قَبْلَ خُرُوْجِ المَوْكِبِ مِنَ المَدِيْنَة المنوَرة
رحلة سيد الشهداء(ع) من المدينة إلى كربلاء

قَبْلَ خُرُوْجِ المَوْكِبِ مِنَ المَدِيْنَة
كانت القافلة إذا تجهزت للإنطلاق قيل لأهلها إلى اللقاء، إلا قافلة الإمام الحسين(ع) فقد قيل لأهلها وداعاً، لأنهم خرجوا من الديار ولا أمل لهم بالعودة إليه.
ولكنهم خرجوا من ديار الذل والهوان إلى ديار العزة والكرامة، لقد خرجوا من المدينة وكان ذلك مقدمة لخروج أرواحهم الطاهرة من أجسادهم المباركة قربة منهم إلى الخالق القدير، وشعوراً منهم بالواجب المطلوب من كل مؤمن بالله عز وجل.
كانت القوافل تسير خلف التجارة وكسب المال لينعموا بحياة كريمة، أما قافلة الإمام الحسين(ع) فقد سارت من أجل التجارة، ولكن ليست التجارة المعهودة، وإنما هي تجارة خاصة عقدوا شرطها مع الله سبحانه، فباعوه أنفسهم، وقبضوا الثمن، وقد كان الثمن غالياً جداً، وهو الجنة الواسعة التي أعدها الله لعباده المخلصين.
إنها التجارة التي أشار الله عز وجل إليها بقوله الكريم(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)
نعم.. لقد كانت قافلة مميزة، تميزت بأهداف ركّابها ونفوس أهلها، تلك النفوس الزكية التي خضعت لله وحده، ونبذت وساوس الشيطان، وتخلت عن كل شيء في سبيل ربها.
إنها قافلة الحق التي زرعت الأمل في نفوس الأحرار والمظلومين الذين علّقوا آمالهم على تضحية الحسين وأهل بيته وأصحابه.
إنها قافلة الإيمان التي سارت بهدف القضاء على الظلم والعدوان، ومثّلت في ذلك الزمان كل الإيمان حيث التقى هناك الإيمان كله ممثَّلاً بالحسين(ع) ومن معه، مع الكفر كله ممثلاً بيزيد وابن زياد وابن سعد وأعوانهم.
لقد انطلقت تلك القافلة والناس ينظرون إليها بعين الإستصغار نظراً لقلة أفرادها، متجاهلين معنى قوله تعالى(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ)
لقد بدأت تلك القافلة صغيرة، ولكنها انتهت عظيمة وكبيرة، وسار في ركبها العشرات، ورجعت مصطحبة معها الأمة كلها حيث صنعت لها المجد والكيان والنصر العظيم.
إنها القافلة المعجزة التي واجهت الطواغيت، وهدّت عروشهم، وزلزلت كيانهم، وقضت على مصالحهم وأطماعهم، بينما كان الناس متيقنين بالهزيمة لأنهم نظروا إليها نظرة مادية محضة، ونسوا أن الله سبحانه قد آلى على نفسه أن ينصر مَنْ ينصره.
لقد نظر الناس إلى موكب الحق في بداية أمره على أنه ضربٌ من ضروب الجنون والتهور، وقد كان ذلك نتيجة الصدمة التي فاجأت الجميع من خلال قرار الإمام الحسين(ع) القاضي بالخروج من المدينة بهدف القضاء على الظلم.
لقد انطلق هذا الموكب الصغير بأفراده، الكبير بأبعاده، ونظرة الناس على حالها، لم تتغير، ولم تتبدل.
ولكنه بعد أيام من انطلاقه أخذت كلمات الإمام الحسين تتفاعل في قلوب البعض، وذلك من خلال تدقيقهم في صنائع يزيد الذي كان الهدف الأول من أهداف هذا الموكب، فراحت تلك النظرة تكبر وتتغير، وأصبح لها موقع في قلوب الناس ونفوسهم، وهذا ما دفع بالبعض إلى اللحاق به.
وبعد انتهاء المعركة أخذت الضمائر تصحو شيئاً فشيئاً، لأن تلك المعركة قد زرعت فيهم الجراة والشجاعة، إلى أن اصبحت الثورة الحسينية هي الحدث الأبرز في تاريخ الإسلام.
واستمرت تلك النظرات بالتغير، وذلك من خلال ما يكتشفونه من أسرار وأبعاد تلك الثورة التي لم يعيروها اهتماماً في البداية حتى أصبحت النظرة إلى كربلاء بحجم واحد في نفوس المحبين والأعداء، وقد كان كثير منهم يجهلون معنى ما قام به الحسين، وهذا ما شجعهم على الوقوف في وجوه الطواغيت وتفجير الثورات المتتالية التي تولدت من الثورة الحسينية.
وما زالت تلك النظرة تكبر وتعلو حتى هذا الزمان، وسوف تبقى مستمرة بالصعود إلى أن يفهم العالم كله أنه لا حياة كريمة إلا من خلال التضحية ومواجهة الظلم، كما صنع الإمام الحسين بن علي(ع) في كربلاء سنة واحد وستين بعد الهجرة.
حالة الهاشميين قبيل الإنطلاق
لقد سيطرت حالة من الحزن والأسى على قلوب الهاشميين الذين سوف يفقدون إمامهم العظيم الحسين بن علي(ع) وسبعة عشر شخصاً من أهل بيته في أرض الكرب والبلاء.
لقد أنساهم حبهم للإمام الحسين تلك المسؤولية الكبرى التي حملها(ع) فطلبوا منه البقاء بينهم خوفاً عليه من القتل، وكان(ع) يجيبهم باختصار:شاء الله ان يراني قتيلاً:
والمعنى من ذلك أن الرجاء والحب والحزن لن يغيِّروا من الواقع شيئاً، لأنه سوف يخرج لينفِّذ إرادة الله سبحانه وتعالى.
لقد كانت حالة الهاشميين أثناء توديع الإمام الحسين شبيهة بحال النساء بعد استشهاده.
وداع الحسين(ع) لقبر جده(ص)
لم يترك الإمام الحسين(ع) مدينة جده من دون أن يودعه لآخر مرة في حياته لأنه كان يدرك بأنها الزيارة الأخيرة لهذا القبر الشريف.
لقد ذهب إلى قبر جده ووقف أمامه وصلى ركعتين ثم دعا ربه بكلمات أنبأت عن معرفته لكل ما يحاط به، وأن الأمويين قد حكموا عليه بالموت هو ومن يناصره، فقال(ع):أللهم هذا قبر نبيك وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، أللهم إني أحب المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلا ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى:
بهذه الكلمات العظيمة والمؤثرة ودّع الإمام الحسين(ع) قبر جده الأعظم محمد(ص) وقد سجل تلك الشهادة العظيمة عند القبر الشريف ليكون شهيداً على القتلة يوم الحساب.
لقاؤه(ع) بالسيدة أم سلمة(رض)
قبل خروجه من المدينة التقى بالسيّدة أُمّ سلمة(رضي الله عنها) ليودّعها، فقالت: يا بني لا تحزن بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعت جدّك(صلى الله عليه وآله) يقول: «يقتل ولدي الحسين بأرض العراق؛ بأرض يقال لها كربلا، فقال لها: «يا أمّاه وأنا والله أعلم ذلك، وأنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وأنّي والله لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وأعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وأن أردت يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي، ثمّ قال لها: «يا أُمّاه، قد شاء الله أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مظلومين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً»
الشيخ علي فقيه


