شُمُوْلِ خُطْبَةُ الزَهْرَاءِ لِأَكْثَرِ مِنْ وَاقِعَةٍ وَحُكْمٍ
أسرار الخُطبَة الفَدَكيَة

شُمُوْلِ خُطْبَةُ الزَهْرَاءِ لِأَكْثَرِ مِنْ وَاقِعَةٍ وَحُكْمٍ
تارة يكون السكوت أبلغ من البيان، وأخرى يكون البيان واجباً، ويعود ذلك إلى وجود المصلحة أوعدمها من البيان وعدمه، فقد يسكت الشخص إذا كان النقاش فارغاً لا يستفاد منه بشيء على الإطلاق، فهو حينئذٍ يعتبر أن السكوت عن هذا الأمر من الذهب، أما عند بيان الحق فيكون الكلام أثمن من الذهب وبالخصوص إذا توقف بيان الحق عليه، كما كان حال الزهراء(ع) مع قومها الذين حاولوا قتلها حتى لا يتبين الحق للناس فيخسر الطامعون ما سعوا إلى تحقيقه عبر ظلمهم وحقدهم وخبثهم وارتكابهم للجرائم البشعة والممارسات الشنيعة، فكان لا بد للزهراء من أن تتكلم حتى لا يظن أحد بأن الذين هجموا على دارها كانوا أهل حق أو كانوا غيورين على مصلحة الناس كما كانوا يشيعون بين أفراد مجتمعهم، فلقد ألبسوا الباطل لباس الحق وصوروا ضلالهم بصور الهدى وشرهم بصور الخير، مع أن ضلالهم أضل أنواع الضلال، وشرهم شر من كل شر.
لقد واجهت الزهراء ذلك الموقف رغم ألمها ووجعها من جراء كسر ضلعها وإسقاط جنينها ونَبْتِ المسمار في صدرها، والدماء تنسال منها، والألم النفسي بلغ أقصى الدرجات عندها، ورغم ذلك وقفت ذلك الموقف الجريء وتكلمت بكلام فيه لله رضا وللناس منفعة إن أخذوا به، وبكلامها ذاك كشفت عن ضلال القوم وانحرافهم ومستوى أطماعهم وحجم استكلابهم على الحكم والسلطة وتولي المناصب التي كانت سبباً في هلاكهم على مستوى الدنيا والآخرة، لأن الحاكم إذا كانت تصرفاته سيئة فسوف ينعكس هذا السوء عليه فيُفقده كل شيء ويهدم كل ما بناه على ركائز الظلم والجور.
لقد خطبت فاطمة الزهراء خطبة بليغة وفصيحة ذات أبعاد كبيرة ومعان عميقة، فلم تدع شاردة ولا واردة إلا وبينتها من باب إتمام الحجة وإحكامها، ولكن وكما قال الشاعر: لقد أسمعتَ لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي:
خاطبتهم فاطمة بقول بيّن وكأنها لم تخاطبهم، حيث سمعوا كلامها وتجاهلوا معناه خوفاً على معيشتهم، فتباً وسحقاً لعيشٍ يقوم على ظلم فاطمة الزهراء أو أي شخص من الناس، لقد كانت إغراءات القيمين على الساحة وتهديداتهم للناس حائلاً بينهم وبين اتباع الحق، فوضعوا الأقفال على أسماعهم وقلوبهم فكانوا كما قال الله تعالى(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ)
وهؤلاء الذين خذلوا رسول الله بعد التحاقه بالرفيق الأعلى ولم يحفظوه في آله ولا في الأمة الإسلامية قد ارتدوا على أدبارهم، وإلى ذلك يشير القرآن بقوله(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) وهذا ما ذكّرتهم به السيدة الزهراء(ع) في خطبتها عندما وعظتهم بأن يرجعوا إلى الصواب وأن لا يستسلموا لأهواء الحكام والطامعين الذين استهوتهم الحياة الدنيا وأغرتهم زخارفها بعدما كانوا ينعمون بوجود النبي فيهم، بل بعدما كانوا يزاحمونه في ركبتيه ولكن ليس من أجل البركة واكتساب الأجر والثواب وإنما كان ذلك تخطيطاً منهم للمستقبل، حيث كانوا يتوقعون موت النبي بين لحظة وأخرى لكونه كان مطلوباً إلى كل الجهات المتضررة من وجود الإسلام وانتشاره، وما أكثر المتضررين من ذلك، كانوا يجلسون في أعالي الجبال عند نشوب أية معركة، فلا ينزلون إلى الساحة إلا بعد انتهائها، فإن كان النصر حليف النبي قالوا إنّا معك يا رسول الله ونحن نفديك بأرواحنا وأموالنا، ولم يكن ذلك إلا مجرد كلام خال من الفحوى والمضمون وبعيداً عن الواقع بُعد الأرض عن السماء، وأما إذا كان النصر لغير المسلمين أنكروا إسلامهم وادعوا أنهم معهم ليحفظوا رؤوسهم لأنهم يريدون العيش وإن كان عيشاًَ ذليلاً، وهؤلاء هم المنافقون الذين وبخهم الله تعالى وفضحهم عندما قال في كتابه المجيد(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)
لقد كان كلام الزهراء(ع) مقنعاً وواضحاً وبيناً لا يمكن لأحد أن يدعي بأنه يحمل أكثر من وجه، حيث حرصت(ع) على أن يكون الكلام بمستوى الحاضرين، فخاطبتهم بالطريقة التي يفهمونها حتى تلقي الحجة عليهم فيما صنعوه أو ما يمكن أن يفعلوه بعد ذلك الموقف.
الشيخ علي فقيه


