تفسير قرآن

تفسير سورة البقرة

من الآية 191 إلى الآية 220

 

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ {البقرة/191}

أقتلوا المشركين حيث وجدتموهم لأنهم هم الذين اعتدوا عليكم وأخرجوكم من مكة ولكن إياكم والفتنة فإنها عند الله أشد من القتل، وقد ورد لفظ الفتنة في القرآن مرات كثيرة وبمعان مختلفة، فتارة ورد للدلالة على الإمتحان كما في قوله تعالى(أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) وتارة وردت بمعنى المكر والخديعة كما في قوله تعالى(يا بني آدم لا يَفْتَتِنَنّكُم الشّيطان) وتارة بمعنى البلاء والعذاب، وأخرى بمعنى الضلال، وقد وردت هنا للدلالة على شدة الفتنة مهما كان معناها وكأن الله تعالى يريد أن يقول للمسلمين في هذه الآية: لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.

وعلى المسلمين أن يحترموا مكانة المسجد الحرام وأن لا يبدؤوا المشركين بالقتال فيه حتى يبدأ المشركون بقتالهم فيكون حينئذ دفاعاً عن النفس وليس في ذلك إساءة للمسجد.

فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {البقرة/192}

أما إذا تابوا وأصلحوا فهم إخوانكم في الدين فلا يجوز بعد ذلك قتالهم بحال من الأحوال.

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ {البقرة/193}

عليكم أن تتصدوا لهم كيلا يحصل فتنة وينتشر الشرك والفساد والظلم وقد يكون المراد بالفتنة هنا هو الشرك بالله وهنا يُظهر الله تعالى سبب مقاتلة المشركين فإن المشركين رأوا الآيات وأصروا على الشرك فاستحقوا العقاب على أيدي المؤمنين، فإن انتهوا عن هذا الظلم فكفوا أيديكم عنهم وإلا فهذا هو عقابهم.

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {البقرة/194}

ترد هذه الآية على من يتصور بأنه لا يوجد قتال في الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب، وقد حاول المشركون أن يشنوا هجوماً على المسلمين لظنهم بأن المسلمين يحرمون القتال في تلك الأشهر، فالشهر الحرام بالشهر الحرام أي أنه إذا كسر المشركون تلك الحواجز وأرادوا أن يقاتلوكم في الأشهر الحرم فقابلوهم بالمثل وقاتلوهم فيها.

والحرمات قصاص: وهو جواب للمشركين الذين اعترضوا على النبي كيف أنه أباح القتال في تلك الأشهر فإن احترام الأشهر الحرم ضروري وبالخصوص أما الأعداء أما إذا لم يحترم العدو تلك الأشهر فنحن أيضاً لنا الحق في مقاتلته، ثم أعطت الآية حكماً عاماً وهو مسألة الدفاع عن النفس ولكن بعيداً عن الإعتداء والإنتقام من الأبرياء الذين لا ذنب لهم لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.

وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {البقرة/195}

إن الجهاد في سبيل الله لا يقتصر على قوة الرجال فقط فهم بحاجة إلى دعم مادي حتى يحصلوا على السلاح، والإنفاق في سبيل الله مفهوم واسع يشمل كل ما صدق عليه أنه من عمل البر والخير، ثم نهانا الله عن إلقاء أنفسنا في التهلكة، وهذا النهي ليس خاصاً بالجهاد بل هو شامل لكل موارد الضرر، وعلى الإنسان أن يُحسن في جميع مجالات حياته فإن الله تعالى محسن يحب المحسنين.

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {البقرة/196}

يجب أن تكون أعمال الحج والعمرة من ألفها إلى يائها خالصة لوجه الله عز وجل، أما الذين لم يوفقوا لأداء فريضة الحج أو العمرة بعد أن لبسوا الإحرام فعليهم أن يذبحوا من الهدي ما تيسر لهم، ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محِلَه: فهل يتعلق هذا الأمر بالمحصورين فقط الذين لم يوفقوا لأداء المراسم أم أن هناك رأياً آخر؟

قال بعضهم إن هذا الحكم يشمل الجميع، وقال آخرون إنه خاص بما حصل لديهم مانع وقد استدل على ذلك بما فعله رسول الله(ص) في الحديبية عندما منعه المشركون من متابعة سيره فذبح الهدي هناك وأمر أصحابه بذلك.

