نَظْرَتُنَا الحَقِيْقِيَّةُ إِلَى الثَّوْرَةِ الحُسَيْنِيَّةِ

سلسلة المفاهيم الكربلائية
(1)
نَظْرَتُنَا الحَقِيْقِيَّةُ
إِلَى الثَّوْرَةِ الحُسَيْنِيَّةِ
الشيخ علي فقيه
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
لبنان/بيروت
هاتف: 895869/03
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين سيدنا محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين، وأصحابهم المنتجبين.
السلام عليك يا مولاي يا أبا عبد الله الحسين، وعلى الأرواح التي حلّت بفَنائك وأناخت برحلك.
قبل ذكر أي شيء تجدر الإشارة إلى كون النظرات إلى تلك الثورة متفاوتة بين فئة وأخرى، وبين شخص وآخر، حتى من نفس الفئة.
وإن لاختلاف نظراتهم إليها أسباباً، منها ما يعود إلى الجهل الفعلي بمضامينها، ومنها ما يعود إلى أهداف غير لائقة، وهذا النوع من الأسباب هو الكثير المنتشر في وسطنا الإسلامي.
فلو نظر العاقل إلى ثورة كربلاء بشفافية وتجرد وعقلانية لا تخضع لأي نوع من أنواع الضغوطات المذهبية والطائفية والإنتمائية بشكل عام لرآها على حقيقتها، ولكن الشيطان الغوي يوقع بهم بألف طريق ووسيلة وصورة حتى يُحدث الإنشقاق بينهم ويوطد مسألة الخلافات التي يتسلل من خلالها إلى نفوسهم، ومع الأسف فإننا نرى كثيراً من العقلاء العارفين المثقفين قد أداروا مسامع قلوبهم لعدو الإنسان الأول الذي طالما حذّرنا رب العالمين من سطواته ووسوساته وخيله وحيله.
ولكن الناس آثروا طاعة المخلوق على الخالق فلم يأتمروا بأوامره، ولم ينتهوا بنواهيه، ولم يأخذوا بتلك التحذيرات القرآنية، فكانت النتيجة وخيمة عليهم والعاقبة سيئة تماماً لأن ما أقدموا عليه وما اعتقدوا به عن طريق الوهم والتعصّب الأعمى سوف يجرهم إلى الهلاك ويلقي بهم في الجحيم.
هؤلاء لم تتوقف نظرتهم عند حدود عدم الحب للإمام الحسين(ع) ولم تقتصر على عدم الإقتناع بثورته، وإنما أظهروا لصاحب الثورة كل كرهٍ وعدائية، وكأنه هو المجرم والمعتدي، حيث أعمى الشيطان بصائرهم، فرأوا المعتدى عليه معتدياً، والمظلوم ظالماً، والضحية جزّاراً.
فقد لا تُحبُّ شخصاً، ولكنك لا تضمر له البغضاء، وهذه حالة نفسية منتشرة في المجتمع البشري، أما أن يتحول عدم حبك للشخص إلى عداوة قاتلة فهذا يعني وجود مغالطة كبيرة في هذا السلوك، وعليك أن تفكر في الأسباب التي دفعت بك إلى إظهار هذه العداوة التي نشأت من دون سبب وجيه، وعليك أن تتدارك الأمر قبل أن يفوت الأوان فتخسر الدنيا والآخرة في آن واحد.
لقد بكيتم وأنتم الضاربون، وشوّهتم صورة الطرف الآخر وأنتم المعتدون، وبادرتم بالشكاوى وأنتم مَن جزّر بأهل بيت النبوة وموضع الرسالة، وعاتبتم الخليفة الشرعي لخروجه عن أوامر خليفة الزور الذي كان الممثِّل الأول للشيطان في عصره والضارب بسيفه والمنفّذ لإرادته، حيث كان عبداً مخلصاً للشيطان الغوي، لا يخالفه ولا يعارضه ولا يقول له(أفٍ).
