الجمال الظاهري والجمال الباطني
أكثر البحوث الدينية والمواضيع الإنسانية تنصب على جوهر الإنسان وقلبه ونفسه وعقله لأن المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وكثرة الكلام حول الجوهر شغل الأكثرين من الناس عن المظهر الذي له آثار مباشرة على ما في الضمير، فينبغي الإهتمام بجمال المظهر كالإهتمام بروعة الجوهر لأن الله تعالى جميل يحب الجمال بكل معانيه ومراتبه، فلا ينبغي للمؤمن أن يكون وسخ الثياب وقبيح الرائحة بل ينبغي أن يكون مثلاً في النظافة والترتيب والأناقة، وما يصنعه بعض البسطاء من المؤمنين لا يحكي لنا الصورة الواقعية للإيمان الصحيح والزهد الحقيقي، فليس الزهد أن تلبس ثوباً مرقّعاً ولا هو أن تأكل طعاماً فاسداً ولا أن تلبس اللباس الخشن وإن كان أمير المؤمنين(ع) قد صنع ذلك لأن وضعه كان مختلفاً عن أوضاع الباقين من المؤمنين لكونه القائد للأغنياء والفقراء وقد جعل نفسه كأوحج شخص من الناس بحيث كان أفقر الناس يأكل ألذ مما يأكل علي ويلبس أحسن مما يلبس فلقد رقّع علي ثوبه حتى أخذه الحياء من راقع ثوبه ولكنه(ع) كان يبرر هذا السلوك العظيم بقوله: حتى لا يتبيغ بالفقير فقره: وعلي نفسه يبيّن لنا حقيقة الزهد فيقول ليس الزهد أن لا تملك شيئاً بل الزهد أن لا يملكك شيء: يعني أن لا يسيطر عليك الشيطان فيأمرَك بالمعاصي وينهاك عن الطاعة فكل من طرد الشيطان من روحه بإخلاصه لربه فهو إنسان زاهد وإن كان يملك من الأموال ما لا يعد ولا يحصى.
فالنعم التي خلقها الله على الأرض هي للجميع من دون استثناء، بل هي للمؤمن قبل غيره لأن سبب توالي النعم هو وجود المؤمنين على الأرض وإلا لولا وجود أهل الإيمان لمادت الأرض بأهلها وجعل الله عاليها سافلها وهو معنى الحديث القدسي: لولا شباب ركع وشيوخ خشع وأطفال رضّع وبهائم رتع لصُبّ عليكم العذاب صباً: فعلى المؤمن أن يعيش في الدنيا ويأكل من خيراتها ويلبس من جمالها ويتمتع بأمورها المحلّلة ويمتلك الأراضي ويبني المباني والمؤسسات بشرط أن لا يخرج عن الحدود الإلهية المرسومة له، وعلينا أن نعلم بأنه الله تعالى يحب المؤمن الغني أكثر من المؤمن الفقير لأن المؤمن الغني قادر على أن يحل العديد من المشاكل بماله وقادر على أن يخدم الدين أكثر من غيره، ثم إن الغني المؤمن قد عصم نفسه من الحرام وجميع المقدمات مهيّأة أمامه وهو قادر على أن يفعل ما يشاء غير أن خوفه من الله تعالى منعه عن القيام بالحرام، فلا ينبغي للمؤمن أن ينسى نصيبه من الدنيا فإن ذلك مخالف لقوله تعالى(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) يعني إجعل من أموالك التي رزقك الله بها جسراً تعبر به نحو الآخرة والسعادة فيها فإن ما فيها أعظم وأكبر وأدوم.
جمال المظهر والجوهر
قال سبحانه في سورة الأعراف(يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
هذا خطاب قرآني واضح موجّه لجميع الناس وهو يشتمل على آداب كثيرة ومفاهيم عديدة من شأنها أن تنفض الغبار عن صور شوّهتها أيدي الجهل وأصحاب الفهم الخاطئ حول مسألة التصرف بالنعم الإلهية في الحياة الدنيا حيث أن البعض أوهموا الناس بحرمة استغلال تلك النعم وضرورة الإقتار وهو وهم واضح لأنه مخالف لظواهر الآيات المذكورة التي تدعو إلى تجميل المظهر والتصرف بنعم الله تعالى بشرط عدم الإسراف والتبذير، ونلاحظ بأن القرآن يَعرِض لنا تساؤلاً حول موضوع حرمة الزينة واستغلال الطيبات(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) كيف يمكن للإنسان أن يحرم على نفسه ما أحل الله له، والنعم الدنيوية هي للمؤمنين قبل أن تكون لغيرهم فهم أولى بالتصرف فيها، وإن التنعّم بنعم الدنيا لا يُنقص للمؤمنين نعم الآخرة بل إنهم سوف يحصلون على النعم الكبرى الدائمة التي أعدها الله لهم في يوم القيامة بالجنة الواسعة التي كان عرضها كعرض السموات والأرض.
فالذين يحرّمون على أنفسهم زينة الله ونعمته هم أصحاب نفسيات فقيرة وقلوب شحيحة وهي من الصفات المبغوضة عند الله عز وجل، قال رسول الله: إن الله تعالى جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويُبغض البؤس والتباؤس: وقال: من الدين المُتعة وإظهار النعمة: وقال: إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمّل: وقال: أحسنوا لباسكم وأصلحوا رحالكم حتى تكونوا كأنكم شامةٌ في الناس.
وقال علي: ليتزينْ أحدكم لأخيه المسلم إذا أتاه كما يتزين للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة: وقال الصادق: إن الله يحب الجمال والتجميل ويكره البؤس والتباؤس فإن الله عز وجل إذا أنعم على عبدٍ نعمةً أحبَ أن يرى عليه أثرها، قيل وكيف ذلك؟ قال: ينظف ثوبه ويطيّب ريحه ويجصص داره ويَكْنِسُ أفنيتَه …
وقال الرضا: أروي أن الله تبارك وتعالى يحب الجمال والتجمل ويبغض البؤس والتباؤس وأنّ الله عز وجل يبغض من الرجال القاذورة:
الجمال الباطني
بعض الناس يحكمون على الناس من خلال الصورة الخارجية التي هي في الغالب تخدع الناظرين إليها وتوهمهم بأن واقعها مثل ظاهرها وهذا هو الخطأ الجسيم الذي نرتكبه في حق الآخرين فالحكم الصحيح يجب أن يقع على الباطن فهو معيار الجمال الحقيقي وعدمه إذا ليس الجمال جمال الثوب والبدن والمنزل بل الجمال جمال القلب والأخلاق، ولذا قال(ص) خير ما أُعطي الرجل المؤمن خُلُقٌ حسن، وشر ما أعطي الرجل قلبُ سوءٍ في صورة حسنة: بمعنى أنك إذا نظرت إليه حسبته إنساناً رائعاً وخلوقاً ولكنك إذ حككته وجته ذا أخلاق سيئة تختلف تماماً عن صورته الظاهرية، فالحُسن هو حُسن البطن وجماله فهو الجمال الحقيقي، قال العسكري: حُسنُ الصورة جمال ظاهر وحسن العقل جمال باطن: فالعقل الحسن هو الذي يعكس إليك صورة جميلة عن الإنسان وإن كانت صورة مظهره سيئة لأنك لو نظرت إليه بعين البصيرة لوجدته أجمل الناس، وقد ورد في بيان هذه الحقيقة أحاديث كثيرة عن النبي وآله مما يؤكد للناس أن الجمال جمال العقل والقلب والإيمان، وقبل أن أذكر لكم الأحاديث أستشهد ببيتٍ من الشعر يصف هذا الأمر حيث يقول: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم: وأما الأحاديث فخلاصة ما ورد فيها: قوله(ص) الجمال في اللسان، والجمال في الرجل اللسان، وجمال المرء فصاحة لسانه، والجمال صواب القول بالحق والكمال حسن الفعال بالصدق، وقال علي: الجمال الظاهر حسن الصورة الجمال الباطن حسن السريرة، وجمال الرجل حلمه، وجمال الرجل الوقار، وجمال المؤمن ورعه، وجمال العبد الطاعة، وجمال الحُر تجنّب العار، وجمال العيش القناعة، وجمال الإحسان ترك الإمتنان، وجمال المعروف إتمامه، وجمال العلِم عملُه بعلمه وجمال العلم نشره، ولا جمال أحسن من العقل، ولا لباس أجمل من العافية:
الشيخ علي فقيه

