تفسير سورة البقرة من الآية 62 إلى 73

تفسير سورة البقرة
من آية 62 إلى الآية 73
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
من ألطاف الله بعبيده أنه فتح لهم باب التوبة ليصلحوا أمرهم ويصححوا سلوكهم قبل فوات الأوان بالموت الفاصل بين المرء والعمل، وفي هذه الآية الكريمة يتعرض القرآن لذكر أربع فئات من الناس يمكن لهم أن يؤمنوا حقاً ويسلكوا طريق الحق، الفئة الأولى وهم الذين آمنوا بألسنتهم فقط وهم في الموازين الإلهية ليسوا مؤمنين، والفئة الثانية الذين هادوا وهم الذين اتخذوا اليهودية لهم ديناً في الحياة، والفئة الثالثة النصارى، والفئة الرابعة الصابئة وهي مجموعة عبدت الملائكة والنجوم، وهؤلاء الأربعة إذا آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا عملاً صالحاً فلهم أجرهم عند الله أما إذا أصروا على ما هم عليه فلن يرحمهم ربهم في يوم الحساب.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
لقد أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل بالعمل بما جاء في التوراة ، وعندما جاء بها موسى رفضوا العمل هروباً من التكاليف فأمرهم الله تعالى بأن يأخذوا ما جاء في التوراة بقوة ويقين وأن لا يهملوا ما ورد فيه من التعاليم والأحكام والإرشادات.
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) ورغم أنه تعالى أمرهم بأخذ التوراة فلقد تولوا عنها ولولا فضله عليهم بإمهالهم لعجّل عليهم العذاب وكانوا من الخاسرين ولكنه أجّلهم إلى وقت آخر علّهم يرجعون ويتقون.
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) كان عز وجل قد نهاهم عن الإصطياد في أيام السبت فتجاوزوا الحدود وطمعوا بكثرة الحيتان في أيام السبت فاصطادوا فيها وأكلوها حراماً، فمسخهم الله قردة وخنازير كعقاب دنيوي قبل عذاب الآخرة.
(فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) أي أنه تعالى جعل هذه المِسخة عقاباً وعبرة لمن حضرها وشاهدها في ذلك الزمان وما بعده من الأزمان، كما وأنه جعلها موعظة للمتعظين عبر الزمن.
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) كان في بني إسرائيل رجل غني فقتله بعض أقاربه ليرثوه واتهموا بعض الأبرياء بقتله فطالبوهم بدمه فطلب منهم موسى أن يذبحوا بقرة ويضربوا الميت بجزء منها فتعود إليه الروح بإذن الله ويخبرهم عن القاتل فاستهزؤوا بموسى ولعل أكثر الناس استهزاءاً به هو القتلة الذين كرهوا أن تظهر الحقيقة فيُفتضَح أمرهم، فاستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين.
(قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ) وهنا بدأت تلك الجماعات بوضع العراقيل أمام موسى وظنوا بأن البقرة التي يحيي لحمها الميت بقرة غريبة وعجيبة فشَدّدوا فشُدّد عليهم، فلما حاولوا تعجيز موسى والإستهزاء به قال لهم إنها بقرة لا فارض، يعني ليست مسنّة، ولا بكر، ليست صغيرة، عوان بين ذلك يعني بين هاتين المرحلة متوسطة السن، فلم يكتفوا بهذا العلامات فكرروا السؤال مرة أخرى وفي كل مرة كان الأمر يزداد صعوبة عليهم.
(قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)
قال لهم لونها أصفر شديد الصفرة تدخل السرور إلى قلب من ينظر إليها.
(قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) إن البقر الأصفر كثير فأيها نذبه فلقد وقعنا في شبهة وحيرة من الأمر فاطلب يا موسى من ربك أن يعطينا علامات أخرى كيلا نُرهَق بالبحث عنها ونعدك بأن نكون من المهتدين، فلو نفذوا الأمر منذ البداية وذبحوا أية بقرة لأجزأهم ذلك ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) إنها بقرة تمرنت على العمل لا تحرث الأرض ولا تُدير النواعير وليس فيها عيب فهي سالمة من أي خدش لا شية فيها أي لا يوجد جزء منها يختلف لونه عن الجزء الآخر، فعند ذلك قالوا لموسى الآن جئت بالحق مع أنه أتاهم به منذ البداية فاستهزؤوا به، فذبحوها وكادوا يمتنعون عن ذبحها إما لغلاء ثمنها وإما تجنباً للفضيحة وإما لكليهما معاً، ولم يكن على وجه الأرض بقرة تحمل هذه الأوصاف سوى بقرة واحدة كانت لرجل صالح بار بوالديه فرزقه الله بوزن بحجم جلدها ذهباً كما ينص التاريخ.
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
وهنا يبيّن الله لهم الحق فيقول لهم لقد قتلتم ذلك الشخص الغني واختلفتم في معرفة القاتل ولكن الله تعالى أظهر لكم الحق عندما أحيا الميت بإذنه وشهد على قاتليه، وهنا يوجد موعظة وهي أنه تعالى كذلك سوف يحيينا مرة أخرى للحساب.
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بدل أن ترق قلوبهم لتلك المعجزة قست وعاندت وكان أشد قسوة من الحجارة التي تلين للماء وتخشع عند ذكر الله عز وجل.