الجَنةُ وَالنار
بعد أن يموت الإنسان ويمكث في البرزخ ما شاء الله ثم يقوم للحساب يصل أمره إلى النهاية من جهة، والبداية من جهة ثانية، أما النهاية فهي نهاية مراحل العمل والحساب، وأما البداية فهي المرحلة التي تبدأ بعد صدور الحكم الإلهي الذي إما أن يكون قاضياً إلى الجنة أو قاضياً إلى النار، وهناك تبدأ المرحلة التي لا نهاية لها، إما سعادة أبدية وإما جحيم دائم، والحكم الإلهي الأولي متوقف على القرار الذي يتخذه الإنسان في الحياة الدنيا عبر اختياره لأحد الطريقين فيها، إما طريق الإيمان أو طريق الكفر والعصيان، والإنسان يعلم بنتيجة سلوكه فإن سلك طريق الخير كانت خاتمته خيراً، وإن سلك سبيل الشر كان عاقبته شراً.
يصل الأمر إلى الجنة والنار، وهما مخلوقان من مخلوقات الله، ولا يمكن لأحد أن يعرف تفاصيلهما بدقة، حيث لم يطلعنا القرآن على كل شيء، لأن عقولنا لا تطيق معرفة كل شيء عنهما، وقد وقع النقاش في كونهما موجودين أو أنهما سوف يوجدان في يوم القيامة، وقد عُقِدت بحوث مطولة حول هذا الشأن، فمنهم من أثبت كونهما موجودين، ومنهم من نفى ذلك، ولكل واحد منهما أدلته الخاصة في النفي أو الإثبات، وأنا شخصياً أعتقد بأن إضاعة الوقت في إجراء مثل تلك البحوث أمر غير مقبول، لأن إثبات وجودهما حالياً أو عدم وجودهما لا يقدم شيئاً ولا يؤخر في مصير الإنسان وسلوكه، فهل أنه إذا لم يكونا موجودين حالياً فإن المؤمن سوف يتجرأ على ربه؟ أو أنهما لو كانا موجودين فسوف يخشى ربه؟ فبدل أن تصرفوا الوقت في إثبات وجودهما أو عدمه إصرفوا الوقت في وعظ الناس وتشجيعهم على التقديم للجنة عبر الطاعة، واستعملوا في وعظهم أسلوبي الترغيب بالجنة والترهيب بالنار.
قد تكون الجنة والنار موجودتين، وقد لا تكونان كذلك، وهذا لا يتنافى مع حديث القرآن عنهما ووصفه لبعض ما فيهما من النعيم والعذاب، نحن نظن بأن هذا الأمر مسكوت عن التصريح به، وإذا سكت القرآن والسنَّة عن التصريح به فلا يحق لي أن أتحدث بالأمر وأناقش فيه، ونحن نؤمن بأن الله تعالى قادر على خلق الجنة والنار بلمح البصر، وأنا لا يهمني أن تكون الجنة أو النار موجودتين الآن، فما يهمني هو أن يزحزحني الله عن النار، لأنه من يزحزحه ربه عنها فقد فاز فوزاً عظيماً، قال تعالى(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) وقد احتج المثبت لوجود الجنة والنار بالطريقة التي يحدثنا بها القرآن الكريم عنهما، فإنه عندما يحدثنا عنهما يوحي بأنهما موجودتان، نحن نقول إنهما موجودتان فعلاً بعلم الله تعالى، والحديث عنهما في القرآن بهذه الطريقة لا يدل على وجودهما الفعلي، فلقد حدثنا القرآن عن أمور كثيرة بهذا الأسلوب وهي غير موجودة، ولم تحصل بعد كحديثه عن مصير الإنسان في يوم القيامة، كما في قوله مثلاً(وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ولم يقل سوف يكون بصرك حديداً، وإنما حدثنا عن ذلك وكأن القيامة قامت.
وبعد هذا النقاش أنا شخصياً أؤمن بأن الجنة والنار موجودتان فعلاً ،لأن أدلة الوجود أقوى من أدلة النفي، وأعظمها حديث المعراج، وقوله تعالى(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) ومنها أن آدم كان في الجنة، فنحن نؤمن يقيناً بالجنة ونعيمها والنار وجحيمها، والمنكر لهما ليس مؤمناً، فالكافر بالجنة لن يدخلها، والكافر بالنار سوف تكون مقراً له في يوم الحساب.
