محاضرات

مصابيح السماء بين العلم والعقيدة

مصابيح السماء بين العلم والعقيدة

 

 

مصابيح السماء بين العلم والعقيدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على رسوله الكريم وآله الميامين وأصحابهم المنتجبين

أبدأ هذا البحث بقول الشاعر الدال على مبدأ عقائدي ثابت ومستوى من القرآن وكلام أهل العصمة حيث قال: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد:

وكل إنسان منا له طريقته الخاصة في فهم الأمور بحسب ما لديه من قوى مساعدة وإمكانيات تساعده على إدراك الأمور، كما وأن لكل واحد أسلوباً خاصاً في عملية الكشف عن الحقائق، فبعضهم يزيد المسائل تعقيداً، وبعضهم الآخر يزيل الشبهات ويكشف الغشاوات عن القلوب والأبصار فيُفصح عن المراد بما يقبله الآخرون وبالطريقة التي يستوعبونها.

كثير منا يقرؤون آيات الكتاب العزيز، فمنهم من يتلوها للبركة وكسب الأجر لأن نفس تلاوتها عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه ويتذخر بها ليوم الفقر والفاقة.

ومنهم من يقرؤه بطريقة أرقى تجمع بين العبادة والمعرفة فينظر إلى ما فيه من تعاليم ومفاهيم وإرشادات على جميع المستويات، وإنه لا شك بأن هذا النوع من التلاوة أنفع للإنسان على مستوى الدنيا والآخرة.

ومنهم من يتلوه ويتأمل في معانيه بشكل عميق ويتدبر آياته لأن تدبر آياته هو النافذة الموصلة إلى أكبر كم ممكن من المعاني والمفاهيم، وهؤلاء انطلقوا من خلال الآيات المبينة لعظمة القرآن والأحاديث المشيرة إلى كونه بحراً من المعرفة لا حدود له، وهذا ما يدفع بنا دائماً نحو الوقوف على أدق التفاصيل القرآنية التي تساعدنا في عملية إثبات كونه كتاباً سماوياً وأنه مصدر إفادة للبشرية جمعاء ممن آمنوا بكونه كلام الخالق وممن لم يؤمنوا بهذه الحقيقة الثابتة.

وقد لفت نظري مجموعة من الآيات التي تحدثت عن مخلوقات الفضاء وأنظمتها، وهو ما يركز عليه أهل العلم بمختلف أهدافهم واعتقاداتهم، فأهل الإيمان منهم يزدادون بإثبات النظريات العلمية إيماناً، وأهل العلم الحديث على نحو الأغلب يجعلون منه منطلقاً لأبحاثهم العلمية حول نظام الفلك، وعلى كل حال فإن ذلك كله يشير إلى كون القرآن كتاباً مفيداً ومميزاً من جميع نواحيه.

فمن تلك الآيات التي تحدثت عن بعض مخلوقات الفضاء وأنظمتها قوله سبحانه في سورة الحجر(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ

إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ)

في الآية الأولى يبين الله تعالى شدة عناد الكافرين تجاه الإيمان بالرسالات السماوية الواضحة التي أتتهم بكل دليل منطقي وعلمي وإعجازي لا يقبل الشك ولا التردد، والله تعالى في هذه الآية يخبرنا بأنه لو مكّنهم من الصعود إلى الفضاء وجالوا فيه ورأوا الآيات والدلائل لما آمنوا لأنهم لا يريدون أن يؤمنوا لا لأن الدليل غير واضح أو غير قاطع، الخلل في نفوسهم وليس فيما جاء به الأنبياء(ع) فلو فُرض أنهم صعدوا إلى الفضاء ثم نزلوا إلى الأرض ليخبروا الناس بما رأوا من الآيات لقالوا لقد سُدت أبصارنا فلم نر شيئاً.

ونفس هذا الإخبار عن الصعود إلى الفضاء فيه توجيه لنا وحثٌ على النظر إلى خلق الله بهدف الإعتبار به، وهذا يعني أنه يمكن أن نحتج على المعاندين بمخلوقات الفضاء وأنظمته وكل مخلوقات الأرض وأنظمتها كما احتج عليهم الأنبياء من قبل.

ولكي يهربوا من الواقع ويصروا على العناد رغم جلاء الحق وظهوره نزلوا بأنفسهم إلى أدنى المستويات حيث ادعوا بأنها مسحورة وهذا هو النفاق بعينه.

ثم أخبرنا الله تعالى بأنه زيّن سماءنا بمصابيح مضيئة لنهتدي بنورها في الظلام الدامس، والأمر في خلقها لا يقف عند حدود الزينة بل إن لها وظائف أخرى منها ما توصل العلم الحديث إلى معرفته وكثير منها ما زال مجهولاً، وقد كان لتلك المصابح حظ وافر في حياة الناس منذ زمن بعيد، ولأنها في نظرهم كبيرة وهامة فقد استعملها رب العالمين للإحتجاج عليهم بغض النظر عن الدور الذي تلعبه في الفضاء.

