الَفَكُرُ طَرِيْقٌ إِلى الحَقِ
ثم تابعت(ع) كلامها فقال(وَأَنَاْرَ فِيْ الْتَّفَكُّرِ مَعْقُوْلَهَا)
إن كلمة التوحيد تشتمل على جميع المفاهيم الإسلامية لأن كل أمور الدين الحنيف يندرج تحتها، فقد منّ الله علينا بأن جعل التفكر وسيلة لإدراك معقولات ومفاهيم كلمة التوحيد، فمن جملة مفاهيمها أنه تعالى موجود وواحد، وأنت من خلال التفكر في مبدأ الإيجاد ووحدة الموجودات تدرك وجود الله تعالى ووحدانيته، فعندما تنظر إلى عظيم الصنع مما هو حولك من المخلوقات فسوف يرشدك تفكرك إلى مبدأ الوجود وأصله، وهو معنى قولها(ع) وأنار في التفكر معقولها.
حَجْبُ الرُؤْيَا عَن الأَبْصَار
ثم تابعت(ع) كلامها قائلة:
(المُمْتَنِعِ عَنْ الأَبْصَاْرِ رُؤْيَتُهُ، وَمِنَ الأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهَاْمِ كَيْفِيَّتُهُ)
فبعد أن شهدت(ع) لله تعالى بالوحدانية راحت تبيّن بعض الصفات الإلهية التي خالفها فيما بعد أعداء الزهراء وأطلقوا عقائد فاسدة حول الخالق القدير سبحانه فادعوا إمكانية الرؤيا مستدلين على ذلك بأوهامٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وأغلب تلك الآراء الخاطئة والمعتقدات الفاسدة نشأت منهم مخالَفةً لأهل البيت(ع) وإن كان أصحابها يعلمون بفسادها، غير أن القيمين عليهم آلوا على أنفسهم أن يخالفوا مذهب الحق مهما كانت النتيجة وخيمة، والزهراء(ع) بهذه العبارات تؤكد إقامة الحجة عليهم، لأنها ذكّرتهم بربهم من جميع النواحي وبرسوله من كل الجهات علّهم يرشدون، فوجدوا بأن المخالفة لها أضمن لدنياهم، وهم على يقين بأن مخالفة الزهراء أمر لا يقره العقل ولا يقبل به الشرع، ولكنهم تابعوا مسيرتهم الضالة من أجل الوصول إلى أهدافهم الدنيئة التي لا يمكنهم الوصول إليها إلا عبر الظلم والخروج على كل الحدود والشرائع السماوية.
(المُمْتَنِعِ عَنْ الأَبْصَاْرِ رُؤْيَتُهُ) وهذا من المعتقدات الأساسية لدى المسلمين، وأعني بالمسلمين الذين سلكوا نهج الحق من دون أي انحراف، فهم يعتقدون بأن الله تعالى لا يُرى بالعين، وإنما يراه القلب، والعجب أنهم وضعوا معتقدات حول مسألة الرؤيا تخالف ظواهر القرآن الكريم، فكيف يدعون الرؤيا، والله تعالى يقول في كتابه العزيز(ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
وأنا شخصياً أعتقد بأن الزهراء اختارت هذا الوصف لله تعالى من بين غيره لأنها أحاطت بأخبارهم وعلمت أنه سوف يأتي يوم يبثون فيه معتقدات فاسدة، وعلى رأس تلك المعتقدات مسألة إمكانية رؤية الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فوضعت الإصبع على الجرح وأصابت الواقع الذي كانوا عليه بعد التحاقها بالرفيق الأعلى.
وأنا أرجح هذا الأمر لقناعتي التامة بأن المعصوم لا يطلق كلمة إلا بعد ملاحظة جميع أبعادها الحالية وما يمكن أن ينشأ لها من تفاسير وأبعاد في المستقبل، فلقد كان بإمكان الزهراء أن تكتفي بذكر كلمة التوحيد وما والاها من متعلقات، ولكنها عندما خصصت تلك الصفات بكلامها أدركنا بأن وراء هذا التخصيص سراً، وقد كشف هذا السر عندما تبنى أعداؤها فكرة إمكانية الرؤيا الباطلة بالضرورة.
وقد أغنى علماء الكلام مكتباتنا الإسلامية بكتب قيمة حول هذا المعتقد بالخصوص حيث أولوا له أهمية بالغة لقيام كثير من المعتقدات عليه.
إن الله تعالى ممنوع على الأبصار رؤيته لأنه شيء لا يشبه الأشياء، فقد تنزه عن مجانسة مخلوقاته، ولأجل ذلك كانت معرفة حقيقته ممنوعة ومستحيلة على المخلوقين، لأنها خارجة عن حدود الفكر مهما كان الفكر واسعاً ومحلقاً في سماء المعرفة، فهي حقيقة مجهولة ليس لأحد من الخلق إدراكها، هكذا أراد الله تعالى وهو فعال لما يريد، ولا نقصد بالحقيقة تلك الصفات التي أطلعنا ربنا عليها، وإنما نقصد بها تلك التي لم يطلع عليها أحداً من خلقه.
ولا تهمنا رؤية العين بقدر ما يهمنا رؤية القلب الذي يرى ما لا تراه العين ويدرك الماورائيات المستحيلة على باقي الأعضاء.
وقد حسم الله تعالى هذه المسألة عندما طلب منه كليمه موسى أن يراه بالعين المجردة فقلع له الجبل من مكانه ليكون علامة على وجوده وقدرته تعالى وكاد موسى ومن معه أن تخرج أرواحهم من أجسادهم لهول الأمر، وكأنه تعالى يريد أن يقول له ولكل الناس الذين سألوه ذلك والذين لم يسألوه: ليس المهم أن تروني بعيونكم بل المهم هو أن تؤمنوا بي وبوحدانيتي وأنني قادر على كل شيء.
(المُمْتَنِعِ عَنْ الأَبْصَاْرِ رُؤْيَتُهُ، وَمِنَ الأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهَاْمِ كَيْفِيَّتُهُ)
فكما يعجز البصر عن إدراك الله تعالى فكذلك الألسن، فهي قاصرة عن إدراكه بالوصف مهما كان الكلام صائباً وسليماً، لأن الإنسان تكويناً قاصر عن إدراك ما يجهل مهما كان ذكياً ونبيهاً، حتى أن الأوهام مهما حلقت وبحثت فلن تصل إلى تلك الحقيقة الممنوعة، وإلى هذه الناحية يشير أمير المؤمنين(ع) بقوله في أول خطبة من نهج البلاغة فيقول(الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعماءه العادون ولا يؤدي حقه المجتهدون الذي لا تدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن.
الشيخ علي فقيه