جَنَةٌ عَرْضُهَا السَمَوَاتُ وَالأَرْض
يحدثنا ربنا عز وجل في كتابه المجيد عن أمور لا يمكن إدراكها إلا بالرجوع إلى أهل الذكر، لأن القرآن الكريم معجزة في تراكيبه الخاصة وإيجازه على نحو الخصوص.
وحديث القرآن عن الغيبيات حساس ودقيق لا تدركه العقول إذا تجردت عن الأدلة الأخرى الواردة عن أهل العصمة سلام الله عليهم، لأن هناك أموراً معقدة يصعب فهمها بسهولة، كحديثه عن الجنة التي وصفها في أكثر من موضع بأن عرضها كعرض السموات والأرض، وهو من الأوصاف العظيمة.
ففي سورة آل عمران(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)
وفي سورة الحديد(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)
وهنا نطرح سؤالين في المقام:
السؤال الأول: هل حجم الجنة كحجم السموات والأرض بالدقة والتحديد؟
السؤال الثاني: هل أن لكل مؤمن جنة كهذا العرض أم هذه الجنة للجميع؟
أما الإجابة على السؤال الأول، فإنه هل يقصد بها كل الطبقات مع الفضاء، يعني هل لكل سماء فضاء كالفضاء الذي نرى نحن جزءاً منه فتكون سبع طبقات بما فيها الفضاءات الفاصلة؟ نحن هنا نجيب بالإيجاب لأن هذا التحديد يشمل كل ما يُفهم من لفظ السموات، ثم يمكن حمل هذا الوصف على بيان السعة فتكون الجنة أوسع من السموات والأرض، وقد عبّر لنا القرآن عن تلك السعة بأوسع المخلوقات التي يعرفها الإنسان، ولم يعبّر عنها بما هو أوسع من السموات والأرض لأن عقول الناس لا تحتمل ذلك، هذا ونحن نؤمن بأن الله تعالى قادر على أن يوسع خلقه كيفما يشاء، وبالحجم الذي يريده، وعليه فلا مانع من أن تكون الجنة أوسع من أضعاف السموات والأرض، وقد قال بعضهم إذا كانت الجنة عرضها كالسموات والأرض فأين تكون النار أو أين تكون السموات والأرض؟ خصوصاً وأنه تعالى يقول في كتابه(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وهنا نقول بأن الذي يطرح مثل هذه الأسئلة لم يفهم الحقيقة كما يجب، ولم يثق بقدرة الله على إنشاء ملايين السموات والأرضين والأكوان.
وأما الجواب على السؤال الثاني، فقد تكون الجنة لكل واحد بمعنى أن كل مؤمن له جنة كعرض السموات والأرض، وهذا من المسائل التي طرحها بعضهم، نحن نقول لا مانع من أن يكون لكل واحد من المؤمنين جنة كعرض السموات والأرض لأن عطاء الله كبير وهو على كل شيء قدير غير أن هذا الإدعاء مخالف لظواهر القرآن الكريم الذي يصف أهل الجنة بأنهم يجلسون مقابل بعضهم البعض، وهذا يعني أن الجميع يجلسون في جنة واحدة ولكن كلٌ بحسب درجته المخصصة له من قبل الله تعالى، وإلى هذا القرب من بعضهم البعض في الجنة قال تعالى(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) وفي سورة الصافات(أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ) وفي سورة الدخان(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) وفي سورة الواقعة(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ).
الجَنةُ مَقَر أَهْلِ الإِيمَان
لقد أنعم الله على عباده بأنواع كثيرة من النعم المادية والمعنوية، فرزقهم من كل ما سألوه وما لم يسألوه، بحيث عجز البشر عن إحصاء نعمه وتعداد آلائه، هذا على مستوى الدنيا، وأما على مستوى الآخرة فإن نعمه أجل وأكبر وأدوم وأبقى، لأن نعم الدنيا مصيرها إلى الزوال، أما النعم في الآخرة فلا زوال لها ولا نقصان، وهناك حقيقة يجب أن يفهمها الجميع، وهي أن الله جل شأنه وتقدست صفاته خلقنا من أجل أن يرحمنا بشرط أن نعمل صالحاً وليكون هذا العمل باباً إلى الرحمة.
لقد أمرنا ربنا بالإيمان والعمل، وجعل ذلك شرطاً في الحصول على سعادة الآخرة، فوعد المؤمنين الصادقين جنة عرضها كعرض السموات والأرض، ورسم لهم الطريق الموصلة إلى تلك الجنة، وسهّل لهم سبل المعرفة وأسباب العمل حتى لا يكون لأحد منهم حجة عليه في يوم الجزاء، والجنة هي ثواب الإيمان وثمن العمل، لأنه تعالى عقد مع عباده صفقة رابحة لهم برأسمال قليل يقدر عليه القوي والضعيف والغني والفقير والرجل والمرأة والحر والمملوك، فنعم الصفقات التي يجريها العباد مع خالقهم الذي اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة (إن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة) وقد أخبرنا الرسول الكريم(ص) بأن الجنة محفوفة بالمكاره وعلى الإنسان أن يصبر على بلاء الدنيا حتى يفوز في الآخرة فقال: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات:
وها هو القرآن الكريم يحدثنا عن الجنة وأهلها وثمنها في العديد من سوره المباركة وآياته الكريمة من باب الترغيب في السعي نحو ما يكسبنا ذلك النعيم الكبير الذي تقصر الألسن عن وصفه والعقول عن إدراكه.
ففي سورة النازعات قال سبحانه(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) الجنة مأواه وجزاؤه بما صبر وعمل وهي ثمن عمله الذي قام به لوجه ربه الكريم، الأمر يحتاج إلى شيء من الصبر لأن نهي النفس عن الهوى يحتاج إلى مقاومة قوية مع الشيطان الرجيم الذي يوسوس لها على شكل الدوام، ثم وعد الله عباده المحسنين بتكفير السيئات عنهم وإعطائهم ثواباً كبيراً فقال تعالى في سورة العنكبوت(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) فمهما كان العمل حسناً فإن ما عند الله عز وجل أحسن وأجمل وأكبر فهو أكبر من أعمال العباد من الأولين والآخرين.
وفي سورة مريم قال تعالى(إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)
وفي سورة العنكبوت(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)
وفي سورة الشورى(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ)
وفي سورة البقرة(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
طَعَامُ الجَنةِ وَفَاكِهَتُها
ورد في الحديث القدسي: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر: وقال سبحانه في سورة السجدة(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فلو أن جميع المحدثين والوصافين صرفوا مئات السنين في العمل على وصف النعيم في الجنة لما استطاعوا وصفها، لأن ما أعده الله تعالى لهم لا يمكن أن يمر على عقل إنسان ولو على نحو التقريب، فلقد وصف لنا القرآن الجنة، ولكن الأمر يبقى عند حدود الوصف، فمثلاً يحدثنا القرآن عن طعام الجنة وأنه طيب ولذيذ، ونحن نحاول أن نشعر بتلك النكهات ونتخيل أعظم نكهة ولكننا مهما حاولنا أن نصل بمخيّلتنا إلى نكهة طعام الجنة فلن ندرك ذلك لأن كل تخيلاتنا صدرت نتيجة الطعم الذي نتذوقه في الدنيا، مع أن طعم طعام الجنة يختلف كلياً عن طعم طعام الدنيا وإن اتفق أن الشكل واللون واحد.
قال تعالى(وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يعني أن أهل الجنة عندما يؤتى لهم بطعام في الجنة فيجدون شكله ولونه كشكل طعام الدنيا، فمثلاً لو أتي لهم برغيف من الخبز فسوف يتوهمون بأن طعمه هو طعم خبز الدنيا، فالشكل ربما يكون مشابهاً لما هو موجود في الدنيا، أما عندما يتذوقونه فسوف يعلمون بأن طعمه مختلف تماماً عن الطعم الذي عهدوه في دار الدنيا، ففي الجنة يوجد كل شيء، وليس كما توهم البعض بأن أهل الجنة لا يأكلون، فإن هذا الكلام مخالف لظواهر القرآن الكريم الذي طالما حدثنا عن طعام الجنة وفاكهتها الرائعة التي لا مثيل لها في دار الدنيا، فهناك طعم رائع حيث لا ضرر ولا تخمة ولا تلوث ولا تعفن، وهناك كل شيء يختلف عما هو موجود في دار الدنيا، ولنقرأ معاً بعض الآيات التي تتحدث عن طعام الجنة وثمارها وفاكهتها.
ففي سورة الزخرف(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) وفي سورة الواقعة(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ) يعني إذا اشتهى الإنسان طيراً يراه محلقاً في فضاء الجنة فإنه يؤتى له به مشوياً بلمح البصر الأمر في الجنة لا يحتاج إلى طلب وعناء وسعي فإن الشيء يتحقق بمجرد تمنيه، ونظام الرزق في الجنة غير نظامه في الأرض فإن أنظمة الجنة تختلف عن نظامنا هنا فهناك إذا اشتهيت ثمرة في أعلى الشجرة فلا دتعي لأن تصعد إلى أغصانها أو تضع شيئاً تحت قدميك فإنك إذا اشتهيت الثمار والفاكهة تدلى إليك الغصن فتقطف الثمرة التي تريد من دون أي عناء قال تعالى حاكياً عن ذلك النظام(وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا)
ثم يحدثنا القرآن أكثر وأكثر من باب الوعظ والترغيب في الطاعة الموصلة إلى ذلك النعيم فيقول(وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ)
خَمْرُ الجَنةِ وَلِبَاسُ أَهْلِهَا وَالوِلْدَانُ المُخَلدُون
قد ينفر البعض من لفظ خمر الجنة ويعتبره أمراً قبيحاً، وذلك قياساً منه لقبح الخمر في الدنيا، فهو يرفض استعمال هذا اللفظ لقبح معناه، ولكن معنى الخمر في اللغة لا ينحصر في المنكر أو المسكِر، فقد يُستعمل للدلالة على الشيء المخمّر كالخل، وقد كثر الكلام حول خمر الجنة هل هو مسكر أو غير مسكر؟ وأنه إذا كان مسكراً فهل يحل شربه في الجنة؟ وهناك كثير من التساؤلات حول هذا الأمر وغيره مما يشبهه في المعنى، ولا إشكال في استعمال لفظ الخمر على بعض السوائل في الجنة، حيث أعد الله لعباده نهراً من الخمر وجعل فيه الطعم الحسن واللذة والنكهة الطيّبة في الشرب حيث قال(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ) فإذا كنتم تستقبحون هذا اللفظ فإن الله تعالى قد استعمله في وصف بعض نعم الجنة، نحن نستقبح المعنى وليس اللفظ، فإن معنى وحقيقة الخمر في الجنة يختلف عن معناه وحقيقته في الدنيا، ففي الدنيا الخمر قبيح وقاتل ومزيل للعقول، أما في الجنة فإن أوصافه وآثاره غير أوصاف خمر الدنيا لأن كل ما في الجنة من طعام وشراب وأشكال يختلف عما هو كائن في الدنيا.
وإذا كان استقباح هذا اللفظ ناشئاً من حرمته فإنه لا يوجد في الجنة حلال وحرام، ولا يوجد تكليف، فلك في الجنة ما شئت وإن كان مشابهاً لما هو حرام في الدنيا، فقوله تعالى ما تشتهي الأنفس شامل لكل المعاني والأبعاد.
وهذا يعني بأن نوفر على أنفسنا وعلى غيرنا عناء السؤال حول ما يتعلق بما هو موجود في الجنة، وخلاصة الأمر أنه يوجد فيها كل ما يمكن أن يُتصور.
الجنة دار سعادة وراحة ولذة وأنس فأنت إذا دخلتها كنت عزيزاً لك الخدم والحشم والقصور والأنهار والجواهر والحدائق وكل ما يمكن أن يدخل السرور إلى قلبك، فلقد هيّأ لك ربك في تلك الدار ولداناً مخلدين أشكالهم رائعة وصورهم جميلة ليقوموا بخدمتك وملازمتك وليكون ذلك مؤنساً لك، ولقد حدثنا كتاب الله الصادق عن تلك الولدان في كثير من سوره المباركة، ففي سورة الواقعة(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ) وفي سورة الإنسان(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا)
ثم إنك يا صاحب الجنة لك لباس من حري خاص مرصع باللآلئ والجواهر، وإليه يشير تعالى بقوله(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) وفي سورة الدخان(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ) وفي سورة الإنسان(وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) وفي سورة الحج(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) وفي سورة فاطر(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) وفي سورة الإنسان(وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا).
الحُوْرُ الْعِيْن
لقد حدثنا القرآن الكريم عن عطاءات الله للمؤمنين في الجنة، وذلك من باب الحث على الطاعة، والترغيب في العمل الصالح الذي هو سبب كل خير للإنسان في الدنيا والآخرة، فذكر لنا هذا النوع العظيم من أنواع النعم الإلهية علينا في الجنة التي فيها ما تشتهي الأنفس وما تلذ الأعين.
ففي أواسط سورة الصافات أشار إلى عدة نعم لأهل الجنة ومنها الحور العين التي يتمناها كل إنسان فقال سبحانه(إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ) لقد أشارت هذه الآيات إلى مسألة هامة جداً تعتبر من التكريم الخاص، فهي أعظم من الفواكه والطيور والأنهار والحور، وهي أنه تعالى يعطي الإنسان في الجنة ويُشعره بأنه عزيز، فهو يكرّمه، وهذا ما أشير إليه في قوله تعالى(وَهُم مُّكْرَمُونَ) ثم ذكر جلوس أهل الجنة على الأسرّة مقابل بعضهم البعض، ثم تحدث عن حور العين فوصفهن بقوله(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ) وهو من التعابير التي تكشف لنا مدى جمال حور العين وصفاتهن التي هي شبه خيال لروعتها، فإنهن كالبيض المكنون واللؤلؤ والجواهر، وأعظم ما يمكن أن أصف به هذا الخلق الرائع هو أنني أعجز عن وصفهن، وتأخذني الحيرة في تقريب الصورة للأذهان.
وفي سورة الواقعة(إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ) لقد خلق الله حور العين وجعلهن أبكاراً على خلاف ما يحصل في دار الدنيا فإن الحورية تبقى بكراً إلى الأبد، وهذه نعمة من الله تعالى، وأما قوله(عرباً) وهي العاشقة لزوجها، وحور العين تعشق المؤمن في الجنة لتشعره بالراحة والسعادة، وأما الأتراب فهن المتساويات في الأعمار، وقد اختار الله لهن أعماراً يرغب بها الإنسان.
أَنْهَارُ الجَنَة
مهما طال الكلام حول وصف الجنة وبيان ما فيها من النعم الإلهية على البشر فلا نشعر بالملل والتعب، لأننا كلنا شوق لأن نكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، ومهما اجتهدنا في وصفها وذكر معالمها فإننا لن نصل إلى شاطئ هذا البحر الكبير الذي فيه عجائب المخلوقات والنعم وأروعها وأحسنها شكلاً ووصفاً ومضموناً، حيث أخبرنا الله عبر بعض أنبيائه السابقين بأنه أعد لعباده المؤمنين ما لم تره العيون وما لم تسمعه الآذان وما لم تحوه القلوب وتتصوره العقول، وقد أشار في بعض آياته إلى أنه أخفى علينا كثيراً من أوصاف الجنة ونعمها ولعل ذلك من باب الترغيب حيث قال سبحانه في سورة السجدة(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ونحن بدورنا نقنع ببعض ما ذُكر في القرآن عن الجنة، لأن همنا الأول هو الإبتعاد عن النار، ونفس النجاة من النار فوزٌ للإنسان.
وقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يوصف بعض ما الجنة كيلا يكون الأمر غامضاً بالكلية فذكر لنا أوصافاً كثيرة: منها: الأنهار التي خلقها الله لعباده في الجنة بأشكال وأحجام وأوصاف تختلف عن أوصاف أنهر الدنيا التي فيها الروعة والجمال والسكينة، وإن روعة أنهر الدنيا ذرة في بحر روعة أنهر الجنة.
ففي سورة محمد أشير إلى أربعة أنواع من أنهر الجنة حيث قال سبحانه(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ)
النوع الأول من أنهار الجنة: أنهار الماء الصافي الذي لا يتغير ولا يتلوث ولا يتأثر بأي العوامل السلبية لأنه لا يوجد في الجنة عوامل سلبية تعكر صفوه ولونه وطعمه وفوائده كما هو حال أنهار الدنيا التي تلوثت بسبب المواد السامة التي أنتجتها أيدي الخبث والإجرام وحب السيطرة على العالم.
النوع الثاني: أنهار اللبن التي لا يتغير طعمها ولا يفسدها شيء إلى الأبد، فهو لبن له طعم خاص ونكهة نادرة لا يمكن الشعور بها إلا عندما يشربها المؤمن في الجنة فهو حليب أنتجته القدرة من دون بقر ولا ماعز ولا مخلوقات أخرى.
النوع الثالث: أنهار الخمر، النادر في طعمه واللذة الموجودة فيه، فهو غير خمر الأرض الضار الذي يخلخل الأمعاء ويضر بالصحة ويزيل العقل.
النوع الرابع: أنهار العسل المصفى، وهذا ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهناك العسل الصافي البعيد عن الغش الذي نراه في الدنيا ممن يضع في العسل مواد أخرى من أجل زيادة الربح أو يضع الأدوية والسكر للنحل، وحتى لو لم يضع شيئاً من ذلك لأنه يخاف الله تعالى في غش الناس، فإن نفس الزهرة التي تستخرج منها النحلة رحيقها ملوَّثة بفعل الأسلحة المدمرة.
كَلامُ أَهْلِ الجَنة
من نعم الله سبحانه على أهل الجنة عذوبة الكلام الذي يسمعونه من بعضهم البعض تارة، ومن الملائكة تارة أخرى، ومن المعروف في هذه الدنيا أن هناك ألسناً جارحة لا يصدر عنها سوى ما يؤذي الأسماع والقلوب وينفر الأنفس فيجعلها كئيبة مشمئزة، ففي هذه الحياة يوجد من الكلام نوعان طيب وخبيث، أما في الجنة فلا يوجد سوى الكلام الطيب الذي يدخل السرور والسعادة على قلوب أهلها وسكانها، فالجنة منزهة عن اللغو والكلام الفاحش والمؤذي، إذ ليس فيها سوى السلام والتسبيح والشكر الخاص بأنظمة الجنة، وعلى ذكر الشكر في الجنة وقع نقاش كبير حول حقيقته والدافع له، فهل هو ثمن نعم الجنة أم أنه تعبير عن عظيم النعمة بحيث يصدر الشكر من أهل الجنة نتيجة فرحهم بما أعطاهم الله تعالى؟ فهنا نوعان من الشكر أحدهما يصدر من الإنسان في الدنيا والآخر يصدر من المؤمن وهو في الجنة:
أما الشكر الأول: فإنه يصدر من الناس في الدنيا بوجهين:
الوجه الأول: يصدر من دون قصد التقرب إلى الله، ككلمة يعبر الإنسان بها عن امتنانه وشكره، كمن يُرزق بشيء فيقول الشكر لله، ولا يقصد به وجه الله وثوابه .
وأما الوجه الثاني: فهو الشكر العبادي الذي يصدر من الإنسان عن قناعة بكونه طاعة لله سبحانه وتعالى قد وضع فيها ثواباً كبيراً وأجراً عظيماً وهو بشكره لله يرجو فضله وثوابه ورضاه.
وأما الشكر الثاني: وهو الشكر الذي يصدر من أهل الجنة إن قيل بوجود شكر هناك، فإن كان في الجنة شكرٌ، فمن الأكيد أنه يحمل هدفاً مغايراً للأهداف التي يحملها الشكر في الدنيا بكلا وجهيه، المؤمن بشكره لربه في دار الدنيا يرجو به الجنة، فإذا كان المؤمن في الجنة وشكر ربه فما هو الغاية منه؟ المؤمن لا يشبع من ذكر الله تعالى سواء كان في الحياة الدنيا أم في الجنة وكثير من المؤمنين في الدنيا يذكرون ربهم ابتغاء مرضاة الله بغض النظر عن الجنة وثوابها، وهذه الروحية تلازم المؤمن حتى في الجنة لأنه هناك يصبح ذاكراً لله بشكل أكثر وخصوصاً عندما تنزل عليه النعم الإلهية الكبرى، وذلك على قاعدة وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وميزة الشكر أنه مثمر للشاكر في الدنيا وفي الجنة.
ففي الجنة لا يوجد لغو ولا كذب ولا غيبة ولا فتنة ولا نميمة ولا أي سوء بل فيها كما قال الله تعالى(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)
وقد حدثنا القرآن عن هذا الشيء فقال(وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)
طَبِيعَةُ الجَنة
لا شك بأن طبيعة الجنة تختلف بأنظمتها وأشكالها وألوانها وخصوصياتها عن أنظمة هذه الدنيا، فطعام الجنة وشرابها وفاكهتها غير طعام الدنيا وشرابها من حيث الطعم واللذة، ومناخ الجنة غاية في الإعتدال فلا يوجد فيها حر شديد ولا برد قارص، ولا يوجد فيها شمس ولا قمر ولا مطر، ولا يوجد فيها تعب ولا سقم ولا حزن ولا هم ،بل فيها كل ما يدخل السرور إلى قلب الإنسان، هذا كله بالإضافة إلى ما ذكرناه حول أنهار الجنة وطعامها والحور العين والولدان المخلدين والسندس والإستبرق والحرير، ففي الجنة لا يوجد ما يعكر صفو المرء وما يدخل الغم إلى قلبه، وإنما فيها كل ما يخطر ببالك وكل ما تشتهيه نفسك، فقد قال سبحانه(لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).
وفي بيان تلك الطبيعة الخاصة التي هيأها رب العالمين لعباده المخلصين قال سبحانه في سورة الإنسان المادحة لأهل البيت(ع) والمبينة لفضلهم ومكانتهم عنده(وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا)
الجَنةُ وَنَعِيمُهَا
قال رسول الله(ص) : من اشتاق إلى الجنة سارع في الخيرات: وهذا هو معنى قوله تعالى في سورة آل عمران(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وقال أمير المؤمنين(ع) : ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها ولا كالنار نام هاربها: فينبغي عليك أيها الإنسان أن تجعل الجنة هدفاً لك في حياتك فتعمل ما يوصلك إليها وما يجنبك العذاب الأكبر، فإنه إذا أتى يوم الحساب ولم نكن قد تذخرنا لمواجهة أهواله فإننا واقعون في الخسارة الكبرى التي لا يوجد لها فرصة أخرى تعوضها، فإنما هي الحياة الدنيا، فمن عمل فيها فاز فوزاً عظيماً، ومن ألهته شهواتها وزخارفها ونسي الآخرة فقد خسر نفسه إلى الأبد حيث لا يوجد من يخلصه من العذاب هناك.
ويحثنا الإمام الباقر(ع) ويحركنا نحو السعي السريع لنيل الجنة التي قد نخسرها بين لحظة وأخرى إذا جاء أجلنا قبل أن نستدرك الأمور ونتوب من الذنوب ونتخلص من تبعاتها فقال(ع) : يا طالب الجنة ما أطول نومك وأكلَّ مطيتك وأوهى همتَك فلله أنت من طالب ومطلوب ويا هارباً من النار ما أحث مطيتك إليها وما أكسبك لما يوقعك فيها: والإنسان في هذه الحياة طالب ومطلوب، فهو يطلب الدنيا ويعمل على جمعها والحرص عليها، والموت يطلبه على شكل الدوام، فلا يدري في أية لحظة تهجم عليه سهام المنية فتصيبه بالموت الذي هو ألزم لنا من ظلنا وأقرب الأشياء إلينا.
فالجنة أمر عظيم وخطب جليل تستحق منا العناء والعمل والصدق والإخلاص والصبر على الطاعة وعلى المعصية وعلى البلاء، لأن ذرة من نعيمها أعظم من كل بلاءات الحياة وشهواتها، قال أمير المؤمنين(ع): الجنة أفضل غاية: وقال(ع): الجنة مال الفائز: وقال(ع) : الدنيا دار الأشقياء والجنة دار الأتقياء: وقال(ع) :ما خير بخير بعده النار وما شر بشر بعده الجنة وكل نعيم دون الجنة فهو محقور وكل بلاء دون النار عافية:
ثَمَنُ الجَنَة
الله سبحانه وتعالى رحيم غفور وعفو كريم وهو كما يصفه علي(ع) في دعائه: سريع الرضا: وقد كثرت الآيات الكريمة المثبتة لهذه الحقيقة التي باتت أوضح من الشمس في وسط السماء، وأعرف لدينا من معرفتنا لأنفسنا، ولكنه يوجد في مقابل هذه الرحمة الواسعة عذاب وغضب وانتقام، فمن أراد أن يكون ربه له رحيماً فليرحم نفسه بالطاعة والإبتعاد عن المعصية.
