
حرمة الرجوع بعد الطلاق الثالث
ما من حكم أنزله الله عز وجل إلا بعد وجود المصلحة للعباد لأن الحكم الشرعي الإلهي إنما نزل من أجل تنظيم حياة البشر وضبط أمورهم العامة والخاصة، والميزة التي يمتاز بها القانون الرباني هو أنه يتدخّل في كل شيء فلا يوجد لأحد من الناس تحفظات أو حدود تمنع الدين من التدخل في شؤونه لأن الدين معني في كل شيء، وقد امتاز الإسلام بشموليته لكل الأحكام حيث أتم الله به النعمة والحجة على البشر فلا تخلو الواقعة من حكم وإن لم يكن الناس لها بمقرِنين وإن لم تكن بالحسبان ككثير من الظواهر التي بانت للبشر في الماضي القريب كالإستنساخ والتلقيح وبنك البويضات وبنك الحيوانات المنوية التي لم يسمع بها الناس قبل ثلاثين سنة من تاريخنا الحالي، لقد وقع الناس في حيرة من أمرهم تجاه مزاولة هذه الأشياء حتى لجؤوا إلى الإسلام فوجدوا فيه الحلول المناسبة والإجابات الشافية لجميع مشاكلهم وتساؤلاتهم.
ويجب أن نضع نصب أعيننا أن الله سبحانه لا يوجب على العباد شيئاً إلا إذا كان مشتملاً على المنفعة لهم، ولكن هذه المنفعة تارة تظهر وتارة تبقى في طي الكتمان لحكمة من الخالق القدير، ومن المعروف عندنا أن كثيراً من الواجبات والمحرمات ما زال السبب فيها مخفياً، وإنه وإن ظهر سبب فإنه جزء من السبب الأساسي، وأنا شخصياً أعتقد بأن أعظم سبب وعلة للوجوب أو الحرمة هو إرادة الله عز وجل الذي لا يُسئل عما يفعَل، فأهم علة لوجوب الصلاة والصوم والحج وغيرها من الواجبات هو أن الله تعالى يريد ذلك ويحبه ويرضى به، وأهم سبب للحرمة هو بغض الله سبحانه للأمر المحرم.
وصلب الموضوع الذي نود طرحه في هذا البحث هو موضوع حرمة رجوع الزوج إلى زوجته بعد الطلاق الثالث بشرط وبعد الطلاق التاسع من دون شرط، وقبل ذلك أشير إلى أن هذه الأحكام لم تصدر عن ذوق الإنسان واستحسانه وإنما صدرت بنص قرآني واضح بعيد عن أية شبهة وأي غموض بحيث لا يختلف في المعنى المشار إليه شخصان حيث لا مجال للإختلاف أمام الواضحات من النصوص القرآنية والنصوص الواردة على ألسنة المعصومين(ع).
فلقد أشار الله سبحانه إلى حرمة رجوع الزوج إلى زوجته بعد الطلاق الثالث مبيناً لهم الطريقة التي يجوز فيها الرجوع فقال عز وجل(الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ولكي نفهم المراد من هذه الأحكام الإلهية يجدر بنا الوقوف على كل فقرة من الفقرات الواردة في هذه الآية الكريمة حتى لا نُحرم من معرفة شيء، أو حتى لا نقع في الخطأ نتيجة للفهم الخاطئ المُقَصَّر في مقدماته المطلوبة.
الفقرة الأولى: قوله تعالى(الطلاق مرتان) فلماذا قال مرتان مع أن الطلاق الذي يحرم الرجوع بعده هو الطلاق الثالث وليس الثاني؟ وقد عرفنا بنص القرآن والسنة أن الطلاق ثلاث مرات فهل هناك تناقض بين آيات القرآن أو بين القرآن والسنة؟ طبعاً لا يوجد أي تناقض بينهم ولكن هذه الفقرة وردت بحكمة حيث أراد الله تعالى أن يكشف لنا عن أمرين في وقت واحد، الأمر الأول هو أن الرجل إذا طلق زوجته للمرة الأولى أو للمرة الثانية فإنه يجوز له أن يرجع إليها ولا إثم عليهما في هذا الرجوع بعد الطلاق الثاني، والأمر الثاني: وهو حرمة الرجوع بعد الطلاق الثالث لأنه عندما يقول مرتان معنى ذلك أنه في الطلاق الثالث يوجد إشكال أو يوجد تحفظ أو توجد إشارة يريد الله تعالى أن يلفت انتباهنا إليها وهي عدم جواز الرجوع بعد الطلاق الثالث، فالطلاق مرتان يصح بعدهما الرجوع والطلاق ثلاث مرات لا يجوز بعدها الرجوع إلا إذا التزمنا بالحكم الإلهي الذي يفتح به لنا فرصة جديدة للعيش الكريم.
