محاضرات

في الوَعظ والإرشاد

التزوُّد للآخرة

التزوُّد للآخرة

ما أحوجنا في أيامنا هذه إلى واعظ ينقلنا بأرواحنا من هذا العالم المادي المحض إلى عالم الملكوت ومراحل ما بعد هذه الحياة التي قتلت كثيراً من الناس بظاهرها الجميل الذي يكمن تحته أخبث ما يمكن أن يتصوره الواحد منا، فما أحوجنا إلى قراءة موعظة أو استماع عبرة من واعظ كريم هو أهل لأن يعظ الآخرين، ومن هم أهل لذلك أصبح وجودهم نادراً، فهناك الكثير من الواعظين والكثير الكثير ممن يسمعون المواعظ أو يستمعون إليها، وهناك فرق بين السماع والإستماع فإن السماع يحصل بقصد وبغير قصد أما الإستماع فلا يحصل إلا بعد توجه النفس للشيء المسموع، هناك كثير من الأشخاص يعتلون المنابر ويصعدون فوق المنصات بهدف وعظ الناس وإرشادهم فلا يجدون متعظاً لأنهم هم أنفسهم لا يتعظون بما يعظون به الناس وهذا أقبح صفة من صفات المعلّم الذي ينهى عن خُلُق ويأتي مثله، فقد تكون موعظته جميلة ومؤثرة ولكن سلوكه يمنع وصول موعظته إلى قلوب الحاضرين حيث وضع سلوكه السيء أقفالاً على قلوب الناس فشغلهم سوء فعل الواعظ عن الأخذ بمواعظه، فمن هنا نحن بأمس الحاجة إلى الموعظة وإلى واعظ يكون من أهل الموعظة حيث ابتعدنا كثيراً عن الصراط المستقيم، ولا ينبغي أن يكون سوء فعل الواعظ مانعاً لنا من تقبّل الموعظة والعمل بها، فمن يريد الموعظة يطلبها من أي إنسان وبأية طريقة ويأخذها ولو صدرت من غير العاقل أو من غير أهل الموعظة لأن المهم لديه هو الموعظة من دون ملاحظة مصدرها، وعلى فرض أن الزمان ساء وساء أهله فهو لا يعني انعدام مصدر الوعظ أو زوال الموعظة فإن هناك مصدرين باقيين ما بقي الدهر لا يزولان ولا يتأثران بشيء وهما كتاب الله الصامت وكتابه الناطق المتمثل بالنبي وآله(ص) فلا عذر لنا من انحراف الواعظين لأن القرآن أعظم واعظ وأكبر حجة على البشر وهو كتاب ينطق بالحق وفيه المواعظ التي يطلبها الجميع من جميع الطبقات، وكذلك كلام النبي وآله فإن فيها الدواء والشفاء عبر الموعظة والعبرة فهم لا ينطقون إلا بما ينفع الناس حيث استلهموا العلم من الله سبحانه وتعالى عبر الوحي الذي كان ينزل على رسوله.
ومن هنا فإننا نجد في كلامهم جواهر الكلام وفي نصحهم أبلغ البيان وأهم المواعظ فإذا أراد الواحد منا أن يعظ نفسه فليرجع إليهم وسوف يجد الحق عندهم ويلمس ما يريد لديهم فهم مصدر الخير للبشرية بجميع وجوهه وأشكاله ومراتبه.
ومن مواعظ أمير المؤمنين(ع) في نهج البلاغة كلامه في الحث على التزود للآخرة حيث يقول: أما بعد: فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق، والسَبَقةُ الجنة والغاية النار، أفلا تائبٌ من خطيئته قبل منيته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضرره أجله، ومن قصّر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عملَه وضرّه أجله، ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة ألا وإن لم أر كالجنة نام طالبها ولا كالنار نام هاربها ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضرره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يجرَّ به الضلال إلى الردى، ألا وإنكم قد أُمرتم بالظعن ودُللتم عل الزاد وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان إتباع الهوى وطول الأمل فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تُحرزون به أنفسكم غداً:
ويقول أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب(ع) في الحث على العمل قبل حلول الأجل: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ، وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلاَعٍ، أَلاَ وَإِنَّ الْيَوْمَ المِضْمارَ، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ، وَالْغَايَةُ النَّارُ:
هذه أيها المؤمنون خير موعظة للناس لو وعتها القلوب واستوعبتها الأفكار لأن المواعظ وخصوصاً هذه الواردة عن أمير المؤمنين تحتاج إلى شيء من التأمل والتفكر حتى نفهم المراد منها لأن كلامه عميق ومتين ظاهره قليل وباطنه كثير وظاهره وباطنه رائعان وجميلان تزكو بهما نفوس أهل المعرفة وتأنس فيهما قلوب أهل الإيمان والإعتبار فهو كلام فعّال ومؤثر قد خرج من أعظم قلب وأطهر روح وهو يدخل إلى القلوب من دون مشاكل أو عوائق.
ويخبرنا الإمام في مطلع هذه الموعظة عن حالة التراجع التي عليها الدنيا، فإن الدنيا في حالة تراجع مستمر وإن كل لحظة من الزمن تمر عليها فهي تنقص من عمرها بمقدار ما مر من الوقت بعلم الله عز وجل، وبمقدار ما يمر من عمر الدنيا بمقدار ما تدنو من الآخرة، وهذا معنى إدبار الدنيا وإقبال الآخرة، وهذه الحالة الزمنية تشبه حالتي القرب والبعد منهما فإنك بمقدار ما تقترب من إحداهما بمقدار ما تبتعد عن الأخرى، وفي إدبار الدنيا موعظة للمتعظين الذين إذا فكروا في مصيرهم المحتوم لرجعوا إلى الحق وأسسوا لأنفسهم ضمانات تضمن لهم أحوالهم في يوم الحساب، وإدبار الدنيا يعني وهن العيش فيها ووهن التعلق بها إذ كيف تعلِّق قلبك وروحك وجوارحك في شيء زائل في العاجل أو في الآجل، والناس تجاه مسألة الدنيا والآخرة صنفان:
صنف فهموا الحقيقة كلها فنظروا إلى الدنيا على أنها مرحلة لها بداية ولها نهاية وأنها دار ممر نعبر منه نحن البشر إلى دار المقر الذي هو الآخرة، فهم يتعاملون معها على هذا الأساس وينطلقون من خلال هذا الفهم الجيد لمعنى الحياة الدنيا، فهم يبنون ويؤسسون ويطلبون عيشاً كريماً وفي نفس الوقت لم تبعدهم الدنيا عن الآخرة، وهذا مراد أهل الإيمان الذين جعل الله لهم نصيباً من الحياة الدنيا فلا يحق لأحد أن ينكر الدنيا كلياً فالواعي ينكر الشهوات المحرمة منها ولا ينكر المحللات التي لا يحصى لها عدد، وأهل هذا الصنف هم الرابحون في الدنيا والآخرة لأنهم سلكوا فيها الطريق الصحيح الذي يوصلهم إلى نهاية مرضية.
والصنف الآخر، وهم الذين أغوتهم الحياة الدنيا وأنستهم أنفسهم وأبعدتهم عن ساحة الإيمان والتفكر في شأن الآخرة التي هي الهدف الأساس من وجود الإنسان في مرحلة الحياة الدنيا، فهؤلاء لم يتعاملوا مع الحياة بحذر فأوقعتهم واستعبدتهم وامتلكت نفوسهم وأرواحهم ففصلت بينهم وبين عالم الآخرة وهم يدركون تماماً بأن الدنيا ليست دار قرار لهم، ولا أحد من الناس يؤمن ببقاء الدنيا حتى الذين لا يؤمنون بالآخرة لأنهم رأوا بأن مصير كل ذي روح نحو الفناء، وإذا كانوا يعلمون ذلك فعلاما تعلقت أرواحهم بهذه الحياة على هذا الشكل القاتل الذي وضعهم في دوائر الذين خسروا أنفسهم فلم يربحوا الدنيا لأنها لم تبق لهم ولم يربحوا الآخرة لأنهم لم يعملوا لها عملها ولم يسعوا سعيها حيث أن اكتساب الآخرة له شروط وهم لم يلتزموا بتلك الشروط حتى يصبحوا من أهلها، هذا بالإضافة إلى أن تلك الشروط في متناول أيدي الجميع وضمن قدراتهم لأنه تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.
فلا ينبغي لأي إنسان مهما كان واعياً وحذقاً أن يدير ظهره للدنيا لأنها غدارة ومخادعة تجعل الإنسان غارقاً في الوهم حتى تقضي عليه.
ونحن باستطاعتنا أن نحصّن أنفسنا من سطوات الدنيا وزخارفها وشهواتها وذلك عن طريق الأخذ بمواعظ أهل الموعظة وعلى رأسهم رسول الله محمد وآله(ص) فلو أننا أعرنا جماجمنا قليلاً لهذه المواعظ الكريمة لرأينا أثرها ولمسنا فوائدها، فالدنيا أدبرت وآذنت بوداع أي أنها تهيئ نفسها للفناء، وأما الآخرة فإنها تستعد لاستقبال الخلق وإجراء الحساب والثواب والعقاب فلا ينبغي أن نسمح لأنفسنا بأن تمتلكنا بل يجب الإنتباه منها حتى لا توقع بنا في حفرها العميقة.

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى