محاضرات

عبادة الموجودات

الجزء الثالث

 

 

عبادة الموجودات

 الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على رسوله الكريم وآله الميامين وأصحابهم المنتجبين

ما زال الكلام حول عبادة الموجودات لخالقها سبحانه، فهي من المسائل التي أشير إليها بالإجمال دون التفصيل كغيرها من المسائل الكبرى التي لم يأت القرآن على بيان تفاصيلها.

هناك أكثر من آية في غير سورة تشير إلى صلاة الجمادات والحيوانات وتسبيحها لله عز وجل، ولعل الإتيان على ذكر تلك المسائل جاء من باب بيان عظمة الله تعالى ووحدانيته، ومن باب تحريك الفطرة داخل الإنسان ليعود إلى رشده ويطيع ربه لأنه المعني الأول في هذا الوجود والمسؤول الأول عن التكاليف الإلهية لأنها هو ظرفها وموضع الإمتحان بها.

وأنا شخصياً أستطيع أن أفهم رسالة من وراء تلك الآيات المشيرة إلى هذا الموضوع بشكل مجمل، وهي العتاب على ذوي العقول الذين كان الأجدر بهم أن يكونوا السباقين إلى الطاعة قبل غيرهم من الكائنات، فعقلاء مكلفون ومكرّمون ومفضَّلون على من سواهم لا يعبأون بالطاعة ولا يلتزمون بالأحكام، وكائنات غير عاقلة وموجودات جامدة تزاول الصلاة والتسبيح تمجيداً منها للخالق واعترافاً منها بكونه الخالق الذي لا شريك له.

كيف يرضى الإنسان المقصر أن تكون النملة أرفع شأناً منه عند الله وفي هذا الوجود، وكيف يقبل على نفسه أن الحجر يسجد لله والشجر يمجد الله وهو مستهتر بأحكام الله؟

يوجد خلف تلك الآيات دروس كثيرة ومواعظ كبيرة تحتاج إلى صدور رحبة وقلوب واعية لكي تتقبلها وتنطلق من خلالها نحو ما فيه الربح لها.

والعاقل منا هو الذي يفهم ما يقرأ، ويعقل ما يسمع، ويعمل بما يفهم، وهو الذي يتأمل ويتفكر ويتدبر كلمات ربه المنجيات الناجحات.

إن عقلك أيها الإنسان أكبر حجة عليك في يوم القيامة، وجوارحك أمانة عندك يجب أن نستخدمها في الغاية التي خلقها الله لأجلها لا أن تستخدمها في إشباع الشهوات وتنفيذ الرغبات الخاطئة، فهل قدّمت لنفسك جواباً ترد به على سؤال الله لك في يوم القيامة حول تقصيرك ومماطلتك وتأخير التوبة حتى جاء الأجل وانقطع العمل في يوم لا ينفع فيه ندم ولا يجزي فيه أحد عن أحد؟

فكّر بعقلك جيداً وناصر جنود الخير في معسكر نفسك واقض بها على الشهوات واقتل بها النزوات التي زرع الشيطان حبها في نفسك، واجعل نفسك زكية ولوامة ولا تجعلها أمارة بالسوء فتهلك.

وهذه البحوث التي نخوض فيها ونبيّن بعض الخفايا ليس الغرض منها ملئ الفراغ أو البروز في ساحة أهل العلم، بل الغرض منها بيان القدرة وكيفية التعاطي معها كيلا نكون يوم القيامة من الخاسرين، وإنني وإن تتطرأت في هذه البحوث إلى مسائل علمية محضة غير أن الغرض من وراء ذلك هو الإستفادة الدينية من تلك المسائل العلمية لأن الذي يريد أن يستفيد لآخرته فلا ينظر إلى الكيفية والوسيلة بل يلاحظ النتيجة.

نأتي الآن إلى إتمام ما بدأنا به في البحثين الماضيين حول عبادة الحيوانات والجمادات لخالقها، وهنا عدة آيات أرغب بالتوقف على مفرداتها قليلاً لندرك منها المعنى العام وإن استطعنا أن ندرك المعنى الخاص كان أفضل.

قال سبحانه(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)

الحديث هنا يتمحور حول عبادة الجمادات لله تعالى كالجبال والشجر والحجر، وقد لفت نظر أمرٌ في هذه الآية وهو أن الظواهر الطبيعية هي تسبيح خاص لله سبحانه وتعالى، فصوت الرعد ولون البرق وربما غيرهما من الظواهر الطبيعية إنما هي تسبيح خاص قائم بحد ذاته فلا يحتاج الأمر منه إلى لفظ معين، نفس وجود البرق تسبيح، وذات صوت الرعد تسبيح، ولعل الزلزال الذي يصيب الأرض أحياناً قد يكون عبادة من الطبيعة لخالقها.

وأستذكر هنا فقرة من دعاء الإفتتاح: اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي مِنْ خَشْيَتِهِ تَرْعَدُ السَّماءُ وَسُكّانُها، وَتَرْجُفُ الاَْرْضُ وَعُمّارُها، وَتَمُوجُ الْبِحارُ وَمَنْ يَسْبَحُ في غَمَراتِها: وفي بعض النصوص ومن يسبّح في غمراتها، وكلاهما مستقيم المعنى، فكل ذلك دلالات على الطاعة الكونية لله تعالى.

وقال تعالى(وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)

وفي هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على سجود الكائنات غير العاقلة فضلاً عن بعض العقلاء، فقوله تعالى(ما في السموات) فيه إشارة لغير العاقل، وقد عرفنا في بحث سابق أن لفظة ما تستعمل للحديث عن غير العاقل، ثم أوضح الأمر بقوله(من دابة) ثم ذكر سجود الملائكة وختم القول بأنهم لا يستكبرون عن عبادته وطاعته، وليس ببعيد أن يكون الضمير في قوله(وهم) عائداً على الملائكة والجمادات في السموات والأرض، ولعل اقتران الملائكة هنا ورد من باب الإشارة إلى الطاعة التكوينية، فكون الملائكة موجودين فهم في حالة طاعة لله تعالى، وكذا تلك الكائنات فإن نفس وجودها هو تسبيح وطاعة لله تعالى.

وقد أشير إلى طاعة السماء والأرض بشكل يُشعر وكأن لهما إدراكاً خاصاً مما يوحي بشبه طاعتهما للطاعة التشريعية ولا دليل واضح على ذلك، فقد قال سبحانه في سورة فصلت(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)

ولكن الظاهر هو أنهما ليستا مخيرتين وإنما وردت هذه العبارة كناية عن بيان القدرة إذا لا يستطيع مخلوق مثل السماء والأرض أن يكون له الخيرة في أمر وجوده أم لا، فسواء أتيا طوعاً أو كرهاً فسوف يوجدان لأن الأمر الإلهي توجه نحو إيجادهما، ولا يكلف ذلك سوى توجّه الإرادة الإلهية، ولعل سير النظام الكوني من دون خروج عن دائرته مشابه للطاعة التامة، وكأن دقة هذا النظام المستمر الذي لا يتغير ولا يتبدل هو تسبيح لله وطاعة له.

وقال سبحانه(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ)

وفي هذه الآية الكريمة يخاطب الله رسوله بخطاب مشابه في المعنى للخطاب السابق إلا أن هذا الخطاب الثاني أكثر تفصيلاً من الأول، وفي هذه الآية يخبر الله رسوله بسجود من في السموات ومن في الأرض له سبحانه، وكالعادة أريد أن أفصل بين فقرات الآية ليظهر لنا المعنى المراد بشكل أفضل وأوضح.

الفقرة الأولى هي قوله سبحانه(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ)

وقد قلنا فيما مضى إن لفظة(من) تُستعمل للعاقل، وربما تشمل غير العاقل أيضاً في بعض الحالات كما لو تناول الكلام كليهما، فمن في السموات هم الملائكة بالدرجة الأولى، ولا ندري إن كان هناك عقلاء في السماء غير الملائكة يعبدون الله تعالى، وأما مَن في الأرض في هذه الفقرة ربما يكون شاملاً للعقلاء وغيرهم من الحيوانات والجمادات والنباتات، وربما يكون المراد غير الذي ذكرناه والله أعلم.

الفقرة الثانية قوله(وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)

فالواو هنا واو العطف، يعني أن الله تعالى يسجد له من في السموات ومن في الأرض ويسجد لها الشمس والقمر وكل الأنواع التي ذكرها، وهنا يأتي سؤال: هل أن ما أتى بعد واو العطف هو تفسير لقوله تعالى(من في الأرض) أو أنه بيان آخر فيكون المراد بمن في الأرض غير من نعرف من المخلوقات، وهذا ما يحتاج إلى زيادة توضيح.

قد نقول إن الشمس والقمر والنجوم ليسوا من الأرض، ولكن الجبال والشجر والدواب هم من الأرض، وهذه المخلوقات ليست من ذوي العقول وبعضها ليس من ذوي الأرواح، فكيف عبّر عنها بمَن؟ نقول ربما عبّر عنها بمن لأن الكلام شملها مع العقلاء وتكون تلك التي أتت بعد واو العطف تفسيراً لقوله من في الأرض.

الفقرة الثالثة قوله(وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ)

في البداية أخبرنا الله تعالى بأن من في الأرض يسجدون له، وهنا قال بأن كثيراً من الناس يسجدون له، وهذا هو الواقع لأن هناك أناساً لا يعبدون الله تعالى، هذا مع العلم أن المفروض هو أن يسجد كل خلقه له، أما غير العقلاء على الأرض فجميعهم يسجدون لله بطرق نحن لا نعرفها ولا نلحظها، فسجود الشمس والقمر والنجوم قد يكون حركتهم الدائمة والمنظمة، وسجود الشجر قد يكون نموها بل نفس وجودها لأنها آية من آيات الله تعالى فوجودها سجود لله عز وجل، ولا يمكن لنا نحن البشر أن نفهم كيفية هذا النوع من السجود، فسجود الإنسان واضح ومعلوم وهو يتحقق بوضع المساجد السبعة على الأرض الجبهة والكفين والركبتين وأطراف القدمين، أما هيكلية سجود غير الإنسان فقد تكون بكيفية خاصة، وحتى الآن لم نفهم معنى الرؤيا التي رآها نبي الله يوسف(ع) الذي رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً ساجدين له، فهو(ع) قد فهم معنى سجودها لأنه نبي يتصل بالوحي.

يقول في تفسير الأمثل :

جاء في القرآن المجيد ذكر “السجود العامّ” لجميع المخلوقات في العالم، وكذا “التسبيح” و “الحمد” و “الصلاة”، وأكّد القرآن الكريم على أنّ هذه العبادات الأربع، لا تختص بالبشر وحدهم، بل يشاركهم فيها حتّى الموجودات التي تبدو عديمة الشعور. وعلى الرغم من أنّنا بحثنا عن حمد الموجودات وتسبيحها بحثاً مسهباً، وتناولنا سجود المخلوقات العامّ لله نجد الإشارة إلى هذا الحمد والتسبيح الكوني العامّ ضرورية.

إنّ للموجودات مع ملاحظة ما ورد في الآية ـ موضع البحث ـ شكلين من السجود “سجود تكويني” و “سجود تشريعي”.

فالسجود التكويني هو الخضوع والتسليم لإرادة الله ونواميس الخلق والنظام المسيطر على هذا العالم دون قيد أو شرط، وهو يشمل ذرّات المخلوقات كلّها، حتّى أنّه يشمل خلايا أدمغة الفراعنة والمنكرين وذرّات أجسامهم فالجميع يسجدون لله تعالى تكويناً.

وحسبما يقوله عدد من الباحثين، فإنّ ذرّات العالم كلّها لها نوع من الإدراك والشعور، ولذا يسبّحون الله ويحمدونه ويسجدون له ويصلّون له بلسانهم الخاص  وإذا رفضنا هذا النوع من الإدراك والشعور، فلا مجال لإنكار تسليم الكائنات جميعاً للقوانين الحاكمة على نظام الوجود كلّه.

أمّا “السجود التشريعي” فهو غاية الخضوع من العقلاء المدركين العارفين لله سبحانه. وهنا يثار سؤال، وهو أنّه إذا كان السجود العامّ يشمل المخلوقات وجميع البشر، فلماذا خصّصته الآية المذكورة ببعض البشر لا كلّهم؟

لو دقّقنا في مفهوم السجود في هذه الآية لرأيناه يجمع بين المفهومين التشريعي والتكويني، فتتيسّر الإجابة عن هذا السؤال، لأنّ سجود الشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار والأحياء تكويني، وسجود البشر تشريعي يؤدّيه ناس ويأباه آخرون، فصدق فيهم القول: (كثير حقّ عليه العذاب). وإستخدام لفظ واحد بمفهوم شامل عامّ مع الإحتفاظ بمصاديقه لا يضرّه شيئاً، حتّى عند الذين لا يجيزون إستخدام كلمة واحدة لعدّة معان. فكيف بنا ونحن نجيز إستعمال كلمة واحدة في معان عديدة؟

الشيخ علي فقيه

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى