
القرآن الكريم معجزة الوجود الكبرى
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على رسوله الكريم وآله الميامين وأصحابهم المنتجبين
بما أن الحديث عن القرآن الكريم متنوع الجهات فقد اخترنا بعض العناوين لتكون منطلقاً لهذه البحوث وضبطاً للعديد من المسائل القرآنية المتشعبة، ولا يمكن إبراز أمهات مسائله ببحث واحد أو بحثين أو ربما بمجلد ومجلدين، ولهذا فقد وضعنا الإصبع على مجموعة من العناوين القرآنية المختارة من قبلنا، ولا أعبّر عنها بالهامة لأن كل ما يتعلق بهذه المعجزة الدائمة هو هام، ولكن هذا ما أردت الكلام حوله معتمداً على أسلوب الإيجاز في البيان لأن الإسهاب في الحديث عنه قد يرتد سلباً علينا من عدة جهات، وفي البحثين الماضيين تحدثنا حول ثلاثة عناوين كان آخرها تراكيب القرآن الخاصة، وهنا سوف يدور الكلام حول موضوع ترتيب السور والآيات ووضع أسماء لسوره المباركة.
يوجد في القرآن الكريم مئة وأربعة عشرة سورة كل واحدة منها تحمل إسماً أو أكثر من إسم، ولن أدخل في موضوع حمل السورة لأكثر من إسم واحد بل سوف أكتفي بذكر المشهور والمعمول به عند المسلمين.
كلكم تعرفون جميع أسماء السور التي تبدأ بسورة الحمد وتنتهي بسورة الناس، وهنا قد يُعرض علينا سؤال حول سبب تسمية السورة فما هو المنشأ في ذلك؟
طبعاً ليس من الطبيعي ولا من اللائق بشأن الله تعالى أن يضع إسماً للسورة مغايراً لمضمونها، فلا يُعقل أن تسمى فاتحة الكتاب بسورة البقرة حيث لا حديث عن بقرة بني إسرائيل في سورة الحمد، وهكذا الحال في جميع السور القرآنية التي وضع الله لها أسماءاً مستوحاة من مضامينها، فسورة آل عمران مثلاً سمّيت بأبرز ما ورد فيها، وهو الحديث عن آل عمران حيث قال تعالى في الآية 35 منها(إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وكذا الحال في سورة النحل التي اعتنت بالحديث عن عالم النحل التي جعل الله الشفاء فيما تنتجه من العسل، وكذا سورة النمل، وكذا باقي السور، ومهما بحثتم فلن تجدوا سورة يغاير مضمونها إسمها.
نأتي الآن إلى مسألة إطلاق تلك الأسماء على السور، فقد ظن البعض بأن تسميتها كان بيد الناس فهم الذين اختاروا الإسم لها، وطبعاً هذا وهم كبير لا يتوافق مع كون القرآن معجزة إلهية، وكلنا نثق بأن الله تعالى لا يسمح لأيدي الناس بالتدخل في مثل تلك القضايا الكبرى.
إن النبي(ص) هو الذي وضع لكل سورة إسماً أو أكثر من إسم بوحي من الله سبحانه وتعالى، ولا مجال للنقاش في هذا الموضوع الثابت بالعقل والنقل والوجدان.
وكذا الحال بالنسبة إلى الآيات، فسورة البقرة عبارة عن مئتين واثنتين وثمانين آية تبدأ بقوله تعالى(ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه) وتنتهي بقوله سبحانه(وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وكذا غيرها من السور الطويلة والقصيرة، فلو فرضنا أننا وضعنا الآية اللاحقة مكان الآية السابقة من دون أن نغير أي حرف أو حركة فإنه سوف يُخلّ بالسورة كلها وبالتالي بالقرآن كله الذي لا يحتمل إعجازه أي خدش أو خلل سواء كان على مستوى سورة كاملة أو على مستوى آية أو فقرة أو كلمة أو حرف أو حركة إعرابية.
فإن ترتيب الآيات ووضعها على هذا الشكل إنما كان بوحي من الله لرسوله، ولا يوجد أي تلاعب في الأمر فالقرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي رتّبه النبي(ص) بوحي من الله تعالى، ومن هنا أُتلف كل مصحف تلاعبت به أيدي الناس حيث آلى الله على نفسه أن يحفظ كتابه من أي تغيير وتبديل على أيدي البشر.
كان كلما نزلت سورة أو آية أو مجموعة آيات كان النبي يأمر علياً بوضعها في صفحة كذا وفي سورة كذا وفي سطر كذا، ولولا ذلك لوجدنا فيه اختلافاً كثيراً وإن وجود أي اختلاف في القرآن ولو من حيث ترتيب السور والآيات يطيح به من أساسه.
ولا يتنافى إعجاز القرآن الكريم مع تعدد القراءات وإن كنا نميل إلى اعتماد أشهرها فإن الكتابة شيء والقراءة شيء آخر.
ويندرج تحت هذا العنوان مسألة جمع القرآن الكريم الذي حصل بأمر من الله تعالى الذي كان يوحي بطريقة جمعه إلى رسوله(ص) ثم يأمر الرسول علياً بالجمع إلى أن اكتمل تدوين الكتاب المنير بالشكل الذي أراده الله سبحانه وتعالى.
أيها الأخوة والأخوات.. هناك حقائق قد تكون مخبأة خلف كلمة أو خلف حرف، والكثير من الثوابت دخلها الوضع والتزوير والتحريف بهدف التآمر على الحق وأهله وبالتالي القضاء على الإسلام الذي حورب منذ لحظة ظهوره.
مسألة جمع القرآن الكريم هي من الحقائق التي دخل عليها التحريف المفتعل والمتعمَّد بهدف إعطاء فضيلة لأشخاص لا فضل لهم على الأمة بل إن للأمة فضلاً عليهم لأنهم عاشوا في الدنيا ملوكاً على حساب الأمة الإسلامية وغطوا جميع رذائلهم بثوب الإسلام.
كثير من الناس حتى يومنا الحاضر يظنون بأن الذي جمع القرآن هو عثمان بن عفان، وهو وهم بارز وخطأ شائع فيه نسفٌ لمبدأ عقائدي ثابت في دين الإسلام وهو أن كل ما يتعلق بالقرآن الكريم من قريب أو بعيد إنما هو بيد الله ورسوله، حتى الإمام المعصوم لا يتصرف بالقرآن على مزاجه بل بما تعلمه من رسول الله(ص).
فإذا كنا نعتقد بأن المعصوم لا يتدخل في خصوصيات القرآن الكريم فكيف يمكن أن نعتقد بأن أشخاصاً عاديين كان لهم الفضل في جمعه والحفاظ عليه.
راجعوا التاريخ بدقة وتأملوا واقرؤوا كتب العامة قبل كتب الخاصة وانظروا ماذا يقول علماؤهم الواعون في هذا الأمر.
يقولون إن عمر ابن الخطاب في الفترة التي حكم فيها راح يجمع آيات القرآن من صدور الرجال حتى اجتمع لديه الكثير من المتناثرات المشابهة باللفظ والمعنى لتلك الآيات التي اخترعها مسيلمة الكذاب وأدخلها على سورة النجم والتي عُرفت في التاريخ بقضية الغرانيق العلا حيث ادعى أن الله تعالى يقول(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (تلك الغرانيق العلا منها الشفاعة تُرتجى) ومع تأمل بسيط في الفقرة التي اخترعها مسيلمة نجدها مغايرة لأسلوب القرآن وتراكيبه وبلاغته، فلقد جمع عمر مثل ذلك الكلام ما لا يُعد ولا يُحصى لأنه والله أعلم كان يعطي مكافآت مالية لكل من يدعي أنه سمع من الرسول قرآناً، وهنا كثر الطامعون الذين باعوا دينهم وضمائرهم ببعض الدراهم، وقد أحدث هذا العمل الذي ظنه عمر خيراً إرباكاً كبيراً في الوسط الإسلامي فلم يعد كثير من الناس يميزون بين ما هو قرآن وما هو افتراء الكذابين، بقي الأمر كذلك فترة طويلة من الزمن إلى أن مات عمر وجاء عثمان فقام بعمل فيه شيء من النفع حيث أمر بجمع جميع المصاحف التي أمر عمر بجمعها فجمعها وأحرقها، ثم أتى قوم حاقدون نفعيون متعصبون ادعوا بأن عثمان قد جمع القرآن، مع العلم بأن عثمان اعتمد على المصحف الذي جمعه علي(ع) بخط يده ثم راح يأمر النساخين بسخه.
فعثمان لم يجمع القرآن، بل إن النبي(ص) هو الذي جمعه بمساعدة علي(ع).
ومن العناوين التي ينبغي البحث فيها مسألة إثبات كون القرآن كتاباً سماوياً:
فلو أردنا أن نثبت فكرة أو معتقداً معيناً من خلال بعض ما ورد في الكتاب العزيز وكان الطرف الآخر غير معتقد بكونه كتاباً سماوياً فإنه من المستحيل إقناعه وإن كانت الآيات واضحة الدلالة، ولهذا كان الأجدر أن نقنعه بإعجاز القرآن فإن أثبتنا له ذلك فقد هانت علينا الأمور الأخرى، ولا أعتقد أنه سوف يؤمن إلا إذا استعملنا بعض الطرق التي استعملها النبي(ص) في إثبات إعجاز القرآن، وأبرزها موضوع التحدي به، وكذا استعمال قواعد اللغة وأسس البلاغة والفصاحة.
وقد يكون الطرف الآخر ليناً وسريع الإقتناع فلربما يقتنع فيما إذا استطعنا أن نحرك فيه مشاعره الفطرية فإن ذلك يساعدنا كثيراً على إثبات الحق.
فإذا كان الطرف الآخر خالي الذهن من أية معلومة تتعلق بالفصاحة والبلاغة أصبح إقناعه عن طريقها أمراً مستحيلاً، وهذا التقدير يعود للمحاور والمناقش فهو الذي يستطيع أن يحدد الطريقة التي يفهمها هذا الشخص، فالأمر يحتاج إلى شيء من الوعي والحكمة والحنكة فإن بعض إخواننا يستعملون أكثر من أسلوب للنقاش وهي أساليب ناجحة ومقنعة حيث عرفوا الطريقة التي يفهمها الطرف الآخر وحددوا مستوى فهمه.
لقد اختلفت أساليب رسول الله محمد(ص) في إثبات هذا الأمر فمرة اكتفى بمجرد تلاوة بعضٍ منه، ومرة أخرى تحداهم بالإتيان بمثله أو بمثل سورة من سوره، فكان(ص) يعمل بمقتضى الحال وما يفرضه المقام، وبهذه الطريقة الحكيمة يجب علينا أن نثبت كون القرآن كتاباً سماوياً ليس لإقناع الآخرين فحسب بل لتثبيته في قلوبنا أيضاً حذراً من إيقاع الشيطان بنا.
وهناك نقطة هامة أيضاً لا بد أن تثار في هذا البحث لأنها موضع نقاش وتساؤل لكثير من الناس وهي مسألة تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية، وهذا ما يحتاج إلى قليل من التوضيح.
يحدثنا القرآن الكريم عن أربعة كتب سماوية هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وكذا أشار إلى وجود صحف كان يُنزلها على بعض أنبيائه، ولا بد لنا هنا من أن نشير إلى إشارات القرآن الكريم عن تلك الكتب والصحف.
أما التوراة: فقد قال سبحانه في سورة آل عمران(وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) وفي السورة ذاتها(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)
وأما الزبور: فقد قال تعالى في سورة النساء(وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)
وأما الإنجيل: فقد قال تعالى في سورة المائدة(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)
وأما القرآن الكريم فإن الآيات الحاكية عنه كثيرة جداً.
وهناك آية تشير إلى إنزال أكثر من كتاب وهي قوله تعالى في سورة آل عمران(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)
كلمة التوراة عبرية معناها في العربية الشريعة، وكلمة إنجيل يونانية معناها في العربية البشارة.
وأما الإشارة إلى الصحف التي كانت تنزل على بعض الأنبياء فقد قال تعالى في سورة الأعلى(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)
وما أفهمه أنا شخصياً أن هذه الأرض لم تخل يوماً من نبي أو كتاب سماوي أو صحيفة منزلة، وهذا يتناسب مع مضمون الحجة على البشر لأنه إذا خلت الأرض من ذلك أصبح لدى الإنسان حجة يتذرع بها يوم القيامة ويجعلها تبريراً لتقصيره وعصيانه، وهذا ما لم يسمح به رب العالمين الذي لا يظلم الناس مقدار ذرة في السموات والأرض، وقد أحاط بالأمر قبل حصوله حيث قال(وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)
فمنذ نزول الزبور أمر الله عباده بالعمل بها إلى أن أنزل التوراة فحصل نفس الشيء وبقي معمولاً به حتى إنزال الإنجيل على عيسى بن مريم، ولا ندري ما إذا كانت التوراة قد حلت محل الزبور، والإنجيل حل محل التوراة فإنه أمر مسكوت عنه، ولا مانع عقلي أو ديني من الأمرين، أما ما نعتقد به يقيناً هو إلغاء القرآن الكريم لأدوار الكتب السماوية التي نزلت قبله لأنه اشتمل على ما فيها وزيادة، وما نعتقد به أيضاً هو أن مفعول تلك الكتب كان مؤقتاً، أما مفعول القرآن فدائم إلى يوم القيامة ولأجل ذلك جعله خالقه خاتمة الشرائع السماوية.
وبهذا يظهر لنا وجود عدة فوارق بين القرآن الكريم وباقي الكتب السماوية:
الفارق الأول: وهو أن القرآن الكريم ليس مجرد كتاب سماوي عادي بل إنه معجزة بجميع ما يتصل به، وهذا ما لم تتمتع به الكتب السماوية السابقة وإن كانت كلام رب العالمين سبحانه، فهو يتصرف في كلامه كيفما شاء فيجعل بعضه معجزة وبعضه الآخر دون ذلك.
الفارق الثاني: دوام مفعول القرآن دون باقي الكتب السماوية الأخرى.
الفارق الثالث: اشتماله على علم الأولين والآخرين.
الفارق الرابع: هو أنه كتاب عربي.
الفارق الخامس: نزوله على آخر نبي في الأرض.
الفارق السادس: وهو يشتمل على كل فرق بين وبين الكتب السماوية والتي لا يسع المجال هنا إلى ذكرها.
الشيخ علي فقيه



