مَثَلُ عبادة الأصنام
لم ترد أمثلة القرآن والسنّة إلا لبيان عظيم الأمر الممثَّل له إما من الناحية الإيجابية أو من الناحية السلبية، وبالأخص فإنها ترد لبيان التعجب من بعض المعتقدات التي يتبناها الناس والتي لا تتصل مع الحق بوجه من الوجوه، أو أنها ترد لبيان قلة الإدراك والتأمل لدى كثير من الناس كالذين يحملون العلم ولا يعملون به أو كالذين يعبدون الأصنام وهم يدركون تماماً بأنها ليست آلهة لأنهم هم الذين اخترعوها وأعطوها الشكل والحجم والصورة التي يرغبون بها، فهم يتصرفون بالأصنام كيفما يشاؤون وهذا هو مصدر العجب القرآني والإستنكار الوارد فيه وفي السنة المطهرة إذ كيف يعبد الإنسان مخلوقاً حقيراً لا قيمة له ولا شأن ولا أي دور في الحياة فهو عبارة عن مادة جامدة لا تساوي سوى ثمن مادتها.
ولذا فقد استنكر القرآن هذه العبادة الفاسدة وصدورها من الإنسان الذي هو أفضل من الأصنام وأعظم وأكبر فقال سبحانه(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) يريد الله أن يقول لهم يا أصحاب العقول التي ميزتكم عن الحيوانات الأخرى كيف تعبدون مخلوقاً حقيراً لا يستحق التقدير ولا حتى الإنتباه من قبلكم فضلاً عن كونه لا يستحق العبادة ألا ترون أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع ولا يجلبون لكم الرزق بل لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهنا ينهاهم الله تعالى عن أن يصوروه بتلك الأشكال والتماثيل التي لا تحكي سوى واقعها بل أقل من ذلك فهؤلاء ضربوا الأمثال لله وقد استنكر عليهم هذا تافعل الشنيع.
ثم ضرب الله لهم الأمثال النافعة التي تكشف لهم حقيقة معتقداتهم الفاسدة التي تضرهم ولا تنفعهم فقال سبحانه(ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) ففي هذه الآية الكريمة ضرب الله لهم مثلاً لأصنامهم التي عكفوا عليها وعبدوها من دون الله فشبّهها لهم بالعبد المملوك الذي لا يؤمل منه الخير ولا يُخشى شره لأنه فاقد القدرة لا حول له ولا قوة، وأما الحر المالك للمال فهو ينفق من ماله في السر والعلن ويستطيع أن يفعل أشياء كثيرة فهل يستوي ذلك العبد المحتاج إلى سيده مع السيد الغني عن العبد؟ فتلك الأصنام كالعبد الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً أما الله تعالى فإنه غني عنهم وهو الذي يضر وينفع وإليه ترجع الأمور كلها ونحن كلنا فقراء إليه ومحتاجون إلى كرمه وجوده وقدرته.
فكيف استطاع هؤلاء الوثنيون أن يسوّوا بين الخالق القدير وتلك التماثيل الحقيرة؟ وهذا موضع تعجب القرآن الكريم.
ولكيلا يبقى شك في نفوس الناس فقد ضرب القرآن لهم مثلاً آخر حول عبادة الأصنام فقال عز وجل(وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا مثال يدعم فهمنا للمثال الأول فإذا كان هناك رجلان أحدهما أبكم لا يستطيع أن ينطق بأية كلمة وهو في نفس الوقت عالة على مولاه لا يفهم منه شيئاً فمهما وجّهه للأمور فلا يفقه ولا يُفلح أبداً فهل هذا العاجز يتساوى مع القادر الحكيم العادل الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ بالطبع لا توجد مقارنة بينهما ولا يقر بها العقل السليم، أما عبدة الأوثان فقد أقروا بذلك رغم وضوح بطلانه حيث استسلموا للأوهام والهوى وأداروا مسامع قلوبهم للشيطان الرجيم الذي كان من أولى وظائفه أن يحوّل الإنسان من الإيمان إلى الكفر ومن الهدى إلى الضلال، والخاسر هو الذي يسمع للشيطان ويطمئن له.
وتلك الأمثال التي يضربها لنا القرآن الكريم هي حجة بالغة علينا في يوم الحساب لأن مضمونها يتفق مع الميزان العقلي الذي خلقه الله بقدرته.
الشيخ علي فقيه