قبل ولادة الإمام الحسين(ع)

قبل ولادة الإمام الحسين(ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على خاتم أنبيائه محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين المعصومين وأصحابه المنتجبين.
إن الحديث عن سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي(ع) له محاور كثيرة، ولكل محور من تلك المحاور كيفية خاصة في عملية إبرازه والكشف عنه بما يتناسب مع مضمونه ومع مستوى فهم الآخرين، إذ ليس المهم أن نخاطب الناس بقدر ما يهمنا أن نوصل الفكرة إلى أذهانهم جلية وواضحة لأن مسؤوليتنا كمبلغين لا تتوقف عند المخاطبة والمحاورة بل إن أساس مسؤوليتنا هو أن نجعل الجميع يفهمون ما يقال وما يُقرأ، وعلى كل مبلغ أن يعي بأن تكليفه لا يسقط عنه إلا بعد إفهام المخاطَب، وهذا ما تعلمناه من سيرة نبينا الأعظم(ص) وأهل بيته الأطهار(ع).
وما يهمني الكشف عنه في هذه المقدمة هو أنه لا يمكن الكشف عن شخصية الإمام الحسين كشفاً تاماً، ولا يمكن فهم أهدافه من ثورته المجيدة إلا إذا أحطنا علماً بجميع تفاصيل حياته ووجوده ولو على نحو الإجمال لأن آخره مرتبط بأوله، وماضيه يكشف عن مستقبله، ولا يمكن لنا أن نفصل بين قول وقول من أقواله، ولا بين فعل وفعل من أفعاله لأنه(ع) عبارة عن حلقة تامة الأجزاء ومرتبطة المفاصل فإذا فصلنا بين حلقة وأخرى امتنع علينا فهم تلك الحقيقة.
ولا ينبغي على المستمع أو القارئ أن يرضى بالبعض دون الكل خصوصاً إذا كان كل بعضٍ من ذلك الكل نافعاً كسيرة الإمام الحسين التي لا تقل منفعة أولها عن منفعة وسطها وآخرها.
إن سيرة أبي عبد الله(ع) كنزٌ مميز، والعاقل الذي يجد كنزاً ثميناً لا يقبل بأخذ جزء منه وإلا اتُهم بالحماقة بل عليه أن يأخذ جميع الكنز لتكون المنفعة أكبر.
ومن هنا فإننا كمؤمنين عقلاء نرفض الإكتفاء بفهم جانب أو عدة جوانب من سيرة إمامنا الحسين(ع) وإهمال الجوانب الأخرى لأنني أقطع بأن إهمال أي جزء من جوانب حياته سوف يُحدث خللاً في فهم تلك الشخصية النادرة.
وهنا نأتي إلى فحوى عنوان هذه المحاضرة وهو الإمام الحسين قبل ولادته.
فقد يتساءل البعض منا عن سبب طرح هذا الموضوع، ويظن بأنه خالي المنفعة، حيث يتوهم أنه لم يكن للحسين دور في الحياة قبل خروجه إليها، وأنا شخصياً أوافقهم الرأي فيما إذا كان الكلام عن غير المعصوم، أما الكلام عن المعصوم فإنه يتخذ منحى آخر في مجالات المعرفة لأن المعصوم ليس إنساناً عادياً وإن كان مشابهاً لنا في مظهره وكثير من سلوكه.
كما أننا نسلّم بوجود فوارق بين المعصومين أنفسهم، ولذا يمكننا تقسيم المعصومين إلى مجموعتين رغم التسليم بعظمة الجميع وتساويهم بدرجة العصمة التي هي قوة غيبية تحفظ المعصوم وتعصمه عن الوقوع فيما يُخرجه عن دائرة العصمة.
المجموعة الأولى: هم الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين وهم كثيرون جداً، منهم من أشير إلى بعض تفاصيل حياته في القرآن الكريم، ومنهم من اكتُفي بذكر اسمه أو صفة من صفاته كإدريس وذي الكفل وإلياس، ومنهم من كثر الحديث عنه كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى(ع).
ولا ينبغي أن نقع في شبهة تجاه هذا الأمر فإن كثرة الحديث عن نبي من الأنبياء لا يكشف عن كونه أعظم من غيره لأن الحكمة من وراء ذلك تكمن وراء الحدث المذكور الذي كان الكشف عنه أنفع للأمة من الكشف عن باقي الأحداث.
إن خطابات القرآن عن كليم الله موسى(ع) أكثر من خطاباته عن خليل الله ابراهيم، ولا أحد يقر بكون موسى أعظم من إبراهيم، ويوسف الصدّيق ليس بأعظم من عيسى ومع ذلك فقد نزلت سورة كاملة باسم يوسف ولم تنزل سورة باسم عيسى الذي هو رابع أنبياء العزم صلوات الله عليهم.
ولا يشك أحد بوجود تفاضل وتمايز بين نبي وآخر لأن هذه حقيقة قرآنية مشار إليها بما لا يقبل الشك حيث قال سبحانه في ذلك(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)
إذاً هناك فرق بين نبي ونبي آخر في الأفضلية والشأنية، ولم يصرّح القرآن بالعلة التامة لسبب هذا التفاضل وإنما اكتفى بالإشارة إلى بعض الصفات الفعلية التي تكشف عن كون هذا أفضل من ذاك، فبعدما أخبرنا القرآن عن وجود تفاضل بينهم جعل موضوع التكليم صفة مميَزة ومميِّزة للمكلَّم مع أن هناك أنبياءاً أفضل من موسى ولم يكلمهم الله تعالى كما خصّه بالتكليم، ولذلك قلنا: إن سبب التفاضل بينهم غير واضح وضوحاً تاماً وهذا يعني أن نضع سبب التفاضل في خانة العلل المجهولة لدينا ونرد الأمر إلى الله العالم بكل شيء.
المجموعة الثانية: من المعصومين هم محمد وآله(ص) ونقصد بالآل المعنى الأعم الذي يشمل التسعة المعصومين من ذرية الحسين(ع) حيث قصد بعضهم بالآل أصحاب الكساء الخمسة ولست هنا في صدد البحث عن هذه الحقيقة، ولكن الحقيقة التي أبحث عنها هنا هي أن المعصومين أربعة عشر يبدأون بالنبي الخاتم(ص) وينتهون بالحجة القائم(عج).
هؤلاء المعصومون الأربعة عشر هم من سنخ واحد ويحملون ذات الرسالة ويقومون بنفس الوظيفة التي وُزعت عليهم فلا ينبغي أن يعزب عنا شيء من حياة واحد منهم لأن جميع مفاصل حياتهم مليئة بالمنفعة للبشرية وليس لفئة دون أخرى، ولهذا فإننا نجد بعض عبّاد المخلوقات يتعلمون من أهل البيت ما ينتفعون به في حياتهم ويتغنون بمواقف الأئمة ويعتزون بأن أهل بيت النبوة هم مثلٌ لهم في الحياة السياسية أو الإقتصادية أو الأخلاقية بغض النظر عن عقائدهم أكانت فاسدة أم صحيحة.
ونحن كمؤمنين موالين لأهل البيت(ع) يجب أن نركز على كل ما اختص بهم سواء كان هذا الشيء خاصاً بهم قبل وجودهم في الدنيا أم بعد وجودهم، وسواء حدث هذا الأمر في صغر سنهم أم أعمارهم المتقدمة حيث لا تختلف المنفعة منهم بينما حصل لهم في الصغر أو الكبر.
ونحن عندما نخصص حديثاً عن واحد منهم فلا نعني أن غيره من المعصومين لا يشاركه في ذلك، إنهم(ع) حملوا نفس التعاليم وسلكوا ذات النهج وتصرفوا بطريقة واحدة لأنهم روح واحدة في أجسام متعددة وأسماء مختلفة، ونحن عندما نتحدث عن واحد منهم فإننا لا نقصد الجهة النسبية له أو التاريخية وإنما نقصد النهج المتمثل به، فنهج النبي الخاتم هو ذاته نهج الإمام القائم، والعلم الذي حمله الرسول تماشى مع علي والحسن وباقي الأئمة، ولكن هناك فرق بسيط بين النبي وآله(ص) وهو أنه كان يوحى إليه دونهم ولكنه أودع كل ما أوحي إليه صدر علي(ع) وكذلك فعل علي مع ولديه وكذلك صنع ولداه.
فالذي يريد أن يحدث الناس عن أهل البيت عليه أن يعرف الحقائق الخاصة بهم، وهذه الحقائق لا توجد في التواريخ والأرقام والأحداث بل فيما اختُص به هؤلاء الكرام.
كثير من إخواننا يوالون أهل البيت ويحبونهم ويحدثون الناس عنهم وينقلون إليهم تعاليمهم ومواعظهم وإرشاداتهم، ولكن هذا النقل لا يمكن أن يبلغ الغاية المنشودة إلا إذا كان الناقل عارفاً بتلك الخصائص، وكلنا نعرف أن فاقد الشيء لا يعطيه.
كيف يمكن لك أن تبرز شخصية الإمام الحسين للآخرين ومعرفتك بشخصيته ناقصة، فمن هنا نحن نحث على البحث الواسع في كلام المعصومين وجميع زوايا حياتهم الدينية والسياسية والإنسانية حيث يوجد خلف كل كلمة من كلامهم سر عميق ووراء كل فعل من أفعالهم أمور لا تُدرك بسهولة ولا تُنال إلا عن طريق التأمل الواسع ضمن الأسس المنطقية لفهم المسائل.