وفي هذه الآية الكريم أخبرنا الله بأنه زيّن السماء بالبروج، وفي سورة الملك عبّر بالمصابيح حيث قال(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) وفي سورة فصلت كذلك، وهذا يعني أن المراد بالبروج هو النجوم، وقد ذهب بعضهم إلى أن المراد بالبروج هو المنازل الإثنا عشر، وأياً يكن فإن كل ما في الفضاء مرتبط ببعضه البعض، والغاية من ذكر الجميع واحد وهو بيان قدرة الله عز وجل.

وما أريد أن أقف عليه في هذه الآيات من سورة الحجر هي قوله سبحانه(وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ) وفي سورة الملك(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ)

أما الآية الأولى فإنها تخبرنا بأن الله تعالى زيّن السماء بالنجوم وحفظها من كل شيطان، هذا مع العلم بأنه لا سلطة لا لشياطين الجن ولا لشياطين الإنس على تلك المخلوقات، فلا بد إذاً من وجود معنى آخر لهذه الفقرة، ولأجل هذا نقول: لقد كان أهل الجاهلية يعتقدون بأن لكل كاهن شيطاناً يأتيه بأخبار السماء، وقد أنكر الله ذلك عليهم، وعلى فرض أن شياطين الإنس والجن استطاعوا أن يصعدوا إلى الفضاء ليسترقوا السمع فيسمعوا كلام الملائكة كما كان يزعم أهل الجاهلية فإن الله تعالى لا يسمح لهم بذلك بل إنه ربما يرجمهم بالشهب أو يكون معنى الرجم كناية عن خيبة أملهم لأنهم لن يصلوا إلى مرادهم أبداً.

وفي سورة الملك(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ)

لقد ورد في بعض الأخبار أن الله تعالى أبعد الجن عن الأرض ولم يسمح لهم بأن يسمعوا كلام البشر إلا القرآن الذي سمعوه من رسول الله فآمنوا به، وفيه قال تعالى(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) أما غيره من كلام الناس فلم يُسمح لهم بسماعه بل إذا حاول أحد من الجن أن يدنو من الأرض ليسترق السمع رماه الله تعالى بشهب من نار.

وقد خلق الله تعالى من تلك المصابيح ما يعجز الخلق عن عده رغم تطورهم وصعودهم إلى الفضاء وإنما قدّروا عددها بالمليارات، وإن دلت كثرة العدد هذه على شيء فإنما تدل على عظمة ملك الله تعالى وسلطانه وقدرته.

وفي سورة الصافات(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ  وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ  لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ  دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ  إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ)

هذه الآيات الكريمة توضّح ما ورد في سورة الملك حيث تصرّح بأن أحداً من الإنس والجن لا يستطيعون سماع كلام الملأ الأعلى ولعل المراد بهم الملائكة وقد قلنا قبل قليل بأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون بأنهم إن صعدوا إلى الفضاء فسوف يسمعون كلام الملائكة وأن لكل كاهناً شيطاناً يأتيه من السماء فيخبره عما تقول الملائكة.

فلقد نفى الله إمكانية ذلك بقوله(يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) ولو فرضنا أن أحداً كان له القدرة على الصعود إلى الفضاء والإقتراب من موضع الملائكة فسوف يضربه الله تعالى بشهاب من نار، وقد قال بعض المفسرين بأن هذه الآية هي من المتشابهات، وأولاً وأخيراً فإن مرد الأمور كلها إلى الله تعالى العالم بمقاصده.

لقد خلق الله عز وجل سبع سموات ولا أحد من خلقه يعلم الحكمة من وراء ذلك إلا من أطلعه عليها من صفوة خلقه، وهذا الفضاء الواسع الذي قُدرت مساحته بمليارات السنين الضوئية ما هو إلا جزء صغير من هذا الكون الذي لا يعلم حدوده إلا الله تعالى، وقد حدثنا الله في كتابه عن شمس وقمر ونجوم وكواكب في سمائنا ولم يحدثنا عن وجود مثلها في غير سماء، وعدم إخباره عن تزيين غير سمائنا بمصابيح لا يعني عدم وجودها فلربما كان فيها أعظم مما في سمائنا ولكنه تعالى أخفى الأمر عنا لأن عقولنا لا تطيق معرفة تلك الأشياء ولا تستوعبها، وإذا كانت عقولنا عاجزة عن معرفة ما في كوكب الأرض من مخلوقات وأنظمة، وأن هناك أكثر مما اكتُشف فيها حتى الآن فكيف يمكن لنا أن نعرف ما هو بعيد عنها.

قال تعالى في سورة فصلت(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فلقد حدثنا عن أنه خلق سبع سموات ووضع لكل سماء نظامها الخاص المتلائم مع التكوين العام ثم أشار إلى أنه زيّن السماء الدنيا بمصابيح، ويمكن أن تكون سماؤنا مختصة بهذا التزيين نظراً لكونها الظرف الوحيد للإمتحان من قبل الله تعالى، وما تلك المخلوقات المحيطة بنا والموجودة حولنا سوى جزء من امتحان الله لنا.

فإذا كانت السماء الثانية أو الثالثة أو الرابعة خالية من الحياة وبالتالي ليس فيها ممتحَنون فهذا ما يقرّب إلينا فكرة اختصاص السماء الدنيا بتلك المصابيح دون غيرها.

ثم إن أكثر من آية كريمة خصصت موضوع التزيين بسمائنا نحن البشر.

 

 

الشيخ علي فقيه

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى