وجل خليله إبراهيم بأن يذبح ولده إسماعيل بعد أن رُزق به على الكبر، وكذا امتحان يعقوب بفقد ولده يوسف، وكذا امتحان أيوب بموت أولاده وزوال ممتلكاته وإصابة جسده بأمراض فتاكة، والحال في هذه الآية يشبه بوجه من الوجوه تلك الإمتحانات الإلهية ليعلم الله الصادقين ويميزهم عن الذين في قلوبهم زيغ.
كان الحديث في الآية 32 من سورة الأحزاب عن نساء النبي حيث قال سبحانه(يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء) ثم في الآية 33 من نفس السورة كان هناك مشاركة في الحديث عن نساء النبي وغيرهن حيث قال تعالى(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ثم بعد هذه الفقرة مباشرة وفي ذات الآية تحول الخطاب من نساء النبي إلى الحديث عن قضية لا علاقة لها بهن وهي قوله تعالى(نَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) ثم في الآية 34 رجع القرآن إلى الحديث عن نساء النبي حيث قال(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)
لقد احتج الحاقدون المتعصبون بالسياق وأن المراد بآية التطهير هن نساء النبي لأن آية التطهير وردت ضمن خطاب موجه لنساء النبي، وبناءاً على حكم السياق برأيهم ادعوا بأن بأن المقصود بأهل البيت هم نساء النبي وليس كما يقول الشيعة من أن أهل البيت هم علي وفاطمة وابناهما.
هؤلاء احتجوا بالسياق واعتبروه دليلاً على إثبات رأيهم، واتهموا غيرهم بعدم الأخذ بالسياق حيث قالوا بأننا نعتبر السياق في مكان ولا نعتبره في مكان آخر، ولكن من قال لكم ذلك، نحن نعتمد على السياق الذي هو حجة في كثير من الأحيان، ولكن عليكم قبل أن تتهموا غيركم أن تعرفوا حقيقة السياق وتعرّفوه كما يجب، فهل السياق هو الحكم على معنى ورد ضمن آيات تعني أمراً مغايراً، هؤلاء يريدون أن يوهموا الناس بهذه الأكذوبة بدافع من عصبيتهم العمياء، فإذا كانت حقيقة السياق هو ما أرادوه فإن هناك الكثير من السياقات المشابهة لسياقهم في هذه الآيات، ولهم أراء مخالفة لتلك السياقات المشابهة لادعائهم هنا، فلماذا يحتجون هنا بالسياق ولا يحتجون بالسياق في مواضع أخرى، لماذا عملتم بسياقكم المزعوم في هذه الآية ولم تعملوا به في آية المودة وآية المباهلة وسورة الإنسان وآيات ليلة الهجرة وغيرها من السياقات الواضحة؟ وفي المناسبة أقول إعلموا أيها الأخوة والأخوات أن قرارات منع التداول بحديث النبي(ص) عبر عقود من الزمن لم تصدر إلا لطمث الحقائق القرآنية الخاصة بأهل البيت(ع)، ثم إنكم لماذا أخذتم عن رسول الله ما ترونه مناسباً لكم ولم تأخذوا عنه ما يختص بأهل بيته، فهل هو رسول في شيء دون شيء أم أنه معصوم بشيء دون شيء، ولماذا لم تعملوا بقول الله تعالى(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) ولماذا تتعاملون مع القرآن الكريم على أنه كلام عادي خال من العمق والأسرار؟
إن هناك أسلوباً خاصاً يتعامل به القرآن الكريم في لفت أنظار الناس إلى قضايا هامة، وهي استعمالات كثيرة، وفي هذه الآيات أراد الله تعالى أن يلفت أنظارنا إلى عصمة أهل البيت فوضعها ضمن آيات تتحدث عن النساء لكي يكون المراد أوضح، وفي نفس الوقت لكي يمتحننا، ولا علاقة لآية التطهير بالسياق المزعوم إذ يجب أن يتوافق السياق في التذكير والتأنيث والجمع والتثنية والإفراد، فلو قال الله تعالى(إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت ويطهرَكن تطهيراً) لوافقنا معكم وعملنا بالسياق لأنه حينئذ يكون السياق جامعاً لشروطه ويكون حجة علينا وعليكم، ولكن عندما انتقل الخطاب الإلهي من الحديث عن النسوة إلى الحديث عن جمع المذكر الذي يستعمل للحديث عن جماعة الذكور أو جماعة الذكور والإناث مجتمعين، فعندما انتقل الخطاب الإلهي هذا الإنتقال النوعي وخرج كلياً عن السياق الأول عرفنا أن المراد بأهل البيت غير نساء النبي، ثم إن آية التطهير باعتراف أغلب علماء المسلمين تدل على العصمة، والكل يعرف بأن نساء النبي لسن معصومات، فأي سياق ينفع في المقام بعد ذلك.
فلو أردنا أن نعمل بموازين سياقاتكم المزعومة لتغيرت مسائل عقائدية كثيرة في كتاب الله العزيز، فقوله تعالى مثلاً عن الذين ركبوا السفينة وهم منكرون لله فتعرضوا إلى الغرق فذكروا الله تعالى، فتعالوا ننظر إلى سياق الحديث عن تلك الحادثة، قال سبحانه(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ)
لقد انتقل السياق القرآني هنا من مخاطبة المخاطَب إلى الحديث عن الغائب، والمراد بكلا الخطابين واحد وهم الذين ركبوا السفينة، فما هو السر في اختلاف السياق؟ فإذا أجبتمونا على هذا السؤال وعلى كثير من الأسئلة المشابهة التي تتعلق بأسلوب القرآن الكريم فعند ذلك نعود للحديث عن آية التطهير.
هناك كثير من النماذج القرآنية التي تكشف لنا عن روعة تراكيب الآيات القرآنية وأنها ضرب من ضروب الإعجاز، ولكنني أكتفي بالنموذج الذي ذكرته لأنه أبرز نموذج توضيحي للفكرة المبحوث عنها في هذا البحث، وإلى هنا نكون قد أنهينا الحديث حول العنوان الثالث من العناوين الخاصة ببحوثنا حول القرآن الكريم، وفي البحث الآتي سوف نكمل الحديث عن باقي العناوين بإذن الله تعالى.
الشيخ علي فقيه



