وَاجِبَاتُنَا تِجَاهَ الأَمْوَات

سِلْسِلَةُ المَوْتِ وَمَا بَعْدَ
الجزء الخامس
وَاجِبَاتُنَا تِجَاهَ الأَمْوَات
الشيخ علي فقيه
إِسْتِغْلالُ المَوْتِ لِلأَهْدَافِ الخَاصَّة
الموت أمر عظيم وحدث جليل، فهو بحد ذاته موعظة للمتعظين وعبرة للمعتبرين، وقد كتب الله سبحانه على عباده الموت ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وقد وضعت الشريعة الإسلامية أنظمة خاصة وقوانين محددة وآداباً كثيرة للموت والميت على الأحياء، ففرضت علينا واجبات تجاه أمواتنا، كتوجيههم نحو القبلة حال النزع، والغسل والتكفين والدفن بعد الموت بوجه كفائي، بمعنى أنه إذا قام به أحد المؤمنين سقط الوجوب عن الآخرين.
فالموت له وضعه الخاص عند الله وفي قلوب الناس، والموتى لهم أحكام تتعلق برقاب الأحياء، والميت له حرمة عند الله تعالى وبالأخص إذا كان مؤمناً، لأن حرمة المؤمن الميت كحرمته وهو على قيد الحياة لا يفترق الأمر في شيء.
يجب أن ننظر إلى الموت نظرة جليلة، ونكون عند الميت وقورين متعظين بما نزل فيه، إذ لعل ما نزل به الآن سوف ينزل بنا بعد قليل، بمعنى أنه عندما نجلس أمام الميت يجب علينا أن نعتبر أنفسنا أننا نحن الموتى، ونحن الذين سوف نُدفن بعد قليل.
يجب أن يكون الموت عندنا عبرة لنا وموعظة تدفع بنا نحو الطاعة، وذلك أن الموت بحد ذاته من أنفع المواعظ للإنسان، فإذا لم ينتفع المرء بعظة الموت فلن تنفعه المواعظ الأخرى، ويكون حينئذٍ ذا قلب متحجر لا يتأثر بما يجري حوله.
ولكننا ومع الأسف الشديد نتفاجأ دائماً بأشخاص وربما جماعات لا يحترمون الموت ولا يتخذونه موعظة لأنفسهم وإنما يتخذونه مدخلاً لفرض آرائهم ووجودهم عند الآخرين، فهم يتاجرون بالموت والموتى ويستعملونهما مطية للوصول إلى مطامعهم ومصالحهم وإن كان ذلك مخالفاً للأحكام والسنن.
تبدأ التجارة بالموت عند المستشفيات إذا حصلت الوفاة فيها فهم يستغلون الوضع للربح وربما يحجزون الجثة أياماً حتى يحصلوا على المال فلا يهمهم أيدفن الميت أم يبقى في براد المستشفى أياماً وأسابيع، ومن مصلحتهم أن تطول مدة وجوده في البراد كي تزيد أرقام الفواتير ويزيد الربح غاضين طرفهم عن الإنسانية والأحكام الشرعية التي توجب دفن الميت بأسرع وقت ممكن، فلا يهمهم حزن أهله وشدة بكائهم عليه وأن الدفن يريح الميت وأهله.
فننتهي من هذه المشكلة لنقع في مواجهات أخرى، حيث يأتي دور قراءة القرآن والعزاء وكلمة المبلّغ، وهم نوعان: منهم من يطلب بذلك الأجر والثواب، وهم قلة قليلة ومنهم لا يتبرعون بكلمة إلا إذا دُفع لهم المبلغ المرقوم، وهؤلاء أيضاً من تجار الموت المقبوحين، وقد أصبحت هذه من التجارات الرابحة والرائجة في وسطنا الإسلامي.
أنا شخصياً أستحي أن أذكر ما يحصل في بعض الأحيان من أنواع التجارة بالموت، ولأجل ذلك أترك الأمر للقارئ فهو يعرف ماذا أقصد بهذا الكلام.
تَغْسِيلُ المَيت
وهو من الواجبات الكفائية التي فرضها الله عز وجل على المسلمين سواء كان الميت ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً ملتزماً أو غير ملتزم عاقلاً أو جاهلاً، فيجب تغسيله قبل الدفن، وفي تغسيل الموتى أجر كبير وثواب عظيم لمن يتصدى له، ونحن نشكر الله تعالى على وجود أشخاص لهم الهمة العالية في أداء هذا الواجب الشرعي الكبير، وهناك آداب لكل خطوة يقوم بها المغسّل، ولكنني قبل ذكر الأحكام والآداب أود أن أذكر فقرة من دعاء الإمام السجاد يطلب فيها الرحمة لنفسه عندما يجرده المغسل وعندما يُحمل على النعش وعندما يوضع في حفرته فيقول(ع): وارحمني صريعاً على الفراش تقلبني أيدي أحبتي وتقضل عليّ ممدوداً على المغتسل يغسلني صالح جيرتي، وتحنن عليّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجد عليّ منقولاً قد نزلت بك وحيداً في حفرتي:
وتغسيل الميت عمل ديني عظيم يستحق عليه فاعله الثواب، فقد قال الإمام الصادق(ع) : أيما مؤمن غسّل مؤمناً فقال إذا قلّبه اللهم هذا بدن عبدك المؤمن وقد أخرجت روحه منه وفرقت بينهما فعفوك عفوك عفوك إلا غفر الله ذنوب سنة إلا الكبائر: فنلاحظ بأن الإمام(ع) يحث المغسل للميت على وعظ نفسه كيلا يتهاون بالموت إذا اعتاد على التغسيل كما يتهاون به بعض الأطباء الجراحون الذين ينظرون إلى الجسد كموضوع علمي من دون أن ينظروا إلى جوهر الأمر وحقيقته لأنهم اعتادوا على التشريح فقست قلوبهم.
وفي حديث آخر قال(ع) :ما من عبد مؤمن يَغسل ميتاً مؤمناً ويقول وهو يَغسله عفوك عفوك إلا عفا الله عنه:
وقال(ع) : من غسّل ميتاً فستر وكتم خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه: وبهذا الكلام يبعدنا الإمام (ع) عن الرياء كيلا يكون عملنا من أجل الناس دون الله عز وجل فإن عدم الإفصاح عن هذه المهمة هو الضمانة للأجر.
إذاً يجب تغسيل الميت وإن كان سقطاً بلغ أربعة أشهر أما إذا لم يبلغ تلك المدة لف في خرقة ودفن، ويجب غسل الميت ثلاث مرات: مرة بماء مخلوط بمادة السدر لا تخرجه عن إطلاقه، ومرة بماء ممزوج بمادة الكافور، ومرة بالماء القَراح أي الذي لم يضف إليه شيء آخر، وغسل الميت كغسل الجنابة والحيض، يبدأ بالرأس ثم بالجانب الأيمن ثم بالجانب الأيسر، ويجب إزالة النجاسة عن بدن الميت قبل تغسيله وقبل دفنه، والزوج أولى بزوجته فهي لا تحرم عليه بالموت كما يتوهم بعض الناس، وفي غير موضوع الزوج والزوجة تجب المماثلة بمعنى أن يغسل الرجل الرجل والمرأة المرأة.
فإذا تعذر وجود المماثل فيتعين على المحرم بمعنى أن يغسل الأخ أخته أو العكس وكذلك خالته وعمته.
ويجب أن يكون المغسل مسلماً، فإذا لم يوجد مسلم غسله الكافر بشرط أن يتولى المسلم النية عن الكافر، حيث أن الحكم الأولي هو عدم جواز تغسيل الكافر للمسلم.
وأما موضوع مس الميت فإنك إذا مسست جسد الميت أو شعره أو وبره وجب عليك الغسل إذا حصل المس بعد برده وقبل غسله، أما بعد تغسيل الميت فلا يجب الغسل من مسه، ولا يشترط في وجوب الغسل من مسه أن يكون الماس أو الممسوس رطباً، وإنما يتحقق ذلك في الجفاف أيضاً فإن ذلك من الأمور التي تعبدنا بها الشارع المقدس فهي من أنواع الحدث.
تَكْفِينُ المَيت
بعد تغسيل الميت تنتقل النوبة إلى واجبنا الآخر تجاهه وهو التكفين، وينبغي أن نعبّر عن احترامنا لهذا الميت باختيار الكفن الجيد المحاك بأرقى أنواع القماش، ولأجل ذلك ورد في الحديث: أجيدوا أكفان موتاكم فإنها زينتهم: وهنا نتوقف عند هذا الكلام كيلا يفهمنا البعض خطئاً، فإنّ دعوَتَنا إلى اختيار الأكفان الجيدة لا علاقة له بموازين الآخرة إطلاقاً، بل الأمر كما قلت، ما هو إلا تعبيراً عن احترام الموت والموتى، فإن الإنسان إذا كان صالحاً في الحياة الدنيا فإنه من أهل الجنة سواء كان كفنه جميلاً أو قبيحاً، ثم إن هذا الكفن في القبر سوف يفنى بسبب العوامل الطبيعية التي يتأثر بها القماش، فهو يهترئ، وربما تفنى آثاره، وهناك وهم موجود في عقول كثير من الناس حول البعث يوم القيامة وهو أنهم يعتقدون بأن الموتى في يوم القيامة يبعثون في أكفانهم، وهذا خطأ حيث أنهم يبعثون كما خلقهم الله أول مرة حفاةً عراةً لا يستطيع أحد منهم أن ينظر حوله لأن أبصارهم سوف تكون محدقة بالعرش لا يستطيعون النظر إلى غيره، وإلى هذه الحقيقة الغيبية أشار القرآن الكريم بقوله(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء)
وقوله تعالى(يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)
فلا يوجد في يوم القيامة أثواب ولا أكفان ولا تربة ولا جزوع نخل ولا شيء من آثار الدنيا سوى الأجساد التي يُنفخ فيها فتقوم لرب العالمين.
وهناك آداب إذا صنعناها للميت أثناء تكفينه قد تخفف عنه، ومنها أن نضع في كفنه ثوباً نظيفاً من الأثواب التي كان يصلي فيها، وقد ورد عن الإمام الباقر(ع) أنه قال:إذا كفنت الميت فإن استطعت أن يكون في كفنه ثوب كان يصلي فيه نظيفاً فافعل فإنه يستحب أن يكفّن فيما كان يصلي فيه: وقد ورد في فضل تكفين الأموات أجر عظيم، منها ما ورد عن الصادق(ع) أنه قال:من كفن مؤمناً فكأنما ضمن كسوته إلى يوم القيامة: معنى ذلك أن آثار هذا العمل الديني العظيم تظهر في الدنيا قبل الآخرة، ففي الدنيا ألله تعالى يبارك له في عيشه وحياته وأما في الآخرة فلا شك بأن فيه كفارة لبعض الذنوب.