الفقرة الثانية: قوله تعالى(فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فبعد الطلاق الثاني يخيرنا ربنا عز وجل بين أمرين كلاهما خير للإنسان وهما إما أن تعيش معه بعد الرجوع من الطلاق الثاني عيشة كريمة حتى الممات وإما أن يتركها وشأنها تختار حياتها مع غيره من الأزواج فلا يجوز له أن يمنعها من الزواج أو يضيق عليها أو يشوه بسمعتها بين الناس ليمنع زواجها كما يفعل كثير من الرجال الذين لا يخافون الله فهم لا يريدون أن يرحموا المرأة ولا يريدون أن تنزل عليها الرحمة بمعنى أنهم لا يريدون إرجاعها وفي نفس الوقت لا يريدون لها أن تتزوج على مزاجها وهذا حكم جائر لا يرضى به الله ولا يقبل به العقلاء ولا تسمح به الإنسانية.
الفقرة الثالثة: قوله تعالى(وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)
لا يجوز للرجل المطلق أن يأخذ من مهر الزوجة شيئاً عن طريق الغصب والتضييق وهذا داء يفتك بالمجتمع الإسلامي أحدثه البخلاء والطماعون والمعتدون على حرمة المرأة وحقوقها فإذا أعجبته امرأة غير زوجته ضيّق على زوجته حتى تطلب الطلاق مقابل تنازلها عن المهر، وإذا لم تتنازل الزوجة عن مهرها منعها من أبسط حقوقها كالخروج من المنزل وزيارة أهلها أو رؤية أولادها أو غير ذلك من الأمور التي تجلب لهم غضب الله عز وجل، والله تعالى في هذه الآية يعظنا أن ننزل إلى هذا المستوى الوضيع ويحذرنا من أكل حق الزوجة فإنه جريمة كبرى يستحق عليها الزوج أشد العذاب، أما إذا كان تنازلها عن المهر يحل لها المشكلة فعليها أن تتنازل عنه حتى لا يقعا في الحرام ويتعدا حدود الله، وفي الفقرة الأخيرة من الآية الكريمة ينهانا ربنا عن أن نعتدي الحدود التي رسمها لنا كيلا نقع في مخالفته فنخسر بذلك أنفسنا في الدنيا قبل الآخرة، وفي معنى هذه الآية الكريمة سئل الإمام الرضا(ع) عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلَّقة طلاقاً ثالثاً لزوجها حتى تَنكِح زوجاً غيره فقال(ع): إن الله تبارك وتعالى إنما أَذِن في الطلاق مرتين فقال(الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) يعني في التطليقة الثالثة، وفي دخوله لما كرِه الله عز وجل له من الطلاق الثالث حرّمها الله عليه فلا تحل له من بعدُ حتى تنكِح زوجاً غيره لئلا يوقعَ الناسُ الإستخفافَ بالطلاق ولا تُضارَّ النساء:
وفي رواية أخرى عنه(ع) وعلةُ الطلاق ثلاثاً لِما فيه من المُهلة فيما بين الواحدة إلى الثلاث لرغبةٍ تحدث أو سكونِ غضبٍ إن كان، وليكون ذلك تخويفاً وتأديباً للنساء وزجراً لهن عن معصية أزواجهن فاستحقت المرأة الفُرقة والمباينة لدخولها فيما لا ينبغي من معصية زوجها، وعلة تحريم المرأة بعد تسع تطليقات فلا تحل له أبداً عقوبةً لئلا يُتلاعب بالطلاق ولا تُستضعفَ المرأةُ وليكون ناظراً في أموره متيقظاً معتبراً وليكون يائساً لها من الإجتماع بعد تسع تطليقات:
وفي هذا الصدد قال تعالى(فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
يعني إذا طلقها للمرة الثالثة لا يجوز له الرجوع إليها إلا بعد أن تعتد منه ثم يتزوجها آخر ويدخل بها وإن كانت بكراً ثم يطلقها الثاني وتعتد منه ثم بعد ذلك يجوز لزوجها الأول أن يتزوجها، فبعد هذه الطريقة لا جناح عليهما أن يتراجعا إذا قاما بالواجب المفروض وبالطرق المسنونة.
وهنا ننصح بعد التجرؤ على الطلاق وأن يتأنى الرجل كثيراً لأن مساوئ الطلاق أكثر من نفعه فهو أحد أبرز الأسباب التي تهدم الأسرة والمجتمع وتفككهما.
قال رسول الله: ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق:
وقال الباقر: إن الله عز وجل يُبغض كل مِطلاق ذَوّاق:
الشيخ علي فقيه