تفسير سورة البقرة من الآية 84 إلى 93

تفسير سورة البقرة
من آية 84 إلى الآية 93
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ)
لقد أخذ الله المواثيق من بني إسرائيل أن لا يسفك بعضهم دم البعض الآخر وأن لا يُخرج أحد منهم أحداً من دياره وقريته فأقروا بذلك وشهدوا بأنه الحق بل شهدوا على أنفسهم بأنهم سوف يلتزمون بهذا الميثاق، ولكن النتيجة معلومة وهي الخلف.
(ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
فبعد أن قدّمتم المواثيق والعهود بأن لا يقتل أحد منكم الآخر وأن لا يخرجه من دياره فها أنتم تخلفون الميثاق وتقتلون أنفسكم يعني يقتل أحدكم الآخر وتُخرجون فريقاً من اليهود من ديارهم وتتعاونون على التنكيل بهم، وأما الذين يُؤسرون فإذا أتى أحد الأغنياء وافتداه بالمال أفرجوا عنه وإلا بقي محبوساً أو حُكم عليه بالقتل وهذا أمر محرّم عليهم، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، أي كيف تؤمنون بالفدية التي تأخذونها مقابل الإفراج عن الأسير المفتدى له، وتكفرون بالقتل والإخراج إذا لم تأخذوا الفدية، وعلى كل حال فإن هذا السلوك تستحقون عليه العذاب الشديد في الآخرة والخزي في الحياة الدنيا.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) وهذا بيان لأصحاب هذا السلوك الفاجر وهم الذين باعوا الآخرة بالدنيا فلم يربحوا الدنيا لأنها لم تبق لهم وما ربحوا الآخرة لأن الله تعالى لن يخفف عنهم العذاب ولا يسمح لأحد بأن يشفع لهم.
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)
لقد أنزل الله التوراة على كليمه موسى دفعة واحدة ثم أرسل بعده الكثير من الرسل وأجرى على يد عيسى بن مريم المعجزات التي لا تُنكر وهنا يستنكر القرآن أفعالهم ضد الأنبياء فكلما جاءهم نبي بالحق لأن أنفسهم لا تهوى الحق كذّبوا فريقاً كعيسى ومحمد وقتلوا فريقاً كزكريا ويحيى.
(وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) لقد ادعى اليهود بكل وقاحة أن قلوبهم لا ترى ولا تسمع وأنهم لا يريدون الأخذ بالرسالات السماوية فلعنهم الله نتيجة لكفرهم لأنهم يرون ويسمعون ويعرفون الحق ولكنهم أعرضوا عنه فكانت الأكثرية منهم كافرة والأقلية مؤمنة.
(وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ)
بعد حديث القرآن عن اليهود والتوراة بدأ الكلام عن مشركي مكة والقرآن الذي جاءهم به محمد من عند ربه وهو مصدّق للتوراة الذي بين أيديهم، ولقد كان اليهود قبل محمد يستفتحون أي يستنصرون على أعدائهم ومخالفيهم بمحمد فيقولون لهم غداً يأتيكم محمد وسترون، ولكن عندما جاءهم ما هم يعرفونه وهو محمد والقرآن كفروا بهما فاستحقوا اللعنة من الله تعالى.
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ)
هنا ذمٌ للذين باعوا أنفسهم للأهواء عندما كفروا بما أنزل لهم الله أي أنهم كفروا بما جاء في التوراة من البشارة بمحمد(ص) ظلماً وحسداً للذين أنعم الله عليهم بالوحي وهم الأنبياء حيث كان اليهود يحسدون النبيين على ما آتاهم الله من فضله، ولأنهم فعلوا ذلك فقد باؤوا بغضب من الله الذب أعد لهم عذاباً مهيناً عظيماً.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)
إذا قيل لهم آمنوا بكل ما أنزل الله تعالى سواء كان على رجل منكم أو من غيركم قالوا بأنهم لا يؤمنون إلا بما أُنزل على رجل منهم فقط، حتى لو أُنزل على رجل منهم فإنهم لا يؤمنون به، فهم حسب قولهم يؤمنون بما أُنزل عليهم ويكفرون بما وراءه وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله على عبده محمد وهو مصدقٌ لما معهم من التوراة، ولقد أتى اليهود بالتناقض حيث ادعوا الإيمان بالتوراة وهم في نفس الوقت يقتلون الأنبياء الذين حرمت التوراة قتلهم وهذا عين التناقض.
(وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) وهنا رد آخر على التناقض الذي عمل به اليهود فلقد جاءهم موسى بالمعجزات الدالة على الحق فاتخذوا العجل معبوداً لهم من دون الله.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ)
لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل أن لا يعبدوا إلا إياه ورفع الجبل فوقهم ليريهم قدرته فأمرهم بأن يأخذوا التوراة بشكل أكيد ويعملوا بما جاء فيها فسمعوا قول الله وعصوه لأنهم غرقوا في حب العجل الذي تغلغلت عبادته في نفوسهم فإذا كان هذا ما يأمركم به إيمانكم بموسى فبئس ما يأمركم به إيمانكم.