ونحن نأمل من جميع المؤمنين الذين يتصدون للقيام بهذا الواجب الكفائي أن يقوموا به من أجل الله وليس من أجل مدح الناس وثنائهم، فإن الذي يحب أن يمدحه الناس على إحسانه يأتي يوم القيامة وليس في كتابه أي أجر على أعماله، فيسأل عن السبب فيقال له إذهب وخذ أجرك ممن كنت تعمل له، فهو إذا قصد بالعمل رضا الناس أرجعه الله إليهم، حيث لا يستفاد منهم، لأنهم سوف يكونون أحوج منه إلى الشفيع، وأما إذا كان عمله تقرباً لله تعالى فسوف يجد كتابه مليئاً بالأجر والثواب والرضا.
وَاجِبَاتُ التَكْفِينِ وَمُسْتَحَبَّاتُه
الكفن عبارة عن قطع من القماش كغيره من الأقمشة التي نستر بها أبداننا، غير أن الإسم الذي يُطلق على ما يكفَّن به الإنسان يزرع الرعب والخوف في قلوب الذين لا يرغبون بالتذكرة والموعظة، كمن إذا حدثتهم عن الموت اعترضوا عليك وطلبوا منك أن تسكت بدعوى أنهم يشمئزون من ذكر منازل الآخرة، وسبب هذا الإشمئزاز هو البعد عن الله تعالى وكُرهُ لقائه، فإن الذي يحب لقاء ربه لا يجزع من الموت، فضلاً عن ذكره بل هو إنه يحب ذلك ويطلبه لأنه يُذَكِّره بالله وأيامه.
ومن العادات الحسنة التي يستعملها بعض المؤمنين تجهيز الكفن، فهم يجهزونه ويضعونه في أدراجهم كموعظة لهم، حتى إذا ما نظروا إليه صغرت الدنيا في أعينهم، لأنه يذكرهم باليوم الذي لا بد منه، يوم يفارق الإنسان الأهل والأحبة والجيران والأخلاء، ويترك كل ما جمعه وحرص عليه في دار الدنيا.
وينبغي أن يكتب على الكفن بعض الآيات والأدعية العظيمة، كدعاء الجوشن الكبير وشهادات بعض المؤمنين للميت بأنهم لا يعلمون منه إلا خيرا.
والواجب من الكفن ثلاثة أثواب، مئزر وقميص وإزار:
أما المئزر فهو الساتر لما بين السرة والركبة.
وأما القميص فهو الساتر من الكتفين إلى نصف الساق، ويجوز أن يوضع مكانه ثوب ساتر لتمام البدن.
وأما الإزار فهو الساتر لكل البدن ويستحب زيادته حتى يتمكن المكفن من ربط طرفي الكفن من فوق الرأس وتحت القدمين.
وكذلك تستحب الزيادة من الطرفين بحيث يمكن جعل أحد الجانبين على الآخر.
ويشترط شرعاً في كل قطعة من أثواب الكفين أن تكون قمية القماش فيه متكفلة بستر ما تحتها بمعنى وجوب ستر الئزر لما تحته وكذلك القميص والإزار.
فإذا لم يتمكن ولي الميت من شراء ثلاثة أثواب لفقر وفقد للقماش فيكفي حينئذ الثوب الواحد مع فقد القدرة على شراء الثوبين الآخَرَين.
وتستحب الحِبَرة في الكفن وهي ثوب يمني يلف فيه الميت أو يوضع معه، ويستحب أيضاً العمامة للرجل ولو قطعة قماش صغيرة تلف حول رأسه، ويستحب في تكفين المرأة القناع في مقابل العمامة للرجل يستر بها رأسها، ويجب تحنيط الميت وهو إمساج مساجده السبعة بمادة الكافور، والمساجد السبعة هي: موضع السجود من الجبهة وباطن الكفين والركبتان وأطراف الإبهامين من الرِجل، ويستحب وضع شيء من الكافور على الصدر لأنه في بعض الأحيان يكون جزءاً من مواضع السجود، ويستحب وضع جريدتين والجريدتان إما من سعف النخل أو شجر الرطب أو من الرمان، ويُكتب عليهما إسم الميت وأنه يشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما ويستحب أن يكتب فيهما أسماء الأئمة المعصومين(ع)، وتوضع إحداهما على جانبه الأيمن والأخرى على جانبه الأيسر، فاليمنى توضع بين القميص(وهو الثوب الثاني) وبشرة الميت محاذية للترقوة وهي عظام المنحر،واليسرى توضع بين القميص والإزار، فوق الترقوة، وينبغي أن يكون طول الواحدة منها طول ذراع الميت، وأن تكونا خضراوتين، وقد سئل الإمام الصادق عن الجريدة توضع في القبر فقال لا بأس، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه كتب على حاشية كفن ولده إسماعيل: إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله: ويكره أن يكون للكفن أكمام أو يقطع بآلة من حديد، ويستحب للمكفن إن كان هو الذي غسّل الميت بأن يغتسل قبل والتكفين.
الصَّلاةُ عَلَى المَيت
عندما نتحدث حول هذه المسائل الوعظية الخاصة بالموت وما بعده من منازل الآخرة، أتمنى أن نشعر وكأننا نحن الميتون الذين نُغسَّل ونكفن ونُحمل على الأكتاف، فإن الشعور بهذه الروحية يساعدنا كثيراً في أداء مهمتنا التبليغية والوعظية، وحينئذ تكون الموعظة أبلغ في التعبير وأسرع إلى القَبول، وقد وصل الكلام بنا إلى الصلاة على الميت بعد تغسيله وتكفينه وتحنيطه، فيجوز أن نصلي عليه في أي مكان مباح في المنازل أو الباحات أو القاعات، فلا يشترط في مكان الصلاة على الميت سوى الإباحة، بمعنى أن لا يكون المكان مغصوباً.
والصلاة على الميت واجب كفائي يسبقه أخذ الإذن من ولي الميت، فإذا أتى بهذا الواجب أي مأذون من قبل وليه سقط الوجوب عن باقي المسلمين، والصلاة على الميت تجب على كل مسلم ومسلمة كبيرين كانا أو صغيرين، وواجبات هذه الصلاة قدرة المصلي على القيام، واستقبال القبلة، وجَعْلُ رأس الميت على يمين المصلي مستلقياً على ظهره، كما ويشترط في صحة هذه الصلاة عدم وجود حائل بين المصلي والجنازة، وتجب فيها نية القربة إلى الله تعالى، وتعيين الإتحاد أو التعدد، فتارة نصلي على جنازة واحدة، وأخرى نصلي على أكثر من جنازة في وقت واحد، فإذا كانت واحدة ذكرنا الوحدة في النية فنقول: أصلي على هذه الجنازة، وتارة نصلي على جنازتين معاً، فتجب التثنية في النية فنقول: أصلي على هاتين الجنازتين، وكذلك الحال حين الصلاة على الجماعة التي تبدأ بثلاثة جنائز وما فوق، ويستحب قبل الصلاة على الميت إعلام المؤمنين بموته حتى يشاركوا في التشييع الذي له أثر عليهم وعلى الميت.
والصلاة على الميت عبارة عن خمس تكبيرات، ولا تجب فيها الطهارة من الحدث وإن كانت مستحبة، فيقف المصلي خلف الجنازة وينوي الصلاة عليها ثم يكبر التكبيرة الأولى ويأتي بالشهادتين، ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي وآله، ثم الثالثة ويدعو للمؤمنين ثم الرابعة ويدعو للميت ثم الخامسة وينصرف، ولكن ورد للصلاة على الميت كيفيات كثيرة تزيد في الأجر والثواب نذكر واحدة منها:
تقول بعد التكبيرة الأولى: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً فرداً صمدا حياً قيوما دائما أبدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأشهد أن محمداً عبده المجتبى ورسوله المصطفى أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ولو كره المشركون، وأشهد أن الموت حق والقبر حق وسؤال منكر ونكير حق وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وإليه والنشور، ثم تكبر الثانية وتقول: اللهم صل على محمد وآل محمد وبارك على محمد وآل محمد وتفضل على محمد وآل محمد وتحنن على محمد وآل محمد وارحم محمدأ وآل محمد كأفضل ما صليت وباركت وتفضلت وتحننت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وصل اللهم على جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصديقين والملائكة المقربين وجميع عبادك الصالحين، ثم تكبر مرة ثالثة وتقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات وتابع اللهم بيننا وبينهم بالخيرات إنك مجيب الدعوات ومبدل السيئات بأضعافها من الحسنات اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وحرنا ومملوكنا وكبيرنا وصغيرنا ذكرنا وأنثانا كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيدا وخسروا خسراناً مبينا ثم تكبر التكبيرة الرابعة وتقول: أللهم إن هذا المسجى قِدامنا عبدك واعبد عبدك وابن أمتك نزل بك وأنت خير منزول به أللهم إنك قبضت روحه إليك وقد احتاج إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته اللهم ارحمه وإيانا وارحمنا وإياه برحمتك يا أرحم الراحمين ثم تكبر التكبيرة الخامسة وبها تنتهي الصلاة على الميت.
وفي الصلاة على الميت ينبغي مراعاة التذكير والتأنيث والتثنية والجمع والذكورة والأنوثة، فمثلاً إذا كنت تصلي على ذكر واحد تقول: اللهم إن هذا المسجى أمامنا، وإذا كنت تصلي على جنازتين تقول إن هذين المسجيين، وإن كانوا أكثر من اثنين تقول إن هؤلاء المسجيِين، وأما إذا كانت الجنازة لامرأة واحدة.
وأما إذا كنت تصلي على الولد الميت الذي مات قبل سن التكليف فتدعو لأهله مكان الدعاء له.
وإذا دفن من دون صلاة وجب علينا أن نصلي عليه وهو في القبر، فلا يجوز نبش القبر واستخراج الميت منه، قال رسول الله(ص) : إذا فاتته الصلاة على الميت صلى على قبره: وقال الصادق(ع) : إذا فاتتك الصلاة على الميت حتى يدفن فلا بأس وأن تصلي عليه وقد دفن:
التَّشْيِيع
التشييع هو الوداع ومرافقة الشخص إلى الخارج، هذا بالنسبة لتشييع الحي وتوديعه، أما تشييع الجنازة فهو السير خلفها، والأفضل أن تستمر بالتشييع حتى الدفن، فقد ورد أن فيه أجراً عظيماً عند الله تعالى، ولكن لكي نحصل على ذلك الأجر من وراء التشييع لا بد وأن يكون العمل خالصاً لله وحده، فإذا مشيت خلف الجنازة قربة إلى الله كان أجرك على الله، وإذا مشيت خلفها للناس كان أجرك عليهم، ولن ينفعك أجرهم عند الله تبارك وتعالى، وهذا ما يدفع بنا نحو إخلاص العمل لوجهه الكريم سبحانه وتعالى.
وينبغي للمشيِّع أن يمشي خلف الجنازة في حالة من الخشوع والسكينة والتأمل والتفكر في مصير هذا الميت من أجل أخْذِ العبرة منه، لأن المصير الذي واجهه سوف نواجهه فيما بعد في وقت لا يعلمه إلا الله تعالى، فيجب أن نأخذ العبرة والموعظة من التشييع والدفن وما بعد الدفن، لأن الموعظة حياة لقلب المؤمن، ولكننا في هذه الأيام لم نعد نحترم الجنائز ولا نمشي خلفها، وإذا مشينا خلفها فإننا لا نتفكر، بل نتحدث بأمور الدنيا، وهذا أمر خطير على مستقبلنا الأخروي، وقد سمعت في إحدى مشاركاتي في الجنائز بعض المشيعين يتحدثون عن تجاراتهم ومكاسبهم، وأحدهم يأسف لأنه لم يربح من الموسم كثيراً، فهم يتحدثون وكأنهم يمشون إلى عرس وليس إلى مقبرة سوف يدخلونها فيما بعد.
عليكم في التشييع أن تتخيلوا بأنكم أنتم المنقولون، وليس فلاناً من الناس، فإن الجنائز رسل إنذار لنا تحذرنا من نسيان الموت، ومن الغوص في محرمات الحياة وشهواتها التي هي السبب في هلاك المرء يوم الحساب.
فإذا اعتبرتم أنكم أنتم المحمولون فلا بد وأن تنفعكم الموعظة، وهناك أشخاص يشعرون بالخطر عند الدخول إلى المقبرة وينسون الأمر بعد الخروج منها فيعودون إلى الممارسات الخاطئة وارتكاب المحرمات وكأنهم لم يسمعوا عن الموت ولم يشاركوا في دفن الأموات.
قال الإمام الباقر(ع) : إذا كنتَ في جنازة فكن كأنك أنت المحمول، وكأنك سألت ربك الرجعة إلى الدنيا لتعمل عمل مَن عاش فإن الدنيا عند العلماء مثل الظلّ:
وفي مسألة الأجر في التشييع ذكر لنا أمير المؤمنين(ع) حديثاً يحثنا فيه على متابعة الميت من لحظة موته وإلى تعزية أهله بعد الدفن فقال(ع): من تبع جنازة كتب الله له أربعة قراريط، قيراطٍ لاتباعِهِ إياها، وقيراط للصلاة عليها، وقيراط للإنتظار حتى يَفرُغَ من دفنها، وقيراط للتعزية:
وقال الإمام الباقر(ع) :من تبع جنازة امرء مسلم أعطي يوم القيامة أربع شفاعات ولم يقل شيئاً إلا قال له المَلَك ولك مثل ذلك:
وقال(ع): إذا أُدخل المؤمن قبره نودي ألا إن أول حِبائِكَ الجنةُ، وأول حِباء من تبعك المغفرة:
وقال الصادق(ع) : من شيَّع جنازة مؤمن حتى يُدفن في قبره وكّل الله به سبعين ملكاً من المشيعين يشيعونه ويستغفرون له…
وقال(ع) : أول ما يُتحَف به المؤمن في قبره أن يُغفر لمن تبع جنازته:
وقال(ع) :إن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي من بين يديها ولا بأس إن مشيت بين يديها:
وأما بالنسبة لشهادة المؤمنين فقد ورد أنه تعالى لا يخيب ظنهم بل يرحم المشهود له وإن لم يكن مستحقاً للرحمة وذلك بسبب تلك الشهادة الصادرة عن قلوب أهل الإيمان، فقد قال الصادق(ع) :إذا مات المؤمن فحضر جنازته أربعون رجلاً من المؤمنين وقالوا أللهم لا نعلم منه إلا خيراً وأنت أعلم به منا قال الله تبارك وتعالى قد أجزت شهاداتكم وغفرت له ما علمت مما لا تعلمون:
الدَّفْنُ وَوَاجِبَاتُهُ وَمُسْتَحَبَّاتُه
بعد تغسيل الميت وتكفينه وتحنيطه والصلاة عليه، يحمله الناس إلى القبر ويدفنونه ويوارون جسده تحت التراب، ويعبّر البعض عن القبر بالمثوى الأخير، ولكنه بداية مرحلة جديدة وطويلة لا يعلم مداها إلا الله عز وجل.