قال العلامة الطبرسي رحمه الله :ذهب علمائنا إلى أنّ المحصور إذا كان بسبب المرض فيجب عليه ذبح الأضحية في الحرم، وإذا كان بسبب منع الأعداء فيجب الذبح في نفس ذلك المكان الّذي مُنع به:

وذهب آخرون إلى أنّ هذه الجملة ناظرة إلى جميع الحجّاج لأنه لا يحقّ لأحد حلق الرأس والخروج من الإحرام إلاّ أن يذبح هديه في محلّه فذبح الهدي في الحجّ يكون في منى وفي العمرة يكون في مكّة.

فمن كان به أذى لا يستطيع أن يحلق شعر رأسه فهو مخير بين الصوم أو الصدقة أو ذبح شاة.

فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وهذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حجّ التمتّع ويكون المكلّف في هذا الحجّ قد أتى بالعمرة قبله، ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الابل أو البقر أو الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.

فمن لم يجد ذبيحة أو كان وضعه المالي لا يسمح بشرائها فعليه أن يعوض ذلك بصيام عشرة أيام ثلاثة منها في الحج وسبعة بعد العودة إلى الوطن والأيام التي يجب صومها في الحج من تلك الكفارة هي السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة.

ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هذا الحكم خاص بغير أهل مكة فإنه من كان وطنه بعيداً عن مكة ثمانية وأربعين ميلاً كانت وظيفته حج التمتع أما من كان أقرب من ذلك أو من أهل مكة فإن وظيفته حج الإفراد.

وعلى الناس أن يتقوا الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه لأن عذابه شديد.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ {البقرة/197}

يواصل القرآن الكريم بيانه لأحكام الحج ويقول هنا إن الحج أشهر معلومات والمراد بهذه الأشهر: شوال، ذي القعدة، ذي الحجّة وهذه الأشهر تسمّى (أشهر الحجّ) لأنّ قسماً من أعمال الحجّ والعمرة لا يمكن الإتيان بها في غير هذه الأشهر، وقسماً آخر يجب الإتيان بها في اليوم التاسع إلى الثاني عشر من شهر ذي الحجّة، والسبب في أنّ القرآن الكريم لم يصرّح باسماء هذه الأشهر لأنّها معلومة للجميع.

فمن شرع في مناسك الحج فلا رفث في الحج يعني لا يجوز له أن يقول كلاماً يتعلق بالجنس وما شابه ذلك من الكلام القبيح، وكذا لا فسوق في الحج وهو الخروج عن طاعة الله عز وجل، وكذا لا جدال وهو المجادلة بالكلام لأنه ينبغي على الحاج أن يبقى ذاكراً لله عز وجل وأن لا يخرج عن كونه داخلاً في تلك الطاعة، وما عليكم في ذلك الوقت سوى أن تتزودوا للآخرة وكل خير تفعلونه يعلمه الله وسوف يثيبكم عليه في يوم القيامة.

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ {البقرة/198}

كان الناس في الجاهلية يحرمون أي نشاط اقتصادي في موسم الحج إلى أن جاء الإسلام وقضى على تلك العادة مبيناً لهم جواز ذلك، ثم أشار إلى حكم من أحكام الحج وهو الإفاضة من عرفات بعد مبيت يدوم من ظهر اليوم التاسع إلى غروبه ثم يتوجه الحجاج إلى المشعر الحرام في المزدلفة فيبيتون ليلة العيد هناك يقضونها بالذكر والدعاء والمناجاة لأن الله تعالى هداهم بعد أن كانوا ضالين لا يعرفون شيئاً عن تلك المناسك.

ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {البقرة/199}

هذه الآية والتي قبلها تشير إلى ثلاثة مواقف تتعلق بفريضة الحج، أولها عرفات وهي صحراء تبعد عن مكة حوالي عشرين كيلو متراً وفيها يمكث الناس من ظهر اليوم التاسع من ذي الحجة وإلى غروبه، وثانيها المزدلفة وهي المشعر الحرام فيبيتون فيها ليلة العيد، وثالثها منى وهي محل ذبح الأضاحي، ثم يامرنا الله تعالى بالإستغفار حتى يطهرنا من ذنوبنا ونرجع من الحج ولا تبعة نُسأل عنها.

فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ {البقرة/200}

كان الجاهليون يعقدون المجالس بعد الإنتهاك من مناسك الحج ويذكرون مفاخر الآباء والأجداد وتلك المزاعم التي كانوا يفخرون بها على من سواهم فجاء الإسلام ونهاهم عن تلك الممارسات وأمرهم بأن يذكروا الله الذي هداهم إلى الحق كما يذكرون مفاخر الآباء أو أكثر من ذلك لأن الله تعالى أحق بالذكر من غيره ثم أخبرنا القرآن بأن هناك مجموعة من الناس يتمنون المزيد من الدنيا للدنيا فهؤلاء ليس لهم عند الله أي حظ.

وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {البقرة/201}

وهناك مجموعة أخرى يسألون الله الخير للدنيا والآخرة ويسألونه الخلاص من عذاب النار ويقومون بما ينقذهم منها لأن الدعاء لوحده لا يحقق لهم الغاية فهؤلاء سوف يستجيب الله لهم ويعطيهم ما سألوه لأنهم مؤمنون صادقون ذاكرون لله قولاً وفعلاً.

وهذا يكشف لنا عن نوعين من الناس نوع لا يهمهم سوى الدنيا والجمع لها وهم يعرفون بأنهم تاركوها، ونوع يجعلون من الدنيا ممراً للآخرة، وقد ورد عن الإمام الصادق في تفسير المراد بالحسنة في الآية فقال: إنّها السّعة في الرّزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا ورضوان الله والجنّة في الآخرة، وقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: من أوتي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه واُخراه فقد أُوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووُقي عذاب النار.

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {البقرة/202}

النوع الأول ليس له في الآخرة من خلاق، والنوع الثاني لهم نصيب مما كسبوا وعملوا فلقد عملوا في الدنيا صالحاً والله تعالى لن ينساه في يوم القيامة.

وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {البقرة/203}

ما زال الكلام حول فريضة الحج فلقد ألغى الله سنن الجاهلية ونهاهم عن الكلام في مفاخر الآباء والأجداد بعد الإنتهاء من مناسك الحج، وهنا يدعوهم ربهم إلى ذكره في أيام معدودات وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة وهي تسمى أيام التشريق حيث تشرق الروح فيها وتكون أكثر قبولاً للغذاء الروحي، وأنت أيها المسلم مخير بين يومين أو ثلاثة أيام حيث لا إثم عليه إن تعجل في يومين، وطبعاً فإن الثلاثة أفضل، هذا لمن يريد أن يتقي الله عز وجل، ثم دعانا رب العالمين إلى التقوى وذكّرنا بأنه سوف يجمعنا ليوم لا ينفع فيه سوى التقوى.

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {البقرة/204}

قيل إن هذه الآية وما بعدها نزلت في الأخنس بن شريف وكان رجلاً وسيماً عذب البيان وحسن الكلام وكان كلما جلس مع رسول الله أقسم على إيمانه به وحبه له، وكان النبي يعامله معاملة حسنة إلا أن كشف الله أمره فأظهر للنبي نفاق هذا الرجل الذي كان يتستر بحب الله ورسوله، وهكذا الحال في الكثيرين ممن تستروا بالكلام العذب وهم في الواقع منافقون فلا ينبغي أن نسمح لهؤلاء بأن يخدعونا لأن ضربتهم شديدة وأذاهم كبير.

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ {البقرة/205}

عند رسول الله كان يقسم بالله أنه مؤمن يحب الله ورسوله ولكنه عندما يخرج من عند الرسول يتغير حاله وتتبدل أعماله فيُظهر ما في قلبه من أحقاد دفينة ونفاق متغلغل فقد حصل بينه وبين بعض المسلمين نزاع على أمر فأتى أرضهم وقتل مواشيهم وأفسد زرعهم وبهذا أظهر ما في جوفه من النفاق وقد فضحه الله كيلا يزداد خطره على الإسلام والمسلمين، والله تعالى يكره الفساد بجميع أشكاله.

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ {البقرة/206}

إذا جاء أحد وذكّره بالله وعقابه فإنه يتشدد أكثر ويعتز بما هو فيه من الضلال فلا يسمع النصيحة ولا يقبل الخير لأن النفاق استفحل في داخله فأنساه الله، والله سبحانه يشير في هذه الآية إلى عاقبة هذا النوع من البشر وهي العذاب في جهنم التي عبّر عنها الله بأنها بئس المكان.

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ {البقرة/207}

لمّا أراد رسول الله الهجرة إلى المدينة خلّف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه وأداء الودائع التي كانت عنده وأمره ليلة خروجه من الدّار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه وقال له: اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر ونم على فراشي وإنّه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله تعالى. ففعل ذلك علي، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة انزلا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل يُنادي بخّ بخّ مَن مثلك يا علي يُباهي الله تبارك وتعالى بك الملائكة، فأنزل الله على رسوله هذه الآية وهو متوجّه إلى المدينة ليخبره بأن علياً باع نفسه لله وقد حفظه الله من كيد الأعداء، وقد كان في تلك الحادثة درس من دروس التضحية والفداء حيث أصبحت ليلة المبيت مضرباً للمثل عند كل تضحية.

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {البقرة/208}

بعدما ذكر الله لنا نموذجاً عن سلوك المنافقين ونموذجاً آخر عن سلوك المؤمنين الذين يبيعون أنفسهم لله عز وجل مبيناً لنا عاقبة كل سلوك فالأول عاقبته جهنم وهي بئس القرار والمهاد، والثاني عاقبته رحمة الله ورأفته، فبعد ذكر هذين النموذجين أمر الله الذين آمنوا بأن يدخلوا في السلم جميعاً، والسلم في اللغة يعني الصلح والهدوء والسكينة، وقال بعض المفسرين هو طاعة الله والتسليم لأمره، ويعني ذلك أن السلم الحقيقي لا يتحقق إلا في ظل الإيمان، وفي السلم تحيا البشرية حياة كريمة بعيدة عن العنف والقتل والغدر والخيانة، ولهذا نهانا الله في نهاية الآية عن اتباع خطوات الشيطان الذي يريد إيقاعنا في حفره العميقة لأنه أخطر عدو للإنسان، وقيل في تفسيرها إن بعض أهل الكتاب كانوا يعتنقون الإسلام ويبقون أوفياء لبعض عقائدهم وتقاليدهم السابقة، ولهذا تأمر الآية الشريفة أن يعتنقوا الإسلام بكافّة وجودهم ويخضعوا ويسلّموا لجميع أحكامه وتشريعاته.

وذكر بعض المفسّرين أنّ عبدالله بن سلام وأتباعه الذين كانوا من اليهود وأسلموا طلبوا الإذن من رسول الله بقراءة التوراة في الصلاة والعمل ببعض أحكامها، فنزلت الآية ونهت هؤلاء عن إتّباع خطوات الشيطان.

فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {البقرة/209}

أما إذا زللتم وانحرفتم عن المسار الصحيح بعدما جاءتكم الآيات البينة فاعلموا بأن الله تعالى سوف يحاسبكم على هذا الإنحراف ولن تفلتوا من العقاب.

هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ {البقرة/210}

لقد آتيناهم من الآيات البينات ما يكفي لمعالجة أمورهم فهل يظنون بأن الله والملائكة سوف يأتونهم مع الغيم ويُنزلون عليهم أكثر مما أنزل الله عليهم عن طريق أنبيائه، وعلى فرض تحقق ذلك فإنه لن يفيدهم في شيء لأن الآيات التي سوف ينزلها مرة أخرى قد أنزلها عليكم عبر رسوله، وقد قُضي الأمر ولن يُنزل الله عليكم أكثر مما أنزل عليكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر والنتيجة في يوم الحساب وإلى الله ترجع الأمور فهو يتصرف في خلقه كيفما يشاء.

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{البقرة/211}

قل لهؤلاء الذين يطلبون منك المزيد من الآيات ماذا حلّ ببني إسرائيل بعدما أنزل الله لهم آياته ومنّ عليهم بالأنبياء وبالإمكانيات المادية الكبيرة فاستغلوا تلك النعم فيما لا يُرضي الله سبحانه ثم انحرفوا عن المسار الصحيح فكانت عاقبتهم أن غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة، وهكذا سوف تكون عاقبة كل من يسلك طريقتهم في التعاطي مع آيات الله.

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ {البقرة/212}

يظن الكافر بأنه إنسان حذق وواع ولكنه في واقع الأمر جاهل لا يفقه شيئاً وإن ادعى العلم والمعرفة، فلقد كان بعض سادات قريش من المشركين يسخرون من المؤمنين كعبد الله بن مسعود وعمار وبلال وكانوا يقولون لو كان محمد نبياً لاتبعته أشرافنا، ولكنهم مهما هزؤوا وسخروا فإن المؤمنين فوقهم يوم القيامة فهؤلاء سوف يدخلون النار بما كان يسخرون وهؤلاء المؤمنون سوف يدخلون الجنة بغير حساب فإن المؤمنين وإن كانوا فقراء في الدنيا فإن الله قادر على أن يرزقهم ويغدق عليهم من نعمه ورزقه ولكن شاءت حكمة الله أن يتماشى الإمتحان ضمن النظام المرسوم والمحدد.

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {البقرة/213}

قد يتوهم البعض بأن الأنبياء قسّموا الأمة بعد أن كانت أمة واحدة ولكن الحقيقة هي أن الناس كانوا أمة واحدة لا يعرفون شيئاً من الحق والكتاب، ولعل كان مستواهم التفكيري واحداً حيث لم يكن باستطاعتهم أن يفرقوا بين الحق والباطل بسبب عدم وجود الأنبياء فيهم وكانوا يعبدون الله بالفطرة التي فُطروا عليها ولم يكونوا يعرفون ما إذا كانوا يفعلون الصواب أم لا ولعل هذه الآية تشير إلى المرحلة الفاصلة بين آدم ونوح(ع) حيث كانت الأرض آنذاك خالية من الأنبياء باستثاء القلة الذين بعثهم الله إلى أمم خاصة، ولذا لا يمكن الجزم بأن الأرض في تلك المرحلة كانت خالية من الأنبياء بل يمكن أن نقول إن بعث الأنبياء في تلك الحقبة كان نادر الوجود حيث سبق وجود إدريس(ع) وجود نوح، ويُحتمل أن تكون الأرض خالية من الكتب السماوية لعدم معرفة الناس القراءة والكتابة ولعلهم كانوا أمة واحدة في الأمية وعدم المعرفة وعدم القدرة على الفصل بين الحق والباطل والتمييز بين الصحيح والفاسد فأراد الله سبحانه أن يجعل صحوة بين الناس لينقلهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ومن الغواية إلى الهداية فبعث فيهم الأنبياء مبشرين ومنذرين يبشرون المؤمن بالجزاء الحسن ويُنذرون الكافر مما هو عليه فبعث الأنبياء وأنزل معهم الكتب السماوية ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فقد كان هناك خلافات فكرية وعقائدية وإجتماعية بينهم، فبعد أن أنزل الله البينات انقسم الناس فئتين فئة استنارت بتعاليم الأنبياء وفئة استحبت الكفر والعناد فوقع خلاف بين الفئتين في التوجه والتفكير والإنتماء والإختيار، فهدى الله الذين يريدون الإيمان هداهم إلى الحق وقضى على خلافاتهم لأنهم أرادوا الهداية لأنفسهم أما الذين اختاروا الإتجاه المعاكس فأبقاهم الله على ما كانوا عليه ولكنه سوف يحاسبهم يوم القيامة بسوء فعلهم واختيارهم وعنادهم.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {البقرة/214}

اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية فقال بعضهم إنها نزلت عندما حوصِر المسلمون واشتدّ الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبّت على قلوبهم وتعِدَهم بالنصر.

وقال آخرون: إنّ عبدالله بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أُحد: إلى متى تتعرّضون للقتل ولو كان محمّد نبيّاً لما واجهتم الأسر والتقتيل.

ويظهر من الآية أن جماعة من المسلمين ظنوا بأن إظهار الإيمان لوحده كافٍ في الحصول على الجنة ونعيمها، ولهذا فإنهم لم يوطنوا أنفسهم على تحمل الصعاب وقد أراد الله سبحانه من خلال هذه الآية أن يعالج هذه الفكرة الخاطئة وتشير إلى سنة إلهية دائمة وهي أنه لا بد للمؤمن من أن يعد العدة لمواجهة الإمتحان الذي سرى على الأمم السابقة فلا يمكن أن ندخل الجنة إلا بعد أن نجتاز امتحان الله لنا والذي يمكن أن يكون صعباً للغاية فلقد مر الذين من قبلكم بمراحل صعبة ظنوا أنهم أحيط بهم ففرج الله عنهم فهل تظنون أيها المسلمون أن تدخلوا الجنة دون أن تمشي فيكم سنة الله التي تماشت مع الأمم السابقة التي كانت امتحاناتها أعظم.

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {البقرة/215}

تارة يسأل الإنسان عن نوع النفقة، وتارة يسأل عن مورد صرفها، والآية تشير إلى السؤال عن ماهية النفقة، ولكن الله تعالى زاد أمراً هاماً وهو بيان مورد صرفها حيث قد تُصرف النفقات في غير موردها الصحيح فلا يكون لها أي أثر إيجابي على المنفق لا في الدنيا ولا في الآخرة.

لقد أجاب الله تعالى على هذا السؤال وقال أنفقوا من الخير، والخير مفهوم عام يشمل الماديات والمعنويات، فقد تكون النفقة كلمة جميلة أو تصرفاً حسناً أو مالاً وكل ذلك عند الله له أجره وثوابه إذا صدر له دون رياء، وفي موضع آخر أفصح القرآن عن شمول النفقة للأمور المعنوية أيضاً حيث قال سبحانه(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وهذا يعني أن العفو عن المسيء صدقة، وقد يكون لهذه الأنواع من النفقات آثار أكبر من آثار النفقات المالية.

أما إذا أراد الإنسان أن ينفق مالاً فعليه أن ينفق معه الترحيب والإبتسامة وإدخال السرور إلى قلب السائل حتى لا يُشعره بذل السؤال، أما العطاء الذي يستتبعه أذى فلا خير فيه عند الله(قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)

وأما على من تُصرف النفقات؟ فإنها تنفق بالدرجة الأولى على الأبوين لأن النفقة عليهما واجبة ثم على اليتامي والمساكين وابن السبيل، ثم يخبرنا الله تعالى بأن كل ما ننفقه فهو يعلمه وسوف يجازينا عليه.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة/216}

لقد فرض الله علينا الجهاد في سبيله وهذا يعني بذل الأرواح وتحمل المشاق والضغوطات، والناس بطبعهم يكرهون القتال، ولكن الله تعالى يخبرنا بأن خلف الجهاد خيراً لنا وإن كرهناه ويحذرنا من محبة شيء فيه مضرة لنا ومن كره شيء فيه خير لنا لأنه تعالى يعلم ما لا نعلم.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{البقرة/217}

كعادتهم راح المشركون يعيرون رسول الله بأنه أحل سفك الدماء في الأشهر الحرم وذلك بعد أن قام المسلمون بسرية قتلوا فيها بن الحضرمي الذي كان على قافلة تجارية لقريش فاختلف المسلمون فيما بينهم أيقتلونه أم يتركونه احتراماً لشهر رجب ثم انقضوا عليه وقتلوه.

صحيح أن القتال في الأشهر الحرم حرام وإثمه كبير ولكن الكفر بالله وإخراج أهل مكة منها والصد عن سبيل الله إثمه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل، فإن القتل يقتل جسم الإنسان أما الفتنة فإنها تقتل الروح والعقيدة والخير ولهذا كانت عند الله أكبر من القتل فلا ينبغي لكم أيها المسلمون أن تسمعوا لوساوس المشركين الذين لن يرضوا عنكم حتى ترتدوا عن دينكم ولكن إياكم أن تفعلوا ذلك فإن عقابه عند الله شديد.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {البقرة/218}

أما الذين آمنوا بالله وجاهدوا في سبيله وهاجروا مع رسول الله فإنهم قد يخطؤون ولكن الله برحمته يغفر لهم لأنهم يرجون رحمة الله ويخافون عقابه، وهؤلاء الذين قاموا بالسرية في الأشهر الحرم أجرهم على الله لأنهم كانوا ينفذون أمر رسول الله والله عالم بسرائرهم.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ {البقرة/219}

نزلت هذه الآية الكريمة جواباً على سؤال طرحه جماعة على رسول الله(ص) وقد كان يظن البعض بأنه حلال أو أن القليل منه حلال فجاءت الآية لتبين حرمته وحرمة اللعب بالقمار الذي كان منتشراً في المجتمع العربي آنذاك، وللخمر معنيان لغوي وشرعي أما المعنى اللغوي له فهو كل ما يغطي شيئاً أو يخالطه، وقد أطلق هذا اللفظ على الخمار الذي يغطي رأس المرأة، وقد سمي الخمر خمراً لأنه يغطي مساحة من العقل فيسلب الإنسان القدرة على التمييز بين الصحيح والفاسد، وأما المعنى الشرعي فإنه كل مسكر مائع.

وأما الميسر فهو من مادة اليسر وذلك أن المقامر يطمح إلى الحصول على المال بيسر دون أي عناء، وقد كان المجتمع العربي غارقاً في الخمر والميسر ولهذا نجد التحريم لهما قد ورد بشكل شيه تدريجي حيث بيّن القرآن أن فيهما منافع للناس كمن يربح المال عن طريق القمار فإن ذلك منفعة له أو كمن ينسى همومه من خلال شرب الخمر، ولكن يوجد وراء هذه المنافع إثم أكبر منهما لأن مفاسدهما على المجتمع عموماً وعلى الإنسان خصوصاً أكثر من نفعهما لأنهما يفسدان الحياة على جميع المستويات ولهذا فإننا نجد المقامر منبوذاً من قبل أسرته ومجتمعه وكذا من يشرب الخمر، هذا بالإضافة إلى المفاسد الأخروية المترتبة عليهما والتي هي أكبر بكثير من منافعهما في الدنيا.

وأما الإثم في اللغة فقد ورد بمعنى التأخر لأن الذنوب تؤخر الإنسان وتتباطأ به عن نيل الدرجات والخيرات، وأما في الشرع فهو كل عمل يؤثر سلباً على الإنسان.

ويسألونك ماذا يُنفقون قل العفو  وهو السؤال الثالث في الآية الكريمة بعد السؤال عن الخمر والميسر، وفي سبب نزول هذه الفقرة أنّ المسلمين سألوا الرسول(ص) عند نزول آيات الحثّ على الإنفاق: ماذا يُنفقون؟ أيُنفقون كلّ أموالهم أم بعضها؟ فنزلت الآية لتأمر برعاية العفو، وما يهمنا هنا هو معرفة المراد من إنفاق العفو.

فقد جاء في اللغة أن العفو هو أخذ الشيء بسهولة وهو في الواقع مفهوم واسع يشمل الصفح والتسامح والمغفرة وكثيراً من ألوان الخير، ولعل المراد بالعفو في الآية هو مراعاة الحد الوسط أو الحد الزائد عن الحاجة فإذا أردت أن تنفق فعليك أن تنفق شيئاً جيداً لا شيئاً عديم المنفعة كما يفعل بعض الناس، ويمكن أن يكون المراد بالعفو في الآية هو إنفاق الصفح والتسامح فإنه أهم بكثير من إنفاق المال لأن الحقد كانت منتشراً بين الناس في تلك الآونة وهذا النوع من الإنفاق يصلح حال المجتمع الذي كان غارقاً بالتنافر والعداء فالمال ليس أهم شيء في الحياة، هناك أمور أهم بكثير من المال.

فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {البقرة/220}

لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فلا ينبغي أن يكون التفكر محصوراً بالماديات وإنفاق المال فقط بل لا بد من أن تتسع تلك الرقعة لتشمل التفكر في الآخرة التي هي دار القرار.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فعندما نزل قوله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالّتي هي أحسن وقوله إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً تخلّى الناس عن اليتامى، وعمد بعضهم على إخراج اليتيم من بيته،  وأما الذين احتفظوا بهم في بيوتهم عزلوا طعامهم عن طعام اليتيم، وجعلوا لا يجالسونهم على مائدة واحدة ولا يستفيدون ممّا بقي من طعامهم، بل يحتفظون به لهم لوجبات اُخرى، فإن فَسِد يلقونه، كلّ ذلك ليتخلّصوا من أكل مال اليتامى، واشتدّ ذلك على اليتامى وعلى من يرعاهم، فجاؤوا إلى رسول الله (ص) يخبرونه بذلك، فنزلت الآية الكريمة التي توصي المسلمين بعدم إهمال اليتامى وأن يخالطوهم ويجالسوهم فإن في ذلك أجراً لهم عند الله تعالى لا أن يهربوا من المسؤولية الملقاة عليهم تجاه الأيتام، والله تعالى يعلم من منكم يأكل ما اليتيم ومن منكم يحافظ عليه.

الشيخ علي فقيه

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى