
إِرْسَالُ السَبَايَا إِلَى الشَامِ
لم يكن ما واجهه موكب السبايا في الكوفة كل شيء، وإنما كان ينتظرهم من الأذى المادي والمعنوي ما هو أشد مما رأوه في الكوفة، لأن أهل الشام ليسوا بأرأف بهن من أهل الكوفة.
فإذا كانت الكوفة تحت سيطرة ابن زياد الظالم فإن الشام تحت سيطرة يزيد الأظلم.
فبعدما تشفى ابن زياد بأهل البيت وأمر بأن يُمَرَّ بهنّ في أزقة الكوفة تابع مسلكه القبيح بإرسال كتاب للطاغية الأكبر يزيد بن معاوية يخبره فيه عن قتل الحسين وسبي نسائه، فأمره يزيد بأن يرسل له السبايا ليضيف إلى الأذى الذي ألحق بهم أذى آخر، ويحمل معه رأس الحسين ورؤوس الأصحاب كعلامة على انتصارهم.
فانطلقوا بالموكب نحو مركز الخليفة الظالم وقد استعد أهل الموكب المظلوم أهله إلى مواجهة الأمر بكل حكمة ووعي وتدبر لأن الأمر لا يقف عند حدود السبي أو المرور بهن على أكبر عدد ممكن من الناس، ولكن الأمر هو رسالة تريد زينب الحوراء أن توصلها إلى أكبر عدد ممكن من المسلمين.
انطلق موكب السبايا وفي مقدمته رأس أبي عبد الله(ع) وقد كان كل ما واجهه السبايا من ظلم وضرب وإهانات في كفة، والنظر إلى الرأس الشريف في كفة أخرى، وكأن وضعه أمامهن كان بهدف الإيذاء النفسي.
لقد انطلقوا بهن وقد أجهدهن التعب وأنهكهن السفر فمضوا وقتاً طويلاً في السير من دون راحة لأن أمر يزيد كان مستعجَلاً.
وبعد مسير طويل أشرف الموكب على الوصول للشام.
المُرُوْرُ بِمَدِيْنَةِ تَكْرِيْت
عندما وصل موكب السبايا إلى مدينة تكريت كتب شمر ابن ذي الجوشن إلى حاكمها أن يخرج مع أهلها لاستقبال سبايا الخوارج ورأس قائدهن، ولما وصل الكتاب إلى حاكم المدينة نشر أعلام الفرح وخرج مع الناس للإحتفال بهذا الإنتصار ضد ما أطلق عليهم(الخوارج)
وعندما وصل الحاكم ورفقاؤه إلى مكان موكب السبايا سأل عن صاحب هذا الرأس الموضوع في المقدمة؟
فقيل له: هو رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، فاستنكروا الحادث وأنزلوا أعلام الفرح التي نشروها، وضربوا نواقيس الحزن ونصبوا أعلام الحزن.
لم يصنع شمر بن ذي الجوشن هذا في تكريت فقط وإنما كان يصنع ذلك في كل بلدة يمر بها ليؤلّب الناس ضد أهل هذا الموكب، ولكن الناس كانوا يتراجعون عندما يعلمون بأن السبايا هم آل محمد(ص) وأن صاحب الرأس المحمول على الرماح هو رأس الحسين بن علي.
وكان كلما استنكِر عليه فعله من قبل أهل البلدات كان يسرع بالخروج كيلا يثور عليه الناس.
وكان إذا قدّم الناس شيئاً من الطعام والثياب للسبايا كان يأخذها ويمنعهم منها.
ويذكر المؤرخون بأنّ سكينة بنت الحسين(ع) كانت كلما رفعت رأسها رأت رأس والدها فوق الرمح فترفع صوتها بالبكاء، هذا بالإضافة إلى تعبها من طريق السفر الطويل، فوجّه لها الحادي إنذاراً وأمرها بأن توقف البكاء، ولكنها لم تتمالك نفسها فرمى بها من على راحلتها في الصحراء ليلاً.
فجعلت سكينة تصرخ وتستغيث فسمعت العقيلة زينب صراخ سكينة فرمت بنفسها من على ظهر الناقة وراحت تبحث في تلك الليلة المعتمة عن ابنة أخيها فوجدتها وأرجعتها إلى الراحلة.
مَوْكِبُ السَبَايَا يَصِلُ إِلى مَدِيْنَةِ المُوْصِل
عندما اقترب الموكب من مدينة الموصل فعل شمر ما فعله في تكريت، فكتب إلى حاكم الموصل بأن يتهيّأ لاستقبال موكب الخوارج من أجل الإحتفال بنصر يزيد عليهم، وكان في الموصل رجل يعرف حقيقة الأمر فصاح في أهل الموصل قائلاً: يا قوم..ليس هذا برأس خارجي، وإنما هو رأس ابن بنت نبيّكم، وهؤلاء السبايا بنات رسول الله(ص) فلما سمع أهل الموصل هذا الكلام غضبوا على يزيد وأعوانه وخرجوا لقتال شمر وأخذ الرأس الشريف منه، ولما علم شمر بذلك سار مسرعاً قبل أن يدركوه.
الوصول إلى مدينة حلب
كان حاكم حلب من الموالين ليزيد بن معاوية، ولذلك عندما وصله كتاب شمر أمر بأعلام الفرح وقرع الطبول، واستقبلهم استقبالاً عظيماً وكرّمهم غاية التكريم، وقضوا في مدينة حلب ثلاثة أيام ثم تابعوا السير نحو الشام.
أهل قنسرين يغلقون أبواب مدينتهم
ذكر صاحب كتاب(الدمعة الساكبة) أنه عندما بلغ أهل قنسرين كتاب شمر أدركوا بأنها كذبة من أكاذيبه هو وأميره يزيد بن معاوية، فأغلقوا باب مدينتهم ولعنوا يزيد وأعوانه على ارتكابهم تلك الجرائم في حق النبي وآله.
وقد قيل بأن أهل قنسرين خرجوا إلى الموكب ودارت معركة بينهم وبين شمر وأعوانه بهدف حماية السبايا وأخذ الرأس، ولكن شمراً أمر رجاله بالهروب كيلا يخسروا الرأس فيحرمهم يزيد من الجائزة ويعاقبهم على ذلك.
في مدينة حمص
لم يلق الشمر ترحيباً من أهل مدينة حمص، وإنما لقي منهم اللعن والتوبيخ، وقد أغلقوا باب المدينة في وجهه ومنعوه من الدخول إليها والإحتفال فيها برأس الحسين والسبايا.
في مدينة حماه
تابع الموكب سيره باتجاه مدينة حماه التي صنع أهلها مع الشمر ما صنعه أهل حمص.
راهب حماه
لو أردنا أن نحصي الإستنكارات التي صدرت من الرهبان لوجدناها كثيرة جداً لأن الجريمة التي ارتكبها يزيد في حق الحسين لم تكن جريمة في نظر الدين الإسلامي فقط، وإنما كانت جريمة إنسانية يستنكرها كل صاحب ضمير من المسلمين وغيرهم.
فعندما أغلق أهل مدينة حماه باب مدينتهم في وجوه الظالمين وقف الموكب أمام صومعة الراهب، فسمع الراهب أصواتاً وضجيجاً فنظر فإذا به يرى ما رآه كثير من الناس فنزل وسأل عن قائد الموكب فأرشدوه إلى شمر بن ذي الجوشن.
تقدم الراهب من شمر وسأله عن صاحب هذا الرأس فقال له: إنه رأس خارجي خرج على يزيد فقتلناه، فقال الراهب: وما اسم صاحبه؟ فقال شمر: الحسين بن علي، وعندما سمع الراهب ذلك خرّ مغشياً عليه من هول تلك الجريمة التي ارتكبها الناس في حق ابن بنت نبيهم، فلما أفاق الراهب قال للشمر: أعطني هذا الرأس قليلاً، فقال الشمر: لا أعطيك الرأس إلا إذا أعطيتنا الجائزة، وهي عشرة آلاف درهم، فدخل الراهب إلى الصومعة وأحضر المال المطلوب، ثم أخذ الرأس الشريف وهو يبكي ويقول: لعن الله قاتليك وظالميك، ثم نطق هذا الراهب بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم أرجع الرأس إلى شمر بن ذي الجوشن.
قبل دخول الموكب إلى الشام
كان كلما تقدم الموكب خطوة نحو الشام كلما ازداد الحزن وعظم الأسى عليهم لأنهم سوف يواجهون أكثر مما واجهوه في الكوفة، وكانت كل خطوة باتجاه الشام تبعدهم عن الأجساد الطاهرة التي خلّفوها وراءهم في كربلاء.
قبل الدخول إلى دمشق أقبلت أم كلثوم من شمر بن ذي الجوشن تطلب منه طلباً إنسانياً، ولكنه لم يكن إنساناً حتى يلبي مثل هذا الطلب لأنه كان وحشاً بصورة إنسان.
قالت له أم كلثوم: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في طريق قليل النّظّارة، وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال.
فأمر في جواب سؤالها أن يجعلوا الرؤوس على الرماح، فلم يستجب لطلبها، وإنما راح يصنع كل ما يدخل الأذى على قلوبهن.
وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على انعدام الإنسانية في داخلهم.
وقد اختار الطرق الغاصة بالنظّار وسار بهم بين تلك الجموع بهدف الإهانة والإذلال.
وعندما اقتربوا من دمشق كتب شمر إلى يزيد بن معاوية باقترابه من المدينة فأمر يزيد أهل الشام بأن يظهروا الزينة والفرح والسرور لاستقبال الموكب، وأمر بتجهيز الجيش وخروجهم لاستقبالهم.
الشيخ علي فقيه