ودَفْنُ المسلم واجب شرعي، وهو مواراته في الأرض على وجه تُحرس جثته من السباع، بمعنى أن يدفن في حفرة عميقة لا تخرج منها رائحة الجسد الذي يتحول إلى جيفة قبيحة من أقبح الجيف وأنتنها رائحة وأفظعها منظراً، وهو معنى قول الإمام علي(ع) :أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة: ويجب الدفن تحت الأرض لا فوقها، بمعنى أن يبنى له بناء محكم فوق الأرض، وهذا عمل غير مشروع، لأن الواجب مواراته تحت الأرض لا فوقها، ولعل هناك حكمة من الله تعالى وموعظة للمتعظين، لأنك عندما تقول فوق الأرض فهي تختلف عن قولك تحت الأرض، وهنا تكمن الموعظة، لأن الإنسان بطبعه يخاف من جوف الأرض.
ويجب أن يوضع الميت المسلم في قبره مضطجعاً على جانبه الأيمن، ووجهه نحو القبلة، ويستحب أن يكون عمق الحفرة حجم قامة الإنسان، لأن ذلك يضمن عدم خروج رائحته إلى فوق الأرض، ويستحب في إنزال الميت أن يسبق رأسه جسده، وأما المرأة فيستحب إنزالها بالعرض دفعة واحدة، ويستحب عند وضعه في القبر أن تُحَلّ عقد الكفن من الأعلى إلى الأسفل، ونحن لا ندري سبب استحباب الربط قبل الدفن وفك العقد عنده، ولعل في ذلك دخلاً لمنظر الميت عندما يكون مربوطاً لا حول له ولا قوة، ويستحب أن يوضع خده الأيمن على التراب لا على أجزاء الكفن، وجَعْلُ شيء من تربة الإمام الحسين(ع) تحت خده أو في مطلق الكفن فإن لها شأناً وبركة ومنزلة رفيعة عند الله سبحانه وتعالى، وبعد أن يوضع الميت في قبره يستحب تلقينه الشهادتين والإقرار بالأئمة(ع) واحداً واحداً، ويدني الملقّن فاه من أذن الميت ويقول له ثلاثاً، إسمع إسمع إسمع، ويستحب أن يدعو له فيقول: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله(ص) اللهم عبدك نزل بك، وأنت خير منزول به، اللهم افسح له في قبره، وألحقه بنبيه، اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيراً وأنت أعلم به منا: ويستحب بعد ذلك أن يخرج الملقّن من القبر من جهة رجلي الميت فإن ذلك خير له، لأنه – والعلم عند الله- من الأدب المطلوب تجاه الأموات، وذلك كيلا يكون تعاطينا مع الأموات كتعاطينا مع الجيف والحيوانات والجمادات، وينبغي أن ندرك بأننا نصنع تلك الآداب مع الروح وليس مع الجسد، وإننا إذا أُمرنا باحترام الجسد فلأنه كان ظرفاً لتلك الروح التي هي سر من أسرار الله سبحانه وتعالى.
ويستحب للحاضرين أن يهيلوا التراب عليه بظاهر أكفهم قائلين عند إهالة التراب :إنا لله وإنا إليه راجعون: وينبغي أن يتعاملوا بالطرق التي توحي بعدم استعجالهم للتخلص منه، لأن الروح ترى وتسمع، فلا ينبغي أن نُدخل الأذى على أرواح موتانا.
ويستحب أن يرتفع القبر عن الأرض مقدار أربعة أصابع ليس أكثر كما يصنع كثير من الناس، ويستحب أن يُجعل بشكل مسطح وليس مثل سنام الجمل، ويستحب صب الماء فوق التراب من جهة رأس الميت، وقد أرشدنا الإمام الباقر(ع) إلى هذا الأدب عندما قال:إذا حُثي عليه التراب وسُويَ قبره فضع كفك على قبره عند رأسه وفرّج أصابعك واغمز كفك عليه بعدما يُنضح الماء: ويستحب أن نترحم عليه والأفضل أن نقول: اللهم جافِّ الأرض عن جنبيه وأصعِد إليك روحه ولقّه منك رضواناً وأسكن قبره من رحمتك ما تغنيه عن رحمة من سواك: ويستحب قراءة هذا الدعاء عند كل زيارة للقبر إذ ليس خاصاً بعقيب الدفن.
أَوْهَامٌ حَوْلَ المَوْتِ وَالتَّشْيِيعِ وَالدَّفْن
من شر صنيعنا أن نستعمل القياس في أحكام الله على أنواعها، فلا يجوز القول بالرأي، ولا يجوز أن نفرض أموراً لقربها من السنن، وهي ليست منها، بل يجب العمل من منطلق قوله تعالى(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)
هناك أشخاص يحبون البروز أمام الآخرين حتى يُحكى عنهم بالجميل، فيقولون بغير علم، ويفرضون آراءهم على الناس، وبالخصوص الأشخاص المتقدمون في السن الذين نشؤوا على معتقدات لا تنسجم مع الدين، فمن جملة تلك المعتقدات موضوع توقُّف الجنازة مرتين من منزل الميت إلى المقبرة، وهو مستحب في الشريعة، ولعل السبب في استحباب الوقفتين هو المراعاة لروح الميت كيلا يظن بأنهم مسرعون من أجل التخلص منه، فتراهم أثناء التشييع يُهلكون حملة النعش بالإيقاف، فيوقفون الجنازة أكثر من مرتين، وبالخصوص إذا كانت المقبرة بعيدة عن منزل الميت، أو أنه إذا كانت المسافة قريبة فيمنعون الناس من الوقوف بدعوى استحباب المسارعة في التجهيز والدفن، ولكن استحباب المسارعة هنا لا يتعارض مع استحباب الوقفتين.
ومن جملة تلك المعتقدات أنهم عندما يرفعون الميت من النعش ويضعونه في القبر يَقلِبون النعش كيلا يجر غيره بعده، أنا أقول سواء قلبتم النعش أم لم تقلبوه فإنه لن يبقى منا ومنكم ومن كل المخلوقات أحد على وجه الأرض، وتلك العادات تسيء إلى الإسلام، فإذا نظر إلينا غيرنا ونحن غارقون في تلك الأوهام والعادات فسوف يقيسون عاداتنا على ديننا، وهو أمر غير صحيح.
واجبنا كمسلمين أن ننقل للعالم كله صوراً حسنة عن ديننا العظيم الذي نعتبره الدين الرسمي عند الله تبارك وتعالى.
ومن جملة تلك العادات أن أول من يحفر القبر هو آخر من يهيل التراب، فترى البعض منهم يقف على القبر ويصيح قائلاً :من منكم ضرب أول معول في الأرض فليأت وليختم الدفن: وكأن ذلك أمر مفروض أو واجب، نحن نقول يا ليتنا نحافظ على ديننا الصحيح كما نحافظ على تلك العادات الباطلة .
ومن جملة تلك الأوهام اعتقادهم بحرمة الزوج على زوجته بعد الموت فيحرمون الرجل من توديع زوجته أو العكس، وهذا خطأ لأن الزوجين يبقيان محلَّلَين على بعضهما حتى عند الموت، وإن أولى الناس بتجهيز المرأة الميتة زوجها، وكذا العكس.
فينبغي أن نتخلص من تلك العادات التي قد يكون العمل بمضمونها في أكثر الأحيان محرماً.
زِيَارَةُ القُبُورِ وَأَثَرُهَا عَلَى النَّفْس
قبل البدء بالكلام عن مرحلة القبر وما يرى الإنسان فيه بعد أن يدفن، فإنه يُستحسن الكلام حول زيارة القبور لأنه موضع نقاش بين الأطراف الإسلامية، إذ أن منهم من يعتبر ذلك سنّة، ومنهم من يعتبره بدعة، وقبل البدء بهذا الموضوع نلفت النظر إلى مسألة البناء فوق القبر، فإننا إذا دخلنا إلى المقابر وبالأخص في المناطق الراقية نجد بأن التنافس بين أصحاب المال والنفوذ وصل إلى القبور، فهم يحاولون أن يجعلوا من قبور موتاهم قصوراً مصغرة وذلك من باب المفاخرة والتعالي على الآخرين، مع أن هذا الأمر مبغوض في الشريعة لأنه خلاف المستحب، والمستحب هو أن لا يرتفع القبر عن الأرض أكثر من أربعة اصابع.
والإنسان المؤمن ينبغي عليه أن يسعى لكسب الموعظة فإذا كانت زيارة القبور مؤثرة فيه فليزر المقابر كلما أتيحت له الفرصة، ونحن نؤمن بأن زيارة المقابر أمر مشروع، وفيه من الفوائد الدنيوية والأخروية ما يزيد عن تصور البعض.
إن هدفنا من زيارة القبور شيء، وهدف الذين يمنعونها شيء آخر، أما هدفنا من زيارة القبور فهو الأجر والثواب واكتساب الموعظة والتفكير في شأن الآخرة، وأما هدف الذين يمنعون من زيارتها فهو التعييب على الموالين الذين يسافرون من بلد إلى آخر ليتبركوا بقبور المعصومين(ع) وأضرحتهم، والسبب واضح لم يعد قابلاً للشك والجدل، وأمام هذا الوضوح نحن ننصح أولئك بالرجوع عن القول بالحرمة أو الكراهة، لأن ادعاء الحرمة منهم صدر عن غير علم، ومن دون دليل، ما نمنعه نحن بالنسبة للمقابر هو أن تتحول تلك الأمكنة الخاصة إلى مرتع لأصحاب المطامع، أما مبدأ زيارة القبور فهو أمر مشروع، بل هو في نظر أهل المعرفة ضروري بسبب أهمية دوره في التأثير على النفس والقلب، فإن هذا القلب إذا قسا ودخل صاحبه إلى المقبرة تذكر اليوم الآخر وقدرة الله تعالى، وربما من خلال الدخول إلى المقبرة يعتبر الإنسان ويتوب من ذنوبه، أما الذين يخافون من الدخول إلى المقبرة أو يخافون من الميت فهم الذين لا يريدون أن يعظوا أنفسهم، فإذا كان مصدر خوفهم من الموتى هو الخوف من الله تعالى فلا بأس به حينئذ، وهنا نطرح سؤالاً مهماً حول موضوع الخوف من الميت أو القبر، كلنا نعرف بأن الميت لا يتحرك ولا يؤذي ولا يصنع أي شر، وكلنا نعرف بأن القبر عبارة عن أحجار وتراب تلقى على الميت الذي ربما لم يعد له وجود داخل القبر حيث تأكل الدود لحمه وتشرب دمه ويتحول عظامه إلى رفاة وتراب يختلط بتراب الأرض، فإذا كان الواقع هو هذا فما الذي يجعلنا نخاف من الميت أو المقبرة؟ ما يخيفنا هو الموت وليس الميت، والذي يخيفنا من المقابر هو أننا عند الموت سوف نسكنها.
لم نجد ما يمنع من زيارة القبور، بل على العكس قلقد وجدنا حثاً من النبي وآله(ص) على زيارتها، فلو لم تكن تلك الزيارة نافعة للإنسان لما شرّعها الله ورسوله.
لقد كان النبي وآله يزورون القبور، ويسلِّمون على سكانها، وقد أعطوا الكثير من المواعظ للناس على المقابر لأنها ظرف مؤثر.
قال علي(ع) : زوروا موتاكم فإنهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب الرجل حاجته عند قبر أبيه وأمه بعدما يدعو لهما:
وقد مر أمير المؤمنين على مقبرة فسلّم على أهلها وقال: : السلام على أهل لا إله إلا الله من أهل لا إله إلا الله يا أهل لا إله إلا الله كيف وجدتم كلمة لا إله إلا الله يا لا إله إلا الله بحق لا إله إلا الله إغفرلمن قال لا إله إلا الله واحشرنا في زمرة من قال لا إله إلا الله:
زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِي(ص) وَقُبُورِ المَعْصُومِينَ(ع)
إن المنع من زيارة القبور والأضرحة من شأنه أن يُحدث الجفاء والبعد بين الحي والميت مهما كان الحي مؤمناً والميت عظيماً، ولذا نجد المؤمنين يثابرون على زيارة قبور المعصومين بالدرجة الأولى وقبور موتاهم بالدرجة الثانية حيث يشعرون عند زيارة قبورهم بالقرب النفسي والروحي منهم، فعندما يجلس المؤمن بالقرب من قبر النبي الأعظم(ص) يشعر وكأنه معه حقيقة يراه وينظر إليه ويتكلم معه، وكذا الحال عند أضرحة المعصومين والصلحاء والأقرباء، فإن الإنسان إذا مات له عزيز يزوره عند قبره في المناسبات العامة على الأقل أو يزوره كلما اشتاق إليه فتراه يزور القبر ويجلس أمامه ويعيد في نفسه الذكريات والأحداث ويتذكر المواقف التي حصلت مع ميته فيبكي تارة ويبتسم تارة أخرى، وهو في نفس الوقت يشعر بالراحة لأنه من خلال زيارته للقبر يشعر وكأنه يزور صاحبه حياً ويقوم معه بهذا الواجب أو هذه الصلة، وإننا انطلاقاً من هذه المشاعر التكوينية والأحاسيس الإنسانية نؤمن بعدم صحة القول بمنع زيارة القبور لأن هذا المنع مرفوض عقلاً وإنسانياً قبل أن يكون مرفوضاً في قوانين الشريعة السمحاء التي تتفق مع موازين العقل وتنسجم مع المشاعر الصحيحة للبشر، فلو بحثنا بعمق عن جوهر الصلة القائمة بين المسلمين والإسلام نجدها صلة قائمة على موازين وأسس لم يدركها القائلون بالمنع(أي بمنع زيارة القبور) فإن المسلم ينظر إلى الإسلام على أنه صديق حميم وملجأ آمن وخليل قد فهم ما يريد خليله، ولأن الإسلام كذلك فقد احتل الدرجة الأولى من الأديان الأخرى في العالم كله، ولعل سر دوام هذا الدين كامن خلف مقبوليته لدى النفوس التي تلتقي معه في كل شيء فهي تفهمه وهو يفهمها ويحل لها جميع مشاكلها ويعطيها الحلول المناسبة التي يقبلها جميع الأطراف، فلا تشدد في الإسلام ولا غلظة ولا كره بل هو رحمة بكل معنى الكلمة، وليس رحمة للمسلمين في آخرتهم فقط بل هو رحمة لهم في الدنيا والآخرة لأنه يواكب أفراده في جميع مراحلهم وحتى يوم الحساب.
بهذه الروحية يجب أن ننظر إلى الدين وبهذه الطريقة يجب أن نتعامل معه لنكون من أهله حقاً وصدقاً.
وزيارة قبور النبي وآله تعود بالشفاعة على الزائر العارف بحقهم والمقتدي بهم، فلقد سأل الإمام الحسن(ع) جده رسول الله(ص) فقال : يا أبتاه: ما جزاء من زارك؟ فقال(ص) يا بني من زارني حياً وميتاً أو زار أباك أو زار أخاك أو زارك كان حقاً عليّ أن أزوره يوم القيامة فأخلصَه من ذنوبه:
وقال(ص) : من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة:
وقال(ص): من سلّم عليَّ في شيء من الأرض أُبلغتُه ومن سلّم عليّ عند القبر سمعته: وهنا نرد على القائلين بمنع زيارة القبور بقول الرضا(ع) : إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتُهم شفعاءهم يوم القيامة:
وقال الصادق(ع) : من زارنا في مماتنا فكأنما زارنا في حياتنا:
ونحن هنا لم نذكر من الأدلة سوى نقطة من بحر واسع، فإن الأدلة الدالة على مشروعية زيارة القبور بل على استحبابها أكثر من أن تحصر، ومن خلال ذلك يظهر لنا فساد القول بالمنع وخبث النوايا الهادفة إلى الفصل بين المؤمنين وأئمتهم، فلو كان لهم أئمة كأئمتنا لأوجبوا زيارتهم.



