عودة السبايا إلى الوطن
بعد حوالي تسعة أشهر من مغادرة المدينة المنورة رجع الموكب إليها بصورة مختلفة عن الصورة التي خرجوا بها من وطنهم.
لقد كان خروجهم من الوطن مأساوياً، ولكن العودة إليه كانت أكثر مأساة من الخروج، فقد خرجوا من الديار بفقة الرجال والحماة، وعادوا إليها من دونهم.
لقد تغيرت أمور كثيرة في أشهر الغياب، فقد خرجوا من المدينة والناس عليهم، ورجعوا إليها والناس معهم بفضل ما قام به الإمام الحسين(ع).
قال بشر بن جذلم: لما انفصل زين العابدين عن كربلاء وتوجه نحو المدينة حتى أشرفوا عليها، وقبل أن يدخل زين العابدين المدينة أمر بحط رحاله وضرب خيامه، وأنزل أخواته وعماته خارج المدينة ثم قال يا بشر: رحم الله أبك إنه كان شاعراً، فهل أنت تقدر على شيء من الشعر؟ فقال بشر: يابن رسول الله إني لشاعر: فقال(ع):تقدم وادخل المدينة وانع أبا عبد الله ببيتين من الشعر، فركب بشر فرسه ودخل المدينة، وعندما وصل إلى مسجد رسول الله(ص) رفع صوته بالبكاء وأنشأ هذه الأبيات:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قُتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرج والرأس منه على القناة يدار
يا أهل يثرب يا لها من محنة ومصيبة تروى بها الأخبار
ثم قال لأهل المدينة: يا أهل المدينة هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه.
فما بقي في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا وخرجت تلطم الخد وتشق الجيب حتى أشبه ذلك اليوم ببكائهم يوم وفاة رسول الله(ص)
ثم قالت له إحداهن: أيها الناعي جدّدت حزننا بأبي عبد الله، وخدشت منا جروحاً لمّا تندمل، فمن أنت؟ قال: أنا بشر بن جذلم، وجهني مولاي علي بن الحسين إليكم وهو نازل خارج المدينة ومعه أهل بيته:
فتركوه وأسرعوا في المشي، فركب فرسه وعاد إلى الإمام يخبره بما حدث، وبعد قليل وصلت وفود أهل المدينة من أجل أن يعزوا بالإمام الحسين وهم يبكون وينحبون، فأومأ إليهم الإمام بالسكوت فسكتوا ثم خطب فيهم خطبة جاء فيها:
” الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعد فلا يُرى، وارتفع في السموات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وآلم الفظائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاجعة الفادحة الجائحة، أيها الناس..إن الله وله الحمد قد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين وعترته، وسبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها في الإسلام، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله، أم أي فؤاد لا يحزن من أجله…فقد بكت السبع الشداد لأجله، وبكت البحار بأمواجها، والسموات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقربون، وأهل السموات أجمعون، أيها الناس..أي قلب لا ينصدع لقتله، أم أي فؤاد لا يحن إليه، أم أي سمع يسمع هذه الثلمة ولا يصم، أيها الناس..إنّا أهل بيت رسول الله أصبحنا مطرودين مشردين شاسعين عن الأبصار، كأننا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة ثلمناها في الإسلام، ما سمعنا بهذا في الملة الأولى…لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوه بنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأمرها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ منا، فإنه عزيز ذو انتقام، هذا ابن رسول الله يبقى طريحاً على الرمضاء ثلاثة أيام تصهره الشمس، لا يدفن ولا يوارى في التراب…وأهله سبايا من بلد إلى بلد ينظر إليهن البر والفاجر”
الشيخ علي فقيه