وهذا ما يُحتّم علينا قراءة التاريخ بشكل جيد، والتأمل في مضامين الأحداف ملياً كيلا يكون حكمنا جائراً، وبالأخص إذا كانت المحاكمة قائمة على شخصين: أحدهما معصوم وعظيم وكريم عند الله تعالى، وثانيهما مجرم ومعتوه ومرتكب للمحرمات الكبيرة.
إن تاريخ المرء وسلوكه الحالي يشهدان عليه ويدينانه في موضع الإدانة، ويبرّءانه إذا كان بريئاً بالفعل، وفي مثل هذه الأحكام يجب على الحاكم أن يتخلى عن العصبية، ويُحكِّم العقل والشرع والوجدان في مثل تلك القضايا الحسّاسة التي لم تقتصر على شخصين لأن الإمام الحسين(ع) لم يمثّل شخصه، وكذا يزيد بن معاوية، بل مثّل كل واحد منهما نهجه وعقيدته ومبدأه في الحياة.
ففي مثل هذه القضايا الكبرى والحساسة والمصيرية لا ينبغي أن ننظر إلى قشورها بل لا بد من الغوص في جواهرها لنفهم الحقيقة كما يجب، فإذا استسلمنا لحكم الأذن وألغينا ما يحكم به العقل السليم والقلب النقي فقد ارتكبنا خطئاً كبيراً سوف يبقى وصمة عار علينا في الدنيا قبل الآخرة.
إن الذين اتهموا الإمام الحسين(ع) بأي نوع من أنواع الإتهامات إنما هم حاقدون متجاهلون، لا يريدون معرفة الحقيقة خوفاً من بعض العوامل التي أصفها بالشيطانية المحضة إذ لا يوجد في الحسين ما يعاب به أو يحاكَم عليه، فهؤلاء الحمقى حكموا على الورد بالغلظة وعلى الشَّوك باللين.
فلو خُلّيَ هؤلاء وأنفسهم، ونظروا إلى الطرفين بعين البصيرة، وتخلوا لحظة واحدة عن تعصباتهم العمياء لحكموا بالحق، ولكنهم استحبوا الكفر على الإيمان وآثروا طاعة الشيطان ورضا السلطان على طاعة الرحمن فأصبحوا عاهاتٍ في تاريخ البشرية يحتقرهم الصغير قبل الكبير حيث باعوا ضمائرهم وعقائدهم ومبادئهم بما لا قيمة له.
ففي الماضي كانت النظرة السائدة لثورة كربلاء الخالدة مشابهة لِما ذكرته، ولكن وبفضل الله تعالى وحميّة أهل الوعي والحكمة والغيرة والشهامة والإيمان تغيّرت تلك النظرة فأصبحت ثورة كربلاء أكبر مدرسة في تاريخ الإنسانية بجميع وجوهها وأشكالها، وأصبح الإمام الحسين(ع) رمز الحق والخير وكل صفات الكمال البشري، وأُلقيَ ذِكر أعدائه في مزابل التاريخ.
إن العقيدة أمانة في أعناقنا، ويجب أن نحفظ الأمانة بجفون عيوننا وبجميع إمكانياتنا، وندافع عنها بكل طاقاتنا لأن عقيدتنا هي أغلى ما نملك في هذه الحياة، وهو مصدر عزّنا وكرامتنا، وسبب كل انتصار حققناه عبر الزمن لأننا نتحرك بها، ونستلهم الصبر منها، ونستمد القوة من خلالها.
ولا يمكن لنا أن نحافظ عليها بالشكل المطلوب إلا إذا أدركنا عمومياتها وأحطنا بخصوصياتها، وعرفنا أدق تفاصيلها.
فلا عقيدة للجاهل وإن تديّن بها، ولا شأن للمتهاون بها مهما حاول أن يُريَ الآخرين عكس ما يُضمر.
وإن لهذه العقيدة التي نحملها في قلوبنا علاقة بحلول كل سنة هجرية، ولا أعني حَدَثَ الهجرة لأنه لم يتم في أول محرم، بل أعني ذكرى عاشوراء التي هي العامل الأكبر في حفظ ديننا عبر الزمن.