وأما بالنسبة لثمن الجنة فإن النفس هي ثمنها، فلا ينبغي أن نجعل أنفسنا ثمناً لأمور حقيرة ووضيعة نضيع بها في الدنيا ونخسر بها الآخرة، فلقد أخبرنا ربنا بأنه اشترى منا أنفسنا مقابل الجنة، ولا نعني بذلك أن نُقتل في المعارك، بل إن بيع النفس لله يتم وأنت جالس في بيتك، فبيع النفس لله هو تحريرها من قيود الشيطان الرجيم، قال تعالى(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) فإذا أنفقت مالك في سبيل الله أي في طرق الحلال ومساعدة الفقراء والمحتاجين فإن إنفاق هذا المال من للجنة لأنك من خلال إنفاق المال في سبيل الله أنت تبيع نفسك له، فثمن الجنة نفسك وثمن نفسك الجنة لقول أمير المؤمنين(ع):إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها: وقال(ع) : إن من باع نفسه بغير الجنة فقد عظمت عليه المحنة: وقد أشار الإمام الصادق(ع) إلى بعض أثمان الجنة فقال: قول لا إله إلا الله ثمن الجنة:
الطرِيقُ إِلَى كَسْبِ الجَنَة
من ألطاف الله بعباده أنه سهّل لهم سبل الخير ووسّع عليهم طرقها ليكسبوا رضاه كيفما ساروا في الأرض وسعوا فيها ومشوا في مناكبها، وفي أية جهة اتجهوا، ولأجل هذا نجد بأن المحرمات محدودة ومعدودة، فهي قليلة جداً، أما أبواب الخير فهي أكثر من أن تحصر لأنها وكما ورد في الحديث بعدد نجوم السماء، فلو أردت الخير وجدته في أي مكان وأي زمان من دون بحث وعناء وتعب، وهذا يعني أن الحجة علينا كبيرة، وأنه لا عذر لنا أمام التقصير الذي يصدر عنا تجاه الله سبحانه وتعالى، فمن احتج بأنه لم يعثر على طريق إلى الجنة فهو مقصر. إن أول طريق يوصلك إلى الجنة هو الإيمان الصحيح، فلكي تكون من أهل الجنة وجب أن يكون إيمانك تاماً لأن هناك أنواعاً من الإيمان قد دخلها النقص، وأي نقص في هيكل الإيمان يحدث فيه خللاً يجعله بحكم المعدوم، والإيمان الكامل يتم بالإقرار بالشهادتين والإعتقاد القلبي بكل ما جاء به النبي والعمل بكل ما فرضته عليك الشريعة، قال عز وجل(رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) والعمل الصالح طريق نحو الجنة فقد قال سبحانه في محكم كتابه(وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)
وهناك جملة كبيرة من الطرق المؤدية لاكتساب الجنة قد ذكرها لنا النبي وآله(ص) فقد قال رسول الله(ص): أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق:
وقد سئل(ص) عن عمل لا يُحال بينه وبين الجنة فقال:لا تغضب ولا تسأل الناس شيئاً وارضَ للناس ما ترضى لنفسك:
وقال(ص):ثلاثٌ من لقي الله عز وجل بهنّ دخل الجنة من أي باب شاء، من حَسُنَ خُلُقُه وخشي الله في المغيب والمحضر وترك المِراء وإن كان محقاً:
وقال الباقر(ع): عشرٌ من لقي الله عز وجل بهن دخل الجنة، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والإقرار بما جاء من عند الله عز وجل وإقامُ الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت والولاية لأولياء الله والبراءة من أعداء الله واجتناب كل مسكر:
الشيخ علي فقيه

