الخسائر ضريبة طبيعية للإنتصار
قد نجد عبارتين متشابهتين باللفظ والمعنى، وقد يكون اللفظ واحداً والمعنى مختلفاً، فهناك كثير من الناس لهم آراء وأفكار منوعة منها ما ينسجم مع طبائع الأمور، ومنها ما يختلف مع المسلّمات والوقائع الثابتة، ومن هنا يأتي حكمنا على أصحاب تلك الآراء سلباً أو إيجاباً، والعاقل لا يقف على اللفظ مهما كان برّاقاً ورائعاً وجذاباً بل يقف على المعنى المراد، وأخص المعنى بالمراد لأن هناك إرادات لا تظهر جلية من خلال العبارات المذكورة، وهذا يعني أن المعنى ينقسم إلى قسمين: إلى معنى عام ومعنى خاص، أما المعنى العام فهو الذي يظهر من العبارة دون دراسة خلفياته ودون النظر إلى قلب صاحبها، وأما المعنى الخاص فإنه لا يمكن أن يظهر من حاق اللفظ بل يتم ذلك عبر دراسة الأهداف وقراءة القرائن وحمل شيء على شيء وعندها نصل إلى النتيجة، فكثير من أعداء الحسين أطلقوا عبارات مدح وتمجيد، وكثير منا يفرحون لذلك ويتغنون به من دون أن يعيروا الإهتمام للخلفيات، هذا مع العلم بأن المطلوب في الأمور الحساسة هو أن نقف على المعاني الخفية المرتكزة فيما بين السطور لأن ما في السطور شيء وما هو موجود بين السطور شيء آخر، فهناك حق يراد به باطل، والنماذج المتعلقة بهذا السلوك أكثر من أن تُحصر، وهناك مدح ظاهره ثناء وباطنه وباء، مدحٌ يراد به الذم بشكل فني شيطاني يحصّن به الذام وضعه من أن تناله أية عقوبة أو أن تلاحقه أية مسؤولية كما هو حال كثير من مبغضي أهل البيت الذين يعطوننا من طرف اللسان حلاوة.
هناك أشخاص كثيرون يحاولون تضليل الناس بطرق فنية وأدلة واهية يصوّرونها على أنها أدلة قاطعة عبر الأسلوب الذي يستعملونه لدى إدلائهم بها ومن خلال الطريقة الخاصة التي يتعاطون بها عند تأدية مهماتهم القبيحة، وإن أبلغ وصف لهؤلاء هو ما وصف به الإمام علي(ع) المنافقين الذين يتسللون إلى القلوب بطرق خفية وصور جميله ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب فقال(ع):
يَمْشُونَ الْخَفَاءَ، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ.وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ.حَسَدَةُ الرَّخَاءِ، وَمُؤَكِّدُوا الْبَلاَءِ، وَمُقْنِطُوا الرَّجَاءِ.
لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيق صَرِيعٌ، وَإلى كُلِّ قَلْب شَفِيعٌ، وَلِكُلِّ شَجْو دُمُوعٌ. يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ، وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاء. إِنْ سَأَلُوا ألْحَفُوا، وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا، وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا.
قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً، وَلِكُلِّ قَائِم مَائِلاً، وَلِكُلِّ حَيّ قَاتِلاً، وَلِكُلِّ بَاب مِفْتَاحاً، وَلِكُلِّ لَيْل مِصْبَاحاً.
ومن جملة تلك العبارات التي يراد بها الباطل قولهم بأن الحسين انهزم عسكرياً كمقدمة لقولهم بأنه انهزم كلياً لأنه قُتل على أرض المعركة هو وأصحابه وأولاده، فهم يذكرون الأمر وملامح الحزن تملأ وجوههم ولكن قلوبهم فرحة ومليئة بالشماتة، هم يحاولون تضليل الموقف وإثبات الباطل وتصوير ما ليس واقعاً على أنه واقع، ودخولهم إلى العقول من هذه الزاوية دليل ذكاء متوَّج بالدهاء لأنهم يدرسون الوسائل التي يمكن التسلل منها نحو إثبات الباطل، ولو وجدوا طريقة أسهل من هذه للكشف عن نواياهم لما قصّروا لحظة واحدة، والكِذبة تُعرَف من كُبرها، فهم لا يستطيعون أن يقولوا بأن الحسين كان على باطل(وإن قالها بعض مجرميهم وجاهليهم) ولكنهم يستطيعون أن يزلزلوا الصورة الصافية النقية التي أخذها المؤمنون عن إمامهم الشهيد، يستطيعون ذلك من خلال التحريف وإثبات غير المراد عن طريق عبارات لا علاقة لمضمونها بما يقولون.
نحن نرد على هؤلاء بأنه لا يوجد انتصار من دون ثمن، والثمن هو دفع الضريبة والخسائر في الأرواح والعتاد، فلقد تغنى التاريخ بالعديد من الإنتصارات والإنجازات التي تحققت على يد فرد أو أمة أو دولة، لقد حقق صلاح الدين الأيوبي انتصارات كبرى وخصوصاً عند تحريره للقدس كما يذكر بعض المؤرخين، ولكنني هنا أدعوكم لقراءة التاريخ من جديد وتحديد كمية الخسائر التي لولاها لما تم انتصاره ولما تحققت غايته.
وقد حققت ألمانيا انتصارات كبرى على الروس والصين ولكن بعد أن تكبدت الخسائر الجمة في الأرواح والأسلحة، ولا أحد يقول بأنهم انهزموا لكثرة قتلاهم ودباباتهم التي تدمرت وطائراتهم التي سقطت، والتكاليف الباهضة التي صُرفت في الحرب.
أنا هنا أذكر مجرد مثال أبين من خلاله أن المعيار لإثبات النصر أو الهزيمة ليس عدد القتلى والجرحى والمقاتلين والأسلحة، بل إن المعيار الأساسي لإثبات النصر أو الهزيمة إنما هو تحقق الأهداف أو عدم تحققها، وبما أن الذين يروجون هذه الدعايات هم من المسلمين فسوف أستعمل الأدلة والشواهد الإسلامية لإثبات أن النصر في كربلاء كان للحسين(ع) ولا يمكن إدراك هذه الحقيقة إلا بعد دراسة المعايير الموضوعة لهذا الشأن، وقد أشرنا إلى تلك المعايير في محاضرة سابقة لدى الحديث عن سبب تمايز النصر الكربلائي.
ولأجل ذلك أحببت أن ألقي نظرة سريعة على بعض المعارك التي انتصر فيها الرسول بل التي حقق فيها انتصارات باهرة للإسلام والمسلمين، وأركز على معركة بدر التي انتصر فيها الرسول، وعلى معركة أحد التي انهزم فيها المسلمون لأننا إذا ذكرنا الجانبين السلبي والإيجابي استطعنا من خلال ذلك أن نفهم واقع النصر والهزيمة أكثر ضمن المعايير المستعمَلة.
ففي معركة بدر انتصر المسلمون بتسديد غيبي، ورغم هذا التسديد لم تنتهي المعركة إلا بكوكبة من الشهداء قدموا دماءهم في سبيل صناعة النصر لأن بذل الأرواح ضريبة طبيعية لتحقيق النصر، ولا يمكن لأي إنسان في هذا العالَم أن ينكر النصر الذي تحقق في بدر على يد الرسول والمسلمين خصوصاً وأن الله تعالى قد حدثنا عن هذا الإنتصار في كتابه المجيد حيث قال في سورة آل عمران(إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)
وكذا الحال في معركة حُنين التي انتصر فيها المسلمون بعدما ظنوا أنهم أحيط بهم، وقد أشار الله تعالى إلى هذا النصر الذي حصل بعدما تكبد المسلمون العديد من الخسائر فقال سبحانه(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ)
هذا بالنسبة للنصر، أما بالنسبة للهزيمة فقد انهزم المسلمون في معركة أحد نتيجة لعدم التزام البعض بقرارات الرسول، ولعل هذه الهزيمة وقعت من أجل أن يعلّم الله المسلمين الإلتزام بأوامر رسوله وعدم الخروج عن الدائرة التي يرسمها لهم في أي مجال من مجالات الحياة، وفي تلك المعركة كانت الخسائر كبيرة وأكبرها استشهاد الحمزة بن عبد المطلب الذي كان عماداً متيناً لهذا الدين.
ونلاحظ بأن الهزيمة تكلّف والنصر يكلّف إذ قلَّ أن تجد نصراً من دون كلفة، واللافت للأنظار في هذا المقام هو أن بعض الإنتصارات تكون الخسائر العسكرية فيها أكبر مما لو كان هناك هزيمة عسكرية وهذه هي نفسها حالة الثورة الحسينية التي كانت كلفة النصر فيها كبيرة، وهذا ما جعل البعض يظن بالهزيمة، ولكننا نؤكد مرة أخرى على أن حجم الخسائر ليس معياراً أساسياً للنصر أو الهزيمة، ففي معركة أحد انهزم المسلمون وقد استشهد منهم ما يقرب من سبعين رجلاً، وفي معركة صفين انتصر المسلمون وقد استشهدوا منهم المئات.
الشيخ علي فقيه



