هجرة الإمام الحسين(ع) من المدينة إلى مكة
هناك مشابهة كبيرة بين هجرة الإمام الحسين(ع) من المدينة إلى مكة، وبين هجرة جده الأعظم(ص) من مكة إلى المدينة، فلقد كان هدف النبي(ص) من ترك مكة في تلك الظروف الصعبة الإسلام والإنسان، وكذلك كان هدف الإمام الحسين(ع) من ترك المدينة المنورة، فإن نفس الظروف التي سيطرت على مكة المكرمة في عهد النبي هي التي سيطرت على المدينة في عهد الحسين(ع).
ولذا يمكن القول بأن دوافع الهجرة الحسينية هي ذاتها دوافع الهجرة النبوية، ولكن مع وجود فوارق ثانوية:
الفارق الأول: وهو أنّ صاحب الهجرة الأولى هو النبي محمد بن عبد الله(ص)، وصاحب الهجرة الثانية هو الحسين بن علي(ع).
الفارق الثاني: أن هجرة النبي حصلت من أجل التأسيس، أما هجرة الحسين فقد حصلت من أجل الإصلاح، فالنبي أسس الإسلام، والحسين حافظ على الإسلام.
الفارق الثالث: وهو التاريخ، فإن الأولى حصلت، وكانت مبدأ التاريخ الهجري، أما الثانية فقد حصل بعد ستين عاماً من حدوث الأولى.
الفارق الرابع: إختلاف صور الطواغيت مع اتحاد الهدف، لأن الأهداف التي دفعتهم إلى قتل الرسول هي نفسها الأهداف التي دفعت بيزيد إلى قتل الإمام الحسين(ع).
دوافع الهجرة الحسينية
لو ألقينا نظرة سريعة على الفوارق التي ذكرناها استطعنا أن نستنبط حقيقة تلك الدوافع التي حثّت الإمام الحسين(ع) على مغادرة المدينة المنورة التي تحولت في عهد يزيد إلى قلعة للظلم والفساد والإفساد، حيث فلم يعد للمخلصين فيها أي مكان.
لقد كان المؤمنون في عهد يزيد يُقتَلون على التهمة والظنة بهدف إفراغ الأرض من القيم والأخلاق التي زرعها النبي(ص) في نفوس الناس.
وإن الذي دفع بالإمام الحسين(ع) نحو الهجرة هو الإصلاح والقضاء على يزيد، ولكنه لم يكن بإمكان الحسين أن ينفذ أهدافه في المدينة التي أحكم يزيد فيها سيطرته، فقرر أن يذهب إلى الكوفة، وهناك يمكن تأسيس جيش كبير يقف في وجه هذا المتغطرس.
والذي أكد مبدأ الهجرة هو أن يزيداً حاول أن يجبر الإمام الحسين(ع) على البيعة، فعندها وصف الحسين يزيداً بتلك العبارات المشهورة:ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله.
ولم يدع يزيد بن معاوية الحسين وشأنه، وإنما راح يضايقه وكل الموالين له بهدف زرع الخوف في نفوسهم، وهذا ما جعل فكرة الهجرة ضرورية لهم جميعاً.
ولعل بعض الكتب التي بعثها أهل الكوفة للحسين كانت خدعة من أجل إبعاده عن المدينة حتى يتمكن يزيد من تنفيذ جريمته البشعة بعيداً عن أنظار الموالين، ولم يكن الحسين جاهلاً بتلك المكائد، ولكنه خرج نزولاً عند رغبة عشرات الآلاف من أهل الكوفة، بالإضافة إلى كون خروجه تنفيذاً للإرادة الإلهية بالدرجة الأولى.
الإستعداد للخروج من المدينة المنورة
عندما أصبحت الهجرة أمراً مُلحاً على الإمام الحسين(ع) ومن تبعه من المؤمنين استعد لمغادرة المدينة خفية عن عيون يزيد وجواسيسه، وذلك حقناً للدماء التي كانت سوف تسفك لو بقي الإمام في المدينة.
لقد تجهز للسفر وجمع أهل بيته وبعض المؤمنين ممن خرجوا معه وعزم على المسير متوجهاً نحو الكوفة.
شاء الله أن يراني قتيلاً
لقد كان ذلك جواب الإمام الحسين(ع) لأحد محبيه في المدينة، وقد طلب هذا الشخص من الإمام أن يبقى في المدينة لأنها موضع آمن له بالنسبة لباقي المناطق الخاضعة لسيطرة يزيد.
فأطلق الإمام(ع) هذا الجواب ليكون أذاناً ينبه به قلوب الغافلين عن الحق، وقد بين لهم من خلال هذا الكلام أنه عالمٌ بالمصير الذي سوف يؤول إليه، ولأجل ذلك حسم الموقف قائلاً:شاء الله أن يراني قتيلاً:
الأمر ليس بيد الإمام الحسين، وإنما هو بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الذي اختار طريق الجهاد له، لأنها الوسيلة الأقوى للدفاع عن الحقوق والكرامات والمعتقدات.
ثم سُئل(ع) عن سبب إخراج النساء؟ فقال: شاء الله أن يراهن سبايا:
ونفس ما قيل حول السؤال الأول يمكن أن يقال حول السؤال الثاني، فإن الحسين(ع) أعلم بعاقبة الأمور من جميع الناس.
وقد اتضح جلياً للقاصي والداني الحكمة من إخراج النساء معه إلى تلك الصحراء البعيدة، وذلك بعد انتهاء المعركة، وسوف نذكر لكم تلك الحكمة في محلها.
نظرة الناس إلى تلك الهجرة
لقد كانت وجهات النظر مختلفة من قبل المجتمع المدني وقد انقسم الناس تجاه الهجرة الحسينية ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وهم بنوا هاشم الذين خافوا عليه من القتل لعلمهم بانحطاط يزيد أخلاقياً وإنسانياً ولكنهم كانوا عاجزين عن الخروج لأمر خارج عن إرادتهم كعبد الله بن جعفر الذي كان ضريراً.
القسم الثاني: وهم مجموعة من الضعفاء الذين كانت قلوبهم مع الإمام الحسين إلا أن خوفهم من يزيد منهم من الخروج مع إمامهم، وقد كان لهذا القسم حظ في الجريمة لأنهم تخلفوا عن نصرة سيدهم، وقد كان من الممكن أن يكون لخروجهم معه أثر كبير على الآخرين إذ كان من الممكن أن يكون خروجهم مشجعاً لكل الموالين.
القسم الثالث: وهم أعوان يزيد وأتباعه.
القسم الرابع: وهم الأصحاب الذين خرجوا معه من المدينة وقد ناهز عددهم الأربعين شخصاً.
هل شعر الإمام الحسين(ع) بالخوف
لم تسلم الثورة الكربلائية وصاحبها من اختلاق الأكاذيب بغرض تشتيت الأفكار والمعتقدات حول الإمام الحسين(ع).
لقد حاول أعداء الحق عبر قرون من الزمن أن يخدشوا نزاهة تلك الثورة ويحطوا من شأنها في نفوس المؤمنين والأحرار، فراحوا يوجِّهون اتهامات كاذبة وأقاويل باطلة لتلك الثورة العظيمة بكل معانيها وأبعادها وذلك بهدف أن يعكسوا المعادلات فيجعلوا من الجزار ضحية ومن الضحية جزاراً، ولكن الحق أقوى والإستقامة أعظم، فأبى الله تعالى إلا أن تصل الحقيقة إلى العالم كله على طبق من نور، وباء المغرضون بالفشل الذريع، وردَّهم الله تعالى خائبين.
لقد تسلل الأعداء من نوافذ عديدة، ولكنهم ووجهوا من قبل أهل الحق بجرأة وبسالة، فلم يَدَعوا احتمالاً للتشويه إلا استعملوه، ولكن إرادة الله سبحانه فوق إرادة الجميع، فقد وجدوا لكل اتهام رداً مناسباً من قِبَل أصحاب النهج الحسيني.
ومن جملة الأكاذيب الكبرى في حق الإمام الحسين(ع) أنه خرج من المدينة هارباً من يزيد وخائفاً من الموت، ونحن بدورنا نردُّ على هؤلاء بالتالي:
أولاً: إن الإمام الحسين ابن علي(ع) إمام معصوم، والمعصوم يستمد القوة والجرأة من الله مباشرة، فإذا اتهمنا الحسين بذلك فقد تعدينا الخطوط الحمراء التي وضعها الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: ينبغي أن ننظر إلى تصرفات المعصوم من زاوية خاصة لأنه يتصرف بالعلم الذي وهبه الله إياه، فقد نظنه في بعض الأحيان مخطئاً، ولكننا إذا دققنا في أعماق الأمر وجدناه محقاً فيما قال أو فعل، فلا ينبغي أن ننظر في سلوك المعصوم كما ننظر في سلوك بعضنا البعض، ولا ينبغي أن نغفل عن مسألة التسديد الإلهي للمعصوم.
ثالثاً: لو كان الإمام الحسين(ع) خائفاً من الموت لما ذهب إليه برجليه، فقد كان عالماً بهذا المصير المحتم الذي دلّنا عليه بقوله:شاء الله أن يراني قتيلاًً:
رابعاً: لقد كان بإمكانه أن يبقى على قراره تجاه يزيد ويعيش بين أتباعه في المدينة ولا يستطيع يزيد أن يناله بسوء.
خامساً: لو كان خائفاً من الموت أو طالباً الحكم من أجل الدنيا فقد عرض عليه يزيد كل الدنيا في مقابل كلمة رضا منه، فلم يتنازل عن ذرة من عقيدته، ورفض الحياة تحت ظل يزيد مؤثراً الموت بعزة وكرامة.
سادساً: يجب أن نفرق بين الخوف من شيئ والخوف على شيئ، فإن هناك فرقاً كبيراً بينهما.
لقد خاف الإمام الحسين(ع)، ولكنه خاف على شيئ..خاف على الإسلام من يزيد، وهذا ما دفعه للخروج، ولم يخف من يزيد قط، لأن يزيداً في نظر الحسين(ع) عبارة عن حشرة ضعيفة لا تخيف أحداً من الناس.
ونحن الحسينيين ننصح كل الذين يتهمون هذا الإمام العظيم بأن لا يصطادوا في الماء العكر، وأن يتخلوا عن هذا الأسلوب الشيطاني المخادع لأنه لن يؤثر في المؤمنين، بل على العكس هو يربطهم بالحسين أكثر، ويثبتهم على العقيدة الحقة، لأننا ننظر إلى تلك الإتهامات على أنها أدلة واضحة على صحة ما قام به الإمام الحسين(ع) في كربلاء، ولا ننظر أبداً من منظار الشك.
كما ونقول لهم: إن عاقبة هذا الإفتراء هو عذاب جهنم، لأنكم بذلك تفترون على الله الكذب، والحسين(ع) يمثل الإسلام، وكل ما يقال فيه إنما يقال في الإسلام الذي هو دين الله الحق.
وإذا كان بعض المؤمنين قد أخطأ بالتعبير عن حالة الحسين لأثناء خروجه من المدينة أو عن حالته في كربلاء فهذا لا يعني أن الحسين كان ضعيفاً أو خائفاً.
الخائف لا يواجه آلاف السيوف بجسده، ولا يضحي بأولاده وأصحابه، ولا يفكر بمواجهة الظالم، ولكنه(ع) لم يكن خائفاً سوى من الله سبحانه وتعالى.
الشيخ علي فقيه