فمع بداية كل عام هجري-بدءاً من سنة إحدى وستين للهجرة- لنا وقفة تأمّل واسعة عند منعطَف تاريخي هامٍّ للغاية، وحَدَثٍ إنساني وإسلامي وثوري من الدرجة الأولى.
ولا نقول ما نقول شططاً، بل هو حقيقة ثابتة أثبتتها تجاربنا عبر تاريخنا، وأكَّدَتْ عليها مواقفنا التي ما زلنا ندفع ضريبتها غالية حتى عصرنا الحالي، حيث آمنّا بصحة تلك العقيدة، وكونها الرسالة التي أنزلها الله تعالى على خاتم أنبيائه، وأنها تحكي الإسلام الذي جعله رب العالمين منتهى رضاه(وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) وحصر طريق النجاة به رافضاً أية فكرة تخالفه أو تباين تعاليمه وأحكامه(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
إن الإسلام هو الرسالة السماوية الوحيدة، وإن تعددت أسماء الكتب السماوية أو كثرت الصحف التي نزلت على الرسل، حيث لا يوجد دين آخر يتقرب به العباد إلى خالقهم.
فالإسلام وُجد مع وجود أول نبي في هذه الحياة، ثم راح يتماشى في قلب كل نبي إلى أن أطلق عليه خليل الله إبراهيم(ع) إسماً خاصاً(الإسلام) وفي قال تعالى(مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ)
الإسلام ليس الشريعة الخاتمة، هناك فرق بين الإسلام والقرآن، فلا يمكن القول بأن القرآن هو الإسلام، بل يمكن التعبير عنه بأنه كشف عن عقيدة الإسلام وأحكامه، وهناك مؤمنون يظنون بأن فجر الإسلام بزغ يوم المبعث النبوي الشريف، وفي ذلك نوع من سوء الفهم للحقيقة، فلقد كان الإسلام موجوداً ولكن أخفته أيدي الشر في العصر الجاهلي فبعث الله خاتم أنبيائه ليحيي الشريعة بعد أن أماتتها يد الكفر.
هناك أكثر من آية تشير إلى كون الأنبياء السابقين كانوا مسلمين:
ففي سورة البقرة يحدثنا الله تعالى عن زمن سبق زمن خاتم الأنبياء بآلاف السنين وهو زمن خليل الله إبراهيم(ع) حيث قال سبحانه(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
وفي سورة الأعراف يحدثنا القرآن عن الذين آمنوا بموسى(ع) فيقول(وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)
وعندما نتحدث عن ثورة كربلاء يعني أننا نتحدث عن الإسلام الذي أحيته الثورة الحسينية في تلك المرحلة التي كانت عصيبة على العقيدة، وما زال حياً حتى يومنا الحاضر بفضل تلك الثورة المجيدة.
لذلك أيها الأحبة: ينبغي أن نتأمل سوياً في مناسبة تجاوزت حدود المناسبة، وتخطّت بمفهومها مستوى الصراع العسكري بين فئتين، لأن المعركة العسكرية لها حدود وطاقات يجب أن تقف عندها، فإنها مهما طالت فلا بد وأن تنتهي بألف سبب وآخر.
لقد تحولت معركة كربلاء بفضل قائدها العظيم إلى ثورة لا مثيل لها في تاريخ الإسلام، حيث أصبحت أنشودة للثائرين، ومنارة للمجاهدين، وملجئاً آمناً للمظلومين، ومدرسة للأحرار، ومنطلَقاً للثوار لأنها رسمت طريق الثورة وحدّدت مفاهيمها وشقّت طريقها أمام كل ثائر يرغب بالإنتفاض في وجوه الظالمين.