يجب أن نتخلص من العوائق التي تقف بيننا وبين الوصول إلى المعرفة الخاصة بأهل البيت(ع) وأبرز تلك العواق هو إعطاء الهم لجانب وإهمال باقي الجوانب كما حصل تماماً مع قضية مولانا أبي عبد الله(ع) الذي ظلمناه حين سلطنا الأضواء على مرحلة واحدة من مراحل حياته ولم نعر اهتماماً للمراحل الأخرى والتي لا تقل أهمية عما أضأنا عليه.
لقد اهتم الكثيرون بمعركة كربلاء وأحداثها تلك المعركة التي انتهت بشهادة الحسين وأهل بيته وأصحابه ولكننا لم نركز على ما سبق تلك المرحلة وعلى ما حدث بعدها مما كان نتاجاً لها.
إن ما حصل قبل المعركة كان تأسيساً لها، وما حصل بعدها كان إكمالاً لها فلا يجوز الفصل بين ما سبقها وما حصل بعدها لأن هذه المراحل الثلاث تشكل الفكرة الأساسية لمفهوم ثورة كربلاء وذكرى عاشوراء التي نهتم بشعاراتها دون مضامينها.
وأنا واحد من الذين لم يفهموا ما حدث في ساحة كربلاء فهماً صحيحاً إلا بعدما نظرت في جميع مقدماتها التي بدأت قبل ولادة الحسين وعند ولادته وفي صباه وشبابه، ثم حصلت المعركة وبقيت معرفتي لها ناقصة حتى نظرت إلى ما جرى بعدها فحينها أدركت الحقيقة كاملة.
من نظر إلى عاشوراء على أنها ذكرى حزن وبكاء فقد أخطأ كثيراً، ومن رأى بأن إحياءها ينحصر في مجلس عزاء كان خطأه أكبر لأن مفهوم كربلاء أوسع نطاقاً من البكاء والحزن حيث أن قائدها لم يقم بها من أجل أن نحزن وإنما قام بها وقدم روحه وأرواح أولاده وأصحابه من أجل قضية كبرى، هذه القضية لا تُحفظ بالبكاء وإن كان للبكاء أثر في حفظها من بعض الجوانب بل الذي يحفظها هو العمل على حفظها ومتابعة تلك المسيرة التي خطها الحسين بدمه لتدوم إلى يوم القيامة، ولن أركز كثيراً على موضوع البكاء حيث سيكون له محاضرة مستقلة إن شاء الله، وما أريد تسليط الضوء حوله هنا إنما هو الإمام الحسين(ع) قبل خروجه إلى هذه الحياة.
الإمام الحسين(ع) هو من الذين خلق الله الخلق لأجلهم وحديث الكساء شاهد على ذلك، وهو من الأشباح التي أنعم الله على نبيه آدم بمعرفة أسمائها والتي كان من جملتها الإمام الحسين(ع) وفي هذه القضية قال سبحانه(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)
لقد كان الإمام الحسين(ع) نوراً في جنب عرش الله قبل أن يكون هناك سماء وأرض وملائكة، وقد تماشى ذكر الحسين مع الأنبياء(ع) الذين غبطوه على منزلته وأطلعهم الله تعالى على الدور الكبير الذي سوف يلعبه في مجال حفظ الدين، وقد ورد أن الله تعالى أطلع بعض أنبيائه على قضية الإمام الحسين، ولذا توسل بهم نوح عندما وضع أسماءهم على مقدمة سفينته.
وهذا من شأنه أن يبرز لنا أهمية هذا الإنسان الذي نذكره ونبكي عليه ونقدم الغالي والنفيس في سبيل قضيته، أما إذا كنا جاهلين بهذا التاريخ المميز للإمام الحسين والذي بدأ قبل بدء الحياة على الأرض فسوف يكون تمسكنا به أفضل وحزننا عليه حزناً حقيقياً ليس مجرد بكاء على جريمة تعرض لها في كربلاء.
ومن هنا كانت مسؤولية الخطباء كبيرة جداً فهم حملوا أمانة كبرى وحساسة وعليهم أن يؤدوا الأمانة كما يجب ولا تؤدى الأمانة إلا بالكشف عن هوية الحسين الرسالية وهويته العقائدية وأن يربطوا ماضيه بحاضره بمستقبله.
أما الخطباء الذين همهم إبكاء الناس فقط فإنهم لم يحفظوا الأمانة ولم يبلغوا الرسالة.
وفي الختام يجب أن نعرف الإمام الحسين حق المعرفة وأن لا نقبل بمجرد العزاء وإلا فلن ينفعنا البكاء في شيء.



