مؤلفات

قصَّةُ إِلْقَاءِ موسَى في اليَمِّ

قصَّةُ إِلْقَاءِ موسَى في اليَمِّ

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
رغم قِصَر هذه الآية إلا أنها تشتمل أمرين ونهيين وبشارتين، وبهذا امتاز القرآن الكريم عن غيره، وليس ذلك ببعيد عن أذهان الماضين والحاضرين، فقد سمع الأصمعي كلام جارية فانبهر لفصاحتها فقال لها: قاتلكِ الله ما أفصحكِ، فقالت أويُعد هذا فصاحةً بعد قول الله تعالى(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) إلى آخر الآية، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين:
ولن أبدأ بقصة إلقاء موسى في اليم قبل أن أذكر لكم مقدمة تتكفل ببيان الكثير مما يتعلق بهذه القصة.
كانت القوابل من آل فرعون يراقبن الحوامل من بني إسرائيل، ومن بين تلك القوابل قابلة تربطها مودة بأم موسى، وعندما أحست باقتراب موعد الوضع أرسلت في طلب تلك القابلة وأخبرتها بالأمر، ووُضع موسى وخرج منه نورٌ انبهرت له القابلة التي كانت ستشي به وتأخذ الجائزة لولا رؤيتها لهذا النور الذي جعل قلبها يرق عليه، وقد بدأت كراماته تظهر من لحظة ولادته.
وقد أعجبني كلامٌ جاء في تفسير الزمخشري حول الآية المذكورة التي ذُكر فيها لفظ الخوف مرتين(فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ) و(وَلَا تَخَافِي) حيث قال:
ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟
أما الأول فالخوف عليه من القتل لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينمّوا عليه، وأما الثاني فالخوف عليه من الغرق، وأما الفرق بين الخوف والحزن فإنّ الخوف غَمٌّ يلحق الإنسان لِمتوقَّع، والحزن غَمٌ يلحقه لواقع.
وبعد هذه المقدمات نتابع القصة المنشودة، فقد وضعت أم موسى حملها في بيتها، واتفقت مع القابلة على أن لا تخبر جنود فرعون بأن المولود ذكر حيث كان الذبّاحون ينتظرون خبر القابلة خارج بيت أم موسى، فرقَّ قلبها ووافقت على مضض، وأخبرت الجنود بأن المولود أنثى، ومضت في سبيلها، ومضى الجنود لشأنهم.
وبعد أيام قليلةٍ من تلك الولادة الميمونة سمع بعض المارّة من أمام بيت عمران صوت بكاء طفلٍ رضيع وبطريقةٍ ما عرف أنه مولود ذكر، فأسرع إلى الجنود وأخبرهم بأمره فأتوا مسرعين إلى دار عمران وراحوا يضربون الباب بشدة ليكسروه وينقضوا على ذبح موسى.
وانتشر الرعب واللاوعي في بيت عمران، وحارت أم موسى أين تخبأ طفلها، ولم يكن أمامها سوى تنورٍ مشتعل، فألقته في التنور من دون وعي، وبقي موسى فيه إلى أن انتهى الجنود من تفتيش البيت ولم يعثروا على أي مولود، ومن الطبيعي أن لا يفتشوا في تنورٍ مشتعل، وقيل بأنهم عاقبوا الواشي، وقد استحق ما نزل به لأنه مجرمٌ مثلهم، بل هو أشر منهم لأنه لم يكن مضطراً لتلك الوشاية، فلم يدفعه إليها سوى الطمع بالجائزة التي كانت في النهاية عذاباً عليه.
وبعد خروج الجنود من الدار استرجعت أم موسى وعيها وانتبهت لفعلتها تلك وظنَّت بأنه مات حَرقاً، فسمعتْ صوت بكائه فأسرعت نحو التنور فوجدته سالماً بقدرة الله تعالى الذي جعلها عليه برداً كما جعلها برداً وسلاماً على إبراهيم من قبله.
وبقي الخطر محيطاً ببيت عمران خصوصاً بعد تلك الوشاية، وكانت الدوريات تأتي وتذهب لشكّهم في كلام أم موسى والقابلة، فأراد الله سبحانه أن يحفظ كليمه ويريح قلب أمٍّ خائفة على مولودها، فأوحي إليها بطريقةٍ لم يُصرّح عنها في كتب التفاسير ولا في كلام المؤرخين لأنها سرٌّ من أسرار الله سبحانه.
ألهمها أن تضع طفلها في صندوق مُحكم الإغلاق وتلقيه في النهر، فأرضعته ثم رمت الصندوق في اليم، والباقي على رب العالمين الذي يسبِّب الأسباب ويُنفّذ إرادته رغماً عن أنوف الكفار والمعاندين، ففعلتْ ما أُمرتْ به وراحت أخت موسى تراقب الصندوق حتى وصل إلى مقربة من قصر فرعون فرأوه وأخذوه إلى المرأة الصالحة آسية بنت مزاحم زوجة فرعون(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)
لقد وصل مُهلِك فرعون إلى قصره، وشاءت قدرة الله تعالى أن يهلَك هذا الطاغية على يد طفل ترعرع في بيته لتكون العِبرةُ أبلَغَ والدرس أنفع.
وبقدرة الله العظيم أُلقي في قلب آسية محبة موسى بعد أن أمر فرعون الذباحين بذبحه، وقد عمِلَت جاهدةً على إقناع فرعون بإبقاء هذا الطفل الجميل على قيد الحياة حيث ملأ عليها الفراغ التي كانت تعيشه.
وهنا تدخلّتْ قدرة الله مرة أخرى وربطت على قلب فرعون الذي عدل عن رأيه بمجرد أن نظر إلى وجه موسى(وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) فوافق على طلبها.
رجعت أخت موسى إلى أمها وأخبرتها بالخبر فاشتعل قلبها خوفاً، ويا سبحان الله، لقد عملت كل ما بوسعها لتُبعد وليدها عن نظر فرعون وها هو الماء قد حمله إليه(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
كادت تفقد صوابها وتذهب إلى آسية لتسترجع موسى منها ولكن الله سبحانه منعها بقدرته عن فعل ذلك وألهمها الصبر حتى ينفُذ حكمُه.
عاش في كنف فرعون وفي كل يوم كانت آسية تتعلق به أكثر حيث تخلت عن كل شيء وتفرغت لتربية هذا الطفل الرائع.
وأروع من كل شيء هو التدبير الإلهي لكل شيء.

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى