
نَهْجُ الحَقِّ وَنَهْجُ البَاطِلِ خّطَّانِ مُتَوَازِيَان
لقد تحدثنا عن جوهر النهج الحسيني النافع والفكر الكربلائي الواسع وأشرنا إلى طرق حفظِه وكيفية التعاطي معه بسبب شفافيته وحساسيته ودقّته.
وفي هذا البحث سوف يدور الكلام حول بيان النهج الآخر الذي يأتي في الجهة المقابلة لنهج الخير، وهو نهج الباطل المرافق لنهج الحق عبر الزمن.
وإن تفكير البشر وطريقة تعاطيهم مع مختلف المسائل لم يكن يوماً بلون واحد ولم ينحصر في طريقة معيَّنة إذ كان لكل فرد منهم هواه الخاص ونظرته المحددة إلى جميع الأمور.
ولولا ظهور نهج الباطل، ولولا انجراف الكثيرين في سيله العرِم لَما كنا مجبَرين على الدفاع وتَحمُّل المسؤوليات وكتابة البحوث وإصدار الكتب المعالِجة لهذا الخلل.
ولكن بما أن هناك امتحاناً للبشر، وبما أن هناك دنيا وآخرة وثواباً وعقاباً وجنة وناراً فقد كان لا بد من ظهور هذا النهج الذي استشرس وفتك في المجتمع البشري.
ومع مراجعة بسيطة لزمن بداية هذين النهجين نجد بأنهما وُلدا قبل هبوط آدم إلى الأرض، وذلك عندما امتنع إبليس اللعين بالسجود لآدم(ع) فنشأ من خلال عصيانه وتمرُّده على ربه هذا النهج الذي سار بقيادته عبر الزمن، وما زال موجوداً حتى اليوم، وسيبقى موجوداً إلى الأبد الدنيوي لأن وجوده مرتبط بوجود البشر أصحاب الأهواء المتفاوتة والأهداف المختلفة.
وبعد عملية الهبوط إلى الأرض أخذ الشيطان الرجيم يعمل بجدٍ ليتسلل إلى قلوب الناس بغية أن ينحرفوا عن جادة الحق ويلتحقوا بركب الباطل عبر التزيين والزخرفة والوسوسة الشيطانية الملغومة دائماً والتي كان في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب.
لقد استحوذ إبليس على قلب قابيل(أحد أبناء آدم) وملأ قلبه بالبغض والحسد تجاه أخيه المؤمن(هابيل) الذي قُتل نتيجة الميل النفسي نحو وسوسات إبليس، منذ ذلك العهد بدأ هذا النهجان بالتماشي مع كل جيل وفي كل مجتمع، والرابح هو الذي التزم طريقة الحق مهما كانت ظروفها ومقدماتها قاسية عليه إذ لا يوجد ثواب إلا بعد الإمتحان والبلاء لأن الجنة محفوفة بالمكاره كما ورد عن خاتم الرسل محمد(ص).
فلا يوجد عطاء من دون ثمن، ولا يمكن أن يكون هناك نتيجة من دون سبب، ولا يُعقل أن تتجرّد الحياة عن مسألة الإفتتان لأنها سنّة من سنن هذا الوجود بل هي الحكمة الأساسية من وراء خلق البشر في هذه الحياة.
إن الحياة البعيدة عن التكليف والمجردة عن المسؤوليات والفاقدة للإمتحان والعمل هي في نظر الله تعالى لغوٌ لا طائل منه، وقد تنزَّه رب العالمين عن ذلك، بل إنه تعالى أشار إلى هذه الحقيقة في العديد من سور كتابه المجيد حيث قال في سورة الأنبياء(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ){الأنبياء16/18} وقال سبحانه في سورة الدخان قال عز وجل(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ){الدخان38/39} وفي سورة التوبة(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)
نأتي الآن إلى ربط هذا الموضوع بفكر الإمام الحسين(ع) ونهجه المبارك، فقد رسم الإمام الحسين بن علي(ع) بثورته في كربلاء التي كان ثمنها المادي غالياً نهجاً قويماً مستقيماً عظيماً يوجد في اتّباعِه نوعٌ من المشقة، ولكنه يُختتم بسعادة كبرى لا تضاهيها سعادة في هذا الوجود.
لقد أصبحت أفكار هذا النهج مقبولة بشكل واسع في الموازين الإنسانية والدينية والثورية العامة، إذ لا توجد منطقة من هذا العالَم الواسع إلا وفيها رائد من روّاد الفكر الحسيني والنهج الكربلائي، وهم يتعرضون دائماً للعديد من الضغوطات التي تُفرض عليهم ممن حولهم من الحكام والأفراد، فلم يوجد رائد من رواد هذا الفكر في مكان إلا ويوجد في المقابل آلاف من الذين يُبغضون نهج الحق إما لجهلهم بجوهره وإما بسبب عنادهم وتأثّرهم بالأهواء.
ولا أريد أن أتحدث عن كلا النهجين فيما سبق عهد الثورة الحسينية إذ لا يمكن أن ينتهي البحث فيها لا بكتاب ولا بعشرات المجلدات بسبب كثرة الشواهد وتعدد النماذج، ولكنني أريد أن أركز فقط على تلك المرحلة بل على وقت قصير من ذلك العهد الذي اجتمع فيه نهج الحق متمثلاً بالإمام الحسين(ع) والقلة التي اتبعته، ونهج الباطل المتمثل بيزيد وبالكثرة التي اجتمعت حوله على بُغْض آل الرسول(ص).
وما نريد أن نكشف عنه في هذه العبارات القليلة هو أنه كما رسم الإمام الحسين(ع) نهج الحق بدمه الزكي وقلبه المفعم بالإيمان فكذلك رسم يزيد ابن معاوية نهج الباطل عن طريق الظلم والجور وسفك الدماء وإرعاب الكبار والصغار والإعتداء عليهم بشتى أنواع الظلم.
فنهج الإمام الحسين(ع) نهج متين وكريم، ولكنه في ذات الوقت طريق صعب محفوف بالمخاطر وبالتهديد المستمر والإتهام الباطل والإدعاء الكاذب من قِبل المعاندين للحق.
ونهج الحسين(ع) رغم صعوبته إلا أنه ينتهي بالسعادة الأبدية، أما نهج يزيد فهو سهلٌ للغاية ولكن العاقبة من ورائه وخيمة إذ يوصل أهله إلى الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي.
وهذان الطريقان متنافران ومتضادان ومتناحران لا يمكن أن يجتمعا لحظة أو يتفقا مرة لأن أحدهما موجود في اتجاه معاكس لاتجاه الآخر.
ولا تصح الإزدواجية في سلوكهما لأن الإنسان إما شاكر وإما كافر، ولا يكون شاكراً وكافراً في ذات الوقت، فالذي يدعي ذلك(أي إمكانية الإجتماع هنا) فإنه يحاول أن يضلّل الرأي العام ويبرّر أخطاءه وانتماءه لنهج الباطل، فهو يريد أن يربح الآخرة من دون أن يدفع الثمن، ولا يحب في نفس الوقت أن يخسر الدنيا، وهذا منطقٌ مرفوض في عالَم الدين والقيم والمبادئ.



