
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {البقرة/3}
الناس إما متقون أو كافرون أو منافقون، فالتقون هم الذين آمنوا بكل ما جاء به الأنبياء من عند ربهم وساروا في الطريق التي رسمها لهم الأنبياء(ع)، والكافرون هم مجموعة أنكروا الإيمان ولكنهم اعترفوا بكفرهم وصرحوا بأنهم لن يأخذوا عن الأنبياء، وأما المنافقون فهم أشد خطراً علينا من الكفار لأنهم يتظاهرون بالإسلام أمام المسلمين وبالكفر أمام الكفار، ولكن حكمهم عند الله تعالى حكم الكفار.
وبعد أن حدثنا القرآن بأن الكتاب هدى للمتقين راح يبين لنا بعض صفاتهم حتى نتحلى بتلك الصفات لنكون من أهل التقوى.
إن أول صفة من صفات المتقين هي أنهم يؤمنون بالغيب الذي أخبرهم عنه الأنبياء والكتب السماوية كالجنة والنار والثواب والعقاب، والأشياء منها ما هو حسي ومنها ما هو غيبي، أهل المادة لا يؤمنون إلا بالحسيات، أما المتقون فيؤمنون بالغيب الذي يجب الإيمان بأدق تفاصيله فضلاً عن عمومياته.
ومن الصفات الأساسية للمتقين أنهم على ارتباط دائم مع رب العالمين عبر إقامة الصلاة المفروضة عليهم يومياً، فهم من خلالها يرتبطون بما هو وراء المحسوس ويشعرون به أكثر من شعورهم بالمحسوسات، وهؤلاء المتقون لا يرون في قلوبهم سوى الله ولا يركعون ولا يسجدون إلا له ولا يتقربون إلا إليه، وهم يحافظون على الصلوات عملاً بأمر الله لأنه يحب الصلاة وقد جعلها عمود الدين.
وكذلك فإن المتقي لا يكتفي بعملية الإرتباط بينه وبين الله تعالى بالكلام فقط بل يرتبطون به بكل ما يحب ويرضى، فلقد فرض الله علينا الصلاة وأمرنا بالإتيان بها على الوجه الصحيح، فهناك واجبات أخرى يجب أن تضاف إليها وإلا كانت عبادة ناقصة فإن العبادة عبارة عن هيكل متكامل لا يمكن الفصل بين أجزائه فأي نقص يطرأ على هذا الجسم فقد أحدث فيه خللاً واضحاً، فمن تلك الواجبات التي تكتمل الصلاة بها الإنفاق مما أعطانا الله تعالى على المحتاجين والفقراء، والإنفاق منه ما هو واجب كالخمس والزكاة، ومنه ما هو مستحب كالصدقة والهبة، فإن أخرج الإنسان ما هو واجب عليه من ماله كان خيراً ولكنه إن أخرج ما هو مستحب كان ذلك أعلى درجة عند الله تعالى.
والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{البقرة/4}
من مزايا أهل التقوى أنهم آمنوا بالقرآن الذي نزل على خاتم الأنبياء، وكذلك آمنوا بكل ما أنزله الله تعالى على الأنبياء قبل رسول الله، والإعتقاد بالنبوة لا يقتصر على نبوة خاتم الأنبياء بل يشمل كل نبي شهدته الأرض عبر التاريخ فلو آمن الإنسان بمحمد وكفر بإبراهيم أو موسى أو عيسى لم يكن من المتقين بل لم يكن من المؤمنين، فلا يجوز للمؤمن أن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر كما كان يفعل اليهود وغيرهم، ونلاحظ بأن هذه الآية والآية السابقة تتحدث عن أصول العقيدة فهناك حدثتنا عن الإيمان بالله وتوحيده ثم أشارت إلى موضوع الإيمان بالنبوة، وكذلك أشارت إلى الإيمان بالمعاد حيث قال تعالى(وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فلكي يكون الإنسان مؤمناً حقيقياً ويكون عمله مقبولاً يجب عليه أن يتمم إيمانه ويحافظ على عقيدته فمن آمن بأصل دون آخر كان حكمه عند الله تعالى حكم الكافر.
أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{البقرة/5}
هذه إشارة إلى المتقين الذين آمنوا بالله وأنبيائه وبيوم القيامة أولئك هم الذين اهتدوا في الدنيا وعاقبة الهداية هي الفلاح والفوز بالسعادة الأبدية التي وعد الله بها أهل عبادته، وأما التعبير بحرف(على) فهو من أجل بيان علو شأن المتقين، ولعل استعمال لفظ المضارع في الآية السابقة(يؤمنون يقيمون يوقنون) إنما ورد من باب بيان أن المتقين الحقيقيين هم الذين يتابعون مسيرة إيمانهم بثبات دائم وعقيدة متينة لا يزحزحهم عن تلك العقيدة شيء، ولا يستطيع الشيطان الرجيم أن يغويهم، فمن أراد الهداية والسعادة فعليه أن يكون من المتقين الحقيقيين.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ{البقرة/6}
هذه هي المجموعة الثانية من الناس وهم الكفار المعاندون الذين أنكروا الآيات رغم وضوحها ووضعوا العراقيل في طرق الرسالات السماوية، ولا فرق عند هؤلاء سواءٌ أنذرهم الرسول أم لم ينذرهم، فلو أنه أعطاهم كل ما سألوه لما آمنوا لأنهم في الواقع لا يريدون أن يؤمنوا فقد استحبوا الكفر على الإيمان وآثروا الدنيا على الآخرة وطاعة الشيطان على طاعة الرحمن وكانوا عوناً للظالمين على المظلومين حيث رأوا بأن مصالحهم تكمن خلف الكفر والعناد، وهذه المجموعة من الناس لم تنعدم فلقد كانت وما زالت موجودة حتى يومنا الحاضر ولكن بوجوه عديدة وأساليب مختلفة، وكأنه تعالى يقول لرسوله لا تُتعب نفسك مع هؤلاء فإنهم لن يؤمنوا بك، وإلى هذه الحقيقة يشير الله تعالى بقوله(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ{البقرة/7}
أخطر شيء على الإنسان هو أن يصبح كالبهيمة التي لا تسمع ولا تفقه ولا تسير في الجادة المستقيمة، وقد وصف الله هؤلاء فجعل شأنهم أحط من شأن البهائم حيث قال سبحانه(لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) والله تعالى رحيم وعادل لا يظلم الناس مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولكن الناس أنفسهم يظلمون بسبب كفرهم وسلوكهم السيء، الله عز وجل ختم على قلوب هؤلاء لا لأنه لا يريدهم أن يؤمنوا بل لأنه علم بأنهم لن يؤمنوا وبأن الكلام معهم مضيعة للوقت، فهم لا يفقهون بقلوبهم وعقولهم، ولا يسمعون ما ينفعهم ولا يرون الحق الذي وضعوا بينهم وبينه الكثير من الحوائل، ولأجل هذا كله واعدهم الله تعالى أشد العذاب.
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ{البقرة/8}
حدثتنا الآيات الماضية عن مجموعتين من الناس المتقين والكافرين، وقد بين الله تعالى عاقبة كل مجموعة عنده، وفي هذه الآية الكريمة يحدثنا الله عن المجموعة الثالثة وهم المنافقون الذين كان خطرهم على الدين أكبر من خطر الكافرين، فهؤلاء يقولون للمؤمنين نحن مؤمنون ونحن معكم، وإذا ذهبوا إلى الطرف الآخر ادعوا بأنهم يخدعون المسلمين، هم يريدون أن يتظاهروا بأنهم متقون ليقضوا على الإسلام من الداخل ولكن الله تعالى فضحهم وأبعد خطرهم عنا حين حذرنا منهم، فهم يدعون بأنهم آمنوا بالله وبيوم القيامة، ولكن الله تعالى في نهاية الآية أخبرنا بأنهم ليسوا مؤمنين، فالإيمان له أصول وفروع وقواعد وشُعب ومراحل، وأهل النفاق لم يحظوا بشيء من الإيمان، ولهذا قال أمير المؤمنين علي(ع) في صفة المنافقين: وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ, الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ, يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ. قُلوبُهُمْ دَوِيَّةٌ، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ. يَمْشُونَ الْخَفَاءَ، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ. وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ:
يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ{البقرة/9}
المنافقون لم يتجرؤوا على الناس فقط، ولم يكذبوا على العباد فحسب وإنما حاولوا أن يخدعوا رب العالمين الذي لا يُخدع الذي يعلم الغيب وما هو أخفى، فصحيح أن المنافقين شكلوا أزمة كبيرة للأنبياء وللمؤمنين ولكن النهاية كانت بانتصار الإيمان على النفاق، ظن المنافقون بأنهم يخدعون الله والذين وآمنوا ولكنهم في الحقيقة كانوا يخدعون أنفسهم ويكذبون عليها لأنهم هم الخاسرون وليس المؤمنين.
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{البقرة/10}
قد تجد دواءاً سريعاً لبعض العوارض الصحية ولكن مرض القلب تصعب معالجته ما لم يتقبّل صاحبه العلاج، وقد خلق الله تعالى في الإنسان قوى كثيرة تتلاءم مع الأحكام التكوينية والتشريعية، ووضع لكل عالَم نظامه الخاص الذي يتلاءم مع تركيبته، فالإنسان عنده قابلية الخير وقابلية الشر، وقد اقتضت حكمة الله ورحمته أن تكون قوى الخير في الإنسان أقوى من قوى الشر، ولقد أخضعنا للإمتحان الذي جرى على من كان قبلنا حيث لم يخلق الله خلقه سدى(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)
لقد أوجدنا رب العالمين في هذه الحياة وخيّرنا بين الكفر والإيمان مبيناً لنا نتيجة كل اختيار فمنا من استحب الإيمان ومنا من استحب الكفر، ومنا من نشأ على المعصية ثم عمل صالحاً وكذا العكس، ومنا من استمر في الإيمان حتى آخر رمق له في الحياة ومنا من استمر على الكفر حتى آخر لحظة.
والمنافقون استحبوا طريق النفاق حيث لمسوا المصلحة في سلوكها ولهذا فقد دفعوا ثمن اختيارهم وكان ثمناً كبيراً فلقد أصيبوا بأخطر مرض في الوجود وهو مرض الكفر والنفاق وبما أنهم أدخلوا هذا المرض إلى قلوبهم فلقد مدهم الله في طغيانهم وزادهم مرضاً بسبب اختيارهم.
قد يتمتعوا قليلاً ولكن لهم في الآخرة عذاب شديد بسبب كفرهم واستهزائهم.
الشيخ علي فقيه



