
آداب المجالس
قال سبحانه(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
هذا خطابٌ قرآني واضحٌ في مدلوله وصريح في معناه قد أنزله الله تعالى ليعلّم الناس اللياقات في مجالسهم بأن يحترم الإنسان أخاه الإنسان ويرحب به ويُجلسه في مجلسه تعبيراً منه عن احترامه واستئناسه بقدومه، وهناك عادات عند أهل القرى جميلة ورائعة في مجالسهم تعبّر عن احترامهم للضيف فإنه عندما يضيق المجلس ولم يعد فيه مكان للضيوف يُطلَب من أهل البلدة أو القرية إخلاء القاعة من أجل الضيوف فيخرج أهل تلك البلدة بكل رحابة صدر ويقوم الكبير منهم ليُجلس مكانه الضيف وإن كان أصغر منه سناً أو مكانةً وهذه عادات يرضى الله بها ويحث الناس على التزامها لأنها تزرع في النفوس راحة وطمأنينة، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن بعض المسلمين كانوا يحتجون على النبي عندما يطلب منهم إفساح المجلس أمام بعض الناس ممن لهم وزنهم عند الله ورسوله وممن لهم دور على الساحة الإسلامية ولا ينبغي لأحد أن يتضايق من هذا الأمر حيث أنه تعالى رفع بعضهم فوق بعض بحسب التقوى، فالمؤمن الجاهل عظيم عند الله ولكن الأعظم منه هو المؤمن العالم بدليل قوله تعالى(والذين أوتوا العلم درجات) فهم أعلى درجة ومكانة من الجاهلين، وعندما نزلت هذه الآية سكنت نفوس الذين كانوا يشمئزون من هذا الموقف قبل نزولها.
فكثير من الناس يدخلون المجالس ويركضون إلى الأماكن الظاهرة والمتقدمة لظنهم بأن صدر المجلس يرفعهم مع أن الحقيقة هي أن تقوى الإنسان وإحسانه وعمله هو الذي يرفعه ويرفع به المجلس، فلو كان هذا الداخل على المجلس راجياً ثواب الله تعالى وباحثاً عن مواطن رضاه لاختار من المجلس ما يُكسِبه الأجر والثواب، وخير مجلس ما استُقبل به القبلة لأن التوجه إلى القبلة عبادة يحبها الله تعالى على كل حال بشرط أن يكون توجهه إليها تقرباً منه إلى ربه.
ولو نظرنا إلى كثير من الأعمال التي يقوم بها المؤمنون لوجدنا بأنهم يتوجهون فيها نحو القبلة التي هي أشرف موضع وأقدس محل للناس، فالصلاة لا تصح إلا بالتوجه إليها، والثواب المترتب على بعض المستحبات لا يكتمل إلا بالتوجه نحو القبلة كقراءة القرآن أو الدعاء أو إجراء الخيرة وغير ذلك مما هو كثير في شريعة الإسلام، ولهذا قال(ص) إن لكل شيء شرفاً وإن أشرف المجالس ما استُقبل به القبلة: وقال الصادق: كان رسول الله(ص) أكثرَ ما يجلِس تجاه القبلة:
ومن الآداب الإسلامية الخاصة بالمجالس من حيث الدخول إليها والجلوس فيها والخروج منها قال رسول الله: إذا أتى أحدكم مجلساً فليجلِس حيث ما انتهى مجلسه: يعني أينما تجد في المجلس مكاناً يسعك الجلوس فيه فاجلس فلا تنتظر الترحيب والإهتمام المميز كما يصنع كثير من الناس عندما يدخلون إلى بعض المجالس فإنهم ينتظرون أن يأتي أحدهم ويضع له كرسياً في صدر المجلس أو يطرد أحد الجالسين في صدر المجلس ويُجلسه مكانه كما نرى وترون وكما تعرف وتعرفون، ومنهم إذا لم يهيَّّأ له مكان في الصدر ينزعج ويخرج من المجلس، ونفس هذا السلوك دليل على كونه دخل المجلس من أجل نفسه وليس من أجل أمر آخر، فنصيحة رسول الله لكم هي أن تجلسوا في أي مكان ترونه خالياً في المجلس فإنكم بهذا السلوك تربحون قلوب الناس الذين إذا لمسوا منكم التواضع رحّبوا بكم وأجلسوكم في مكانهم، ويحدثنا الصادق عن الرسول أنه إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل: ويعلّمنا الرسول ما هو خير لنا في المجالس فيقول: إذا أخذ القوم مجالسهم فإن دعا رجل أخاه وأوسع له في مجلسه فليأته فإنما هي كرامة أكرمه بها أخوه وإن لم يوسّع له أحد فلينظر أوسعَ مكان يجده فليجلس فيه: وقد اعتاد الناس على أن يرحبوا بالضيوف بطرق مختلفة فلا يكن همك أن يُرحَّب بك كيلا تدخل في العجب الماحي للثواب والمُدخِل في الهلاك، وهناك مواضع في المجلس تصلح للجلوس ولا يعرفه الضيف ولهذا على الضيف أن يجلس حيثما يأمره صاحب المجلس لقول الباقر(ع): إذا دخل أحدكم على أخيه في رَحله فليقعد حيث يأمره صاحب الرحل فإن صاحب الرحل أعرف بعورة بيته من الداخل عليه: ويقول العسكري: مَن رَضيَ بدون الشرف من المجلس لم يزل الله وملائكتُه يصلّون عليه حتى يقوم: فإذا دخلت إلى المجلس فتعامل مع الحاضرين بكل لطف ولياقة وأدب كيلا يشمئزوا من مجلسك وحضورك، قال(ص) لا تُفحِش في مجلسك لكي يَحذروك بسوء خُلقك ولا تَناجَ مع رجل وأنت مع آخر: والذين يختارون الجلوس في صدر المجلس عليهم أن يستجمعوا الشروط المطلوبة للجلوس في هذا المكان المميز والملفت للأنظار، وقد أشار علي(ع) إلى ثلاثة شروط للجلوس في صدر المجلس فقال: لا يجلسُ في صدر المجلس إلا رجل فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل وينطِق إذا عجز القوم عن الكلام ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس فهو أحمق: وقال(ع) لا تُسرعَنّ إلى أرفع موضع في المجلس فإن الموضع الذي تُرفع إليه خير من الموضع الذي تُحَطُّ عنه:
الشيخ علي فقيه



