محاضرات

دروس في الوعظ والإرشاد الدرس التاسع

الدرس التاسع

مَا أَنْبَشَكَ لِلذُّنُوْب

من خلال هذا العنوان نستوحي موعظة قبل ذكر القصة التي استوحيتُ منها هذا العنوان، ولو لم نذكر سواه لكفى في عملية الإفهام وإيصال الموعظة.
ففي قديم الزمان اشتهرت عملية نبش القبور وسرقة الأكفان وبعض ما كان يوضع مع الميت بحسب العادات والتقاليد والأعراف الخاصة، ولم تنحصر هذه العملية في شبه الجزيرة العربية فحسب بل إنها شملت أكثر البقاع التي سكنها البشر على اختلاف لغاتهم وعقائدهم وعاداتهم.
ومن نباشي القبور مَن أخذ الموعظة وتاب إلى الله تعالى كهذا الذي نبش قبر العلّامة الطبرسي صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن الذي دُفن وهو حي فنذر لله عندما استفاق في القبر أن يفسر القرآن الكريم إذا منّ الله عليه بالخلاص من تلك الورطة، فبعدما دُفن في تلك الليلة أتى أحد نباشي القبور كالعادة فنبش قبره ومد يده لينزع عنه الكفن فالتقط الطبرسي يد النباش فارتعب فأخبره الطبرسي بالأمر بشكل سريع كيلا يُغمى عليه من الخوف، فحمله النباش إلى داره وتاب بعد تلك الحادثة.
وقد روي في التاريخ أيضاً أن أحد نباشي القبور أراد أن يسرق كفن امرأة دُفنت في ليلة من الليالي فنبش قبرها وأخرجها من لحدها وجردها من كفنها فزيّن له الشيطان وصالها فجامعها وهي ميتة، وعندما هَمَّ بالخروج من المقبرة سمع هاتفاً من داخلها يؤنبه ويحذره من عذاب الله عز وجل فراح يسعى ويسأل إن كان له توبة بعد أن ندم ندماً شديداً على ما فعل فاستجاب الله له وقبل توبته لأنه ألحّ على الله تعالى، والله عز وجل يحب الإلحاح من عبده في مسألة التوبة وقبول العمل واستجابة الدعاء.
ويذكر المؤرخون أيضاً بأن الصحابي الكبير عبد الله بن عباس(رض) كان قد أدنى أحد الشبان من مجلسه وقرّبه إليه وأعطاه اهتماماً كبيراً حيث لمس منه روح الإيمان وقوة الإخلاص في عبادته لله عز وجل، وفي يوم من الأيام أتاه بعض المسلمين فقالوا له: إنك تدني منك هذا الشاب، وهو شاب سوء يأتي القبور فينبشها في الليالي، فقال لهم ابن عباس:إذا كان ذلك فأعلموني، فخرج الشاب ذات ليلة إلى مقبرة مجاورة فأتى القوم وأخبروا ابن عباس بالأمر فخرج معه وجلسوا في مكان يرون منه الشاب حيث لا يراهم فرأوه قد دخل إلى قبر حفره بيده واضطجع فيه وصار ينادي قائلاً: يا ويحي إذا دخلتُ لحدي وحدي، ونطقت الأرض من تحتي فقالت لا مرحباً بك ولا أهلاً، قد كنت أبغضك وأنت على ظهري فكيف وقد أصبحتَ في بطني، بل ويحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفاً وإلى الملائكة صفوفاً فمن عدلك غداً من يخلصني ومن المظلومين من يستنقذني.. إلى آخر تلك الكلمات التي كان يعظ فيها هذا الشاب نفسه، وبعد انتهائه من وعظ نفسه بهذه الطريقة المميزة اقترب منه ابن عباس وعانقه وقال له:نعم النباش نِعْمَ النبّاش ما أنبشك للذنوب والخطايا:
ونحن بدورنا ينبغي أن نلقي الضوء على أمرين في هذه القصة الموعظة.
الأمر الأول: تلك الطريقة الفريدة من نوعها التي كان يعظ فيها الشاب نفسه، فهي طريقة فعّالة ومؤثّرة، وفي زماننا يوجد بعض الناس يعظون أنفسهم بطريقة مشابهة حيث ينبشون قبورهم ويأتونه بين الحين والآخر وينظرون إلى محل مثواهم الأخير فيتعظون بذلك.
الأمر الثاني: وهو أن لا نسيء الظن حتى نتأكد ونتحقق من الأمر كيلا نقع في مخالفة الله تعالى الذي نهانا عن سوء الظن في قوله(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ) فبدل أن نظن سوءاً بالآخرين فلننشغل بوعظ أنفسنا ولنؤسس الأرضية المناسبة لمواجهة أخطار وأهوال الموت وما بعده فإن هذا انفع لنا في الدنيا والآخرة.
وعلى الطرف الآخر أن لا يأخذوا بأي خبر حتى يتحققوا من الأمر فإن هذا الأسلوب هو المرض الفتاك المنتشر في مجتمعاتنا الإسلامية على وجه الخصوص حيث أصبحنا نأخذ الناس على مجرد التهمة، وعلى الإخبار الذي يحتمل وجهَي الصدق والكذب، فلنعمل بمقتضى قوله سبحانه(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)
وبدل أن ننبش أسرار الناس ونغتابهم ونبهتهم، فلننبش خطايانا ونستغفر الله منها حتى لا نُسأل عنها في يوم الحساب، هذا اليوم الذي لا يعتني فيه أحد بأحد، كلٌ يريد لنفسه الخلاص من العذاب، فلا الأم هناك تسأل عن أولادها الذين فدتهم في الحياة بنفسها، ولا الأب يسأل ولا الصديق ولا الحبيب ولا الزوجة ولا الولد(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) وقال سبحانه(فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى(يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى)

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى