محاضرات

حول يوم القيامة

شواهد إعجازية حول النوم والموت

في البحث الماضي جرى الكلام حول بيان الفوارق الأساسية بين الموت والنوم والميت والنائم، ووصل الكلام إلى تلك التغيرات الطبيعية التي تطرأ على الأموات دون الأحياء، وقد أرجعنا سبب ذلك إلى وجود الروح في الجسد مهما طالت عملية النوم، فإذا نام الإنسان أكثر من المعتاد فلن يحدث لجسده أي تغير مما يحصل للميت الذي يبدأ بالتعفن بعد ساعات من خروج روحه، وإلى هذه الحقيقة أشار الإمام علي(ع) بقوله وهو في مقام الوعظ: فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ:
قد يسأل البعض عن عملية التحنيط فيقول إن هناك مومياءات تجاوزت أعمارها آلاف السنين وهي لم تتحول بعد إلى رفات؟
أقول: إن التحنيط بغض النظر عن كونه عملاً محرماً هو عمل اصطناعي خارج عن حدود الطبيعة، ونحن لدى حديثنا عن تلك المفارقات بين النوم والموت إنما لاحظنا الطبيعة غير المفتعلة، ثم من قال لكم إن المحنط يشبه النائم الحقيقي؟ هو لا يشبهه بوجه من الوجوه لأسباب.
أولاً: إن المحنط ميت شئنا أم أبينا.
ثانياً: النائم يفقد الحواس الخمس، والمحنط يفقدها ويفقد الروح أيضاً.
ثالثاً: إن المحنط لن يستيقظ إلا في يوم القيامة وهو عينه حكم الأموات المدفونين في البحر أو تحت التراب.
رابعاً: رغم عملية التحنيط إلا أن التغير حاصل للمومياء وهو أمر لا يخفى على أحد بل إن شكل المومياء أقبح من شكل الهيكل العظمي أو الرفات.
فمسألة المفارقة بين الأموات والنائمين هي مفهوم قرآني واسع وثابت، وإليكم بيان تلك المفارقة بينهما من خلال القرآن الكريم.
لقد أعطانا القرآن الكريم نموذجاً طبيعياً عن النوم الطويل مع وجود الروح وأنه مهما طال هذا النوم فلن يتأثر به الجسد ولن يتحول إلى هيكل عظمي، وفي ذات الوقت أعطانا صورة عما يحدث للحي بعد الموت، ومن خلال ذكر هذين النموذجين نستطيع أن نبيّن أهم الفوارق بين الأموات والأحياء.
النموذج الأول: أهل الكهف:
بقدرة الله تعالى نام أهل الكهف ما يزيد على ثلاثماية عام ولم يموتوا لأنهم كانوا يتحركون كما يتحرك النائم، ويحصل التغير الطبيعي لأجسامهم مثل أي حي نائم تماماً، فلقد تغيرت معالم وجوههم بسبب طول أعمارهم وهذا ما يثبت فكرة أنهم لم يموتوا وذلك على عكس من مات ثم أحياه الله تعالى، فلو أنهم ماتوا لتحولت أجسامهم في تلك المدة إلى هياكل عظمية وربما إلى رفات ناعم، وقد أشار الله تعالى إلى قضيتهم من باب بيان قدرته وبهدف الإعتبار بما حصل لتلك المجموعة من إعجاز دال على كون الله سبحانه فعالاً لما يريد حيث قال سبحانه(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)
ولعل هذه الآيات الكريمات تشير إلى الهدف من وراء صنع الله تعالى بأصحاب الكهف، ولفظ البعث في قوله(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ) لا يوحي بالبعث بعد الموت لأن هذا اللفظ ليس منحصراً في معنى واحد، فالقرآن الكريم مرة يعبّر بالبعث عن الإستيقاظ ومرة أخرى عن الإحياء وثالثة عن الإرسال.
ففي الإستعمال الأول قال تعالى(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)
وفي الإستعمال الثاني قال(فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) وقال(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا)
وفي الإستعمال الثالث(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ)
لقد كانت مناظر أصحاب الكهف مرعبة بسبب التغير الطبيعي كطول اللحية والشارب وشعر الرأس وطول الأظافر وغير ذلك مما يتغير بفعل الزمن، فأهل الكهف أخذت أجسامهم تتغير بالإزدياد أما التغير الحاصل بالموت فإنه يحصل بالعكس أي بالنقصان.
قال تعالى(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)
النموذج الثاني: العزير وحماره:
العزير لم ينم مئة عام، وإنما مات ورقد في الموت مدة مئة عام ثم أحياه الله تعالى، ونحن لا ندري ما إذا كان جسد العزير قد تلاشى بفعل الطبيعة وتحول إلى هيكل عظمي لأن القرآن لم يُشر إلى تلك التفاصيل، ولكنه تعالى أشار إلى الوضع الذي كان عليه الحمار الذي اصطحبه العزير في تلك السفرة حيث مات حماره أيضاً وتحول إلى رفات وتتطايرت ذرات رفاته في الفضاء وعندما أتى أمر الله تعالى اجتمعت تلك الذرات بقدرته الباهرة وأتت من كل مكان وتحولت إلى هيكل عظمي ثم كسا الله الهيكل باللحم ثم أحياه بعد موته وقد أعطى للبشرية عبرة حول البعث والنشور إذ لعل الحكمة من وراء ما حصل للعزير وحماره إنما هي الدلالة على البعث من جديد، وهناك عبرة أخرى حصلت وهي أن الطعام الذي كان يحوزة العزير لم يتغير لونه ولا طعمه خلال تلك المدة الطويلة فأظهر الله لنا قدرته من جهتين، من جهة التغير بالموت وعدم تأثر المادة بالزمن عندما تتوجه إليها قدرته وإرادته، قال تعالى(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
وإلى بيان هذا المعنى والإشارة إلى تلك القدرة قال الإمام علي(ع): حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ، وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ، وَأَزِفَ النُّشُورُ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ، وَأَوْكَارِ الطُّيُورِ، وَأَوْجِرَةِ السِّبَاعِ، وَمَطَارِحِ الْمَهَالِكِ، سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ، مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ:
والعبرة في هذين النموذجين أن أصحاب الكهف ناموا أكثر من ثلاثماية عام ولم يطرأ عليهم التغير الذي يطرأ على الموتى، أما حمار العزير فلقد تحول إلى رفات في ثلث المدة التي رقد فيها أهل الكهف داخل كهفهم.

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى