محاضرات

القرآن الكريم معجزة الوجود الكبرى

الجزء الرابع

 

 

القرآن الكريم معجزة الوجود الكبرى

الجزء الرابع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على رسوله الكريم وآله الميامين وأصحابهم المنتجبين

من جملة القضايا المتعلقة بالكشف عن حقيقة كتاب الله تعالى وإثبات كونه كما وُصف من أنه المعجزة الدائمة موضوع مشابهته لأرقي فنون عصر نزوله، وقد قال كثير من علمائنا الكرام إن أهم المعجزات ما كان موافقاً منها لأرقى فنون العصر، ومن هنا حصل التمايز بين معجزة ومعجزة أخرى رغم كون مصدرهما واحداً وهو القدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى، والكشف عن هذه الحقيقة يحتم علينا البحث حول حقيقة المعجزات وبيان أنواعها وبعض ظروفها وخصائصها.

وبعد الإعتناء إن شاء الله بهذه المقدمة المساعدة نقف على موضوع مشابهة القرآن الكريم لأرقى فنون عصر نزوله، ولا أقول عصر القرآن لأن كل العصور هي عصره وذلك لتماشيه مع الزمن وانسجام أحكامه وتعاليمه وإرشاداته مع كل جيل مهما تباعد زمنهم عن زمن نزوله.

إن المعجزة كما عرّفها علماؤنا هي الحدث الذي يخرق الطبيعة أو الخارق لنواميس الطبيعة، وإن لهذا التعريف حقيقة وضوابط هي التي تتكفل بإبراز المعجزة على الشكل المطلوب، ولذا فإننا نقول: إن لخرق الطبيعة معنيين:

المعنى الأول: هو خرق الطبيعة التكوينية عبر إحداث أمر غير مألوف في هذه الطبيعة التي اعتاد الناس عليها، وذلك كما لو حوّل الإنسان عصاه إلى ثعبان حقيقي، أو أخرج من الجبل ناقة، أو شفى أعمى من عماه أو أحيا ميتاً بعد خروج روحه من جسده.

المعنى الثاني: وهو استعمال مجازي يتعاطاه الناس فيما بينهم كما لو ارتكب أحدهم عملاً مشيناً فيقولون له إن عملك غير طبيعي بمعنى أنه غير منطقي وغير مقبول لخروجه عن الإنسانية والعُرف، ولا علاقة لبحثنا في المعنى الثاني وإنما العبرة الأساسية هي في المعنى الأول لخرق الطبيعة.

يبقى أن نعرّف الطبيعة التي حملنا تعريف الإعجاز عليها، فهي الشيء الذي اعتاد الناس عليه بسبب سيره ضمن نظام دقيق لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا خروج عن الدائرة المرسومة له، وإن كان بحد ذاته هو معجزة لأن وجود الشمس والقمر والنجوم والكواكب وكل ما في هذا الوجود إنما كان أصل وجوده معجزة إذ لا توجد معجزة أكبر من إيجاد شيء من العدم، ولكن مع الأسف فقد اعتدنا على تلك المخلوقات وأنظمتها حتى باتت في نظرنا من الأمور العادية الطبيعية، ولا ينبغي أن نقع في هذا الفخ الشيطاني، وقد حذرنا الله من ذلك وحثنا على التفكّر في هذه الحقيقة وما تشتمل عليه من مخلوقات وأنظمة، ولعل قوله تعالى(ويتفكرون في خلق السموات والأرض) فيه إشارة واضحة إلى هذا المعنى.

هناك أشخاص خلطوا بين مفهومي المعجزة والسحر، والحقيقة هي أن كل واحد منهما يذهب باتجاه مغاير لاتجاه الآخر، فالمعجزة أمر حقيقي وواقعي، والسحر وهم وخيال، فتحوُّل عصا موسى إلى ثعبان كان حقيقة، إذ أن الله تعالى في تلك اللحظة توجهت إرادته إلى تلك العصا فحوّلها بقدرته من شيء إلى شيء آخر ومن مادة خشبية إلى مادة حية تتحرك بالإرادة، فلو اقترب أحد المعاندين من تلك الحية للسعته وقتلته، أما لو اقترب أحد من حبال السحرة لانفك السحر عن عينيه ولم يحصل له أي ضرر.

هناك معجزات تميزت عن غيرها إما لظروف خارجية أو لخصائص في ذات المعجزة أو لعوامل أخرى لها مدخلية في رفع مستوى المعجزة أو خفضه، ومن تلك العوامل التي ميزت كتاب الله تعالى عن غيره من باقي المعجزات:

أولاً: أنه موجود في متناول الأيدي ومنتشر في كل بقاع الأرض، وقد سُمح لأي إنسان بأن يلمس الإعجاز في هذا الكتاب.

ثانياً: دوام إعجازه وتماشيه مع كل جيل وعصر.

ثالثاً: عدم تأثره بأي عامل خارجي أو بأي ظرف يمكن أن يطرأ عليه.

رابعاً: أن خرقه للطبيعة لا يشبه خرق غيره من المعجزات لها، فعندما خرجت ناقة صالح من الجبل انبهر الناس وكأن على رؤوسهم الطير، ولكن بعد فترة من الزمن وسوس لهم الشيطان فانقضوا على تلك الناقة وذبحوها وتقاسموا لحمها فيما بينهم وكأن شيئاً لم يكن، أما القرآن الكريم فلا يلغيه أي نوع من أنواع الإنقضاض لأن إرادته أقوى من إرادة البشر مجتمعِين، فيمكن أن تحرق المصاحف أو تمزقها أو تتلفها بأية وسيلة ولكن لا يمكن أن تمحو روح القرآن من الوجود ولا يمكن أن تلغي دوره أو تتلاعب بمعانيه وأحكامه لأنه معجزة من نوع خاص جداً ولهذا فقد عبّرنا عنه بأنه أعظم معجزات الوجود على الإطلاق.

خامساً: من جملة المزايا التي امتاز بها القرآن عن كثير من المعجزات الأخرى هو موافقته لأرقى فنون عصر نزوله، وهذا أمر لم ينفرد به القرآن الكريم وإنما كان له خصوصية حتى من بين المعجزات التي وافقت أرقى فنون عصرها كمعجزات عيسى وبعض معجزات موسى(ع).

ومن هنا قيل بأن أرقى المعجزات هي التي توافق أرقى فنون عصرها.

صحيح أن القرآن الكريم يشابه بعض معجزات موسى وعيسى ولكنه يفترق عنهما بالعديد من الأمور فهو يشمل آثار كل معجزات الأنبياء وما اشتمل عليه هو نفسه من الخصوصيات.

لقد اشتُهرت الفصاحة والبلاغة في العصر الجاهلي وقُبيل المبعث النبوي الشريف حتى بلغ هذا الفن ذروته إبان ظهور الرسول الخاتم(ص) وكان من الضروري أن يأتيهم بدليل قاطع على صدق نبوته وصحة دعوته فكان له الكثير من المعجزات وفي مقدمتها كتاب الله العزيز.

لقد سمع العرب هذا الكلام من رجل لم يتعلم عند أحد من الناس، ولم يعرف الكتابة ولا القراءة، وقد أتى بكلام لم يستطع عظماؤهم أن يصيغوا سورة من مثل سوره فأذعن الجميع له رغم معاندة الكثيرين له، ولو كان باستطاعة الوثنيين آنذاك أن ينقضوا كلمة واحدة أو يعيبوا عليه فقرة واحدة لفعلوا دون تردد، ولكنهم عندما عجزوا عن مواجهة القرآن لجؤوا إلى أساليب أخرى كالإتهام بالسحر تارة وبالجنون تارة أخرى، هذا مع العلم بأن هذه الإتهامات الواهنة قد ارتدت سلباً عليهم حيث لا يمكن لساحر أن يصيغ مثل تلك العبارات، ولا علاقة للسحر في مثل هذه الصياغات الرائعة، ولا يمكن لمجنون أن يأتي بمثل ما أتى به محمد، ولذلك فهم كثير من الناس حقيقة افتراء الوثنيين على النبي(ص).

وهنا بدأت المواجهة، وهنا لا بد من الكلام حول عنوان آخر وهو التحدي بالقرآن الكريم.

فعندما اشتدت وطأة الوثنيين على إنكار القرآن والإستهزاء به واتهامه بأنه سحر وكذب وجنون حاول رسول الله(ص) بأمر من الله تعالى أن يثبت كذبهم ويُظهر حقيقة افترائهم على الحق فتحداهم بأن يأتوا بمثل ما جاء به وقد حصل هذا التحدي على ثلاث مراحل، وكانت المرحلة اللاحقة أشد وطأة عليهم وأكثر إظهاراً لافتراءاتهم.

المرحلة الأولى: التحدي بجميع القرآن:

لقد ادعى كثير من فصحاء العرب وبلغائهم القدرة على الإتيان بمثل القرآن، وربما ادعى بعضهم أكثر من ذلك، هذا على مستوى التنظير والتهويل، أما على مستوى الحقيقة والواقع فإن العجز كان واضحاً لدى الجميع حيث فوجؤوا بعجزهم عن تقليد القرآن وسبك عبارات مشابهة لسبك عباراته، ولعل هذا الإدعاء في البداية كان على مستوى فرد ثم أصبح على مستوى مجموعة ثم على مستوى مجموعات ضخمة، وقد أخبر الله نبيّه بأنهم لن يقدروا على فعل ذلك ولو تعاونوا جميعاً حيث قال سبحانه(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) حتى لو استطاعوا أن يستعينوا بالجن فلن تتحقق تلك الأمنية لهم.

لقد شابه اعتمادهم على علماء الفصاحة والبلاغة في تلك المرحلة اعتماد فرعون على السحرة في زمن موسى(ع) وكانت النتيجة بين المرحلتين متشابهة وهي هزيمة أهل الإفتراء، ولكن الذي اختلف بين المرحلتين هو سجود السحرة أمام موسى وإيمانهم بالله تعالى، وعناد وثنيي مكة رغم ظهور الحق الذي أتى به محمد بن عبد الله(ص).

لقد استمرت محاولات نقض القرآن الكريم عقوداً من الزمن، وكانت كل محاولة منها تواجَه بفشل ذريع، حتى في زمن الإمام الصادق(ع) الذي يفصل بين ولادته ونزول القرآن الكريم ما يقرب من ثمانين سنة، ففي زمانه اجتمع أربعة من أولئك الضالّين في مكة وراحوا يسخرون من الحُجّاج وهم يطوفون بالكعبة ، ثم اتّفقوا على نقض القرآن بتأليف كتابٍ مثله ، فتعهّد كلّ واحد منهم بربع القرآن ، وقالوا ميعادنا العام القادم .

ومرّ العام ، واجتمعوا مرّة أخرى .

قال الأول : قضيت العام كلَّه أفكّر في هذه الآية : { فلّما استيأسوا خلصوا نجيّاً} وقد حيّرتني فصاحتها وبلاغتها .

قال الثاني : فكّرت في هذه الآية : {يا أيها الناس ضُرِب مثلٌ فاستمعوا له إنّ الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } فلم أقدر أن آتي بمثلها .

وقال الثالث : وأنا فكّرت في هذه الآية : لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا } فلم أستطع أن آتي بمثلها .

وقال الرابع : انه ليس من صنع البشر . لقد قضيت العام كلّه أفكّر في هذه الآية : {وقيل يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقُضي الأمر واستوت على الجوديّ وقيل بُعداً للقوم الظالمين }.

ومرّ بهم الإمام الصادق ( عليه السلام ) فنظَر إليهم وتلا قوله تعالى :

{لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } .

المرحلة الثانية: التحدي بعشر سور:

عندما فشلوا في المرحلة الأولى أراد الله سبحانه أن يُظهر افتراءهم على الحق بشكل أوضح ليكون هذا الظهور حجة أقوى وأبلغ فأخفض مستوى التحدي من القرآن كله إلى التحدي بعشر سور من مثل سوره، وفي هذه المرحلة قال تعالى(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ  فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)

إن الفشل الذريع الذي وقعوا فيه في المرحلة الأولى هو نفسه الذي وقعوا فيه في المرحلة الثانية إذ لا يُجديهم انخفاض مستوى التحدي شيئاً، ولعلهم هم الذين اقترحوا الإتيان بعشر سور دون القرآن كله، ولعلهم أيضاً حاولوا أن يكسبوا الوقت علهم يستطيعون الإتيان بعشر سور مشابهة لسور القرآن.

المرحلة الثالثة: التحدي بسورة:

حتى لو كانت بمستوى سورة الكوثر أو التوحيد، وقد قلبت هذه المرحلة جميع الموازين وثبتت قدم الرسول والرسالة وذلك عندما اجتمع جبابرة العرب على تأليف سورة واحدة فكان عجزهم عنها مشابهاً لعجزهم عن الإتيان بمثل القرآن.

وقد أشار سبحانه إلى هذه المرحلة بقوله(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)

وبعد هذا العجز الواضح عندهم والفاضح لديهم، وبعد ذلك الفشل الذريع لم يعد لهم أية حجة ولم يستطيعوا بعد ذلك أن يتفوهوا بكلمة واحدة ضد الكتاب العزيز الذي نشروا بين الناس أنه من صنع محمد وأن محمداً مجنون فهم إذاً العقلاء ورغم ذلك عجزوا عن الإتيان بأقل من واحد بالمئة مما جاء به محمد، وقد كان هذا التحدي بمثابة فضيحة كبرى لوثنيي العرب وإثباتاً لصدق ما أتى به النبي الخاتم(ص).

وهذا الكلام الخاص بموضوع التحدي بالقرآن الكريم وإثبات كونه كلام الله تعالى يتفرع عنه موضوعان هامان:

الموضوع الأول: وهو أن عملية التحدي هذه لم تنحصر في وقت قصير فلربما استغرقت سنوات طويلة بدليل أن بعض الآيات التي ذكرت مرحلة من مراحل التحدي هي آيات مكية، وبعضها الآخر مدنية، وهناك فارق زمني طويل بين ما نزل منها في مكة وما نزل منها في المدينة.

الموضوع الثاني: وهو أن الآية التي تحدثت عن التحدي بكل القرآن الكريم كقوله تعالى(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) هي آية من سورة الإسراء المكية أي أنها نزلت قبل اكتمال نزول القرآن الكريم بأكثر من عشر سنوات، ولا شك بأن مئات الآيات نزلت بعدها، وعشرات السور نزلت بعد سورة الإسراء، فكيف يمكن أن يتم التحدي بالقرآن قبل اكتمال نزوله؟

هناك معنيان للقرآن الكريم:

المعنى الأول: وهو مجموع القرآن المشتمل على مئة وأربعة عشرة سورة.

المعنى الثاني: أن بعض الآيات يُطلق عليها لفظ القرآن فيصح أن تصف الآية الواحدة بالقرآن وكذا الآيات والسورة والسور.

لعل التحدي في مكة حصل بما كان نازلاً منه ولو كان بضع سور أو بعض آيات، وكذا حصل التحدي في المرة الثانية بما كان قد نزل منه وكذا في الثالثة، ويمكن أن يكون المراد(والله أعلم) جميع القرآن الذي كان موجوداً في قلب الرسول وإن لم يكتمل إظهاره بعد، وكأنه تعالى يخبرنا عن مجمل القرآن وأن جميع الناس لا يقدرون على الإتيان لا بمثل كله ولا بمثل بعضه.

 

الشيخ علي فقيه

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى