منوعات تاريخية

السيدة زينب(ع) تهز عروش الأمويين

رحلة سيد الشهداء(ع) من المدينة إلى كربلاء

 

السيدة زينب(ع) تهز عروش الأمويين

 

كانت نظرة العرب للمرأة مختلفة عمّا أصبحت عليه بعد أن رأوا الدور الذي قامت به النساء الصالحات، ومنهن زينب بنت أمير المؤمنين علي(ع) تلك البطلة المجاهدة التي أنارت التاريخ بمواقفها البطولية ومحطاتها الجهادية حيث لعبت دوراً مهماً في عملية حفظ الدين وأهله بعد استشهاد أخيها الحسين(ع) في كربلاء.

لقد تابعت السيدة زينب مسيرة جدها وأبيها وأمها وأخويها فأتمت ما بدأ به الحسين، وتحملت تلك المسؤولية الكبرى بعده، ولم تكن مسؤولية حفظ النساء والأطفال فقط، وإنما كانت مسؤولية حفظ الدين والأمة.

ولو نظرنا إلى المواقف التي اتخذتها ضد أعداء الدين والإنسانية لأدركنا حجم دورها تجاه هذا الدين العظيم، وأنها العامل الثاني بعد أخيها من عوامل حفظ الإسلام.

ونحن كمؤمنين بها نعتقد بأن يزيد ابن معاوية لو كان على علم بجوهر زينب وجرأتها لما أتى بها إلى قصره وجال بها المدن والبلدات لأنها لم تدخل بلدة إلا وأحدثت فيها ثورة ضد يزيد وحكمه الجائر.

لقد ثارت زينب ضد يزيد وكانت ثورتها إكمالاً لثورة أخيها الحسين(ع) لأنها قامت بمهمة الإكمال هي وزين العابدين بعد أن قام الإمام الحسين بمهمة التنفيذ.

لقد بدأت الثورة الزينبية من قصر يزيد، وذلك بعد أن خطبت هناك خطبة كشفت بها الحقائق وفضحت بها يزيد بن معاوية وأعوانه، فحركت المشاعر الإنسانية والدينية في داخل المسلمين، وحثتهم على التحلي بالجرأة في وجوه الظالمين.

وقد نجحت في تنفيذ المهمة حيث ثار الناس ضد الظالمين واقتلعوا الحكم اليزيدي من جذوره.

لقد دخلت قصر يزيد وهي حزينة ومكبلة بالحبال، وخرجت منه منتصرة بعد أن أحدثت ثورة نفسية في قلوب الجميع.

دخلت القصر وبعض الناس ينظرون إليها من منظار الشفقة، وخرجت وهم ينظرون إليها من منظار الإجلال والإكبار.

 

خطبة السيدة زينب(ع) في قصر يزيد

 

خطبت عقيلة بني هاشم خطبة غيّرت بها مجرى التاريخ، وأصلحت بها ما فسد من أمور الدين، حيث شفت القلوب بالحقيقة، وروت الأنفس بعذوبة كلامها فظن الناس بأن علياً(ع) هو الذي يتكلم، وذلك لقرب منطقها وبلاغتها من منطقه وبلاغته.

ولم تقف(ع) موقف المدافع عن حق شخصي، ولم تهدف بكلامها إلى التشفي، وإنما وقفت موقف المدافع عن الحق والدين، فقالت عليها السلام:

” الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين، وصدق الله سبحانه حيث يقول(ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون) أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء، أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت بعطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطش جملاً، أنسيت قول الله تعالى(ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين) أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والشريف والدني، ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، وكيف ترتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأذكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يُستبطَئ من بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف، والشنآن والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم داعياً بأشياخك، ليت أشياخي ببدر شهدوا، منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة، تنكثها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد(ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، أتهتف بأشياخك.. زعمت أنك تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنك شُللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت، أللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فوالله يا يزيد ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك، ولتردنّ على رسول الله(ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقهم(ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد خصيماً، وبجبريل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً، ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي مطروحة في كربلاء، تنتابها العواسل، وتعفوها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّ وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة”

أبرز ما ورد في هذه الخطبة

 

كل الخطبة عظيمة، وجميع عباراتها جليلة، وكل ما ورد فيها كان يحمل في طياته الخير للمعتبرين بهذا الكلام الذي لا يصدر إلا عن أهل النبوة، وزينب(ع) سليلة بيت الوحي والنبوة.

ولقد كان الأجدر بالمؤرخين أن يخطوا عباراتها بحروف من ذهب، فهي خلاصة الحق والحقيقة، وعصارة جوهر الإسلام، وثمرة من ثمرات القرآن.

كان جديراً أن يخطوها بحروف من نور، ويزينوا بها التاريخ، فقد كانت عبارات معجزة أنبأت عن عظمة أهل البيت حيث صدرت منها في تلك الظروف التي يجمد عندها الفكر، ويكل أمامها اللسان.

لقد أنبأت تلك العبارات عن أشياء عظيمة ينبغي الوقوف عليها من باب لفت النظر إلى أهميتها.

أولاً: لقد لاحظ الجميع تلك الجرأة التي تكلمت بها هذه المرأة المنكوبة، مما يؤكد لهم كونها على حق، فلو لم تكن كذلك لما استطاعت أن تتكلم بتلك الجرأة النادرة.

ثانياً: كان كلامها كلام المستميت في سبيل هدف راق وقضية كبرى، تلك القضية عندها كانت قضية الحق المطلق.

ثالثاً: لم يكن تحقيرها ليزيد استفزازاً، وإنما كان واجباً تؤديه من أجل جلاء الصورة لمن كان ظاناً بكونه على حق، فلقد هزأته وفضحته وذكرت أسلافه بسوء، ولم يستطع أن يفعل معها شيئاً، فقد دل هذا الوضع على كونه ملاماً، إذ لو لم يكن مذنباً لما سكت لكلامها الذي كان بمثابة صاعقة نزلت على رأسه.

فإن قيل بأنه لم يقتلها لكون المرأة لا تقتل بكلامها، فلقد قتل امرأة قبل أن تبدأ السيدة زينب بكلامها، تلك المرأة التي أخبرته بالمنام الذي رأته ثم صلّت على النبي وآله وتبرأت من يزيد وأعوانه فأمر بضرب عنقها.

لم يكن المانع من قتل زينب أنوثتها، وإنما كان المانع هي الحقيقة الواضحة التي لم يكن لأحد أن ينكرها في ذلك المجلس، فلقد سكت يزيد وسكت من كان يحرضه ويوسوس له.

رابعاً: لقد كشفت عن سبب ارتكابه للجرائم البشعة في حق أهل البيت ومن اتبعهم من المؤمنين.

خامساً: أنبأته بالمصير الأسود الذي سوف يواجهه، وقد واجه ذلك المصير السيء.

سادساً: لقد أرعبه تهديدها الواضح فأحدث ذلك في نفسه خوفاً، ولأجل ذلك بدأ بتغيير سياسة العنف ضد آل الرسول من أجل المحافظة على وجوده، غير أن أساليبه لم تنجح، فباءت بالفشل الذريع وقُتل شر قتلة.

سابعاً: لا شك بأنه كان لفصاحتها وبلاغتها أثر في نفوس القوم الذين تذكروا بمنطقها أمير المؤمنين علياً(ع).

 

أحداث ما بعد خطبة العقيلة زينب(ع)

 

لقد أحدث كلام زينب(ع) ثورة في داخل نفوس الناس حيث كشفت لهم الحقائق، وذكّرتهم بالماضي الذي كانوا عليه قبل مبعث جدها(ص) وكيف منّ الله تعالى عليهم بمحمد بن عبد الله الذي أنقذهم من العمى والضلال بعد أن كانوا على شفير الهاوية.

لقد أحدث كلامها زلزالاً في عروش الظالمين حيث أشعرتهم بأن أصحاب الضمائر الحية ما زالوا موجودين، وأن خطرهم على الظلم كبير، وقد وضعت بهذا الكلام حدوداً لتجاوزات الحكام الظلمة حيث جعلتهم يحسبون لأفعالهم وأقوالهم ألف حساب قبل أن يقدموا عليه.

لقد كان كلاماً نافعاً على مستوى الأمة كلها ليس في زمن يزيد فقط، وإنما في كل زمان ومكان.

ونحن بدورنا نستخلص عدة فوائد من تلك الخطبة العظيمة:

الفائدة الأولى: تحريك القوى الإيمانية في داخل المسلمين.

لم يكن أهل الشام ملحدين أو مشركين، وإنما كانوا مسلمين ومؤمنين بالله ورسوله، غير أن الطاغية يزيداً هو الذي زرع الشك والوهم في قلوبهم فأعمى لهم بصائرهم تجاه مسؤولياتهم الدينية تجاه ربهم وأسرهم وأخوانهم في الدين، وبالأخص تجاه أولي الأمر الذين تجب طاعتهم.

لقد ظنّ يزيد بن معاوية بأنه من خلال تلك القوة التي يتمتع بها سوف يسيطر على الأرواح والعقول والنفوس، ولكنه كان مخطئاً في ظنه وتفسيره، وذلك لوجود أشخاص لا ترهبهم الكثرة، ولا ترعبهم القوة، ولا يستطيع أحد من الناس أن يجردهم من مشاعرهم الدينية والإنسانية.

إن هناك فرقاً واضحاً بين أن يسكت الإنسان حفاظاً على نفسه وماله وعياله، وبين أن يتخلى عن مبادئه أمام الخوف والرعب.

إن كثيراً من المسلمين آنذاك لم يتخلوا عن دينهم، ولكنهم لم يعرفوا كيف يتصرفون معه بسبب تلك الضغوط التي كانت تواجههم بين الفينة والفينة من قبل يزيد وأعوانه الذين قام وجودهم على ظلم الناس.

الفائدة الثانية: تهييج المشاعر الإنسانية التي ترفض بطبعها منطق العنف.

ويدلنا على وجود هذه الفائدة وقوف رسول قيصر في وجه يزيد وتوبيخه على تلك الجريمة البشعة التي ارتكبها في حق ابن بنت نبيّه.

فلو حكمنا على فعل يزيد من باب الإنسانية المجردة عن أحكام الأديان لتبين لنا قبح فعله النادر.

الفائدة الثالثة: تحقير يزيد في نفوس الناس.

لقد حطمت السيدة زينب(ع) بكلامها الجريء شخصية يزيد في نفوس الذين كانوا يرونه عظيماً وقوياً، وهذا من أهم العوامل المساعدة على مواجهة العدو.

فلكي تنجح في القضاء على عدوك فلا بد أن تصغره في نفسك، وإلا إذا بقي كبيراً في نظرك فلن تستطيع أن تحرك ساكناً تجاهه.

الفائدة الرابعة: زرع الجرأة في القلوب.

فكما استطاع الإمام الحسين(ع) أن يزرع الجرأة في قلوب الناس من خلال ثورته العسكرية على أرض كربلاء فكذلك استطاعت أخته العقيلة أن تزرع الجرأة في نفوسهم من خلال ثورتها الإنسانية التي بدأت بها في قصر يزيد.

الفائدة الخامسة: صياغة أسس لحياة عزيزة وكريمة.

لقد أوضحت بكلامها العظيم معنى الحياة الكريمة ووضعت للناس نهجاً ينتهجونه في حياتهم من أجل أن يحافظوا على كيانهم أمام ممارسات أي ظالم في الوجود.

 

رسول قيصر في قصر يزيد

 

لم تكن ممارسات يزيد منافية للشريعة الإسلامية فقط، وإنما كانت منافية للشرائع الإنسانية في كل بقاع الأرض.

لقد صادف وصول السبايا إلى قصر يزيد وجود رسول قيصر النصراني الذي استنكر على يزيد فعله في حق أهل بيت نبيّه وقال له: يا يزيد يوجد في بعض الجزر حافر الحمار الذي كان لعيسى بن مريم(ع) ونحن نقصد ذلك المكان في كل سنة ونقدم له النذور والهدايا، وأنتم تفعلون ذلك بآل نبيكم؟ فأمر يزيد بقتله فانكب رسول قيصر على رأس الحسين(ع) يقبله ثم نطق بالشهادتين قبل أن يقتله يزيد.

أيها القراء الكرام.. انظروا إلى مدى إجرام يزيد وحقده على محمد وآله، فلقد كان يأمر بقتل كل من يدافع عنهم ولو بكلمة، وقد وطّن نفسه على تحمّل عقاب قيصر في سبيل أن ينفذ حقده في آل رسول الله.

 

هند زوجة يزيد ترفض فعل زوجها

 

بعد أن نظرت زوجة يزيد إلى حال زينب والسبايا وسمعت تلك الخطبة الباهرة خرجت إلى مجلس زوجها مهتوكة الحجاب وحافية الأقدام مستنكرة بذلك فعل زوجها مع زينب وباقي السبايا، فغطاها بثوبه وأخرجها من المسجد.

لقد أرادت زوجته أن تقول له من خلال فعلها: كيف ترضى بأن تهتك حرمة بنات رسول الله ولا تقبل ذلك على نفسك.

لقد كان لفعل هند أثر كبير على حكومة يزيد لأنها أقرب المقربين لديه، وعندما نظر الناس إلى ذلك أيقنوا بكون يزيد ظالماً ومفترياً.

 

الإجتماع في المسجد الأموي

 

بعد أن شعر يزيد بحجم الخسارة التي سوف يتكبدها من خلال البقاء في القصر أراد أن يغير المعادلة فأمر الناس بالإجتماع في المسجد علّه يستطيع ستر ما حدث داخل القصر.

فاجتمعوا في المسجد وأمر يزيد بعض الخطباء أن يصعد المنبر ويسب علياً والحسين عليهما السلام، فلما بدأ الخطيب بالسب قام إليه الإمام زين العابدين(ع) فوبخه وأسكته وقال له: ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار.

 

الإمام علي بن الحسين(ع) يطلب الإذن بالكلام

 

لقد استغل الإمام السجاد(ع) وجود تلك الجموع في المسجد من أجل بيان الحقيقة التي أخفاها يزيد عن كثير من الناس فقال(ع)يا يزيد أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه لله رضا ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب؟

امتنع يزيد عن ذلك وقال لبعض زبانيته: إن صعد هذا الشاب تلك الأعواد فإنه لن ينزل إلا بفضيحة وفضيحة آل أبي سفيان فإنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقاً.

فألح الناس على يزيد أن يسمح له بالكلام ليزدادوا سخرية به لظنهم بأنه شاب لا يعرف من الكلام شيئاً.

فأذن له يزيد على مضض فصعد منبر المسجد وبدأ بالكلام.

 

خطبة الإمام زين العابدين(ع)

 

قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)

“أيها الناس..أعطينا ستاً وفُضّلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأنّ منا النبي المختار ومنا الصدّيق ومنا الطيار ومنا أسد الله وأسد رسوله ومنا سيدة النساء ومنا سبطا هذه الأمة ومنا مهديها.

أيها الناس.. من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا بن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء مثنى، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا بن مجمد المصطفى، أنا بن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنيت ووارث النبيين وقامع الملحدين ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وتاج البكائين وزين العابدين وأصبر الصابرين وأفضل القائمين من آل يس رسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرائيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حُرَم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعدائه الناصبين، وأفضل من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله ولي أمر الله، وبستان حكمة الله وعيبة علمه، سمح سخي، بهي بهلول زكي، أبطحي رضي، مقدام همام، صابر صوّام، مهذب قوام، قاطع الأصلاب ومفرق الأحزاب، أربطهم عناناً، وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة واقتربت الأعنة طحن الرحى، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز وكبش العراق، مكي مدني، خيفي عقبي، جري مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، ذاك جدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

أنا ابن عديمات العيوب، أنا ابن نقيات الجيوب، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء.

أنا ابن المذبوح بكربلاء، أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى، أنا ابن من حُرمه من كربلاء إلى الشام تسبى”

ثم تابع الإمام كلامه والناس تضج بالبكاء فأمر يزيد المؤذّن أن يصعد المنبر ويؤذن ولم يكن وقت أذان.

قال المؤذن: الله أكبر: قال(ع) كبّرت كبيراً لا يقاس، ولا شيء أكبر من الله.

فلما قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، قال(ع) شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي وعظمي وجلدي ومخي.

ولما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله، قال(ع) ليزيد: محمد هذا جدي أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت وأثمت، وإن زعمت أنه جدي فلما قتلت ذريته وسبيت نساءه.

ثم نزل(ع) من على المنبر والتف النس حوله.

ولا حاجة إلى بيان عظمة هذه الخطبة وآثارها فإن ذلك واضح ومعلوم.

 

خوف يزيد من وقوع الفتنة

 

لو دققنا فيما اعتبره يزيد فتنة لوجدناه رحمة للناس وكرامة لهم، وليس فتنة كما ادعى يزيد.

نعم.. هو فتنة بالنسبة له، لأن بقاء زين العابدين(ع) والسبايا في الشام سوف يقلب الموازين رأساً على عقب، أي من صالح الأمويين إلى صالح الهاشميين.

فعندما رأى كيف انكب الناس على آل رسول الله، واجتمعوا حول الإمام زين العابدين(ع) يسألونه عن الحقيقة شعر يزيد بحجم المخاطر التي سوف تواجه ملكه وسلطانه فأمر بعودة الموكب إلى الوطن، أي إلى المدينة المنورة.

لقد اتخذ هذا القرار بعد فوات الأوان حيث وقع فيما خشيه، وواجه ما احترز منه حيث لم يكن قراره من الأول حكيماً، فقد أخطأ عندما قتل الحسين وأولاده وأصحابه في كربلاء، وأخطأ عندما أمر بإرسال السبايا إليه، لقد أراد من خلال ذلك أن يذل آل رسول الله(ص) فكانت المذلة له ولأعوانه لأن إرادة آل محمد أقوى من إرادته، والحكمة التي متعهم ربهم بها لم يمتع بها غيرهم.

كان كلما أُخبِر يزيد بتفاصيل مسير السبايا كان يضحك شامتاً ومستهزءاً، وفي المقابل كان الدهر يضحك عليه، حيث خبّأ له هذا العمل ما لا يحب ولا يرغب.

 

قبل مغادرة الشام

 

قبل أن يغادر موكب السبايا مدينة الشام كان قد حدث أحداث كبرى لصالح الأمة الإسلامية، فما بناه يزيد بالظلم والجور عبر سنوات طويلة قد هدمه آل الرسول بساعات من الزمن وكلمات لم تتجاوز مدتها ساعة.

لقد أحدث كلام الإمام السجاد وعمته زينب عليهما سلام الله ثورة في نفوس أهل الشام، وزلزالاً تحت عروش الظالمين، لقد انقلبت الدفة من صالح أهل الظلم والضلال إلى مصلحة الإسلام المتمثل بأهل هذا الموكب الشريف.

قبل مغادرة الشام كان أهلها وكأن على رؤوسهم الطير، منهم مؤنب لنفسه، ومنهم نادم على تقصيره، ومنهم من يفكر في وسيلة لبقاء الحكم القائم لأنه مستفيد منه، ومنهم من يقي متأملاً بكلام زينب وزين العابدين ويخطط لكيفية القضاء على الظلم بعد أن فتح(ع) لهم المجال للمواجهةوحلاّهم بالجرأة.

 

كيف كان وضع يزيد عند مغادرة الموكب

 

لم يكن يزيد بن معاوية لدى مغادرة السبايا من الشام في وضع يُحسد عليه، فلقد كان ما حصل له بمثابة صاعقة نزلت على رأسه فمنعته من التفكير، وشلّته من الحركة، وقد كان تغييره لسياسة العنف موضع استهجان لكثير من المسلمين وغيرهم، فإذا كان يزيد القوي قد ضعف أمام تلك الحادثة، كان من الأولى لباقي الناس أن يتعاطفوا مع آل نبيهم، وبالأخص بعد أن قصّروا بواجباتهم تجاه الدين الحنيف وأهله.

وبعبارة أخرى، لم يكن يزيد عند مغادرة الموكب هو يزيد الذي عرفه الناس قبل ذلك، هذا الشخص الذي أرعب الكبار فضلاً عن الصغار أصبح اليوم خائفاً ومتحيراً لا يدري ما يقول ولا يعلم ماذا يصنع.

ولو كان المسلمون يؤمنون بالسحر آنذاك لظنوا بأنه مسحور.

 

الرفق الملغوم

 

لقد تحوّل يزيد من إنسان قاس ومتحجر إلى إنسان يتعامل بالرفق واللين، ولم يكن ذلك ندماً على ما فعل بأهل البيت، وإنما كان ذلك بسبب الرعب الذي دخل إلى قلبه من خلال كلام زينب في قصره، وكلام زين العابدين في المسجد، والتفاف الناس حولهما، وتعاطفهم معهما، وتأييدهم لهما.

إن كل تلك الأمور حالت بين يزيد وقوته التي كانت قبل ذلك مرعبة، لأن ما حدث في مجلسه جعله يحسب لكل حركة ألف حساب.

فقبل خروج الموكب من الشام أمر يزيد بن معاوية بعض رجاله بمرافقة الموكب إلى المدينة، كما وأمرهم بالرفق واللين.

وإذا أردنا أن نحلل هذا السلوك ونقارنه بالسلوك الذي بدا منه قبل وصول الموكب إلى الشام لانكشفت لنا عدة احتمالات وتساؤلات.

لماذا عاملهم معاملة قاسية من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى الشام، وتغيرت السياسة لديه عند إرجاعهم إلى المدينة؟

لماذا بعث معهم الأدلاء والحماة ليرافقوهم حتى المدينة؟ هل من أجل الحفاظ عليهم؟ فلو كانت النية هكذا فلماذا أمر بقتلهم من الأساس.

نحن نستنتج من خلال هذا السلوك ومقارنته بالماضي أن الأدلاء الذين أمرهم بمرافقة السبايا لم يكونوا مجرد أدلاء وحماة، وإنما كانوا جواسيس يراقبون تحركات الموكب وينظرون ماذا سيكون من أمر الناس معهم في كل بلدة ومنطقة.

 

إسترداد الرؤوس

 

قبل انطلاق الموكب طلب الإمام زين العابدين(ع) من يزيد رأس الحسين(ع) ورؤوس الأصحاب فلم يتردد في إجابته لهذا الطلب فدفع إليه الرؤوس بالإضافة إلى تزويد الموكب بكل ما يلزمه أثناء السفر.

وانطلق الموكب متجهاً نحو مدينة رسول الله(ص) من أجل متابعة المسيرة وإكمال ما بدأ به الحسين(ع) في كربلاء.

لقد خرج السبايا من الشام بشكل مختلف عما كانوا عليه أثناء الدخول إليها، فقد خرجوا منتصرين أعزاء قد حققوا للأمة أعظم انتصار في تاريخها.

الشيخ علي فقيه

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى