لَمْ تَفْقِدْ الزهْرَاءُ صَوَابَهَا
فلنرجع معاً بعقولنا وقلوبنا إلى تاريخ حرق الدار وخلع الباب وكسر الضلع المبارك ولنسمع جيداً كلام الزهراء نجد بأن حزنها وألمها لم يخرجاها عن القاعدة الملتزمة بها فلم يفقدها الأمر صوابها وإنما بقيت متماسكة لم يتبدل في نظرها شيء تجاه الله وذكره، ولأجل ذلك إذا قرأنا خطبتها من دون أن نعرف سببها لما شعرنا بأن هناك أمراً قد أزعجها سوى أنها كانت تتكلم بلسان المدافع عن الحق، فلقد أرشدت ووعظت ونبهت وقدمت المصلحة العامة على كل المصالح الخاصة، وذكرت ربها ذكراً حسناً، وبدأت الكلام بالحمد والشكر والثناء على النعم التي نتجاهلها ونتناساها، وهذا أقبح ما في المرء، فإن أقبح ما في المرء أن ينسى إحسان غيره إليه.
ويمتاز المعصومون(ع) بطريقة النهج التعليمي الذي يوصلون به المعارف إلى عقول الناس، فإنهم لا يخصصون لذلك وقتاً معيناً كما هي الطريقة المتبعة في زماننا، وإنما يفعلون ذلك عند أية فرصة تُفتح أمامهم، ففي قراءتهم للقرآن لا يقصدون به كسب الأجر فقط وإنما يصنعون ذلك من أجل أن يعلّموا الناس كلام الله وأحكامه، وكذلك الأمر في أدعيتهم وخطبهم ومخاطبتهم للناس أفراداً وجماعات، فالزهراء(ع) عندما حمدت الله وأثنت عليه فقد حمدته حقاً، ولكنها بذلك أيضاً تُعلِّم الناس كيف يبدؤون كلامهم، ولم يقتصر الأمر عند الزهراء على الحمد أو الشكر، وإنما قرنت بهما أموراً عقائدية أرادت أن تعلمها لهم من قبيل أن المعطي والرازق وصاحب كل النعم إنما هو رب العالمين سبحانه، وكأنها تقول أنا لا أحمد الله كشعار يستعمله المسلمون، فإن هناك من يذكرون الله قبل كلامهم وأفعالهم ولكن الهدف عندهم يختلف عن هدف الزهراء، فقد يبدؤون كلامهم بذكر الله تعالى كعادة اعتادوا عليها، أما الزهراء فإنها حمدت الله لأنه أهل للحمد مشيرة إلى كونها تحمده على النعم الجمة التي يجب شكرها بشكل عملي، ولأجل ذلك قالت(الحَمْدُ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ) وقد أنعم الله علينا بالكثير، فلا ندري ما نشكر، هل نشكره على العطاء المادي أو على نعمة الإيمان أو نعمة الحفظ من المخاطر أو نشكره على ستر عيوبنا الكثيرة.
وإلى هذا المعنى يشير الإمام السجاد(ع) في دعاء أبي حمزة حيث يقول مخاطباً ربه(فلا ندري ما نشكر أجميل ما تنشر أم قبيح ما تستر أم عظيم ما أوليت وأبليت أم كثير ما منه نجيت وعافيت يا حبيب من تحبب إليك ويا قرة عين من لاذ بك والتجأ إليك)
لقد كثرت نعم الله وأحاطت بالجميع، فلم يحرم منها أحداً من خلقه ليعلم الشاكرَ منهم مِن الكافر، ولكن أكثرهم لم يكونوا شاكرين، مع أن أثر الشكر عظيم، فهو باب النعم والزيادة منها(لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) ولكن النتيجة هي ما قاله تعالى في موضع آخر(وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)
نعود مرة أخرى إلى كلام الزهراء(ع) (الحَمْدُ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلَهُ الْشكْرُ عَلَى مَا أَلْهَمَ، وَالْثََّنَاءُ بِمَا قَدّمَ، مِنْ عُمُوْمِ نِعَمٍ ابْتَدَاهَا، وَسُبُوْغِ آلاءٍ أَسْدَاهَا)
فإننا تارة نتحدث عن نوع النعمة وأعدادها، وأخرى نتحدث عمن نزلت إليهم، وثالثة عن الطريقة التي تستدر بها النعمة، أما أعدادها وأنواعها فلا يعلمها سوى المنعم الأول تبارك وتعالى، وأما على من تنزل النعم فإنها تنزل على الإنسان بغض النظر عن كونه مؤمناً أو كافراً، وذلك بفعل الرحمانية الإلهية، لأن الرحمانية تعني العطاء للجميع على أساس كونهم خلقاً من مخلوقات الله عز وجل، وأما الطريقة التي تنزل بها النعمة أو تستجلب بها فإما أن تنزل بعد سؤال العبد ربه، أو تنزل مبادرة وابتداءاً منه تعالى، وهي الأكثر انتشاراً ونزولاً من القسم الأول، لأنه تعالى أكرم الأكرمين وأجود المعطين والمنعمين.
إذاً.. (وَالْثَّنَاءُ بِمَا قَدّمَ، مِنْ عُمُوْمِ نِعَمٍ ابْتَدَاهَا، وَسُبُوْغِ آلاءٍ أَسْدَاهَا) فلقد أنعم الله علينا وأسغب نعمه، أي أنه أنزلها بغزارة وكثافة، وهنا تقع الحيرة فينا، فلا ندري كيف نشكره أو كيف نبدأ بالشكر وبماذا نبدأ.
يقول أهل اللغة إن السبوغ هو الكمال والسعة في العطاء، بمعنى أن الله تعالى ينزل علينا من النعم ما يكفينا وزيادة، وهنا نسأل أنفسنا كم من موسم زراعي يأتي ونرمي منه أكثر مما نأكل، وذلك كيلا يكون لنا حجة على الله تعالى، يعني نحن البشر حالياً قَرُب عددنا من خمسة مليارات نسمة، ونعم الله تعالى الحالية تكفي لعشرات المليارات، هذا غير مليارات المليارات من البشر الذين أنعم الله عليهم عبر الزمن من عهد آدم وقبله وبعده وإلى يوم القيامة.
هذا ونحن نكفر بالنعمة وننسى الشكر ونتجاهل أن علينا واجبات تجاه تلك النعم، ونهمل عتاب الله المتكرر لنا في سورة الرحمن القائل(فبأي آلاء ربكما تكذبان) وهذا الخطاب موجه للإنس والجن معاً، وقد تجاوز عدد هذا العتاب في سورة الرحمن الثلاثين مما يدلنا على وجوب شكر النعمة وخطورة الكفر بها أو الجحد بها.
الشيخ علي فقيه