لقد كانت بداية الثورة أو ظاهرها معركة عسكرية، وانتهت تلك المعركة في يوم بدايتها مجزرة بشعة، حيث استُشهد من الطرف الحسيني من آله وأصحابه ما يقرب من مئة شخص تحولت بهم أرض الطف إلى مشرحة استُأصلت فيها الأعضاء، وفُصلت فيها الرؤوس عن الأجساد، ومُثّل بها شر تمثيل، مع أن التمثيل بالأجساد أمرٌ قبيح في شريعة الإنسانية فضلاً عن الشرائع السماوية.
لقد بدأت بشكل محدود جداً ومحصور في بقعة صغيرة بقرب نائية لا يقصدها المسافرون عادةً ولا تحط بها القوافل، ولكن الوسائل الإعلامية آنذاك بضميمة الإرادة الإلهية جعلت ما حدث في تلك البقعة حدثاً فريداً من نوعه في تاريخ البشرية عموماً وتاريخ الإسلام خصوصاً حيث راحت أخبار تلك المعركة تنتشر بكثرة حتى استوعبت الزمان والمكان فلم يبق في أقصى الأرض قوم إلا وعرفوا ما جرى فيها.
لقد راحت أخبار تلك المعركة أو المجزرة أو الثورة-وما شئت فعبِّر- تنتشر ساعة بعد ساعة، ولحظة بعد لحظة حتى وصل صدى صوت قائدها المعصوم إلى أرجاء العالَم بأسره حيث أحيا الضمائر الميتة وأيقظ النفوس من سباتها العميق وسهادها الطويل فأحدث فيها أكبر ثورة نفسية في تاريخ العالَم راحت هذه الصحوة تتفاعل يوماً بعد يوم حتى انقلبت الموازين رأساً على عقِب فأصبح بسببها الجبان شجاعاً والمتقاعص متلهفاً للذود عن الحق ومندفعاً إلى الإقتصاص ممن هتكوا حرمة الإسلام بقتل حامليه وأمناء وحيه.
فبسبب تلك الصحوة استُصغر الظالم في نظر المظلوم، واحتُقر المتكبّر الذي كان يضرب ويبطش ويتبختر بظلمه ويفقأ العيون بمخرزه المسموم، حتى وصل الأمر بمرحلة التغيير هذه إلى أن أثنت عيونُ الأحرار مخارزَ الأشرار حين قاومت عيونُهم مخارزَ الظلمة، وصدورُهم رماحَ الخونة، ورقابُهم سيوفَ المتغطرسين.
وإنه بفضل حكمة أبي عبد الله الحسين(ع) أصبحت ثورته أم الثورات من جميع نواحي الثورة ومتعلقاتهت، حيث انبثقت عنها ثورات عديدة، تزعّمتها قيادات رشيدة استلهموا أفكارهم وانتهلوا معتقداتهم من الروح الحسينية العظيمة، ولأجل ذلك شابهت ثوراتهم ثورته من حيث الأهداف والتأثير على الساحة الإسلامية حتى عُدّت تلك الثورات من مرحلة الإكمال لثورة أبي عبد الله(ع).
لقد كانت لتلك الثورات-وليدة الثورة الحسينية- عامل مهم في مسيرة إكمال النهج الحسيني الكربلائي حيث هزّت عروش الظالمين، وقضّت مضاجع المتغطرسين، وانتقمت من كل المجرمين، حتى علتْ بها كلمة الله، وزُهقت بسببها كلمة الشيطان، واشتد ساعد المسلمين، وتحقق النصر المبين، وكانت العاقبة للمتقين، ويعود الفضل في ذلك كله إلى حكمة مولانا أبي عبد الله الحسين(ع) الذي اختار الزمان والمكان المناسبَين لانطلاقة تلك الثورة وتفجير تلك الصحوة التي كانت نتائجها بعكس ما توهّم الناس في البداية، فقد ظنوا بأن القضية حُسمت بمصرع سبط النبي(ص) ولكن سرعان ما خابت ظنونهم وتبعثرت أوهامهم وذلك عندما بدأت ثورته المباركة تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، وما كانت النتيجة إلا أن زالت الدولة الأموية الظالمة، وقد أحسن الشاعر الذي وصف حالتهم بقوله:
قتلوك للدنيا ولكن لم تدم لبني أمية بعد قتلك جيلاً.
لقد بدأت تلك الثورة الأم وهي تحمل في جعبتها أهم قضايا الوجود(قضية الدين والإنسان) وما زالت هذه القضية قائمة، وثورة الحسين(ع) مستمرة رغم آلاف العراقيل التي وُضعت في طريقها بهدف إضعافها وبالتالي إلغاؤها، ولكن بحمد الله تعالى لم يُمح ذكرها، ولم تخمد شعلتها، ولم ينطفئ نورها، ولم تتضاءل مفاعيلها، ولم تُمس ذرة من شأنها، رغم كثرة المؤامرات الحاقدة لأنها بدأت لتستمر وتبقى، وفُجرت لتتماشى مع كل الأجيال عبر الزمن.
ويعترضنا سؤال حول تلك العظمة لهذه الثورة التي كانت كالطود لا تزلزلها الرياح العاتية، ولم تؤثّر بها العواصف القوية، فما هو سبب قوّتها بهذا الشكل؟
السبب هو أن رسول الله محمداً(ص) قد مهّد لها بوحي من الله تعالى الذي باركها، وعلي أمير المؤمنين(ع) عرّف بها في العديد من المواضع، والحسن المجتبى(ع) صالح عدوّه لأجلها، والإمام الحسين(ع) نفّذها بكل تفاصيلها، وإن قائم آل محمد(عج) سوف يتابع من النقطة التي وصل إليها أمر الثورة لأنه سوف يسلك هذا النهج القويم الذي يُعتبر تمهيداً لدولته، ولا أظن بأن دولة الإمام المهدي(عج) سوف تخرج عن حدود ما رسمته ثورة كربلاء التي شكّلت أهم أرضية وركيزة للدولة الإسلامية العادلة، ولأجل ذلك احتلت ثورته هذه المكانة العالية، وكُتب لها الخلود إلى يوم القيامة، وعلى فرض أن الله تعالى أراد – بعد أن تقوم قيامتنا نحن الآدميين – أن يخلق جنساً آخر لعرّفهم بحقيقة وأهداف هذه الثورة التي أصبحت مدرسة للأجيال المتعاقبة نظراً لدورها الكبير في بناء المجتمع الصالح.
ولأجل ذلك أيضاً لن تزول معالم هذه الثورة من الوجود مهما طال الزمن لأن حلقاتها هي سلسلة الوجود، فلن تنفصل من تلك السلسلة أية حلقة إذ لا بد وأن تمتد حتى يلتقط المهدي(عج) آخر حلقاتها ويربطها بالوجود بعده، ويكتب لها الخلود عندما ينفذ كل أهدافها لأن هناك أهدافاً لم تتحقق حتى هذا الزمن، وقد ارتبطت ثورة الحسين بنظام هذا الوجود فلا يمكن أن تنفك عنه بحال من الأحوال.
كيف يمكن أن تزول ثورة كانت سبباً بارزاً في حفظ القرآن الذي آلى الله على نفسه أن يحفظه من أي دخيل مغايِر، ألم يَقُلْ رب العالمين في محكم كتابه(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)..
إن هناك ترابطاً وثيقاً بين القرآن وثورة كربلاء، إذ أن الله تعالى جعلها سبباً في حفظ كتابه المنير، ومعنى ذلك أن حكم الله تعالى القاضي بحفظ القرآن شاملٌ لسبب حفظه أيضاً، ومن هنا أطلقتُ على ثورة كربلاء مراراً بأنها ثورة القرآن.
لقد قامت ثورة كربلاء فبدّلت مجرى التاريخ الذي كان يتجه بعكس الطريق الصحيح، ووضعت النقاط على الحروف، ورسمت حداً فاصلاً بين الحق والباطل حيث كشفت الأقنعة المزيفة عن الوجوه اللئيمة أصحاب المطامع والمصالح الخاصة، فلم يَعُدْ هناك من مشتبَهات يتذرّعون بها أو أعذار يقدمونها حيث لازمهم عارهم فلم ينفصل ولن ينفصل عنهم إلى يوم الحساب.
وكان من الضروري جداً أن ينتفض الإمام الحسين(ع) ثائراً وصارخاً في وجوه تلك الممارسات الشيطانية والمؤامرات الفتنوية التي كانت تحصل باسم الإسلام البريء مما نُسب إليه من قِبلهم.
لقد نسبوا الأكاذيب، وروّجوا للأباطيل، واعتدوا على الدين وأهله، وداسوا كرامة الأمة، وأكلوا خيراتها ونهبوا ثرواتها ووزعوها على المحسوبيات وحرموا منها ذويها، واغتصبوا المناصب التي ليست من حقهم، والتي لا تليق بهم، مما أحدث خللاً كبيراً في كيان الأمة، وشق عصا المسلمين، وخرّب بيت المال مما أحدث أزمة إقتصادية متردية في تلك الحقبة الزمنية، هذا بالإضافة إلى أنهم استبدلوا الأتقياء باللعناء، والعلماء بالجهلاء، والأوفياء بأهل الخيانة ليكونوا يداً لهم على تنفيذ جرائمهم ضد الإسلام والمسلمين.
كثير من الناس يفهمون ثورة كربلاء بطريقة سطحية لا تفي بالغرض، ولا تعود عليهم سوى بزيادة الغموض وتراكم الأوهام، فهم ينظرون إليها على أنها مجرد ذكرى حزينة ومناسبة أليمة، ولا يمكن الطعن بنزاهة وشفافية هذه النظرة وإن كانت ناقصة، لأن ما حدث في كربلاء في العاشر من شهر محرم الحرام سنة إحدى وستين للهجرة لم يكن بالأمر السهل أو الحدث العابر، بل كان مجزرة إنسانية بكل ما للكلمة من معنى، فما جرى في ذلك اليوم كان مؤلماً ومحزناً ومحرِّكاً للمشاعر الإنسانية المنسجمة مع الطبيعة السليمة.
ولكن رغم كونها مؤلِمة ومحزنة إلا أنها في ذات الوقت مصدر عزتنا وكرامتنا وقوتنا وجميع المواقف المشرّفة التي اتخذناها عبر تاريخنا.
إنها ذكرى المجد والعلا والتضحية والإباء والإيثار والوفاء وجميع الخصال الحميدة والصفات الكريمة حتى صار كلما ذُكر الخير ذُكرتْ ثورة أبي عبد الله التي كانت وما زالت مصدر الخير المطلق للبشرية عبر تاريخها.
إننا كمؤمنين بجميع عموميات وخصوصيات تلك الثورة لا نسمح لأي إنسان بأن ينتقص من شأنها أو شأن المؤمنين بها شيئاً، ولا نرضى بأن ينظر إلينا الآخرون نظرة لا تنسجم مع واقعنا، ولا أريد أيضاً أن يفهم البعض بأنني لا أنسجم مع كونها ذكرى الأسى والحزن لأنها وإن كانت ثورة عالمية ومدرسة للبشرية وأنها ترجمت الدين عملياً عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يقتضي الحال إلا أن الناظرين إليها من زاوية الحزن فقط لم يخرجوا عن الحدود الطبيعية، ولم يرتكبوا أية جريمة في حق الثورة وقائدها، لأن عامل الحزن كان وما زال له الدور الأكبر في تثبيت العقيدة من جهة، وكشف الحقائق من جهة أخرى.
ولذا فإنني أعتبر مسألة الحزن على الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه جزءاً من تلك الثورة المباركة لا ينفصل عنها بحال من الأحوال، بل ولا ينبغي أن نفصل بين الثورة والحزن بوجه من الوجوه، فإن الفصل بينها وبينه جريمة كبرى في حقها، وتدميرٌ لأحد أهم ركائزها.
إن هذه النظرة الفطرية الإنسانية لثورة كربلاء لا تقف حجر عثرة بيننا وبين فكر الثورة وأهدافها، بل إنها تشكّل جسراً نعبر من خلاله إلى فكر الثورة ودراسة كل ما تعلّق بها من قريب أو بعيد.
إن هذه النظرة بابٌ واسع نعبر منه إلى ساحات التبصّر والتعقّل ومعرفة كل شيء عنها وعن كل ما يتصل بها وإن ظنّه الآخرون أجنبياً عنها.
لهذا فإنني أقول لكل مَن كان له هدف خاصٌ من وراء استغلال بعض النقاط الحساسة حول ثورة كربلاء، أقول لهم: لا مجال للطعن بهذا الأسلوب الإيماني الإنساني الفطري المميَّز، ولا مجال أيضاً للإستهزاء بالحزن على الحسين والبكاء عليه مهما كان طويلاً لأن بكاءنا على الإمام الحسين(ع) يخضع لقوانين الطبيعة البشرية التي نشأ عليها البشر وفُطرَتْ عليها الآدمية.
لا يمكن أن يقع الطعن على المسائل الطبيعية، بل يقع على ما خرج عن حدود هذه الطبيعة، فقساوة القلب وجمود العين والشماتة هي التي خرجت عن الإنسانية ونزلت إلى مستويات منحطة لا تليق بشأن الإنسان الذي كرّمه ربه بكل شيء.
إنني أدافع عن أصحاب هذه النظرة العاطفية الراقية لأنني أشعر بما يشعرون وأؤمن بما يؤمنون وأوالي مَن يوالون، وفي نفس الوقت فإنني لا أنصحهم بالتوقف عند تلك الحدود المحدودة جداً والتي لا يمكن أن توصلهم إلى غاياتهم، بل أشجعهم على التأمل والتعمق والنظر في جميع الجهات الخاصة بثورة كربلاء بسبب اشتمال تلك الثورة على العديد من المفاهيم العامة والخاصة.
يجب علينا أن ندرس كل ظروفها وننظر في جميع أهدافها ونقرأ الكثير عن شخصية قائدها من لحظة ولادته إلى يوم استشهاده حتى نكوِّن فكرة تفصيلية حولها تساعدنا على نظم أمورنا وتعيننا على الدفاع عنها إذا ما تعرّضت لأي هجوم، وما أكثر تلك الهجمات الشنيعة ضد ثورة كربلاء.
إن النظر إلى ثورة كربلاء من الناحية العاطفية لا يفي بالمطلوب ولا يحل لنا مشاكلنا، فلا ينبغي أن نحصر النظرة إليها في المنطق العسكري فقط بل يجب أن نوسع رقعة نظرتنا إليها لننظر من الناحية الإنسانية والسياسية والعقائدية بالإضافة إلى النظرة العسكرية التي كانت بداية تلك الثورة.
ولأجل هذا كله فإنني أخاطبكم أيها الأعزاء بقولي: لا تنظروا إلى ثورة كربلاء بأبصاركم، بل انظروا إليها ببصائركم، فإن النظر قد يخدع صاحبه، أما البصيرة فلا تخدع ولا تكذب ولا تُرِيْ صاحبها الوهم حقيقة.
وأنصحكم قبل أن تنظروا إلى ساحة كربلاء في أواخر حياة الإمام الحسين(ع) أن تنظروا إلى المدينة التي وُلد فيها، وإلى الحجر الذي ترعرع به، وإلى البيت الذي تغذى فيه، وإلى الشخصيات العظمى التي رعته من لحظة ولادته، وانظروا إلى كل يوم من أيامه لأن أيامه كانت مليئة بالفوائد.
هكذا يجب أن تكون نظرتنا للثورة، فإننا إذا نظرنا إليها بهذه الطريقة فلن تستطيع أية جهة في العالم أن تضع الحوائل بيننا وبينها.



